شرح زاد المستقنع - كتاب الصيام (01)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن كتاب زاد المستقنع من أشهر المتون الفقهية على المذهب الحنبلي، بل من أولى ما يعتني به طالب العلم في هذا المجال؛ لصغر حجمه، وكثرة مسائله، فعلى طالب العلم أن يعتني بمثل هذا الكتاب، ولا يستمع إلى الدعاوى التي تقلل من شأن هذه الكتب، على حد زعم أصحابها، أن هذه أقوال الرجال، وأنه على طالب العلم أن يتفقه من الكتاب والسنة.
نعم الأصل الكتاب والسنة، ولا يشك في هذا مسلم، ولا يماري في هذا أحد، لكن كيف يتفقه الطالب المبتدئ من الكتاب والسنة؟ ليست لديه الآلة الكافية للاستنباط من الكتاب والسنة، عليه أن يتفقه بواسطة أهل العلم، فالمبتدئ حكمه حكم العامي، الذي فرضه سؤال أهل العلم، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل]، والتفقه على مثل هذا الكتاب لا شك أنه يرسم الطريقة السوية التي سلكها أهل العلم قديماً وحديثاً في التفقه، ولا يعني هذا الكلام أننا نأخذ هذه الأقوال على عواهنها، هذه الأحكام التي تذكر في هذه المتون، لا شك أن أصحاب هذه المتون اجتهدوا في ذكر أرجح الأقوال على حد اجتهادهم، وهم لا يُلزمون أحداً بمقتضى اجتهادهم.
وأشبه ما يكون مثل هذا الكتاب بالمنهج والخطة التي يسير عليها طالب العلم، يأخذ مسائل هذا الكتاب، وأبواب هذا الكتاب، وفصول هذا الكتاب، باباً باباً، فصلاً فصلاً، مسألة مسالة، فينظر في المسألة الأولى من الفصل الأول من الكتاب الأول، فيتصور هذه المسألة، ثم ينظر في دليلها، ومن قال بها من أهل العلم، ومن خالف، وينظر في دليل المخالف ويوازن بين هذه الأقوال من خلال أدلتها إذا كان أهلاً لذلك، وهذه مرحلة لاحقة، لا يدركها الطالب المبتدئ، فعلى الطالب المبتدئ أن يفهم، يكفيه أن يتصور هذه المسائل، ويسأل عما يشكل عليه، ويقرأ على شيخ يرجح له المسائل، وهذه الكتب – أعني المتون الفقهية - لا شك أن فيها بعض الأقوال المرجوحة، وإن كانت راجحة عند المؤلف، وفي هذا الكتاب ما يزيد على ثلاثين مسألة خالف فيها مؤلف الكتاب الراجح من المذهب، وهي راجحة بالنسبة لمؤلف الكتاب، ومؤلف الكتاب منزلته عند الأصحاب معروفة، حتى قالوا: إن المذهب عند المتأخرين ما اتفق عليه في الإقناع، وهو لصاحب الكتاب الحجاوي، والمنتهى، فإذا اتفق المنتهى والإقناع على حكم فهو المذهب عند المتأخرين، فصاحب الكتاب له شأن، وله منزلة عند الأصحاب، وهذا مما يرجح كتابه إضافة إلى صغر حجمه وكثرة مسائله.
أقول: على طالب العلم المبتدئ أن يعتني بمثل هذه الكتب، وغيرها من المتون في سائر الفنون، فينظر في مسائل الكتاب، ويستدل لها كما ذكرنا، وينظر في قول من خالف ودليله، ويوازن بين هذه الأقوال إذا تأهل لذلك، ثم يعتني بالقول الراجح ويعمل به، ويعمل بما يدين الله -سبحانه وتعالى- به.
الكتاب الذي قُرر شرحه في هذه الدورة هو: (كتاب الصيام)، وقبل أن نبدأ في شرح وتحليل ألفاظ الكتاب، نبدأ بمقدمة تشتمل على تعريف الصيام، وحكم الصيام، والحكمة من مشروعيته، وغير ذلك مما ينبغي التنبيه عليه.
تعريف الصيام لغة وشرعاً:
الصيام في الأصل في لغة العرب: أطلقوه على الإمساك هذه حقيقته اللغوية، الصيام في اللغة: الإمساك، هذا من حيث الحقيقة اللغوية، ونعرف أن الحقائق اللغوية لها ارتباط وثيق بالحقائق الشرعية، وليس معنى اختلاف أو ذكر الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية أن الحقائق الشرعية نقلت اللفظ من إطلاق إلى آخر، ولا ارتباط بينهما، بل الذي يقرره أهل التحقيق من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن الحقائق الشرعية هي في الأصل اللغوية، لكن الشرع يزيد عليها قيود، يزيد عليها بعض القيود؛ فالعرب قالوا، أو عرفوا الصيام بأنه الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، فيقال للصمت صوم؛ لأنه إمساك عن الكلام كما قال تعالى مخبراً عن مريم عليها السلام، {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [(26) سورة مريم]، ما الدليل على أن المراد بالصوم هنا الإمساك؟ قولها: {فلن}، نعم تكملة الآية، {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [(26) سورة مريم]، أي سكوتاً عن الكلام، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
|
|
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
|
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري، وأخرى جارية.
والصيام في الشرع: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع يعني عن المفطرات، بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وعرف أيضاً بأنه: التعبد لله -سبحانه وتعالى- بالإمساك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
واشتراط النية في الصيام وإدخالها في الحد هو معنى التعبد لله -سبحانه وتعالى-، يعني نية التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بهذه العبادة.
