كتاب الجنائز من المحرر في الحديث - 06
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي- يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
بابٌ في البكاء على الميت والتعزية وغير ذلك:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: شهدنا بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان فقال: «هل فيكم لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا. قال: «فانزل في قبرها»، قال ابن المبارك: قال فليح: أُراه يعني الذنب، رواه البخاري، وفي تفسير فليح نظر، فقد روى أحمد عن أنس أن رقية لما ماتت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخلِ القبر..»."
لا يدخلُ..
"«لا يدخلُ القبرَ رجلٌ قارف الليلة أهله»، فلم يدخل عثمان القبر.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب»، وإن عيني رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.."
رسولِ..
"وإن عيني رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، «ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة، ففتح له»، رواه البخاري.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»، متفق عليه.
وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربع من أمتي من أمر الجاهلية»."
في..
"«أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت».
وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من جرب»، رواه مسلم.
وعن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وعن ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ بصر بامرأة لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: «من أخرجكم..؟»."
ما.. ما..
"«ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟» قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، قال: «لعلكِ بلغت معهم الكدى» قال: قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، فقال لها: «لو بلغت معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك»، رواها أحمد وأبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وليس كما قال؛ فإن ربيعة لم يخرج له صاحب الصحيحين شيئًا.."
صاحبا صاحبا..
"صاحبا الصحيحين شيئًا، بل هذا حديث منكر، وربيعة قال البخاري: عنده مناكير، وضعفه النسائي في السنن، وقال الدارقطني: صالح، ووثقه ابن حبان قال: كان يخطئ كثيرًا، وقال ابن الجوزي في الواهيات: هذا حديث لا يثبت، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان، وقد تابع ربيعة عليه شرحبيل بن شريك، وهو من رجال مسلم."
شَريك..
"ابن شَريك، وهو من رجال مسلم.
بابٌ.."
حسبك حسبك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
أورد بعض أهل العلم على حديث السبتيتين والأمر بإلقاء النعلين وعدم المشي بالنعلين بين القبور أورد بعضهم الحديث الصحيح «وإنه ليسمع قرع نعالهم»، مما يدل على أن النعال تلبس في المقبرة، «وإنه ليسمع قرع نعالهم»، فعارضوا به هذا الحديث «يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك»، وهو يسمع قرع النعال. ابن القيم أجاب بجواب جيد وقال: إن الإخبار بكون الميت يسمع قرع النعال، وأنه قد يدخل المقبرة أحد بنعاله أن هذا خبر عما سيحصل، وليس فيه تقرير حكم، وجاءت الأخبار الكثيرة بوقوع كثير من الأمور في آخر الزمان، وهي محرمات، فلا يستدل بوقوعها على حلها.
وإنه ليأتي اليوم الذي تسير فيه الظعينة من كذا إلى كذا من المدينة إلى عدن أو من مكان إلى مكان، كما جاء في الروايات المختلفة في هذا الباب، لا تخشى إلى الله والذئب على غنمها، فهل في هذا ما يدل على أن المرأة تسافر بغير محرم؟ فقد جاءت النصوص المحكمة في تحريم سفر المرأة بدون محرم، هذا إخبار عن الواقع، وهنا كأخبار كثيرة جاءت بها النصوص الصحيحة عما سيقع في آخر الزمان، وهو مجرد إخبار بما سيقع، ولا يترتب عليه حكم شرعي، كثير منها منصوص على تحريمه، ولا يستدل أحد بجواز ذلك، ومثله ما هنا، يسمع قرع نعالهم، نعم قد يدخل المقبرة أحد بنعاله، وقد حصل ويسمع الميت قرع نعله، ولكن لا يعني هذا جواز الدخول بالنعل، هذا جواب ابن القيم.
وهو جواب قيم وسديد، لكن ما الذي يمنع من دخول النعل المقبرة دون أن يمشي بين القبور، والعادة أن الذي يدفن يعني آخر من يدفن الذي يسمع قرع النعال أنه في طرف المقبرة، في أدناها في أدناها، ولا يلزم من المشاركة في دفنه والحضور والتشييع أن يُمشى بالنعل بين القبور يسمع قرع النعال التي يمشي أصحابها دون القبور في المكان الذي ليس فيه قبور، فلا يلزم من حديث: إنه ليسمع قرع نعالهم أن يكون معارِضًا للأمر بإلقاء النعلين السبتيتين وعدم المشي بهما بين القبور.
في هذا الباب باب البكاء على الميت والتعزية وغير ذلك، باب البكاء لا شك أن الموت مصيبة، وأي مصيبة أعظم من الموت! {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [سورة المائدة:106]، فهو مصيبة، وعلى الإنسان أن يصبر ويتحمل المصائب، ويثق بموعود الله- جل وعلا- الذي وعد به الصابرين، لكن هناك أمور لا تُملَك، الإنسان لا يملك مثل هذه المصيبة، وقد جاء الدليل على أن مثل هذا لا يؤاخذ عليه مجرد البكاء؛ لأنه حصل من النبي -عليه الصلاة والسلام- أعظم الصابرين وأعظم الناس إيمانًا، وأكملهم يقينًا، وأرضاهم لما قدر الرحمن، بكى -عليه الصلاة والسلام-، دمعت عينه وإن كان البكاء له مراحل يبدأ بالدمع المجرد مع التحمل، ثم يتطور إلى شيء من الشهيق، ثم يصاحبه الصوت والصراخ، هذه مراحل، أما مجرد الدمع وحزن القلب فهذا لا يؤاخذ الله عليه.
قد يقول قائل: كيف يستطيع الإنسان أن يوفِّق بين الصبر التام وما يذكره أهل العلم من استحباب الرضا بالقضاء مع حزن القلب؟
لا شك أن هذا من مضايق الأنظار، النبي -عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس صبرًا، وأتمهم رضًا بأقدار الله، ومع ذلك «إن العين لتدمع والقلب ليحزن»، يستطيع مثله -عليه الصلاة والسلام- أن يوفق بين هذين الموقفين بحيث يرضى تمام الرضى عن القدَر، ومع ذلك يحزن القلب، بعض الناس قد لا يتصور مثل هذا، ولذا بعضهم لما مات ولده ضحك، ضحك، هذا خلاف السنة، خلاف السنة، هذا دليل على شيء من الجفاء، ولذا يكره أهل العلم التحدث بأمور الدنيا، والضحك في المقبرة، أو بحضور الميت، هذا يدل على قسوة القلب، لكن ذلك الرجل الذي ضحك ليستدل أو يُستدَل بضحكه على تمام رضاه بالقدر، لكنه خلاف الهدي النبوي، فالناس إما أن يوفَّق للجمع بين الأمرين، وهذا بالنسبة لكثير من الناس ولفآم من الناس، وعموم الناس قد يخدش أحدهما في الآخر، بينما الرسول -عليه الصلاة والسلام- حصل منه أكمل المطلوب، حزن قلبه، ورضي الرضاء التام بما قدر الرحمن.
