كتاب الطهارة من المحرر في الحديث - 28
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين، مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» الحديث".. النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر عن صاحب القبرين لما مر بهما، أخبر أنهما يعذبان، وهذا من خواصّه -عليه الصلاة والسلام- أنه يُكشَف له بعض المغيبات وإلا فلا يمكن لأحد أن يطَّلع، لا يمكن لأحد أن يطِّلع على عذاب القبر، وفي الحديث الصحيح: «لولا أن تدافنوا»، وفي رواية: «لولا ألا تدافنوا لأسمعتكم» يعني عذاب القبر، وفي الحديث الآخر: «ثم يُضرب بمرزَبَّة من حديد يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس»، يقول: «ولو سمعها الإنسان لصَعِق»، فدل على أن عذاب القبر لا يُسمَع، بل هو من الأمور الغيبية، هذا هو الأصل فيه.
«إنهما ليعذبان»، وأما ما نشر بين الناس من تسجيل لأصوات مزعجة، وادُّعِيَ أن هذا عذاب أناس مقبورين، وقد وفِدَ إلينا من ناس كفار من روسيا وقالوا: إنهم حفروا في الأرض عمقًا بعيدًا، وسمعوا أصواتًا مزعجة، وسجلت هذه الأصوات، وبثت في الناس على أنها عذاب المقبورين، وأن هذا العذاب منبعث من القبور، وهذا الكلام ليس بصحيح، عذاب القبر لا يسمعه إلا من أطلعه الله عليه من خواص خلقه كالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وأما الأصوات التي في الشريط فلو أن إنسانًا وضع مسجلًا في المطار، سمع أصواتًا أعظم من هذا، أعظم من هذه الأصوات إزعاجًا، ومع الأسف أنه ينتشر في الناس ويصدقون، ثم بعد ذلك الذين الذين سجلوا هذه الأصوات وبثوها في المسلمين، وهي وافدة من كفار، أنكروها، وهذا أسلوب يتخذه أهل المكر من الكفار، يذكرون لنا ما يوافق ديننا، وما نُصَّ عليه في ديننا، ثم يرجعون عنه؛ لنتابعهم في كلامهم، ثم إذا رجعوا ماذا يكون موقفنا؟ تردد، ونصير ألعوبة بأيديهم.
ولهذا لا يجوز أن تُفَسَّر النصوص بالنظريات؛ لأن هذه النظريات قابلة لأن تُنكَر ويعاد فيها النظر، وكم من شخص بادر إلى تطبيق أحاديث على أمور نظرية عند غير المسلمين، ثم بعد ذلك تبين عدم صحتها، وهناك كتاب اسمه مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء عن محمد خير البرية، وطبَّق هذه الأحاديث على هذه المخترعات، ثم طلع بعضها أُنكِر، وبعضها نفي، وبعضها خرج للناس ما هو أولى بتطبيق الحديث عليه، ويخلق ما لا تعلمون، ما تدري بعد، يمكن أن يظهر شيء أشد من ذلك، فإفشاء مثل هذه الأمور بين المسلمين، وتعلق المسلمين بها لا يجوز، فالذي لا يكفيه نصوص الكتاب والسنة لن يهتدي بسبب هذه الأمور أبدًا، والله- جل وعلا- يقول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق:45]، فالذي يخاف الله- جل وعلا- يتذكر بالقرآن وبما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، أما أن يذَكَّر بهذه الأمور، أو يذكر بأشياء مما يخترع ويبتكر ويختلقه بعض القصاص مما فيه تهويل فهذا أيضًا لا يجوز، وقد جوَّز بعض المبتدعة كالكرامية وضع الأحاديث؛ لترغيب الناس وترهيبهم، وهذه زلة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية، هذا لا يجوز بحال؛ «من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
فعلى الإنسان لاسيما طالب العلم أن يتعلق بكتاب الله، وما صح عن نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ويترك هذه الأمور؛ لأن العمر لا يستوعب نصوص الوحيين فضلاً عن هذه الأمور.
«إنهما ليعذبان»، الخبر مؤكَّد بإنّ واللام لام التوكيد «ليعذبان»، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: «وما يعذبان في كبير»، وما يعذبان في كبير، وجاء في بعض الروايات ما يدل على أنهما من الكبائر، على أنهما من الكبائر، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وما يعذبان في كبير»، يعني في نظر الناس، في نظر الناس، كثير من الناس يتساهل في أمر الغيبة والنميمة والكلام في الناس وأعراضهم، يتساهل، شيء سهل عنده، فليس بكبير في نظرهم، ومن الناس من لا يستتر من بوله، أو لا يستبرئ، أو لا يستنزه، كثير من الناس لا يهتم لهذا، فهو في نظرهم ليس بكبير، لكنه عند الله كبير، والنميمة -نسأل الله العافية- شأنها عظيم، ولا شك في كونها من كبائر الذنوب، وهي السعي بين الناس للإفساد بينهم، فهي من الكبائر، وأما الاستبراء والاستنزاه من البول فيترتب عليه خلل الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، أعظم أركان الإسلام بعد الدخول فيه بالشهادتين الصلاة، فشأن هذين عظيم، ولذا عُجِّلت العقوبة، وعامة عذاب القبر من هذين الأمرين بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة لغير المسلمين فعذابهم على كفرهم، عذابهم على كفرهم.
وفي هذا إثبات عذاب القبر، وقد ثبت بالنصوص القطعية من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قول الله- جل وعلا- {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [سورة غافر:46]، فدل على أن عرضهم على النار غدوًا وعشيًا في القبر قبل يوم القيامة وقبل أن تقوم الساعة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بالاستعاذة من عذاب القبر في كل صلاة، في كل صلاة الاستعاذة بالله من أربع، ومنها الاستعاذة من عذاب القبر، ودخلت امرأة من اليهود على عائشة- رضي الله عنها- فاستعاذت بالله من عذاب القبر، فأخبرت النبي -عليه الصلاة والسلام-، فأمر بالتعوذ من عذاب القبر، فعذاب القبر ثابت لا مجال لإنكاره، ينكره بعض طوائف المبتدعة كالمعتزلة مثلاً، ينكرون عذاب القبر.