حكم الصيام:
وحكم الصيام ركن من أركان الإسلام إجماعاً، دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة]، وأما السنة فقوله -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) [متفق عليه]. وروى مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بني الإسلام على خمسة)) هناك: ((بني الإسلام على خمس)) أي دعائم، وهنا: ((بني الإسلام على خمسة)) أي أركان، وإذا حذف التمييز جاز التذكير والتأنيث على حد سواء، كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من صام رمضان، وأتبعه ستاً)) وإلا فالأصل ستة، وهي أيام.
((بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج)) فقال رجل لابن عمر: "الحج وصيام رمضان؟" -يعني كما في الرواية السابقة-، في الرواية السابقة قدم الحج، ((والحج، وصوم رمضان)) وفي الرواية اللاحقة: ((صيام رمضان، والحج)) فاستشكل رجل فقال: "الحج وصيام رمضان"، يرد بذلك على ابن عمر، قال: "لا، صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
اللفظ الأول الذي فيه تقديم الحج على الصيام متفق عليه، فكيف يقول ابن عمر: لا، يعني لا تقل مثل هذا الكلام، صيام رمضان والحج، ثم بين أن ذلك من قوله -عليه الصلاة والسلام- سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واختلف العلماء في إنكار ابن عمر -رضي الله عنهما- على الرجل الذي قدم الحج، مع أن ابن عمر رواه كذلك.
يقول النووي في شرح مسلم: "الأظهر -والله أعلم- أنه يحتمل أن بن عمر سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين مرة بتقديم الحج، ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضاً على الوجهين في وقتين" يعني رواه مرة في وقت بتقديم الحج، ومرة أخرى في وقت آخر بتقديم الصوم، فلما رد عليه الرجل، وقدم الحج قال ابن عمر: "لا ترد علي ما لا علم لك به، هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر، ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين كما ذكر، ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي ذكره فأنكره.
وعلى كل حال الصوم والحج ركنان من أركان الإسلام اتفاقاً، وكون الحج يقدم على الصوم، أو الصوم يقدم على الحج لا يقلل من شأن الآخر، المؤخر.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- اعتمد على الرواية التي فيها تقديم الحج على الصوم، وبنى عليها ترتيب كتابه، فقدم الحج على الصيام في كتابه، ولعل ذلك لما ورد من التشديد في ترك الحج مما هو أكثر من التشديد في ترك الصيام، من الأحاديث المرفوعة والموقوفة؛ إضافة إلى قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]، وهذا في إيش؟ في الحج.
وأجمع العلماء على وجوب الصيام، وأنه ركن من أركان الإسلام، وعلى كفر من جحد وجوبه، واختلفوا في تكفير من تركه مع اعترافه بوجوبه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى في كتاب الإيمان: "وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، يعني ولو وقر الإيمان في قلبه، لكنه لم يتمكن من النطق بالشهادتين"، هذا يصدق عليه أنه لم يأت بالشهادتين، فالنطق بالشهادتين لا بد منه لصحة الإيمان، لكن إذا وقر الإيمان في قلبه، ومنعه من النطق بهما مانع إن كان المانع خِلقي، أبكم، فلا يؤثر، وإن كان المانع غير ذلك لضيق الوقت وشبهه، فإن هذا مؤثر، لا يحكم بإسلامه حتى ينطق، وأما في الآخرة فأمره إلى الله، لكنه في الدنيا ما لم ينطق فإنه يعامل معاملة الكفار: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) حتى ينطقوا.
"وأما الأعمال الأربعة" يقول شيخ الإسلام، يعني الأركان، من غير الشهادتين، فاختلفوا في تكفير تاركها، والقول بكفر من ترك واحدة منها رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، واختارها طائفة من أصحاب مالك".
فتارك أحد الأركان مع القدرة على فعله على خطر عظيم، فقد بني الإسلام على هذه الأركان، وكل بناءٍ ترك بعض أركانه يوشك أن يتهدم.
والقول المرجح عند جماهير العلماء: أنه لا يكفر إلا من ترك الصلاة على خلاف بينهم في حكم تاركها أيضاً، وقد نقل اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على كفر تاركها، وإن كان معترفاً بوجوبها.
فضل الصيام:
وفضل الصيام عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة المخرجة في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام من السنن والجوامع، والمصنفات وغيرها، والمسانيد، ويكفي من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- خصه بالإضافة إليه، كما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرئ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ثم قال: للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) [متفق عليه].
هل فرح الصائم بفطره فرح لانقضاء هذه العبادة والفراغ منها؟ أو أن هذا فرح جبلي؟ فالنفس تتوق إلى الأكل والشرب، وغيرهما من الممنوعات، لا شك أن هذا فرح جبلي لا ينقص من أجر الصوم، ولا يخل بصيام المرء، يعني هل يكون الذي يتمنى أن لو طال النهار أفضل ممن يفرح بفطره؟ يعني إذا أذن المغرب تمنى أن لو مدد النهار زيادة، تلذذاً بهذه العبادة، هل هو أفضل أو الذي يفرح بفطره؟ لا شك أن فرحه بفطره جائز، كما نص عليه هذا الحديث: ((للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح)) هذا فرح جبلي.
ولا شك أن هذه المسألة فرع عن مسألة كبرى وهي أن من يؤدي العبادة مع التلذذ بها والاشتياق إليها أفضل؟ أو الذي يؤديها على نوع من تحمل المشقة والعسر في أدائها؟ المسألة خلافية بين أهل العلم، هل هذا أفضل أو ذاك؟ لكن المرجح عندهم أن من يتلذذ بالعبادة أفضل من الذي يؤديها مع نوع من المشقة؛ لأنه لم يصل إلى تلك المرحلة حتى اجتاز هذه، ولذا كان السلف يعالجون من قيام الليل الشدائد، ثم لا يزالون أن يتلذذوا به، ومثله الصيام، وغيره من العبادات.