هذه مسألة من المضايق، وكل إنسان يجدها في نفسه كيف يحزن قلبه وهو راضٍ تمام الرضا بما قدر الله -جل وعلا- كيف تدمع عينه وهذه المصيبة عنده يعدها منحة إلهية، الذي لم يستطع أن يوفق بين الأمرين ضحك لما مات ولده، والقلب إذا روِّض على اتباع النصوص والاهتداء بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه يكون له نصيبه مما حصل منه -عليه الصلاة والسلام-، وبقدر إرثه من ميراث النبوة من العلم والعمل يحصل له مثل هذا الكمال، لا يمكن أن يداني أو يقارب ما حصل من النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أكمل الخلق وأشرف الخلق، لكن قد يوفِّق بين هذين النظرين الذين هما من المضايق، والمطلوب من المسلم أن يكون معتدلاً في جميع تصرفاته، دائرًا مع النصوص حيثما دارت، فيحزن قلبه، وتدمع عينه، لكنه لا يتجاوز ذلك إلى ما نهي عنه.
قال -رحمه الله-: "بابٌ في البكاء على الميت" على الميِّت أو على الميْت؟
طالب: ..........
كيف؟
طالب: ..........
يقول: وجهان.
طالب: ..........
الميْت الذي مات بالفعل، أما الميِّت يقولون الذي سيموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [سورة الزمر:30]، يعني أنك ستموت، مع أنه قد يقال: ميِّت لمن فاضت روحه وفارقت بدنه.
ليس من مات فاستراح بميِّت |
| ولكن الميِّت ميِّت الأحياء |
"والتعزية وغير ذلك".
قال -رحمه الله-: "عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: شهدنا بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر" النبي -عليه الصلاة والسلام- مات له بنات في حياته، ما بقي بعده إلا فاطمة، وما لبثت إلا يسيرًا حتى لحقت به -عليه الصلاة والسلام-.
"شهدنا بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله جالس على القبر" في الرواية الثانية في المسند أنها رقية على ما سيأتي، قال: "شهدنا بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس" الجملة حالية، "جالس على القبر" جاء النهي عن الجلوس على القبر، وهنا يقول: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر، «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»، والرسول -عليه الصلاة والسلام- في هذا الخبر جالس على القبر يعني على شفيره، على شفيره، لا على حقيقته، على شفير القبر.
"فرأيت عينيه تدمعان" وذرفت عيناه بالدمع حينما مات ولده إبراهيم، وكذلك حينما رفع له ولد بنته وروحه تقعقع، فنوقش في البكاء، يبكي وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-! لأن هذه رحمة يضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
"فرأيت عينيه تدمعان فقال -عليه الصلاة والسلام-: «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها»" يعني حديث العهد بأهله لا ينبغي أن يتولى إنزال المرأة؛ لأن قلبه لقرب عهده بأهله قد يتعلق بالنساء، وإن كان هذا بعيدًا عن الصحابة- رضوان الله عليهم-، لكن يبقى أن الإنسان بشر، فيُبعَد عن كل هذه الشبهة، يكون بعيدًا كل البعد عن مقارفة أهله التي يتذكر فيها أهله إذا أنزل هذه المرأة.
"قال: «فانزل في قبرها»، قال ابن المبارك: قال فُلَيْح" الراوي "أُرَاه يعني الذنب" هل فيكم من أحد لم يقارف؟ لم يقارف ذنبًا على رأي الراوي فليح، فقال أبو طلحة: أنا، يعني هل أبو طلحة يستطيع أن يزكي نفسه بعدم المقارفة بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام-؟! هذه تزكية للنفس وأينا لم يظلم نفسه غير المعصوم؟ لا بد أن يقارف.
على كل حال والذنب إذا كان المقصود به الذنب هنا فالمقصود الكبير، والصغير ولا يكاد يسلم من مقارفة الذنب إلا المعصوم.
المقصود أن فليحًا الراوي قال: أراه، يعني أظنه، يعني الذنب، وهذا الكلام ليس بصحيح على ما سيأتي.
"رواه البخاري. وفي تفسير فليح نظر" كناية عن ضعفه، "وفي تفسير فليح نظر، فقد روى أحمد عن أنس أن رقية لما ماتت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله»" الليلة أهله، والليلة تقال لليلة الماضية قبل الزوال، وبعد الزوال يقال: البارحة. «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله» فدل على أن المراد مقارفة الرجل زوجته، يعني معاشرة ومباشرة الرجل زوجته، لا كما قال فليح: مقارفة الذنب، في رواية أحمد قال: إن رقية لما ماتت، وهذا فيه نظر ظاهر أيضًا رقية ماتت والنبي -عليه الصلاة والسلام- غائب في بدر، تخلف عثمان عن غزوة بدر يمرِّض زوجته رقية، ثم ماتت والنبي -عليه الصلاة والسلام- زوَّج عثمان رقية فلما ماتت زوَّجه أختها أم كلثوم، وهي المرادة هنا، كما جاء في أكثر الروايات، وهو المطابق للتاريخ.
ولما ماتت أم كلثوم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لو أن عندنا ثالثة لزوجناك» -عليه الصلاة والسلام- فيه الحرص على أهل الخير، والقرب من أهل الخير، وأي زوج أفضل من عثمان بعد أبي بكر وعمر؟
"قال: «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله» فلم يدخل عثمان بن عفان القبر" هل يُفهَم من هذا أن عثمان -رضي الله عنه- وهو زوج أم كلثوم لم ينزل؛ لأنه قارف؟ فلم يدخل عثمان بن عفان القبر، يعني ظاهر السياق أنه لم يدخل؛ لأنه قارف، هذا ظاهر السياق، ظاهر السياق لم يدخل القبر وإلا فهو أولى الناس بدخول القبر، وهو زوجها، لكن ظاهر السياق يدل على أنه قارف.
قال -رحمه الله-: "وعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أخذ الراية زيد»" في غزوة مؤتة حينما شعر النبي -عليه الصلاة والسلام- أو بلغه أن الروم يعدون العدة لغزوه وقد جهزوا جيشًا جرارًا قوامه مائة ألف أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- جيشًا قوامه ثلاثة آلاف وقال: «يأخذ الراية»، يعني يكون أميرهم والمقدَّم عليهم زيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، «فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة»، والذي حصل أن الثلاثة كلهم قتلوا، «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب».
"وإن عيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتذرفان" يعني جاءه الخبر بما حصل، الرسول- عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله، لكن جاءه الخبر من السماء أن الثلاثة كلهم قتلوا، لا شك أن مثل هذا الموقف مؤثر جدًّا.
"وإن عيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتذرفان، «ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له» أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة، هل في هذا افتيات على ولي الأمر أم أن هذا إخراج للمسلمين من هذا المأزق الذي وقعوا فيه، وهذه ضرورة تقدر بقدرها، يعني لا يتذرع بمثل هذا من ينصب نفسه على الناس من غير إمرة ومن غير تولية ويقول: خالد بن الوليد أخذ الراية من غير إمرة، وما المانع أن يسري ذلك على غيره؟
نعم في مثل هذا الظرف إذا اضطروا إلى شخص، وانتظار الأمر يفوِّت عليهم مصلحة راجحة، أو يتسبب في مفسدة راجحة، فمثل هذه ضرورة تقدر بقدرها، فأخذها من غير إمرة، ففتح له، ففتح له، يعني خلَّص الجيش من القتل الذي يتوقَّع بعد قتل أمرائهم الثلاثة؛ لأن ثلاثة آلاف عدد قليل بالنسبة للمائة الألف، وكانت المصابرة بنسبة واحد إلى عشرة، ثم نُسِخت بنسبة واحد إلى اثنين، وما عدا ذلك لا تلزم المصابرة إلا إذا ارتكبوا العزيمة فهؤلاء ثلاثة آلاف وقفوا في وجه مائة ألف.