وتوفي معتزلي فطُلِب شخص من عوام أهل السنة أن يصلي عليه فرفض، هذه تساق على أنها طرفة، لا لأن هذا الأمر يجوز، لا، إنما يساق على أنه نكتة حاصلة، طُلب منه وأُصِرّ إلا أن يصلي عليه؛ لأنهم يحسنون الظن بأهل السنة حتى في عوامّهم؛ لأن السني وإن كان عاميًّا تجده موفقًا مسددًا في الغالب، بخلاف المبتدع الذي يجد في نفسه وحشة، ولا يثق في نفسه وأقرانه، فطلبوا من هذا العامي من أهل السنة أن يصلي عليه، على هذا المعتزلي، رفض ثم بعد الإصرار وافق، وأنا أقول: يذكر هذا من باب أنه طرفة ونكتة، لا أن مثل هذا العمل شرعي، فصلى عليه، فلما كبّر الثالثة دعا وقال: اللهم إن عبدك فلان ممن ينكر عذاب القبر فأذقه إياه، جهل لا شك، مع ذلك هو ذُكر على كل حال، والدروس يذكر فيه متين العلم، ويذكر فيه ملحه وطرائفه، لكن لا على أنها يؤخذ منها حكم شرعي.
«إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول»، "وقد روي بثلاثة ألفاظ كما أشار المصنف -رحمه الله تعالى-: يستتر، ويستنزه، ويستبرئ، يستتر ويستنزه ويستبرئ، فأما الأولان فمتفق عليهما، فأما الأولان فمتفق عليهما، والأخير انفرد به البخاري".
تجد بعض المحققين مثل ما حقق الكتاب قد ينفي لفظًا عُزِيَ إلى البخاري، وقد عزاه إليه من هو من أهل التحري والتثبت كالمؤلِّف هنا، والمعلِّق يقول: وأما لفظ: «يستنزه» فقد أخرجه مسلم، ولم يخرجه البخاري، يستنزه، كما قال المصنف، يعني هو يستدرك على المصنف يقول: وأما لفظ: يستبرئ، فلم أرها في صحيح البخاري، ولم يذكرها الألباني في مختصره، لكن ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه وقع في رواية ابن عساكر: يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء.
الإشكال أننا نتحاكم ونحاكِم المؤلفين إلى ما بين أيدينا من النسخ والروايات، فنستدرك على المؤلفين؛ لأن النسخة التي بين أيدينا من البخاري ليس فيها هذا اللفظ، وهذا خطأ، وهل أنت تعرف الرواية التي اعتمد عليها المؤلف من صحيح البخاري لتنفي؟ ولذا يقول: ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه وقع في رواية ابن عساكر: يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء خلافًا لما زعمه من نفيها، متابعة لشيخه وشيخ الجميع الألباني- رحمه الله-، لكن لا يعني أنه عانى الحديث، واشتغل بالحديث، أن يكون محيطًا بجميع الروايات، لاسيما وأن البخاري له روايات متعددة، نعم لو رجع إلى إرشاد الساري ما وجد فيه إشارة إلى هذه الرواية، بإمكانه أن يقول، أو يغلب على ظنه نفي هذه الرواية، وكذلك الفروق التي أُثبتت على النسخة السلطانية من عمل اليونيني -رحمه الله تعالى- الذي أثبت فروق الروايات، ومع ذلكم فاته أشياء، فاته أشياء، وفي شرح الحافظ ابن رجب روايات ألفاظ للصحيح لا توجد عند القسطلّاني، ولا عند اليونيني، وأما ابن حجر -رحمه الله تعالى- فليس من قصده استيعاب الروايات أبدًا، القسطلاني أكثر منه استيعابًا للروايات.
ما معنى روايات؟
يعني هل معنى روايات أن البخاري يخرج الحديث في عشرة مواضع في عشرين موضعًا؟ لا، الصحيح بجملته مروي بروايات كثيرة، فمن أشهر هذه الروايات رواية أبي ذر مثلاً عن شيوخه الثلاثة التي اعتمدها الحافظ ابن حجر، لكنه لا يشير إلى ما عداها إلا عند الحاجة، وأما القسطلاني فهو يشير إلى جميع ما وقف عليه، وقد يخفى عليه أشياء، لكن جميع ما وقف عليه يشير إليه، وكذلك اليونيني لما قابل الروايات التي اشتهرت في وقته، ووجدنا في شرح الحافظ ابن رجب بعض الألفاظ لا توجد عند اليونيني، ولا عند القسطلاني، فدل على أنهم قد يفوتهم شيء، فلا نجزم بأن هذا اللفظ لا يوجد عند البخاري، لعله يكون في رواية اعتمدها المؤلف، وأنت لم تطلع عليها، لكن من حقك أن تقول: لم أجد هذا اللفظ فيما بين يدي من نسخ البخاري، من حقك أن تقول هذا، وحينئذ لا يستدرك عليك.
«فكان أحدهما لا يستتر من بوله»، لا يستتر، هل معنى هذا أنه يكشف عورته، أو أن هذه الرواية مفسَّرة بالرواية الأخرى، مفسَّرة الأخرى «لا يستبرئ»؟ يعني لا يطلب البراءة من بوله، يعني لا يتنظف، ومثلها رواية يستنزه، النزاهة هي النظافة، فعلى هذا لا يُعنَى بتنظيف أثر البول، بل يغسله غسلاً غير مجزئ، أو لا يغسله.