يقول القرطبي في تفسيره: "وإنما خص الله -سبحانه وتعالى- الصوم بأنه له، وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات:
أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
قد يقول قائل: الصلاة تمنع من ملاذ النفس وشهواتها، الصلاة تمنع، لكن الوقت الذي يقضيه في الصيام، والمنع الذي يترتب على الصيام أطول من المنع الذي يترتب على الصلاة، وإلا ما في أحد يزاول شهواته وهو يصلي، فهما مشتركان في هذا، لكن الوقت الذي يمضيه في الصوم أطول من الوقت الذي يمضيه في الصلاة وغيرها من العبادات.
الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه، ولعل هذا أظهر، لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصاً به، وما سواه من العبادات ظاهر، فلربما فعله تصنعاً ورياءً فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.
يقول ابن عبد البر: "كفى بقوله: ((الصوم لي)) فضلاً للصيام على سائر العبادات"؛ لأن الذي يضاف إلى الله -سبحانه وتعالى- إنما هو الشريف؛ فالإضافة إلى الله -سبحانه وتعالى- تقتضي التشريف، ولذا يقول الإمام أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله-: "كفى بقوله: ((الصوم لي)) فضلاً للصيام على سائر العبادات".
لكن ينبغي أن يلاحظ أن الصوم المذكور هنا هو الصيام الذي سلم من الخوارم، ولذا يقول ابن حجر في فتح الباري: "اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً" اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً" جاء في الحديث: ((العمرة إلى العمرة)) وجاء أيضاً: ((الصلوات الخمس)) وجاء: ((رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها)) فالمراد بهذا الصيام الذي يكفر هو: الصيام التام الموافق لمراد الشارع. الصلاة المكفرة -كما يقول شيخ الإسلام- المراد بها الصلاة الكاملة. شيخ الإسلام يقرر هذا ويؤكد عليه وإلا فصلاة من لم يخرج من صلاته إلا بعشرها ماذا تكفر من السيئات؟ الصلاة التي لم يخرج صاحبها منها إلا بعشرها؛ لأن المصلي ليس له من صلاته إلا ما عقل، هذه على حد رأي شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- عسى أن تكفر نفسها.
الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الكاملة، وإلا فكم من شخص يصلي ويزاول المنكرات، وهذا يمشي تماماً مع قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة]، والمراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على العبادة، لا نفي الصحة، وإلا فالإجماع قائم على أن الفساق لا يؤمرون بإعادة العبادات، كما هو معروف، فنفي القبول هنا المراد به نفي الثواب المرتب، ترتب آثار هذه العبادة عليها؛ فالعبادة الكاملة من التقي تترتب عليها آثارها، فصلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، صيامه يجره إلى التقوى التي ذيلت بها آية الصيام، على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) ((من صام يوماً في سبيل الله)) ما المراد بسبيل الله هنا، هل هو الجهاد؟ فيكون هذا الثواب خاص بالمجاهد الصائم، أو المراد به في سبيل الله ابتغاء وجه -سبحانه وتعالى-؟
المسألة خلافية، والبخاري -رحمه الله- تعالى أدخل الحديث في كتاب الجهاد، فدل على أنه يرجح أن المراد بسبيل الله الجهاد، لكن فضل الله -سبحانه وتعالى- لا يحد، وقد يرجَّح القول الثاني وهو أن المراد بسبيل الله ابتغاء وجه الله -سبحانه وتعالى-.
وأخرج أيضاً من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون: لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
كل هذا يدل على فضل هذه العبادة الجليلة وأنتم على أبوابها، والقدوم عليها، فعلينا أن نحرص كل الحرص أن يكون صيامنا خالصاً لوجه الله -سبحانه وتعالى- مصوناً عن ما يخدشه.
حكمة تنوع العبادات:
العبادات المشروعة متنوعة، فمنها ما يختص بالبدن، ومنها ما يختص بالمال، ومنها ما هو مشترك، ومنها ما هو في السر، ومنها ما هو في العلانية، ومنها ما يرتبط بالبدن، ومنها ما يرتبط بالقلب، ومنها ما يرتبط باللسان، والشرع نوع هذه العبادة، هذه العبادات لحكم، ولشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- رسالة في تنوع العبادات.
فمن حكمة الله -عز وجل- أن جعل العبادات أنواعاً في التكاليف ليختبر المكلف، كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، هل يمتثل ويقبل ما يوافق الطبع؟ أو يمتثل ما به رضا الله -عز وجل-؟ الناس أجناس، ولهم طبائع، فإذا تأملنا العبادات جميعها وجدناها على أنواع، بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب منهما، حتى يتبين الكسول من غيره، والشحيح من الجواد، فربما سهل على بعض الناس أن يصوم النهار كله، النهار ويصلي الليل كله، لكن لا يسهل عليه أن يتصدق بدرهم، مثل هذا اختبر بالعبادات المالية، امتحن، وقد يسهل عليه خوض المعارك الضارية، ولا يهون عليه أن يبذل شيئاً من المال ولو يسيراً، وبالعكس، فقد يسهل على الإنسان أن يخرج من جميع ما يملك، ولا يجاهد، أو يبذل الأموال ولا يصلي ركعة، وهكذا، فتنوع العبادات يحقق هذه الأمور كلها، ويتميز الممتثل من غيره، بعض الناس لو تقول له: ناولني هذا الكتاب أو هذا الكوب بريال ما رضي، وبعض الناس يبذل نفسه دون الريال.
لا شك أن الناس متفاوتين، فهؤلاء يمتحنون، الشحيح يمتحن بالعبادات المالية، والطرف الآخر يمتحن بالعبادات البدنية.