"رواه البخاري.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»".
ليس منا: ليس على طريقتنا، وليس على هدينا، وإن كان اللفظ لا يقتضي الخروج من الإسلام، وإنما هو من نصوص الوعيد، وهذا يدل على أن هذه الأمور من كبائر الذنوب، ومن الموبقات، ومن عظائم الأمور.
«ليس منا من ضرب الخدود» هذا علامة على الجزع الشديد، فهي محرمة، «من ضرب الخدود وشق الجيوب»، «الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة»، «ودعا بدعوى الجاهلية» تعزى بعزاء الجاهلية فيما كانوا يقولونه في جاهليتهم، يعني انتسب وافتخر بأمر حصل من آبائه أو أجداده وقلدهم في ذلك، وتكلم بكلامهم، ودعا بدعواهم.
المقصود أن كل هذه من عظائم الأمور؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «ليس منا»، وفي ضابط الكبيرة أن مثل هذا الأسلوب مثل هذا الإطلاق يُدخِل ما أطلق فيه حيِّز الكبيرة، «ليس منا من ضرب الخدود»، الواجب الصبر، والتحمل لهذه المصائب.
وإن كان العلماء يختلفون في الأجر المرتَّب على المصائب، شيخ الإسلام، وهو قول جمهور أهل العلم يقولون: إن الأجر مرتَّب على الصبر، والذي لا يصبر عليه الوِزر، من رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط، فالأجور كلها مرتبة على الصبر، والجزع عليه إثم، وابن حجر -رحم الله الجميع- يقول: إن أجر المصيبة مرتَّب عليها، تكفِّر الذنوب ولو لم يصبر، وأجر الصبر قدر زائد على ذلك، وأجر الصبر قدر زائد على ذلك، يعني كأن الجهة منفكَّة عنده، يؤجر على مصيبته التي حصلت له، ويأثم بما حصل له من تسخُّط وعدم الرضا وعدم الصبر، فله هذا وعليه هذا.
من قال: إن الجهة واحدة، الجهة واحدة، كيف يؤجر على شيء هو آثم فيه؟ والمسألة لها نظائر من الدقائق، العلماء حينما تتحد الجهة لا يمكن أن يؤجر ويأثم في آن واحد إذا اتحدت الجهة، لكن إذا اختلفت الجهة يمكن.
صلى وبيده خاتم ذهب، يؤجر على صلاته، ويأثم بلبس خاتم الذهب، أو عمامة حرير، أو ما أشبه ذلك، الجهة منفكة، لكن الأمر والنهي يتجهان إلى ذات واحدة في آن واحد، هذا لا يمكن، هذا تناقض، فمن رأى أن الجهة واحدة، وأن هذه المصيبة إن صبر عليها {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة:155]، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر:10]، لا يمكن أن يكون الصبر إلا على هذه المصيبة، فهما متلازمان، فمثل هذا يتجه القول بأنه لا يؤجر على مجرد المصيبة ما لم يصبر، وإذا قيل: إنه أصيب حصلت له المصيبة، ورُتِّب عليها الثواب ومحو الذنوب ورفع الدرجات تمحيص السيئات يثبت له هذا، ثم إذا حصل له ما يضاد ذلك يأثم بسببه.
وسبب الخلاف ومنشأ الخلاف في الجهة هل هي منفكَّة أو جهة واحدة؟ هل هي منفكَّة أو جهة واحدة؟ فمن يرى أنها جهة واحدة قال: لا يمكن أن يؤجر على المصيبة حتى يصبر، يعني كيف نقول: إنه مأجور مأزور على شيء واحد؟ والذي يقول: هما شيئان: مصيبة وصبر، المصيبة لها أجرها، والصبر له أجره، فإن المصيبة حصلت بالفعل، وحصل على أجرها، ولم يصبر، حصل من الإثم بقدر جزعه، وقد يتقابلان، وقد يزيد أجر المصيبة، وقد يزيد إثم التسخط.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي مالك الأشعري، وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربع في أمتي، أربع في أمتي»" يعني موجودة في أمتي، موجودة في مجموع الأمة لا في جميع أفرادها، إنما هي موجودة في مجموع الأمة لا يتركونهن.
«أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن» من أمر الجاهلية، الجاهلية ما كان قبل بعثته -عليه الصلاة والسلام-، وأمور الجاهلية كلها مرفوضة، كلها مرفوضة، وفيها المكفِّر، وفيها ما لا يكفَّر به مرتكبه، وإن كان من أمر الجاهلية ولا يسوغ حينئذ أن يقال: هذا جاهلي، يعني حينما تسمع شخصًا يفخر بحسبه، أو يطعن في نسب غيره، لا تقول: هذا جاهلي، وإن ارتكب أمرًا من أمور الجاهلية، وإنما يقال: فلان فيه جاهلية، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»؛ لأنه طعن بأم الذي خاصمه فقال: «أعيرته بأمره؟!» قال: نعم، قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية».
يعني فرق بين أن يكون الشخص جاهليًّا إذا كان جاهليًّا انتهى، إذا نسب إلى الجاهلية بكليته فمعناه أنه ليس له نصيب في الإسلام، بينما إذا كان امرأً فيه جاهلية فإنه على الإسلام إلا أنه فيه خصلة من خصال الجاهلية، وفرق أن يقال: فلان منافق وبين أن يقال: فلان فيه نفاق. الحافظ ابن رجب -رحمه الله- رجَّح أن أهل الكتاب فيهم شرك، فيهم شرك، ولا يقال: مشركون، يعني واقعهم اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، قالوا: ثالث ثلاثة، هذا لا شك أنه شرك، لكن هل يقال: إنهم مشركون كسائر الطوائف المشركة مع الله غيره، أو يقال: فيهم شرك؟
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [سورة البينة:1]، ولا يعني هذا أنهم ليسوا كفارًا، لا، أهل الكتاب كفار بالإجماع، حتى قال كثير من أهل العلم: إن من شك في كفرهم كفر إجماعًا، لا يعني هذا ما هو معناه أننا نرجو لهم خيرًا، ولا شيء، لا، إنما هو تقرير اصطلاح، ابن رجب يقول: هم كفار، وفيهم شرك، ما الذي يترتب على هذا الكلام؟ أنهم لا يحتاجون إلى مخصِّص في تحريم نكاح المشركات، ما نحتاج إلى مخصِّص في تحريم نكاح المشركات، وقد وجد المخصِّص، يعني الخلاف أشبه ما يكون باللفظي.
على كل حال هم كفار بالإجماع، لكن الشأن هل يقال: هم مشركون، أو يقال: فيهم شرك، هذا ما قرره ابن رجب -رحمه الله تعالى-.
على كل حال قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن»، والواقع يشهد بصدق وصحة ما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-، هي موجودة إلى الآن، تجد «الفخر بالأحساب» يعني في المجالس، قد يوجد من يقول: كان أبي، وكان جدي، وكان، فتجده يتطاول على الناس بهذا.