المقصود أنه لا يستتر: لا يطلب السترة التي تمنعه من أو تمنع بوله من الاتصال به، لا يجعل بينه وبين بوله ساترًا يقيه أثر هذه النجاسة، ومثله يستنزه، لا يطلب النزاهة، وهي النظافة من البول، ومثل ذلك الرواية الثالثة: لا يستبرئ، لا يطلب البراءة من هذا البول الذي هو نجس، فالبول نجس، لا يستتر من البول، وفي بعض الروايات: من بوله، فدل على أن (ال) هنا بدل من الهاء المضاف إليه، فعلى هذا تكون (ال) للعهد لا للجنس، فالمراد بالبول هنا بول الآدمي، بول نفسه، فكان لا يستتر من بوله، ومنهم من يرى أنها جنسية، لا يستتر من البول أي بول كان، وبهذا يستدلون على نجاسة بول ما يؤكل لحمه، لكن البول هنا المعهود، وهو بول الإنسان، بدليل الرواية الأخرى: من بوله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمر العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها، ولولا أنه طاهر لما أذن لهم بالشرب منه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- طاف على دابته، على ناقته، ولو كان بولها نجسًا، أو رجيعها نجسًا لما طاف عليها؛ لأنها لا يؤمن أن تلوِّث المسجد؛ لأنه لا يؤمن أن تلوث المسجد، فالقول المحقَّق المصحَّح أن بول ما يؤكل لحمه طاهر.
لا يستتر من البول، والبول يعني يدخل في قوله: لا يستتر، ولا يستبرئ، ولا يستنزه، أنه ولو كان شيئًا يسيرًا يجب الاستبراء منه، والاستنزاه والاستتار ولو كان شيئًا يسيرًا، ولذا عند الحنابلة والشافعية أنه لا يُعفَى عن يسيره، أنه لا يعفى عن يسيره، ولو كان مما لا يُدْرِكُه الطرف، ولو كان مما لا يدركه الطرف بأمثال رؤوس الإبر، كما يقولون، هذا لا يعفى عنه، بخلاف غيره، كالدم يعفى عن يسيره، وهو نجس عندهم، لكن البول لا يعفى عن يسيره، ومثل البول المذي نجس، لكن نجاسته مخففة ليست مغلظة، يكتفى فيها بالنضح، كما في حديث علي أنه كان -رضي الله تعالى عنه- رجلاً مذّاءً، فأمر المقداد أن يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال له: «انضح ذكرك أو فرجك وأنثييك، ثم توضأ وضوءك للصلاة»، فدل على نجاسته، للكن الأمر بنضحه يدل على أنه نجاسة مخففة، ليست كنجاسة البول مغلظة، فعلى هذا البول لا يعفى عن يسيره.
«فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر» الرجل الآخر الذي يعذَّب في قبره «فكان يمشي بالنميمة» يمشي بالنميمة، ينقل كلام الناس، ينقل كلام الناس على وجه الإفساد، على وجه الإفساد، وأما نقل كلام الناس على وجه الإصلاح فلا يدخل في حد النميمة، فلا يدخل في حد النميمة، فمن نقل لشخص كلامًا أن فلانًا قال فيك كذا مما هو مدح له، نميمة أم غير نميمة، ليس بنميمة؛ لأن هذا إصلاح إن لم ينفع لم يضر، ومن نقل كلام غيره السيئ من أجل الإصلاح أيضًا، يعني سمع شخصًا يريد أن يقتل شخصًا فقال له: خذ حذرك من فلان، فإنه سمعته يقول: كذا هذا إصلاح.
ويوشع بن نون لما جاء إلى موسى وقال له: إن الملأ يأتمرون بك، مع أن الملأ في الجملة ليسوا بمسلمين، لكن لو جاء شخص وقال: إن القبيلة الفلانية تريد بك السوء، فاخرج منهم أو البلد الفلاني يكيدون لك أو الشخص الفلاني يريد بك كذا، لا مانع؛ لأنه إصلاح، وليس بإفساد، لو نُقِل لولي الأمر إن فلانًا يقول كذا، أو يدبِّر كذا مما هو إفساد في الأرض، هذا إصلاح؛ لأنه قمع للفساد وقطع لدابر المفسدين، لكن نقل الكلام الذي ليس فيه إفساد، ولا يخشى من ضرره، وإنما يتضرر قائله بمجرد نقله، وهو لا يضر به أحدًا مثل هذا نميمة، نسأل الله السلامة والعافية.
أما إذا كان الشخص يخشى من فساده وتدبيره وكيده للمسلمين فنُقِل صنيعه إلى ولي الأمر هذا إصلاح، وليس بإفساد، إذا كان يخشى من ضرره إذا كان يبث العلم الضار لا النافع، ولو اختفى ولو استخفى به ولو استتر به، لكن بلغ بطريق لا يقبل الشك بأنه يدرِّس البدع في بيته ونقل هذا الكلام لولي الأمر يسمى نميمة؟! لا، أبدًا هذا إصلاح فليفرَّق بين الأمور والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما بُلِّغ ببعض الأخبار قال: «لا تخبروني عن أحد أريد أن أخرج سليم الصدر لأصحابي»، فلا يخبر إلا إذا ترتب على هذا العمل أو هذا القول مفسدة متعدية، مفسدة متعدية، فكان يمشي بالنميمة.
"ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين" جريدة رطبة يعني خضراء ماؤها فيها، "فشقها بنصفين، فغرز في كل قبر واحدة" يعني نصفًا، فكأنه جعل النصف بمثابة الجريدة؛ لأنها بعض من الجريدة، ولذلك أخبر عنها بالمؤنث، "فغرز في كل قبر واحدة" إن شئت إما أن تقول: قطعة أو شقًّا من هذه الجريدة، وهي مؤنثة.