ذكر بعضهم، بعض شراح الصحيح كالكرماني وغيره عن بعض السلف أنه نذر إن اغتاب أحداً تصدق بدرهم، فهانت عليه الغيبة، لماذا؟ لأن الإنفاق سهل عليه، يسير، ثم إنه بعد ذلك نذر أنه إن اغتاب أحداً صام يوماً، فكف عن الغيبة لصعوبة الصيام عليه، فمن أجل هذا كله جاء تنوع العبادات الشرعية ليتم امتحان العباد حتى يعرف من يمتثل تعبداً لله، ومن يمتثل تبعاً لهواه.
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال مما يحتاج إلى المال كماء الوضوء الذي يشتريه، والثياب لستر العورة تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
أقول: الصلاة عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال مما يحتاج إلى المال، كماء الوضوء مثلاً، قد لا يجد ماء يتوضأ به، يمر البقالة ويشتري بريالين ماء، أو بريال ما يكفيه، لماذا لا نقول الصلاة عبادة مالية؟ لا، نقول: المال ثبت تعباً وليس مقصوداً لذاته، احتاج أن يركب ليؤدي الصلاة بأجرة، هذا المال ثبت تبعاً لا استقلالاً، وليس داخلاً في صلب العبادة، والزكاة مالية محضة، وما يحتاج، أو ما تحتاج إليه من عمل بدني، كإحصاء المال وحسابه ونقله إلى الفقراء، فهو تابع وليس داخلاً في صلب العبادة، لا شك أن الزكاة تحتاج إلى البدن، لكن الأصل فيها المال، يحتاج إلى نقلها إلى الفقراء، يحتاج إلى حسابات، وقيود، مما يقوم به البدن، لكنه تابع على ما ذكرنا، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والحج مركب من مال وبدن، والجهاد مثله.
الحج مركب لماذا لا نقول: إن الحج الأصل فيه البدن والمال تبع؟ نقول: الحج المال يشكل جزء كبير منه، ليس المسألة انتقال من مكان إلى مكان قريب يكون تبعاً، الحج فيه جزاءات مالية أيضاً، وفيه الاستطاعة بالمال، والزاد والراحلة، فنصيب المال كبير، وذكرنا أن لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- رسالة في تنوع العبادات، يحسن ويجدر بطالب العلم الاطلاع عليها كغيرها من كتبه ورسائله -رحمه الله-.
ما الحكمة من مشروعية الصيام؟
أشار الله -سبحانه وتعالى- في خاتمة الآية، آية فرضية الصيام التي سبق ذكرها، أشار في آخرها إلى التقوى فقال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة]، وأشار بهذا إلى أعظم حكم الصيام، ليس المقصود من الصيام تعذيب النفس، إنما المقصود من الصيام ما يجر إليه ويؤول إليه من التقوى، فالصيام خير معين على التقوى؛ لأنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته المباحة الميسورة؛ امتثالاً لأمره سبحانه واحتساباً لثوابه، وتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة، والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتنشط نفسه على النهوض بالطاعات، ويصبر عليها، والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، كم من شخص جره صيامه إلى ترك المنكرات، والازدياد من الطاعات؛ لأن الذي اعتاد مزاولة بعض المنكرات وصعب عليه تركها لا شك أن الحد من هذا الجموح بالصيام هذه المدة الطويلة النهار كله، والشهر كامل، يسهِّل عليه ترك المعصية، فالمدخن مثلاً هو بين خيارين، إما أن يضحي بركن من أركان الإسلام، أو يضحي بالدخان، والمسألة مفترضة في مسلم، لا شك أنه سوف يصوم، وسوف يتعب في الأيام الأولى، ثم يسهل عليه ترك الدخان، وكم من شخص ترك الدخان بسبب الصيام، فلا شك أن الصيام يجر إلى التقوى، ولذا ذيل الله -سبحانه وتعالى- الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وهذه هي أعظم حِكَم الصيام. وعرفنا أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأصلها التوقي مما يكره من الوقاية، فالمتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله –سبحانه وتعالى- وقاية، وقد سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ورحمه وإيانا وجميع المسلمين- من كبار المتقين، لكن ما يمنع أن يختبر غيره؟ أو ليعرف الحد؛ لأنه قد يوجد عند المفضول ما قد يخفى عن الفاضل، عمر -رضي الله عنه- يجتنب النواهي ويفعل الأوامر، لا يمنع أن يظن أن عند أبي قدر زائد على هذا، لكن أبياً أجابه بالمثال، وبالمثال يتضح المقال، فقال له: "أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى".
يعني على الإنسان، على المسلم أن يشمر ويجد ويجتهد في طاعة ربه، والوصول إلى مرضاته وجناته بفعل جميع ما أمر به، دون خيرة ولا تردد، وترك جميع ما نهي عنه.
يقول القرطبي في تفسيره: التقوى فيها جماع الخير، وهي وصية الله للأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء، وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر، وأنت ما حفظ عنك شيء فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه
|
|
ويأبى الله إلا ما أرادا
|
وفي هذا إشارة إلى تصحيح القصد بهذه العبادة، فمن لم يصم بنية صالحة، ويقصد بصيامه التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- فإنه لا ترجى له هذه الملكة، التقوى، فليس الصيام في الإسلام من أجل تعذيب النفس، بل لتربيتها وتزكيتها، المقصود من الصيام الشرعي غير ما يفعله أهل الرياضات من المتصوفة الضلاَّل.