«والطعن في الأنساب» تجده يقول: أنت ليس لك أصل، ولست من القبائل المعروفة المرموقة، وأنت دخيل على هذا المجتمع أنت إلى آخر ما يدور في المجالس، يعني يُسمَع إلى الآن مثل هذا الكلام، تجد الإنسان يفتخر بحسبه ونسبه، وقد يطعن في نسب غيره.
«والاستسقاء بالنجوم» الاستسقاء بالنجوم طلب السقيا، والاستسقاء وطلب السقيا وطلب الغيث إنما يكون من الله- جل وعلا- ولا يكون من غيره، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أصبح من عبادي، من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته هذا مؤمن بي كافر بالكوكب، وإذا قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب»، «والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت» إظهار الجزع بأصوات عالية، وتعتاد محاسن الميت بأصوات مرتفعة، والتسخُّط والندبة: واجبلاه، وانقصام ظهراه، و.. إلى آخره، هذه من عظائم الأمور، وسيأتي قوله، وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة» يعني تبعث يوم القيامة «عليها سربال من قطران، سربال من قطران»، هذا محرِق للبدن، نسأل الله السلامة والعافية، «ودرع من جرب»، سربال يعني كأهل النار {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [سورة إبراهيم:50]، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} [سورة الحـج:19]، وهذه تشبههم في كونها تبعث يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب، الجرب نوع يصيب الجلد يتآكل معه الجلد.
طيب أهل المواشي لاسيما الإبل إذا أصيبت الناقة بالجرب فبِمَ تعالَج؟ بالقطران، الآن في الواقع المحسوس أنها إذا أصيبت بالجرب تعالَج بالقطران، لكن هل تعالَج بالقطران الصرف، أو يوضع قد يسير في إناء كبير ويزاد عليه ماء؟
نعم هذا الحاصل، يعني لو وُضِع القطران صِرفًا مزَّق جلدها، لكن يوضع قدر يسير في إناء كبير، ويزاد عليه من الماء، وتطلى به الناقة الجرباء، عندنا الآن جمع بين الأمرين، جمع بين الداء والدواء، فيه إشكال أم ما فيه إشكال؟
سربال من قطران ودرع من جرب، قد يقول قائل: فيه الداء والدواء، إذا وجد الجرب يعالَج بالقطران وينتهي الإشكال، نقول: لا، إذا كان قطران الدنيا وليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء، يعني أهل النار، نار جهنم لو خرجوا منها لناموا في نار الدنيا، فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا، وإذا كان القطران الذي يعالَج به الجرب قطران الدنيا يؤخذ منه قدر يسير، ويضاف إليه قدر كبير من الماء، فيطلى به جلد الناقة الجرباء، فتشفى بإذن الله، لكن لو وضع صرفًا لمزقها، مزق جلدها تمزيقًا؛ لئلا يقول قائل: إنه مادام الجرب يعالَج بالقطران فماذا استفدنا؟! ما يمكن أن يقال هذا؟!
يعني وضع فيك الداء وأعطاك الدواء ما صار في هذا نكال، لكن كل من الأمرين داء، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يدل على أن النياحة محرَّمة، ومن كبائر الذنوب، فعلى من ابتلي بشيء من ذلك أو قارف شيئًا من ذلك أن يتوب ويبادر بالتوبة إلى الله -جل وعلا-؛ لئلا يقع في هذه النصوص وهذا الوعيد الشديد.
"وعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: لما جاء نعي، وعن عبد الله بن جعفر- رضي الله عنه- قال: لما جاء نعي جعفر" يعني أباه، يعني أباه جعفر بن أبي طالب، "حين قتل" في غزوة مؤتة كما تقدم، "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغَلهم»" من أصيب بموت قريبه والده أو والدته أو ابنه أو أخيه لا شك أنه ينشغل بهذه المصيبة، ينشغل بها، فمثل هؤلاء الذين شغلوا عن تدبير أمورهم لاسيما ما تقوم به حياتهم من الطعام هؤلاء يُصنَع لهم الطعام، «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم»، هذه هي السنة أنه إذا وجد أهل بيت أصيبوا بموت قريب لهم، أو بموت واحد منهم فإنهم يعانون بصنع الطعام لهم؛ لأنهم أتاهم ما يشغلهم، وبقدر الحاجة، بقدر الحاجة، الطعام حينما يصنع لأهل الميت بقدر الحاجة فإنه من السنة، لكن إذا صُنِع بقدر أكثر من الحاجة بحيث يكفي أهل البيت المصاب والجيران والضيوف وأضعاف ما يحتاج إليه فهذا سرف؛ لأن المقصود إطعام هؤلاء الذين جاءهم ما يشغلهم، وإن جاءهم من أقاربهم، يعني من بلدان أخرى، ويحتاجون إلى أن يشاركوهم في الأكل، وزيد في الطعام من أجلهم فلا بأس، إن شاء الله تعالى.
أما أن يصل الأمر إلى ما هو مشاهَد الآن، تأتي إلى أهل الميت في بيت كأنهم في عرس، في وليمة عرس، وتجد السرادق، وتجد الكراسي، وتجد الناس يتحدثون كل واحد مع الآخر، كأنهم في عرس تمامًا.
المقصود أنهم يحضرون للتعزية على ما سيأتي، ويواسون أهل الميت، ويسلونهم، وما زاد على ذلك من الاجتماعات المتكررة فهذه غير شرعية، والزيادة في الطعام لهؤلاء من أجل هؤلاء المجتمعين ممن بإمكانهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويأكلون في هذا أيضًا قدر زائد على المشروع، أما إذا كان صنع الطعام من أهل الميت فهذا لا شك في تحريمه، وهذه هي النياحة التي أشار إليها جرير بن عبد الله في قوله: كنا نعد الاجتماع وصنع الطعام من النياحة.
طالب: ..............
نعم، يجلسون ثلاثة أيام، يجلسون ثلاثة أيام يتركون أعمالهم، وبعضهم أئمة مساجد، وبعضهم مؤذنون، يترك هذا جميع الأوقات إلى أن تتم، لا، هذا ليس بشرعي، ليس بشرعي كون أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام، ويجمعون ويجتمعون هذه هي النياحة التي أشار إليها جرير، أما إذا كان الطعام من غيرهم، مساعدة لهم؛ لأنهم انشغلوا بميتهم فهذا شرعي، اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، وكون أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام هذه هي النياحة التي أشار إليها مع الاجتماع، فالعلة مركبة
ويبقى أنه إذا صنعوا الطعام فلا يخلو إما أن يكون من مال الميت، وهذا قد يكون فيه ورثة قُصَّر لا يمكن أحدهم النيابة عنه، مع أنهم في الأصل انشغلوا، وقد يقول قائل: إن العلة التي أشير إليها في الحديث مرتفعة، مرتفعة، يعني بدلاً من أن نصنع لهم طعامًا؛ لأنهم جاءهم ما يشغلهم، يتصلون بالهاتف ودقائق وعندهم الطعام، يعني لا ينشغلون بطعام، فهل إذا ارتفعت العلة يرتفع الحكم؟
يعني ما نصنع لهم طعامًا؛ لأنهم بإمكانهم أن يتصلوا ويأتيهم طعام بقدرهم، مثل ما أكلوا بالأمس أو قبله، «فقد أتاهم ما يشغلهم» طيب ما عندهم شيء يشغلهم، انشغلوا بميتهم أو انشغلوا بالطعام، كفوا أمر الطعام من المطاعم إذا كان بقدر حاجتهم، هم عشرة أفراد، طلبوا طعام عشرة، ولم يكن معهم أحد غيرهم، هل نقول: إنا عطلنا السنة، أو نقول: إن العلة مرتفعة؟ فقد أتاهم.. اصنعوا لآل جعفر فقد أتاهم ما يشغلهم، يعني عن صنع الطعام، وإذا كانت المطاعم المشرعة الآن، وهي أيسر في إعداد الطعام من إعداده في البيوت، مثل هذا قد يقول قائل: إن العلة مرتفعة، لكن مع ارتفاع هذه العلة لو أن شخصًا امتثل، «اصنعوا لآل جعفر طعامًا» فإنه يؤجر على هذا الامتثال.