"قالوا: يا رسول الله، لمَ فعلت هذا؟ لِمَ فعلت هذا؟ قال: «لعله يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا»" فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أُطْلِع على أنهما يعذبان، وفعله تشريع، لكن هل لغيره أن يفعل؟
أولاً كيف يطلع أنهما يعذبان؟ وقد يغلب على الظن أن فلانًا في قبره يعذب بدليل أنه لا يستتر من بوله مثلاً، أو نمام يمشي بين الناس بالنميمة فيغلب على ظنه أنه يعذب أو مضيِّع لواجبات أو مرتكب لمحرمات، فيغلب على الظن أنه يعذب في قبره، لكن يبقى أنه لن يطلع على هذا العذاب، ولو غلب على ظنه لا يجوز له أن يفعل هذا الفعل؛ لأنه من خواصه -عليه الصلاة والسلام-، ما فعله أبو بكر ولا عمر ولا خيار الصحابة، إنما فُعِل من بعض الصحابة، يعني جاء فعله عن بعض الصحابة، لكن ليس معنى هذا أنه مشروع، بدليل أن أكابر الصحابة ما فعلوه، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
قد يقول قائل: هل هذا سبب شرعي أو عادي في التخفيف؟ هل هذا سبب شرعي أو عادي في التخفيف؟ هو سبب شرعي بفعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- على سبيل الترجي، لعله، سبب شرعي، لكن من خواصه -عليه الصلاة والسلام-، أنت لو جئت بجريدة رطبة، ووضعتها على النار، ماذا يحصل لهذه النار، تزيد أو تنقص؟ تنقص تنقص، وهذا إذا باشرت النار، وأعني بهذا نار الدنيا، أما نار الآخرة فتنقص بالشجر الأخضر أو تزيد؟
تزيد، أما نار الدنيا فإذا وضع عليها خشبة خضراء تنقص، تخمد، يذهب لهبها، ويصير دخانًا، كما لو رشت بالماء، المقصود أنه لا يتصور أنه بهذا السبب أن نار الدنيا تنقص بمجرد وضع الجريدة أو العسيب الأخضر أنه فعل من أجل هذا أبدًا؛ لأن هذه الجريدة لا تلامس النار من جهة، وأيضًا نار الآخرة تختلف عن نار الدنيا، هناك أشياء يفعلها بعض الناس ولا أثر لها، ليست بسبب شرعي ولا عادي، فمثلاً وجد في بعض الجهات أن العين إذا انتفخت، إذا انتفخت العين يؤخذ عود ويوضع عليها من الخارج، هل هذا سبب شرعي أن هذا العود مؤثِّر في العين؟ هل هو سبب شرعي أو سبب عادي؟
يعني له أثر، إذًا ماذا يقال عنه؟ شرك يا أخي، يكون شركًا، تعلق بما ليس بسبب شرعي ولا عادي عرفي، يعني ما عرف بالتجربة أن العين تتأثر بهذا العود، فيكون هذا من قبيل الشرك، الشرك في السبب، فينتبه لهذه الأمور. بعض الجهات يستعملون أشياء، بعض الجهات إذا احمرَّت العين جاؤوا بالطماطم الأحمر هذا فقطعوه نصفين ووضعوه على العين، وعصبوها، له أثر في العين؟ هل هو سبب قال الأطباء: إنه ينفع؟
ما ينفع، بل يضر، لكن هذا من باب التعلق بما ليس بسبب شرعي ولا عادي، فهو من هذه الحيثية شرك، وقل مثل هذا في جميع ما يتخذ من الأسباب مما تدفع به الأمراض، أو ترفع، وليس هو في الحقيقة سببًا شرعيًّا، ما ثبت في الشرع نفعه، ولا اطرد في العادة نفعه.
طالب: .............
كذلك ما ينفع.
طالب: .............
كيف؟
طالب: .............
وش أثره؟
طالب: .............
لا لا، أبدًا، هذا من التعلق الممنوع، لا شك أنه ممنوع، يقول: يتخذ سوارًا يخفف الوزن، هذا تعلق ممنوع؛ لأنه ليس بسبب لا شرعي ولا اطرد في العادة أنه مؤثر، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، يعني من النصفين.
قالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ وفي هذا حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- في معرفة الأحكام وعللها، في معرفة الأحكام وعللها.
قد يقول قائل: إذا عرفنا الحكم فلماذا لماذا نبحث عن العلة؟ ألا نرضى ونسلم بمجرد الحكم، فلماذا نبحث عن علة؟ نبحث عن علة؛ من أجل أن يُلحَق الفرع بأصله، في باب القياس إذا عرفنا العلة ألحقنا الفرع بالأصل، لكن عرفنا أن هذه المسألة باعتبار أن خيار الصحابة ما فعلوه.
وُجد من واحد من الصحابة، نسيت اسمه أنه فعل، لكن.. لعله أبو قتادة، لعله يذكر عن أبي قتادة أنه فعله، ما أدري، هو واحد من الصحابة نسيت اسمه فعله، لكن خيار الصحابة وكبارهم أبا بكر وعمر وسادتهم ما فعلوا هذا، فدل على أنه خاص به -عليه الصلاة والسلام- لاسيما وأنه لن يطلع على عذاب القبر إلا من أطلع عليه، كالنبي -عليه الصلاة والسلام-. "متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وقد روي بثلاثة ألفاظ: يستتر ويستنزه ويستبرئ، فالأولان متفق عليهما، والأخير انفرد به البخاري".
بعض الناس لا يهتم من البول، لا يهتم من البول، وبعض الناس يشدد ويضيق على نفسه حتى يصل إلى حد يقرب من الجنون، يقرب من الجنون، ضرب من الوسواس قريب من الجنون، وبعض الناس ما يهتم يبول قائمًا ثم يلبس سراويله ويمشي، هذا على خطر عظيم من هذا الحديث، وعامة عذاب القبر من هذين الأمرين، البول قائمًا جاء فيه حديث حذيفة الذي سبق ذكره أن النبي -عليه الصلاة والسلام- انتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا، وأجازه أهل العلم في هذا الحديث، وهو مخرج عند السبعة، في الصحيحين وغيرهما، كما تقدم، لكن شريطة أن يأمن الرشاش، لا يرتد إليه بوله، فيرشه، يصل إلى بدنه أو ثوبه، أن يأمن الرشاش، وأن يستتر، وأن يستتر، أما إذا لم يأمن الرشاش فلا يجوز حينئذ أن يبول قائمًا، وكذلك إذا أدى ذلك إلى انكشاف العورة.