الفارابي في آخر عمره لزم الصيام، صار صواماً، في آخر عمره، لكن هذا الصيام جره إلى التقوى؟ لا والله، لماذا؟ لأنه يفطر على الخمر المعتَّق، وأفئدة الحُمْلان، قلوب الخراف الصغيرة، فمثل هذا الصيام يجر إلى التقوى؟ لا، كيف يرجو أن يصل إلى هذه المرتبة من يفطر على المعصية، ويوجد بين المسلمين -مع الأسف الشديد- من يفطر على ما حرم الله.
أحمد أمين في أيامه التي سطر فيها حياته، كتاب له اسمه (حياتي) قال: إنه درسهم في مدرسة القضاء الشرعي شيخ وصفه بأنه جليل، صار بينه وبينه ارتباط، ثم إنه فجأة فقده عشر سنين لا يدري أين ذهب، فقدر له أن سافر إلى تركيا فوجده، فوجده قد ترهب واعتزل الناس، فصار صواماً قواماً، لكن ما نوع هذا الصيام؟ يصوم من بعد طلوع الشمس إلى الليل، سأله لماذا لا تصوم الصيام الشرعي من طلوع الفجر؟ قال: تحته، في الشقة الذي تحته عائلة ما أدري قال يهودية أو نصرانية، فيخشى أن يشوش عليهم إذا قام في آخر الليل يجهز السحور وكذا.
أي صيام هذا؟ هل مثل هذا الصيام يجر إلى التقوى؟ لا والله، الصيام الذي يتعبد به بنية خالصة على وفق ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولذا قالوا: في هذا إشارة إلى تصحيح القصد بهذه العبادة، فمن لم يصم بنية صالحة ويقصد بصيامه التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- فإنه لا ترجى له هذه الملكة، لن يصل إلى التقوى من خلال الصيام الذي لا يقصد به التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، فليس الصيام في الإسلام من أجل تعذيب النفس بل لتربيتها وتزكيتها، والصيام أيضاً ينمي لدى الصائم ملكة المراقبة؛ فالصائم يمتنع عن ملاذ الدنيا وشهواتها، وما يمنعه من ذلك سوى اطلاع الله -سبحانه وتعالى- عليه، ومراقبته له، هذا الذي يمنع، وإلا إذا خلا في غرفته الخاصة التي يوجد فيها ما يستطيع أن يتناوله من غير اطلاع أحد عليه، وقد تكون معه في الفراش زوجته، حديث العهد بها، فيتركها لوجه الله -سبحانه وتعالى-، فلا شك أن ترك مثل هذه الأمور دليل على مراقبة الله -سبحانه وتعالى-، ولا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل، ملكة المراقبة لله تعالى، والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس، ومؤهل لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ولسعادتها في الآخرة، المراقبة منزلة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وهي الإحسان التي سئل عنها النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث جبريل.
المراقبة كما قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى في مدارج السالكين: "دوام علم العبد، وتيقنه أو دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه وتعالى- على ظاهره وباطنه، وهي ثمرة علمه بأن الله -سبحانه وتعالى- رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل".
من أدلتها قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [(235) سورة البقرة]، قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [(52) سورة الأحزاب]، وقال تعالى: {وهو مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [(4) سورة الحديد]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [(14) سورة العلق]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [(19) سورة غافر]، إلى غير ذلك من الآيات؛ فالذي يكون بحضرة الناس، وتمر أمامه الفاتنة التي استشرفها الشيطان ويسارقها النظر قد يخفى على من بجواره، لكن لا يخفى على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفي حديث جبريل -عليه السلام- أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإحسان فقال له: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، والمراقبة كما قال ابن القيم أيضاً: "هي التعبد بأسماء الله -سبحانه وتعالى-، الرقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها، حصلت له المراقبة".
وهذه من أعظم فوائد معرفة الأسماء الحسنى، كثير من الناس لا يعتني بهذا الشأن وهذا الباب، بل معرفة الأسماء الحسنى ومعانيها وما تدل عليه من أولى ما يعتني به طالب العلم؛ لأن لها مدلولات، وصنفت فيها المنصفات في معانيها، وشرحها العلامة ابن القيم في نونيته شرحاً جميلاً مناسباً، فمن حفظ ما يتعلق بها أدرك شيئاً من ذلك، ويرجى له أن يدخل في حديث: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة)). فالمراقبة من آثار معرفة هذه الأسماء الحسنى لله -سبحانه وتعالى-.
ومن حكم الصيام: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة، والصفات الذميمة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر، والحلم، والجود، والكرم، ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه.
ومن ذلك أن العبد يعرف نفسه، ويعرف حاجته وضعفه وفقره لربه، ويتذكر بذلك عظيم نعم الله عليه، ويذكره ذلك أيضاً حاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله -سبحانه وتعالى- والاستعانة بنعمه على طاعته، يعني إذا حرمت الشراب وأنت بحاجته في الأيام الشديدة الحر، تتذكر أن هذا الشراب نعمة من نعم الله -سبحانه وتعالى-، فإذا انتهى الشهر وفرحت بفطرك تتذكر أن لك رباً حرمك من هذه النعمة لفائدة، حرمك من تناول الشراب والطعام لتشكره على هذه النعم، تعرف قدر هذه النعم، إذا أتيح لك استعمالها، وتعرف أن لك إخواناً لا يستطيعون الحصول لها سائر العام، فضلاً عن رمضان، فتتذكر بذلك النعم ويحملك ذلك على الشكر، ومواساة إخوانك الفقراء، والإحسان إليهم، فإن الإنسان عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله -سبحانه وتعالى- نبيه -عليه الصلاة والسلام- بأنه رءوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك أمرهم بالتأسي به، ووصفهم بقوله: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [ (29)سورة الفتح]، وكان -عليه الصلاة والسلام- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كما جاء في الحديث الصحيح.