الاجتماع لا شك أنه مع الطعام نياحة، لكن مجرد الاجتماع من غير طعام؛ لأن ما جاء في خبر جرير مركب من الاجتماع وصنع طعام، لكن هذا الاجتماع من غير طعام إذا كان الهدف منه التيسير على المعزين، ومن جاء يعزي يجد أقارب الميت مجتمعين بدلاً من أن يصل أو يذهب إلى كل واحد في بيته، وقد يكون في مدينة كبيرة، يحتاج إلى أوقات طويلة؛ للتردد بين هذه البيوت، فالاجتماع بهذا القصد من غير مصاحبة طعام، من أجل التيسير على المعزين، هذا لا شيء فيه إن شاء الله تعالى.
"رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه"، وهو حديث حسن.
قال: "وعن ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي"، وربيعة ضعيف عند أهل العلم، "عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ بصر بامرأة" يعني رأى امرأة -عليه الصلاة والسلام-، "لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق" أولاً الخبر ضعيف؛ لأن فيه ربيعة بن سيف، وهو ضعيف، "فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- هذه المرأة هي فاطمة بنت الرسول -عليه الصلاة والسلام- "قال لها: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟» قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، قال: «لعلك بلغت معهم الكدى»" يعني المقابر، «لعلك بلغتِ معهم الكدى» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر"، «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج»، يعني تسمع اللعن، وتبلغ المقابر؟! هذا لا يكون منها، مع أن الخبر نكرر أنه ضعيف. "قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، فقال: «لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك»".
طيب زارت المقابر، وارتكبت المحظور في زيارتها، تخرج من الدين؟! ما تخرج من الدين، ما تخرج من الدين، ومقتضى قوله في الحديث: «ما رأيتِ الجنة حتى يراها جد أبيكِ» عبد المطلب الذي مات على الكفر، فالتعليق على أمر مستحيل يجعل الأمر المعلَّق مستحيلاً يعني ما تدخلين الجنة، ولا ترين الجنة، لكن مثل ما قلنا: هذا الخبر فيه هذا الراوي الضعيف، ولفظه منكر، ولفظه منكر، فإن المسلم مهما عصى بمعصية لا تخرجه من الدين، فإنه فإن مآله إلى الجنة. نعم.
"رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
ومقتضى كونه على شرط الشيخين عند الحاكم أن يكون الشيخان خرجا لجميع رواته، وهذا الكلام ليس بصحيح، فإن ربيعة لم يخرج له البخاري ولا مسلم ليكون على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، لم يخرج له لا البخاري ولا مسلم.
إذًا الحديث ليس على شرط الشيخين، الومراد بشرط الشيخين عند الحاكم- وهو يكثر من ذلك في مقدمة المستدرك قال: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث صحاح احتج بمثل رواتها الشيخان، احتج بمثل رواتها الشيخان، والمرجَّح من أقوال أهل العلم أن المراد بشرط الشيخين رجالهما، فإذا خرج أبو داود أو الترمذي أو غيرهما من الأئمة غير البخاري ومسلم حديثًا بإسناد خرَّج فيه البخاري أحاديث على الهيئة الموجودة في الصحيحين على نفس الهيئة وبنفس ترتيب الرواة وبنفس صيغ الأداء فيكون حينئذ على شرط البخاري أو على شرط مسلم أو على شرطهما معًا، الحاكم يقول: احتج بمثلها، ما قال: احتج بها، مع أن صنيعه يفيد أن مراده بذلك نفس الرواة، نفس الرواة، بدليل أنه خرَّج حديثًا من طريق أبي عثمان التبَّان فقال: حديث صحيح، فقال: حديث صحيح، وأبو عثمان ليس هو النهدي، ولو كان أبو عثمان هو النهدي لقلت: صحيح على شرطهما، فدل على أنه يريد بشرطهما: رواتهما.
وعلى كل حال لم يحتج البخاري ولا مسلم بربيعة بن سيف، فلم يخرج له صاحبا الصحيح شيئًا، بل هذا حديث منكر، نعم لفظه منكر، لفظه منكر، والنكارة فيه ظاهرة؛ لأن مقتضاه أن زيارة المرأة للقبور مخرجة عن الملة؛ لأنه قال في الحديث: لم تري الجنة حتى يراها جد أبيك، «ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك»، وهذا لا شك أنه لا يمكن أن يقال في عمل لا يصل إلى حد الكفر.
"وربيعة قال البخاري: عنده مناكير، وضعفه النسائي في السنن وقال الدارقطني: صالح، صالح" والصلاحية إذا وُصِف بها الراوي أو الحديث أعم من أن تكون للاحتجاج أو الاستشهاد، الصالحية هذا رجل صالح، الدارقطني قال صالح يعني هل يصلح للاحتجاج فيكون ثقة أو يصلح للاستشهاد والاعتضاد فيكون وقد يكون ضعيفًا، لكن ضعفه ليس بشديد، ضعفه منجبر، فالصلاحية أعم من أن تكون للاحتجاج أو الاستشهاد.
"ووثقه ابن حبان" يعني على طريقته في التساهل في توثيق مثله، "وقال: كان يخطئ كثيرًا" يعني مع تساهله في التوثيق، ولعله ذكره في الثقات، ولعله ذكره في الثقات من غير تنصيص على توثيقه، وشرطه في الثقات واسع جدًّا وقال مع ذلك: يخطئ كثيرًا، "وقال ابن الجوزي في الواهيات" الواهيات العلل المتناهية، كتاب اسمه العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، غير الموضوعات. "هذا حديث لا يثبت، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان، وقد تابع ربيعة عليه شرحبيل بن شريك، وهو من رجال مسلم"، يعني هل نقول: إنه بهذه المتابعة يرتقي من الضعف إلى درجة القبول، لاسيما وأن الدارقطني قال في ربيعة: إنه صالح؟ أقل الأحوال أن يصلح للاعتضاد ويقبل الانجبار، وقد تابعه عليه شرحبيل بن شريك، وهو من رجال مسلم، يعني لو يكن فيه من العلل إلا هذا لقلنا: إنه يرتقي إلى الحسن، لكن مادام لفظه منكرًا فالعلة في متنه لا يكفي في ارتفاعها علة السند، قد ترتفع العلة التي في السند، وتبقى العلة التي في المتن والأمر كذلك.
نعم.