والطرف الآخر يشدد على نفسه في البول، يعني يسمع هذا الحديث: لا يستتر، لا يستنزه، فيدفعه، لكن أهل البصر النافذ والمعرفة بموارد الشريعة ومصادرها، وما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الباب، لا يُخشى عليه من الزيادة على ما شرعه الله- جل وعلا-، وإنما تحصل الزيادة من اجتماع الحرص مع الجهل، مع الجهل، أما مع العلم فلا، فبمقابل الذين لا يستترون ولا يستبرئون ولا يستنزهون، هؤلاء الموسوسون الذين يغسلون العضو أو مكان النجاسة من الأرض يغسلونه مرارًا كثيرة، ويضيع جهده ووقته وماله، ويضيع الصلوات؛ من أجل الزيادة والغلو والإسراف، كل هذا لا يجوز، فالمسلم ينبغي أن يكون وسطًا في جميع تصرفاته، والخير في أوساط الأمور {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة:143]، وأهل السنة وسط بين المذاهب، والأمة وسط بين الأمم، فليتوسط الإنسان في جميع أموره، ولا يقل: إن هذا من باب الاحتياط، النجاسة معلومة إذا زال أثرها انتهت، فلا يحتاج إلى قدر زائد في إزالتها.
في الحديث الذي يليه: "وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه، متفق عليه".
"وفي رواية له" له، يعني لمسلم: "عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركًا فيصلي فيه".
"وله أيضًا عنها: لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يابسًا بظفري، يابسًا بظفري".
الحديث الذي تقدم في نجاسة البول، وأنه لا يعفى عن يسيره، كما تدل له الألفاظ الثلاثة، وهذا الحديث في المني، وهو مما يخرج من القبل كالبول، ويخرج من القبل أيضًا شيء يقال له: المذي، ورابع يقال له: الودي، فمنهم من يفرد الودي ويقول: هو نوع خاص، ومنهم من يقول: هو بقية البول، بقية البول في الذكر، فلا يأخذ حكمًا خاصًّا، فيكون حكمه حكم البول، أما بالنسبة للمذي فهو سائل أبيض لزج، يخرج من أثر التفكر والملاعبة والنظر، وهو نجس كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث علي: «انضح فرجك وأنثييك، ثم توضأ»، فدل على نجاسته، والاكتفاء بالنضح يدل على أنه مخفف، نجس نجاسة مخففة، فهو كالبول من حيث النجاسة، لكنه نجاسة مخففة، يكفي فيه النضح.
أما بالنسبة للمني فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يغسل ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى الغسل فيه، استدل بهذه الرواية من قال: إن المني نجس، ولو لم يكن نجسًا لما غسله النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن غير النجس لا يحتاج إلى غسل.
متفق عليه، واللفظ لمسلم وفي رواية عن عائشة لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركا فيصلي فيه، وهذه الرواية يستدل بها من يقول بطهارته؛ لأنه لو نجس لا يكفي فركه، وأيضًا الرواية التي تليها: لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يابسًا بظفري، وهل تزال النجاسة بالظفر؟ لا تزال النجاسة بالظفر، فدل على أنه طاهر، إذًا رواية الغسل الأولى، رواية الغسل الأولى هل هو غسل نجاسة أم غسل قذر؟
يستقذره الناس ويستقبحونه كالمخاط مثلاً، هل يناسب أن تخرج وفي ثوبك بصاق، أو مخاط؟ هذا يستقذره الناس ويستقبحونه، ويزدرونك بسببه، فعلى هذا تزيله إما بظفرك، أو تغسله، المقصود أن عينه لا تبقى، لا يستقذرك الناس، ويستقبحون فعلك، ويستشنعونه، فغسله ليس لنجاسته، وإنما لكونه يستقذر، ويستقبح، ويزدرى صاحبه.
في هذا تواضع النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه يغسل ثوبه، وأيضًا ما كان عليه -عليه الصلاة والسلام- من زهد في الفانية؛ لأن الثوب الذي يستعمله لنومه هو الثوب الذي يستعمله لصلاته، وهو الذي يستعمله لاستقبال الناس، فدل على أنه ليس عنده غيره، ولو كان النوم له ثوب خاص ما احتاج إلى مثل هذا الصنيع، يغسله ثم يخرج إلى الصلاة، ففي هذا الزهد في الفانية، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد يمر عليه اليوم واليومان ما أكل شيئًا، وقد يرى الهلال ثم الثاني ثم الثالث، وما أوقد في بيته نار، -عليه الصلاة والسلام-، كل هذا ليوفَّر له أجره وثوابه تامًّا مكمَّلاً يوم القيامة.
لكن من زاول المباحات لا يلام، ويبقى أن الورع في ترك بعض المباحات؛ لئلا تجره إلى المكروهات، والشبهات، ثم المحرمات، فهذا عيشه -عليه الصلاة والسلام-، وهذه حالته، خلافًا لبعض أهل الترف من الناس من يتخذ للسنة ثلاثمائة وستين ثوبًا، كل يوم ثوبًا، لا يعود إليه أبدًا، وهذا بالنسبة لمصروف الناس اليوم شيء يسير، يعني قد يستغربه بعض الناس، لكن إذا قلت: إن الثوب بخمسمائة، بمعدل خمسمائة، أو قل بألف لمثل هذه الطبقة ثلاثمائة وستون ألفًا، ماذا تكون؟ بنزهة، رحلة يوم برية تنتهي، فهذا موجود، يعني ما هو على سبيل الافتراض، لكن هذا إسراف، هذا إسراف يدخل في حيز الممنوع المحرم، ولو كان فيه خير سواء كان في أمر الدنيا أو في الآخرة لكان أولى الناس به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فثوب نومه هو ثوب صلاته، وهو ثوب جلسته مع الناس واستقبالهم له.