من فوائد الصيام: التذكير بقول الله -سبحانه وتعالى-، أو التذكير بعدل الله -سبحانه وتعالى-، ومساواته بين خلقه.
من فوائد الصيام وهي فائدة جليلة ينبغي التنبه لها: التذكير بعدل الله -سبحانه وتعالى-، ومساواته بين خلقه، حيث جعل هذا الركن فرضاً على جميع المسلمين غنيهم وفقيرهم، ملوكهم وسوقتهم، وبذلك يتذكر الملوك العدل الذي فرض عليهم إقامته بين رعاياهم.
الله -سبحانه وتعالى- حكم عدل، ساوى بين الناس في التشريع العام، نعم فضل بعضهم على بعض، من أجل الامتحان، هل يشكر المفضَل، هل يصبر المفضول للمفضل عليه؟ لكن بالنسبة للتشريع العام الذي يشترك فيه الناس كلهم الناس سواسية، لا يقال: الملك يمكن أن يعفى عن هذا الركن، أو يعفى من هذا الركن وهو قادر مستطيع، لا، المسكين بدل ما يصوم شهر يصوم شهرين، لا، الناس سواسية في التشريع العام، هذا يجب عليه خمس صلوات، وهذاك يجب عليه كذلك، وذاك يجب عليه خمس صلوات، الغني والفقير، الرئيس والمرؤوس، الحمال والزبال يشترك في ذلك مع أعظم ملك في الدنيا.
بهذا العدل من الله -سبحانه وتعالى- يتذكر الملوك العدل الذي فرض عليهم إقامته بين رعاياهم.
ومن ذلك يعني من فوائد الصيام أنه وجاء للصائم، ووسيلة لطهارته وعفافه، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته، فيضعف سلطان الشهوة، ويقوى سلطان الإيمان، ولذلك وجه من لا يجد القدرة على النكاح إلى الصيام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
الصوم أيضاً له فوائد صحية؛ ذلكم أنه يقضي على المواد المترسبة في البدن، لا سيما أبدان المترفين، أولي النهم في الأكل، قليلي العمل، فإنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة، ويذيب الشحوم، أو يحول دون كثرتها في الجوف، وهي شديدة الخطر على القلب، وقد اعترف بذلك الكثير من الأطباء، وعالجوا به كثيراً من الأمراض.
لا شك أن فائدة الصيام من الناحية الصحية ظاهرة، ويوصى كثير من المرضى بالحمية، بترك الأكل والشرب، لكن من نصح بترك الأكل والشرب قيل له: لا بد من الحمية، فقال: بدلاً من أن أحتمي أصوم، والناهز له والباعث له على هذا الصيام الحمية، يؤجر وإلا ما يؤجر؟ نقول: هذا تشريك في العبادة، لكنه تشريك بمباح.
نعم لا شك أن الذي ينهزه إلى الصيام الرغبة فيما عند الله -سبحانه وتعالى- أكمل وأفضل، لكن الذي نصح بالحمية نصحه الطبيب أن لا يكثر الأكل، قال، كما يقول العوام حج وقضينا حاجة، نحتمي وأصوم، أحصل الأجر، وأحصل الصحة، نقول: هذا تشريك في العبادة، لكنه تشريك بمباح، وهو جائز.
ومسألة التشريك في العبادة تحتاج إلى شيء من التفصيل والبسط والتمثيل والتنظير، تشريك عبادة بعبادة له حكم، تشريك عبادة بمباح له حكم، تشريح عبادة بمحرم له حكم.
الشخص الذي أمر بكثرة المشي فقال: بدلاً من أن أجوب الأسواق طولاً وعرضاً أطوف، أحصل على ما أريد، وأحصل على الأجر أجر الطواف، نقول: يؤجر على طوافه؛ لأنه ما عدل من هذا إلى ذاك إلا طلباً للثواب، وما عدل عن الحمية وترك الطعام والشراب من غير صيام إلى الصيام إلا قاصداً بذلك وجه الله -سبحانه وتعالى-، نعم أجره أقل.
الإمام إذا أطال الركوع من أجل الداخل تشريك في العبادة، إطالة الركوع كان الإمام ناوي أن يسبح سبع مرات، سمع الباب فتح فقال في نفسه: لعل هذا يدرك هذه الركعة، فسبح عشر مرات من أجل الداخل، الجمهور على أنه لا بأس بذلك، وهو من باب الإحسان إلى أخيه، وإن أدخله المالكية في الممنوع، في الممنوع؛ لأنه أطال الصلاة من أجل فلان، فيدخل في الممنوع، لكن إذا جاز تقصير الصلاة من أجل بكاء الطفل من أجل أمه، فإنه يجوز تطويلها نعم مع عدم طروء الرياء من أجل الإحسان إلى هذا الداخل من باب أولى، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يدخل في الصلاة يريد إطالتها، فإذا سمع بكاء الصبي خفف، رأفة به وبأمه، -عليه الصلاة والسلام-، وهذا فعله وهو المعصوم، المشرع.
على كل حال هذه مسألة لها بحث آخر ولها فروع وتفاصيل ومسألة جديرة بالعناية.
ما يروى عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: "صوموا تصحوا" هذا رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب، حديث ضعيف جداً، لا يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- وإن كان معناه صحيحاً.
كذلك ما يروى عنه -عليه الصلاة والسلام- مرفوعاً: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء" لا أصل له، وهو في الموضوعات، وإنما هو من قول الحارث بن كلدة طبيب العرب.
هنا مسألة يسأل عنها كثيراً وهي البشارة بشهر رمضان.