"وقال -رحمه الله-:
بابٌ في زيارة القبور والسلام عليها.."
السلام والدعاء.. أو ما عندك؟
"بابٌ في زيارة القبور والسلام والدعاء:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن زوارات القبور، رواه أحمد وابن حبان وابن ماجه والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان، وقد روي من حديث حسان وابن عباس.
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا..»."
فأمسكوا.. فأمسكوا..
"«فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا»، رواه مسلم.
ولأحمد والنسائي: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هَجرًا..»."
هُجرًا.. هُجرًا..
"«هُجرًا».
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما كان ليلتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، رواه مسلم.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، وكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار، وفي لفظ: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، رواه مسلم.
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما-: فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار، وفي لفظ: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، رواه مسلم.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المدينة فأقبلهم عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا، ونحن بالأثر»، رواه أحمد والترمذي، وهذا لفظه، وقال: حديث حسن غريب.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»، رواه الترمذي، ورواه أحمد عن الترمذي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»، وفي إسناده اختلاف، والله أعلم بالصواب."
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "بابٌ في زيارة القبور والسلام والدعاء" زيارة القبور جاء الحث عليها، والمراد بذلك الزيارة الشرعية لا الزيارة البدعية، الزيارة الشرعية التي ينتفع بها الزائر والمزور، ينتفع بها الزائر؛ لأنها تذكر الآخرة، يتذكر بها الآخرة، وينتفع بها المزور؛ لأنه يدعى له، والسلام على الأموات في قبورهم والدعاء لهم هذه الزيارة الشرعية التي ينتفع بها الزائر، فيرقُّ قلبه ويلين لذلك إن كان فيه حياة، وإلا ما أكثر ما ترددنا على المقابر، وزرنا القبور، وشيعنا الجنائز، ونرجع بخفي حنين، لا نقول الأجر، الأجر يثبت عند الله- جل وعلا- بقدر ما يقر في قلب الإنسان من الإخلاص، لكن يبقى الانتفاع الذي أشارت إليه الأحاديث تذكر الآخرة، التذكر عند كثير من الناس معدوم، والسبب في ذلك ما ران على القلوب من الذنوب، والله المستعان، القرطبي -رحمة الله عليه- في تفسير {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [سورة التكاثر:1-2] له كلام طويل في هذا الباب، وغاية في التأثير، فليراجَع كلامه نفيس.
يعني بعض الناس إذا سمع بذكر الموت تأثر، إذا رأى الجنازة من بعد تأثر، وكان هذا التأثر موجودًا لدى عموم الناس قبل أن تفتح عليهم الدنيا، قبل أن تفتح الدنيا، ويحدثوننا أنهم إذا رأوا الجنازة أنهم في بقية يومهم لا يأكلون، وقد لا ينامون من شدة التأثر، الآن وعموم الناس يرون في الأخبار الأوصال والأشلاء تتطاير، وهم في أكلهم على مائدتهم يأكلون، حاصل أم ما هو بحاصل؟ والله إنه حاصل، يأكلون، ولا كأنهم ولا بعوض، وهم من إخواننا المسلمين، أين القلوب؟!
هل نتأثر بتشييع جنازة ملفوفة لا نراها ونضعها في قبرها، ونهيل عليها التراب، وقد وجد من يدخن على شفير القبر؟
والله إن واحدًا يقسم يقول: إنه لا فرق عندي بين القبر وبين حفرة الزيت التي يغير فيها الزيت، زيت السيارات؛ لأن القلوب ماتت، فعلى الإنسان أن يسعى في صلاح قلبه قبل كل شيء؛ لأن الله -جل وعلا- لا ينظر إلى الصور والأعمال، إنما ينظر إلى القلوب، ينظر إلى القلوب، {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء:88-89]، القلب الذي ليس بسليم لا ينفع، نعم قد يكون فيه دخل، يكون فيه دخن، لكن قلب ميِّت، نسأل الله السلامة والعافية، هذا لا ينتفع صاحبه، نشيع الجنائز، ونصلي عليها، وننظر، القرطبي يقول: إذا لم تنتفع بذكر الموت وقد جاء الأمر بالإكثار من ذكر هازم اللذات فهذا لا شك أن الذي قلبه حي ويسمع الموت، ويتذكر الموت هذا يتغير حاله ووضعه، لكن من لا يتأثر بذكر الموت، ولا بمشاهدة الأموات، ولا بالمشاركة بالصلاة عليها ودفنها، يقول القرطبي: إذا وصل الأمر به إلى هذا الحد فعليه أن يحرص على مشاهدة المحتضَرين، ففيهم من العِبَر ما لا يوجد في غيرهم، تجد إنسانًا المهيد تجده ونفسه تقعقع، ويعالج الموت، لا شك أنك تتأثر، تجد أقرب الناس إليك وروحه تخرج من بدنه لا شك أنك تتأثر، لكن مع الأسف أنه وإن وجد هذا التأثر فإن أثره ضعيف، يتأثر، قد يتأثر بقية يومه، وقد يتأثر يومين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر، لكن هذا التأثر لا يستمر.
يعني نسمع القرآن من القراء المجودين أصحاب الأصوات المؤثرة الندية وقد يبكي الإمام ويبكي بعض المصلين وبعضهم لا يدري هل هو في صلاة أو لا، هل الذي يقرأ قرآنًا أو أخبارًا لا فرق؟ طيب الذي يتأثر ويقرأ القرآن ويبكي، ثم يعود إلى طبيعته سريعًا، يبكي ثم يكمل الآية كأنه ما بكى، يعني هل تأثر بالقراءة هذا؟!
عمر -رضي الله عنه- إذا بكى في قيام الليل يزار من الغد، يعني التأثر له مدى، وله أثر في مقتبل الحياة، ويؤثِّر في محاسبة النفس، أما أن نتأثر لحظة، ثم بعد ذلك نعود إلى ما كنا عليه فهذا ما هو بتأثر هذا، يعني بعض الأئمة يبكي، ثم إذا أعاد الآية كأنه ما قرأها قبل بنفس صوته العادي، بعض الناس إذا تأثر وبكى ركع، ما استطاع أن يكمل، وبعضهم يعود إلى قراءته كأن شيئًا لم يكن، فلا شك أن التأثر له أثر، وله مدى مثل ما قلنا في درس مضى: إن الإنسان قد يمر بحادث في طريقه وهو مسرع، فيرى الحادث شخصًا مغطى وشخصًا مقطعًا وشخصًا له صراخ، وما أشبه ذلك، يتأثر فبدلاً من أن يمشي مائة وثمانين أو مائة وستين، وبعضهم مائتين يهدِّئ، يعنى عند الحادث إذا رأى هذا يمشي أربعين خمسين، ثم بعد قليل ستين سبعين، ثم يرجع كأنه لم يرَ شيئًا، كأنه لم يرَ شيئًا ما السبب في ذلك؟
السبب في ذلك موت القلوب، القلوب ليست سليمة، ولو كانت القلوب سليمة ما صار واقعنا مثل هذا، لا شك أن الخير موجود وفي كثرة وازدياد، ولله الحمد، يعني ما كنا نرى أمثال هذه الأعداد في الدروس قبل عشر سنين أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة، الخير في ازدياد، ولله الحمد، والقبول موجود، والمساجد تمتلئ، وأمة محمد الخير فيها إلى قيام الساعة، لكن هناك أمور أثرت في الأفراد والجماعات، أثرت في قلوب الأفراد، تجد الإنسان يتمنى موت أخيه لأدنى سبب من أسباب الدنيا؛ لأنه نافسه على شيء، أو خشي من كذا، هل هذه قلوب حية؟! لا شك أن الطمع استولى على القلوب، والغفلة أيضًا استولت، وإن كان الخير في ازدياد، والقبول ولله الحمد موجود وظاهر، وكثير، لكن الذي يخشى منه مسخ القلوب بالنسبة للأفراد، وكثرة الخبث بالنسبة للمجتمعات؛ أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: «نعم، إذا كثر الخبث».