لكن إذا يُسِّر على الناس، وأمكن أن يتخذ للنوم ثوب خاص، وللصلاة ثوب خاص؛ من أجل امتثال الأمر {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف:31]، والوفود يحتاجون أيضًا إلى أن يستقبلوا على هيئة معينة، والجمع والأعياد كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يفعله فلا مانع من ذلك، ومثل هذا لا يدخل في حيز الإسراف، لكن مع الأسف أن تجد شبابًا لأدنى مناسبة إما أن يكون عنده كلمات يسيرة أحيانًا بعد الصلوات، أو يكون خطيب جامع، أو ما أشبه ذلك، أو له وظيفة تستدعي على حسب ظنه وزعمه أن يتخذ الهيئة الحسنة، فبعض الناس يتخذ من البشوت شيئًا ما يخطر على البال، بالأنواع، وبالأشكال، وبالألوان، وبالهيئات المختلفة لا شك أن هذا إسراف، هذا إسراف، والله المستعان.
فالرواية الأولى يستدل بها من يقول بنجاسة المني، والرواية الثانية والثالثة يستدل بها من يقول بطهارته، والمرجح أنه طاهر، طاهر؛ لأن النجس لا يكفي فيه الفرك، ولا يكفي فيه الحك، بل لا بد من غسله، وما جاء من غسله في الرواية الأولى إنما هو لاستقذاره واستقباحه، لا لنجاسته، بدليل الروايات الأخرى، النجاسة إذا وقعت على شيء إما لا يتشرب النجاسة، معلوم أن الثوب يتشرب النجاسة، وشيء لا يتشرب النجاسة كالصقيل مثلاً، أو شيء يتضرر بالغسل، كتاب وقعت عليه نجاسة، إن غسلته تلف، لاسيما إن كانت الكتابة بالحبر الذي إن وقع عليه أدنى شيء من الرطوبة انتهى، فتطهير مثل هذا، تطهير الكتاب ماذا يصنع به؟ يغسل بالماء، أو يكفي أن ييبس وتتقى النجاسة، لا تمس بشيء رطب أن يتقيها الإنسان لا يمس الكتاب ويده رطبة أو يجعل بينه وبينه حائلاً؟
المقصود أنه إذا غسل تلف، وأما الصقيل فيستدلون بأن السكاكين التي تُذبح بها الذبائح والسيوف وغيرها التي تزاول بها الدماء، السكاكين ما يؤمر بغسلها، فدل على أن الصقيل يكفي مسحه، يعني لو وقعت النجاسة على مرآة مسحت بشيء بحيث لا يبقى لها أثر، شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- يرى أنه يكفي، وغيره يقول: لا بد من غسلها مادامت نجاسة، ولو كان يكفي مسحها من الصقيل لكفى مسحها من البدن؛ لأن البدن لا يتشربها، يعني لو وقع على يدك نجاسة ومسحتها، يبقى شيء؟
ما يبقى شيء؛ لأن البدن لا يتشربها، وكذلك الصقيل لاسيما وأنه لا يتضرر، ولا تتلف ماليته كالكتاب أو ما في حكمه، فلا بد من غسله.
حينئذ الحديث الأخير في هذا الباب يقول -رحمه الله تعالى-: "وعن أبي السمح قال: كنت أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كنت أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأُتيَ بحسن أو حسين أتي بحسن أو حسين فبال على صدره -صلى الله عليه وسلم- فجئت أغسله" يقول أبو السمح: فقال -عليه الصلاة والسلام- "فجئت أغسله فقال: «يُغسَل من بول الجارية، ويُرَش من بول الغلام» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي والدارقطني والحاكم وصححه وقال أبو زرعة الرازي: لا أعرف اسم أبي السمح."
هذا ومادام صحابي يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يضر جهالة اسمه إذا عُرفت كنيته تكفي، ولو جُهلت كنيته لو قال عن رجل كان يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام- يكفي لأن جهالة الصحابي لا تضر يقول أبو زرعة: لا أعرف اسم أبي السمح هذا، وإن كان ابن عبد البر ظن أن اسمه إياد، لكنه لم يتابع على ذلك، وأبو السمح ممن خدم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو من طيء، ولا يعرف له إلا هذا الحديث، ولا يعرف له إلا هذا الحديث يوافقه في الكنية أبو السمح دَرَّاج، لكنه متأخر، وهو ضعيف أيضًا عند أهل العلم، أما هذا فصحابي لا يضر جهالته ولو لم يرو سوى هذا الحديث.
والحديث في إسناده يحيى بن الوليد، وهو لا بأس به، كما قال الحافظ في التقريب، فالحديث على هذا حسن، وأعله ابن عبد البر، ضعفه بالمُحِلّ ابن خليفة، المُحِلّ ابن خليفة، لكنه مخرج له في الصحيح، المحل بن خليفة من رجال البخاري، فتعليل ابن عبد البر للحديث به لا وجه له؛ لأنه جاز القنطرة، من رجال الصحيح، نعم يبقى يحيى بن الوليد لا بأس به، فحديثه يكون حينئذ مقبولاً من قبيل الحسن، وصححه الحاكم وضعفه ابن عبد البر، وتضعيفه بالمحل لا وجه له؛ لأنه من رجال البخاري.