روى ابن خزيمة في صحيحه فقال: باب في فضائل شهر رمضان إن صح الخبر، وهذه الكلمة يستعملها ابن خزيمة كثيراً، يستعملها ابن خزيمة كثيراً، مما لا يتأكد من صحته، أو مما في سنده ضعف، يقول: إن صح الخبر، ثم ساق بسنده عن سلمان قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه و سلم- في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، شهر يزداد فيه رزق المؤمن... الحديث بطوله)) لكنه حديث ضعيف، في إسناده يوسف بن زياد البصري منكر الحديث، وفيه أيضاً علي بن زيد بن جدعان ضعيف أيضاً، وإن وثقه الشيخ أحمد شاكر، لكنه ضعيف.
فالحديث بهذا الإسناد ضعيف، وفضائل شهر رمضان كثيرة ثابتة في الأحاديث الصحيحة.
يبقى مسألة البشارة والتهنئة مما تعارف عليه الناس وتواطؤوا عليه، يهنئ بعضهم بعضاً بدخول رمضان، وبإتمام صيامه مثلاً، ويهنئ بعضهم بعضاً في المناسبات.
الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: لا بأس أن يقول: تقبل الله منك، نعم لا بأس أن يقول: تقبل الله منك، فهذه الأساليب التي تتضمن دعاء، تتضمن الدعاء، ولا يلتزم فيها لفظ بحيث يشبه بالمنقول، حينئذ تواطأ الناس عليه ويعتمدونه ولا يحاد عنه إلى غيره، البشارة بما يسر لها أصل في الشرع، البشارة بما يسر لها أصل في الشرع، فبشر كعب بتوبة الله عليه، وكافأ من بشره، المقصود أن البشارة بما يسر وهذا مما يسر له أصل في الشرع على أنه لا ينكر على من جاء بعبارة تتضمن الدعاء والثناء على الله مما لا يتعبد بلفظه، ولا يعتقد أنه لا يحاد عنه، والإمام أحمد -رحمه الله- يقول: لا بأس أن يقول: تقبل الله منك، يعني في العيد مثلاً يهنئ الناس بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم لبعض، والله المستعان.
1مثل هذه المسائل لا يشدد فيها.
نقرأ وإلا ما يمدينا؟
ترى ما احنا مطولين، أسئلة، لو ودنا ما بداية الكتاب يكون البث طيب.
طالب:....
الآن انتهت المقدمة بقي أصل الكتاب وتحليله.
الكتاب ليس بطويل، يعني ورقة أو ورقتين لعلنا نأتي منه على.
لا، إذا ائتم بمقيم لزمه الإتمام، إذا ائتم المسافر بالمقيم يلزمه الإتمام وعلى هذا إذا كان اكتفى بهاتين الركعتين عليه أن يعيد الصلاة.
أهل العلم يستثنون الحاكم في مسائل إذا كان فيها إرهاب للعدو.
الزاد لا شك أنه أخصر وأكثر مسائل فهو أرجح من هذه الحيثية، والدليل أوضح وأرتب لكنه أقل مسائل، العمدة أسهل ومبنية أيضا على دليل في كل باب ألفت للمبتدئين لكن الزاد للمتوسطين من تجاوز مرحلة المبتدئين ينتقل إلى الزاد، وأما الدليل فهو أقل مسائل بكثير من الزاد، والحنابلة لديهم مفاضلة بين الزاد والدليل فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يفضل ذاك، وعلى كل حال المعتمَد عندنا في بلادنا الزاد وإن أقرأ بعض الشيوخ الدليل لكن عند حنابلة الشام المفضَّل عندهم الدليل.
نعم، على الإنسان أن يمرِّن نفسه على الطاعات، على الإنسان أن يمرِّن نفسه على الطاعات ويعالج هذه الطاعات لكي تعتادها وترتاح لها.
تأتي مبطلات الصوم، وعلى كل حال جميع المعاصي وإن لم تبطل الصيام فهي تخل به وتنقص من أجره ولا تجعل الآثار المترتبة عليه تحصل للصائم.
على كل حال من حلف على شيء وحنث فيه عليه الكفارة، لكن لا يجوز له أن يزاول المعصية لا في رمضان ولا في غير رمضان، وإذا كان عاجز عن الإطعام والكسوة يعدل إلى الصيام.
يقول كيف أستدل بهذه القصة على تنوع العبادات؟ تنوع العبادات هذا الشخص كلما اغتاب شخصا تصدق بدرهم فسهل الإنفاق سهل عليه الإنفاق سهل عليه فكثرت الغيبة عنده، سهل الدرهم سدس الدينار الدرهم ستة دوانق سهل أمرها عند الناس قدر يسير، ومن يسهل عليه الإنفاق ولو زاد لو قال درهمين وثلاثة يسهل عليه؛ لأن هذا شيء جُبِل عليه وهذا شيء مشاهد وملاحَظ ومثل ما ذكرنا بعض الناس لو تقول له هات الحاجة هذه بريال ما قام ما تحرك من مكانه، وبعض الناس يتمنى أن تصرف القسيمة جلدات لشدة الشح عنده بقدرها جلدات ما عنده مانع، فالناس لا شك أنهم متفاوتون بعض الناس يسهل عليه بذل المال فيمكن الامتحان بالنسبة له في العبادات البدنية، وبعض الناس يسهل عليه البدن ويشق عليه بذل المال فيكون الامتحان بالنسبة له العبادات المالية.
توضأ لصلاة العصر وفي نيته أنه لا يتوضأ حتى يصلي به المغرب والعشاء مثلا هو إذا توضأ ونوى رفع الحدث كفاه ذلك، فيزاول به جميع العبادات مادام الحكم ثابتًا ما لم ينقضه.
على كل حال جاء الحديث «إذا انتصف شعبان..» جاء النهي عن الصيام ويأتي ما في ذلك في أثناء الشرح إن شاء الله تعالى.