"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن زوارات القبور، لعن زوارات القبور".
اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
"رواه أحمد وابن حبان وابن ماجه والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان".
وعلى كل حال الحديث ثابت، يعني أقل أحواله أن يكون حسنًا، وبعضهم يرقيه إلى الصحيح لغيره، على كل حال صالح للحجة، واللعن يدل على أن هذا الفعل من الكبائر، وكونه جاء بصيغة المبالغة زوارات لا يعني أن أفراد هذه الزيارات مباحة، لا يعني أن أفراد هذه الزيارات مباحة، لكن لا شك أن التي اعتادت زيارة القبور أمرها أشد، لكن التي تزور فعلت فردًا من أفراد هذا الملعون عليه فقد ارتكبت محرمًا، أما من يقول: الزائرة ليست زوارة فهذا ما يمكن أن يقول: إن أفراد ما يحرم كثيره أفراده مباحة، ومعروف أن النساء ليس لديهن من الصبر والتحمل مثل ما عند الرجال، جبلن على شيء من الجزع وعدم التحمل وعدم الصبر، فإذا حضرن المقابر حصل منهن المحظور الذي هو ما سبق ذكره من شق الجيوب ولطم الخدود والنياحة وما أشبه ذلك، والجزع، فما يؤدي إلى الحرام حرام.
"وقد روي من حديث حسان وابن عباس" يعني له شواهد، حديث أبي هريرة له شاهدان: الأول حديث حسان مخرّج في المسند وسنن ابن ماجه، وغيرهما، وشاهد آخر من حديث ابن عباس فيرتقي بهما إلى درجة الصحيح.
قال -رحمه الله-: "وعن بريدة -رضي الله عنه-" يعني عموم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور»، حديث "بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»" يعني الأمر هذا شامل بعمومه للرجال والنساء، لكن جاء ما يخرج النساء من هذا الأمر، فبقي خاصًّا بالرجال، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث»، يعني ادخار لحوم الأضاحي، يعني يدخر من أضحيته لمدة ثلاثة أيام ما يكفيه ثلاثة أيام، ثم يتصدق بما زاد على ذلك، «فأمسكوا ما بدا لكم» يعني ادخروا خمسة أيام، عشرة أيام، شهرًا، ادخروا ما بدا لكم، أمسكوا ما بدا لكم، وجاء التعليل بأن النهي عن الادخار فوق ثلاث إنما هو من أجل الدافّة، إنما نهيتكم من أجل الدافَّة، أناس فقراء جاؤوا إلى المدينة، إذا كان كل واحد يدخر أضحيته إلى آخر الشهر ما بقي فضل لهؤلاء المساكين الذين هم بأمس الحاجة إلى مثل هذا اللحم المدخر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- نهاهم لهذه العلة، ثم لما ارتفعت العلة ارتفع الحكم.
«ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء» نهاهم عن النقير والمقيَّر والحنتم والدبَّاء والأوعية الصلبة، نهاهم أن ينتبذوا فيها، إنما ينتبذون في الأسقية من الأدم من الجلد، لماذا؟ لأن الوعاء الصلْب قد يتأثر ما فيه ويتغير وينقلب من كونه نبيذًا إلى كونه مسكرًا، وصاحبه لا يشعر؛ لأن الإناء صلب، لكن إذا كان الإناء من الجلد فإنه إذا تغير ما فيه وانقلب من كونه نبيذًا إلى مسكر اشتد وقذف بالزبد، الإناء ينتفخ، وتعرف أن هذا تغير، ثم بعد ذلك لما توطنوا على تحريم المسكر بعد مضي مدة، وعرفوا أنهم صاروا يجتنبونه؛ لعظم ما ورد فيه من الوعيد، وكلهم إلى هذا، قال: انتبذوا في كل إناء، «ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا» يعني سواء كان النبيذ في وعاء من الجلد أو في وعاء مما جاء النهي عنه من المقير والمزفت والحنتم والدباء، ولو كان الوعاء من من أي شيء من المواد الصلبة.
"رواه مسلم، ولأحمد والنسائي" أولاً نهاهم لقرب عهدهم بشرب الخمر، وقد تكون النفوس ما انفصلت انفصالاً تامًّا، فإذا تغير فقد لا يتحرى بعض الناس مثل ما يتحرى بعد أن وطَّن نفسه على أنها أم الخبائث.
"ولأحمد والنسائي: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا»" اللفظ الأول صريح في الأمر، فزوروها، وهو أمر بعد حظر، حكمه أمر بعد حظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [سورة المائدة:2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [سورة الجمعة:10]، يرجع الأمر إلى ما كان قبل الحظر، «فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجْرًا» يعني لا تقولوا كلامًا قبيحًا سيئًا تدعوا على أنفسكم أو تدعوا بدعاء فيه إثم أو قطيعة أو كلام قبيح، ومن ذلك الحديث في أمور الدنيا يكرهه أهل العلم، يعني يتكلم الإنسان في أمور الدنيا وفي المقبرة، وبعض الناس يجعلها فرصة إذا رأى من يعز عليه من يتكلم معه في أمور الدنيا، وقد ينتهزها فرصة؛ ليدعوه إلى وليمة، أو ما أشبه ذلك، واجتنب هذه الأمور كلها، ومنهم من يدخل المقبرة ويخرج وهو في مكالمة واحدة، هل هذا استفاد من زيارة القبور؟ يعني ما اكتفى الناس بكلام بعضهم مع بعض، لا، صارت هذه الآلات وبالًا على كثير من الناس، تجده في أوقات الشدة، في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى ذكر أو تلاوة، ثم بعد ذلك يسلَّط عليه هذا الجوال فيستغرق وقتَها.
وقد رأيت في هذا المسجد، في هذا المكان الطاهر شخصًا عليه سيما الخير من الشباب في مكالمة واحدة من سلام الإمام إلى أن انتشرت الشمس في مكالمة واحدة، يعني انقطع سهوًا أو ما أدري إيش ثم أعيد الاتصال ثانية، ما بينهما ولا ثانية. لكل مقام مقال، فأنت في مثل هذا الكلام جلست، ليش ترجو ما عند الله جل وعلا مقتديًا بنبيه -عليه الصلاة والسلام- الذي يجلس في مصلاه من أن يصلي الصبح إلى أن تنتشر الشمس، ومع ذلك تقضي على هذه الفرصة التي ما تدري هل تدرك غيرها أو ما تدرك بمكالمة واحدة، أو تشيع المريض أو تشارك في حمله، ومع ذلك قلبك خارج المقبرة وبعيد كل البعد من الهدف الذي من أجله شرعت زيارة القبور.
"وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كلما كان ليلتها من رسول الله" كلما كان في ليلتها، يعني ليلتها أو ليلتُها، وكان تامة حينئذ من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "يخرج من آخر الليل، يخرج من آخر الليل إلى البقيع" الذي يدفن فيه الأموات، وهو قريب من المسجد ومن بيت عائشة- رضي الله عنها- "ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»"، يسلِّم على هؤلاء الأموات، ويسمعون، ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة أنهم يسمعون، وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم من أنكر السماع بقوله: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [سورة فاطر:22]، لكن السماع المنفي هنا سماع الاستفادة كما أن الكفار يسمعون الكلام، لكنه نفي عنهم السماع؛ لأنهم لا يستفيدون، وفي حديث مخاطبته -عليه الصلاة والسلام- لأهل القليب قليب بدر، يا فلان يا فلان يا فلان، قيل له: أتخاطبهم وقد أرموا؟! جيفوا، ماتوا، قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»، فثبت أنهم يسمعون فيقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، والدار تطلق على البناء وساكنيه، والمقبرة دار، يعني دار برزخ بين الدارين الأولى والآخرة.
في السلام على الميت يعرَّف فيقال: السلام عليكم السلام عليك يا فلان، ويقول أهل العلم: ويخير بين تعريفه وتنكيره في سلام على الحي، يخير بالنسبة للحي بين التعريف والتنكير، أما بالنسبة للميت فيعرَّف ولا ينكَّر، {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [سورة هود:69]، «سلام على من اتبع الهدى»، إلى آخره، جاءت النصوص بالتنكير، وجاءت أيضًا بالتعريف بالنسبة للحي، أما بالنسبة للميت فلم تأتِ إلا السلام عليكم دار قوم مؤمنين، يعني هذه الدار دار البرزخ المقبرة لهؤلاء المؤمنين، «وأتاكم ما توعدون» أتاكم ما توعدون، يعني بخروج أرواحكم من أبدانكم جاءكم يومكم الموعود لا تستقدمون ساعة ولا تستأخرون، ومع ذلكم جاءكم السؤال حينما وضعتم في قبوركم وقد وعدتم ذلك؛ لأنه إذا وضع الميت في قبره جاءه ملكان فأقعداه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
«وأتاكم ما توعدون، غدًا مؤجلون» يعني تمكثون في هذه القبور إلى قيام الساعة أنتم مؤجلون في هذه الحفر إلى قيام الساعة، «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [سورة الرحمن:26] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [سورة الزمر:30]، فالموت مكتوب على كل حي، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ = 27 } [سورة الرحمن:26-27]، فكل يموت، «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» يعني جزمًا أنا ميتون كما تموتون، والتعليق بالمشيئة إما للتبرك أو إنا لاحقون بكم بهذه البقعة، وقد نُهي النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقول لشيء يفعله إلا مقرونًا بالمشيئة؛ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ} [سورة الكهف:23-24] وهذا منه، «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» البقيع الصحابة الذين دفنوا، ويشمل من يجيء بعدهم ممن هو على طريقتهم وسنتهم، وإذا زرت مقبرة لها اسم معيَّن في أي بلد من البلدان تقول: اللهم اغفر لأهل مقبرة كذا، أو لأهل مكان كذا، مثل ما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- بالنسبة لأهل بقيع الغرقد.
"رواه مسلم.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقوله: السلام عليكم أهل الديار، وفي لفظ: السلام على أهل الديار"، وكلها بالتعريف، "من المؤمنين والمسلمين"، عامة أهل العلم على أنهم يسمعون هذا السلام، ويسمعون قرع النعال، ويسمعون سلام من يسلم عليهم، ويعرفون من يزورهم، وقد يطلعون على أحوال من وراءهم فيسرهم الأمر السارّ، ويسوؤهم الأمر السيئ.
من المؤمنين والمسلمين، والعطف هنا المؤمنين الكمَلة والمسلمين الذين عملوا بالإسلام ظاهرًا، وقد يكون عندهم شيء من النقص.
"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، كما تقدم، "نسأل الله لنا ولكم العافية"، وقد أمرنا أن نسأل الله العافية والعفو والمعافاة، "رواه مسلم.
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المدينة" هذا الحديث في إسناده قابوس بن ظبيان، وليس بالقوي، فالحديث فيه كلام لأهل العلم منهم من ضعفه.
"قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- مر عابرًا بالقبور ما زار القبور قصدًا، ودخل المقبرة، مر بها مرورًا.
"فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا، ونحن بالأثر»" هذا الخبر وإن كان فيه شيء من المقال، هو مضعّف عند بعض أهل العلم، لكنه يصلح عند الجمهور في مثل هذا المجال؛ لأنه في مقام الترغيب في الفضائل، عند الجمهور يعملون بمثل هذا.
على كل حال إذا مر الإنسان بالمقبرة غير قاصد لزيارتها، ولا داخلًا مع بابها في ضمن سورها فهل يشرع له أن يسلم من وراء الجدار وهو مارّ في الشارع، أو لا يشرع؟
الخبر يدل على مشروعية ذلك، وبعضهم يقول: لا، إذا ما زرت لا تسلم، كما أنك لو مررت بباب فلان ما تقول: السلام عليك يا فلان وهو في جوف بيته، وأنت في الشارع، لكن إذا توقعت أنه يسمع عند الباب سمعت حركته أو شيئًا، ما تسلم؟ تسلم، ولو قلنا بأن غير الداخل وغير الزائر يعني غير الداخل في المقبرة لا يسلم لامتنع السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- لامتناع الدخول عليه، يعني بعضهم يقول: إذا كنت مارًّ عند المقبرة لا تسلم، نقول: إذا كنت مارًّا بقبر النبي -عليه الصلاة والسلام- لا تسلم، هل يقول به أحد؟! نفس الشيء، إذا كنت مارًّا بجدار المقبرة بجواره فكأنك كأنك مررت بقبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، والحكم واحد، وابن عمر وجمع من الصحابة يمرون، يمرون، ولا يدخلون الحجرة، ولا يدخلون الحجرة، ويسلمون السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتي، وفي الحكم من مر بالمقبرة بجوار سورها يقول: السلام عليكم أهل الديار، ولا يوجد ما يمنع من ذلك، إن شاء الله تعالى.
السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا، يعني الذين تقدمتم علينا، ونحن بالأثر وراءكم؛ لأن هذا أمر كتب على كل حي إلا الله- جل وعلا-.
"رواه أحمد" نسبه المؤلف إلى الإمام أحمد، ولا يوجد في النسخ المطبوعة من المسند.
"والترمذي وهذا لفظه وقال: حسن غريب.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا الأموات»"، سب الأموات ليس فيه مصلحة إذا كان لمجرد التشفي والتفكه بأعراضهم، ولو كانوا مسيئين يدخل في قوله: «لا تسبُّوا الأموات، وإن ترتب على ذلك مصلحة، وليس المراد بذلك السب لذاته، وإنما التنفير من فعل هذا الميت، وقد مر بجنازة على النبي -عليه الصلاة والسلام- وأثنوا عليها شرًّا فقال: «وجبت، وجبت»، فدل على أنه إذا ترتب على ذلك مصلحة أنه لا مانع...
"