عن أبي السمح قال: كنت أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيضًا أنس بن مالك كان يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وله أكثر من خادم -صلى الله عليه وسلم-، فأُتِيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بحسن أو حسين، شك بواحد منهما، الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب سبطا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولدا فاطمة بنت النبي -عليه الصلاة والسلام-، سيدا شباب أهل الجنة، هذان لهما من منه -عليه الصلاة والسلام- المحل الرفيع. فأتي بهما، أتي بأحدهما؛ ليأنس به، وقد يأتيانه وهو يصلي فيركبان على ظهره -عليه الصلاة والسلام-، وأيضًا رأى أحدهما يعثر في بردته فنزل من المنبر فحمله -عليه الصلاة والسلام- وفي هذا خلق النبي -عليه الصلاة والسلام-، ورأفته بالأطفال، وحسن معاشرته لهم، كثير من الناس يقول: هؤلاء بزران، ما يفهمون، أطفال لا يفهمون، المربون يقررون أن الطفل مهما صغر سنه يحفظ ويفهم، نعم بعد التمييز هو أكثر فهمًا منه بما قبل التمييز، لكنه يفهم ويحفظ بعض المواقف بحيث لا ينساهان وهذا خلقه -عليه الصلاة والسلام- مع الصغار، كان يلاعب الصغار، ويداعبهم سواء كانوا من نسله أو من غيرهم -عليه الصلاة والسلام-.
فأُتِيَ بحسن أو حسين، كثيرًا ما نسمع الحسن والحسين وهنا يقول بحسن أو حسين الحسن بن علي الحسين بن علي فـ(ال) حسن وحسين، علمان على هذين الشخصين، فـ(ال) هذه تفيد التعريف؟
لا؛ لأنهما علمان، ولا يحتاجان إلى تعريف، إذًا الفائدة من (ال) هنا لمح الأصل، وهو الصفة، فإذا قلت: جاء الحسن لمحت الأصل والصفة وإلا فالأصل أنه قد سمي بهذا الاسم قبل أن يكون حسنًا إلا إذا كان حسنه ظاهرًا واضحًا عند التسمية، قد تسمي باسم لا تستدل بواقع الطفل عليه، تسميه كريمًا مثلاً، تسميه كريمًا، فإذا أردت أن تلمح الأصل وهو الصفة تقول: الكريم، والكريم مشترك، يسمى به الخالقن ويسمى به المخلوق، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيسمى المخلوق بالكريم، كما أن الخالق من أسمائه -جل وعلا- الكريم، فإذا أردت أن تلمح هذا الوصف قلت: الكريم وإلا فالأصل أنه كريم مثل حسن وحسين تقول: الحسن والحسين، لكن إذا سمي شخص بحسن، ثم ظهر في مظهره ومخبره ليس بحسن، هل يسوغ أن تقول: الحسن تلمح الوصف مع مخالفته لهذا الوصف؟ أي وصف تلمح مع المخالفة؟
لكن إذا أردت أن تلمح الأصل فتقول: الحسن والحسين، طيب عباس إذا أردت أن تلمح الأصل وهو الصفة تقول: العباس، العباس، وهل الأفضل في مثل عمه -عليه الصلاة والسلام- أن يُلمح الأصل والصفة أو لا يلمح؟ إذا قلنا: عبد الله بن عباس، أو العباس أو العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعباس عمه؛ لأن العبوس ليس بوصف محمود، لكن الحسن والحسين لمح الأصل محمود، فلا مانع منه، قل مثل هذا فيما هو وصف في الأصل ثم سمي به.
فبال أحدهما الذي جيء به إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- على صدره -عليه الصلاة والسلام-.
طالب: ...........
لمح الأصل؟
لكن ما فيه ما يمنع من الاطراد، إذا سمي بما هو وصف في الأصل، مثلاً سميت ولدك متعب، متعب، ثم بعد ذلك أتعبك بعد أن كبر، وأردت أن تلمح الوصف، ما المانع أن تقول: المتعب، ما فيه ما يمنع، ما فيه ما يمنع، البصريون يتشددون في مثل هذا، البصريون يتشددون، الكوفيون أسمح منهم.
طالب: ...........
نعم، معروف، لكن لمح الأصل ما فيه ما يحده مادام ثبت له أصل لينَظَّر به فلا مانع، إن شاء الله.
طالب: ...........
لا لا لا، ما يمكن، لا لا، لو كان عبد فقط وتقول: العبد صحيح، العبد صحيح، لكن عندك مضاف ومضاف إليه، عبد الله، متى يجوز اقتران المضاف بـ(ال)؟ متى يجوز اقتران المضاف بـ(ال)؟ أول الشروط أن تكون الإضافة لفظية، وعبد الله لفظية أم محضة معنوية؟ محضة معنوية، فلا يجوز اقترانها بـ(ال) هذا أول شرط، الثاني أن يكون المضاف إليه مقترنًا بـ(ال) أو المضاف ما يضاف إليه المضاف إليه.
ووصف (ال) بذا المضاف مغتفر |
| إن وصلت بالثاني كالجعد الشعر |
والمقيمي الصلاة، لا مانع، لكن إضافة لفظية ليست محضة معنوية، وعبد الله وعبد الكريم وعبد الرحمن إضافة معنوية، لا يجوز أن يقترن المضاف بـ(ال)، هم يجعلون (ال) هذه بدل ابن، يجعلونها بدل ابن، وليست ببدل لها لا من قريب ولا من بعيد، سواء كانت في المضاف أو في غير المضاف، ما تقول: محمد العلي مثلاً، لا لا، أبدًا، ليس له أصل، دعونا من بعض الكبار الذي مشى على هذا ودرج عليه، ورأى أنه ما فيه بأس.