لا يجوز الفطر مادام الإنسان مستطيعا على إتمام الصيام؛ لأن القضاء يحكي الأداء، فمادام القضاء واجب لا يجوز له أن يفطر إلا إذا عجز عن الصيام إذا عجز عجزا بحيث يغلب على ظنه أنه يتلف أو يهلك من هذا الصيام.
دعاء بعينه كما يُذكَر عن شيخ الإسلام أو غيره من الدعاء المطبوع لا يثبت شيء منه، إنما جاء عن الصحابة بأسانيد صحيحة أن أنه عند ختم القرآن دعوة مستجابة وفعله أنس وغيره من الصحابة هذا بالنسبة لخارج الصلاة، أما داخل الصلاة فحكمه معروف لم يثبت فيه شيء، والصلاة توقيفية كما هو معروف لكن لو جُعِل الختم في الوتر وجُعِل الدعاء قنوت ووافق ختم القرآن يرجى تُرجَى الإجابة إن شاء الله تعالى.
أنت مباشر لهذا الكلام، إن كان محظوراً فلا شك أنك آثم، وقد أمرت بأن لا تغضب، أو نهيت عن الغضب، والذي أثارك متسبب وهو شريك لك، لكن هذا لا يعفيك، اللهم إلا إذا كان الغضب يصل بك إلى حد لا تعقل ما تقول، يصل بك إلى حد الجنون، هذا نقص بلا شك، لكن عليك أن تعالج نفسك من هذا الغضب.
سائغ ولا كراهة فيه وإن كرهه بعض السلف كره بعض السلف أن يقول جاء رمضان وصمنا رمضان بل لا بد أن يقول شهر رمضان لا، ثبتت النصوص في الصحيحين وغيرهما بتجريد رمضان عن ذكر الشهر.
لا شك أن شهر رمضان شهر البذل والإحسان والرسول -عليه الصلاة والسلام- طبعه وخلقه الجود والكرم لكن يتضاعف جوده فهو أجود ما يكون في هذا الشهر العظيم شهر تضاعف فيه الحسنات، فعلينا أن نغتم هذا الشهر ولا ننسى إخواننا المحتاجين في كل البقاع.
وهؤلاء الشباب يطعنون في الدعاة ويشنعون بهم عند أقل خطأ ويذكرون عيوبهم ولا يذكرون محاسنهم، فهل هذه هي طريقة السلف الصالح؟
أقول هؤلاء لا شك أنهم من أهل العلم ونفع الله بهم الأمة بمصنفاتهم وبعلمهم وبطلابهم وليسوا بالمعصومين عندهم أخطاء، لكن الذي نرجوه من الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الأخطاء مغمورة في بحار حسناتهم منهم المجتهد في هذا الباب الذي أخطأ المجتهد الذي أخطأ ومنهم المقلِّد وهم متفاوتون في هذا الباب ومنهم المنظِّر لهذا الخطأ المدافِع عنه فمنهم الذي وجد البيئة هكذا ولم يقف على ما يصرفه عما وجد عليه شيوخه نعم على العالم ألا يقلِّد في دينه الرجال سواء كان في الأصول أو في الفروع لكن هم تواطؤوا على هذا وتوارثوه وظنوه راجحا وأخطؤوا في ظنهم ولا شك أنه خطأ بل خطأ كبير، فالذي لا يثبت الصفات كيف يعرف الربَّ سبحانه وتعالى إذا جاء يوم القيامة الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى بصفاته وهذا أمر خطير جدًّا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يأتي أوَّلا بغير صفته ثم يأتي بصفته كيف يميِّز من لا يثبت الصفات بين هذا وذاك؟ وهذا من أخطر ما يؤول إليه إنكار الصفات لكن هؤلاء العلماء لا شك أن منهم من هو أهل للاجتهاد اجتهد وأخطأ، ومنهم المقلِّد ولعل له عذرًا، ومنهم المنظِّر المدافع المنافح الذي يذم مَن ينكِر عليه فهم متفاوتون، ففرق بين الرازي والنووي في هذا الباب، النووي يشيد بالسلف ويثني عليهم ويمدحهم بينما مثل الرازي يذم ويدافع عن بدعته بكلام شديد جدًّا ويقع فيمن يخالف وهم متفاوتون ولهم من الحسنات ما يغمر مثل هذه الأخطاء وإن كانت كبيرة لا نقلل من شأن الخطأ في الاعتقاد لا، وإن كان شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يسوِّي بين الفروع والأصول في الخطأ والصواب لكن لا شك أن الخطأ في الاعتقاد أمره أشد من الخطأ في الفروع والاجتهاد في مسائل الاعتقاد ينبغي أن يكون بعد النظر في النصوص وفهم السلف لهذه النصوص لئلا يقع فيما يخالِف ما اتفق عليه السلف، وعلى كل حال ليست الطريقة في ذكر العيوب لذات العيوب نعم إذا خُشِيَ على شخص أن يتأثر بهذه الأخطاء لا مانع أن يقال في فتح الباري بعض التأويل فكن على حذر، في شرح النووي على مسلم شيء من التأويل فكن على حذر بهذا الأسلوب مع أن فيها علما عظيما مع أن في هذه الكتب علما عظيما فالإنصاف مطلوب وألزم ما على الإنسان نفسه لا تجعل هذه الحسنات التي جمعتها وحرصت عليها وتعبت عليها تذهب إلى فلان وفلان من الأحياء والأموات فتقع في الفلس الذي جاء ذكره في الحديث الصحيح، والله المستعان لا بد من الإنصاف إذا كان البيان لا بد منه أما إبراز هذه الأخطاء وغمط الناس حسناتهم وما أسدوه وما نصحوا به الأمة ونفعوا به الملة هذا أمر ليس من الإنصاف الذي أمر الله به