فجئت أغسله فقال -عليه الصلاة والسلام-: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام، يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»، جاء في بعض الروايات أنه لم يطعم، واعتمده أهل العلم وصفًا مؤثرًا؛ لأن هذا الحكم خلاف الأصل، الأصل في بول الآدمي أنه نجس نجاسة مغلّظة، ليست مخففة، فجاء هذا على خلاف الأصل، فيُنظَر في الوصف المؤثِّر التفريق بين الجارية والغلام ظاهر من النص التفريق بين الكبير والصغير؛ لأن بول الكبير تقدم لا يستبرئ من بوله، فلا بد من غسله والاستبراء منه، فالذي يفرق بين بول الكبير والصغير كونه لم يطعم، يعني لم يأكل الطعام، ولم يستقل بأكله، بل قوته اللبن، قوته اللبن وإن طعم شيئًا يسيرًا، لكن عمدته على اللبن، فهذا الوصف مؤثِّر، وعُلِّق به الحكم؛ ليتحرر الفرق بين الكبير والصغير؛ لأن ابن حزم يرى أنه لا فرق بين الكبير والصغير، نجاسة ذكر مخففة كبيرًا أو صغيرًا، كبيرًا أو صغيرًا، لكن قوله في بعض الروايات: لم يطعم، دل على أن الكبير يمشي على الأصل، وهو تحريم نجاسة بوله نجاسة مغلظة، ويبقى قصر هذا الحكم الوارد في هذا الحديث على ما علق به، وهو عدم الطعام.
فعلى هذا يبقى بول الكبير وبول الجنس النسائي سواء كان كبيرًا أو صغيرًا على التشديد، وبول الصغير من الذكور لم يطعم الطعام يكون نجاسته مخففة، يكفي فيها الرش والنضح، يكفي فيها الرش.
بعضهم يلتمس علة وحكمة للتفريق بين الجارية والغلام بين الجارية والغلام فيقولون: هذا جارٍ على سنة العرب من حبهم للذكور دون الإناث {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [سورة النحل:58]، وهذا أمر نفسي، يعني لما جاء القرآن ورفع من شأن المرأة، وحرم التفريق بين الأولاد، وأوجب المساواة والعدل بينهم، يبقى أن هذا أمر نفسي له أثره في صدور بعض الناس، في صدور بعض الناس، يعني لو قيل مثلاً لامرأة: الحكم الشرعي أن الزوج له أن يتزوج أربع زوجات هذا حكم شرعي، لكن هل يلزم من ذلك أن يذهب جميع ما في نفسها؟
نعم ترضى بحكم الله -جل وعلا- وتسلم وتعتقد أن هذا الحكم لا اعتراض عليه، وأنه حكم شرعي، لكن كونها ترضى بأن تكون ذات رب زوج ما يلزم، يعني لو قيل لها: ترغبين أن يتزوج زوجك امرأة ثانية ما يلزم أن ترضى، بل من أهل العلم من يرى أنها لو اشترطت أنها لا يتزوج عليها أن المسلمين على شروطهم، لا يجوز أن يتزوج عليهم، يعني ثانية، فعلى كل حال الأمر أو الحب والبغض الجبلي لا يمكن تغييره، لا يمكن تغييره، إنما الشأن في الحب الشرعي المحبة الشرعية والإرادة الشرعية هي المؤثرة بمعنى أنك تحب الله- جل وعلا-، وتحب رسوله أكثر من نفسك، أكثر من نفسك، فضلاً عن ولدك ووالدك، فضلاً عن ولدك ووالدك متى يبين أثر هذا الحب؟
يعني هل نقول: إن الإنسان لا بد أن يستشعر هذا في نفسه، وأن يكون وجدانه وشعوره بهذه المثابة أو نقول: المقصود به الأثر المترتب عليه، وهو الحب الشرعي، بمعنى أنه لو تطلب ولدك أو والدك لو تطلب بقاؤه على شيء يخالف أمر الله وأمر رسوله قدمت أمر الله ورسوله، صرت تحب الله ورسوله أعظم من ولدك، لكن لأدنى سبب تعصي الله -جل وعلا-؛ من أجل ولدك أو والدك هنا نقول: إنك تؤثر ولدك أو والدك على محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- وإلا فالأصل يعني لو نظرنا في الأمور الشعورية الداخلية التي هي إلى حديث النفس أقرب منها إلى تعلق الأحكام بها، يعني لو قلنا: إننا نحب الرسول -عليه الصلاة والسلام- أكثر من أنفسنا، ونفديه بأنفسنا وأرواحنا وجميع ما نملك، هذه المحبة الشرعية، لكن لماذا أحببت الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ أليس من أجل نفسك أن تنجو، لكن لا تبحث عما وراء ذلك، أنت المحك في المحبة الشرعية والاختبار والابتلاء إذا جاء ما يعارض أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهل تقدم هوى نفسك، أو تقدم ما يؤثره النبي -عليه الصلاة والسلام- من أمره؟
لو طلب منك ولدك محرمًا، تأتي بمحرم صور مجسمة وقيل لك: إن الصور حرام، وجاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- كذا، فتقول: والله عجزنا عن هؤلاء الأطفال، ما قدرنا، وما أدري أيش؟!
ما يكفي يا أخي، فأنت قدمت الولد على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، لكن لو قال لك الولد: نريد صورة، نريد كذا، نريد شيئًا محرمًا، تقول: لا، هذا ما فيه مساومة، النبي -عليه الصلاة والسلام- لعن المصورين، وحرم الصور، وقال: «الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة»، فلا يمكن مهما بلغك الأمر، أنا لا أوثرك على محبة النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذه المحبة الشرعية، وهذا أثرها، وهذا أثرها، وهذا هو المحك، وهذا هو المختبر.
يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام، بعضهم يقول: إنه بقي من آثار الجاهلية مما يدفع إليه المحبة الغريزية أن الغلام محبوب عند أبويه دون الجارية، فتجد الغلام يُحمل أكثر من الجارية، يعني الجارية تبقى على الأرض، والولد محمول، فيتعرض أبوه أو أمه بكثرة لهذا البول، فلو أمروا بغسل بول الولد لشق ذلك عليه؛ بخلاف الجارية لا تحمل إلا قليلاً، أو نادرًا، فلا يحصل من ذلك شيء، لكن الواقع يوافق هذا أو يخالفه؟
يخالف، يعني إن لم نقل: إن الجارية كالغلام، فنقول: إن الجارية يحنى عليها، ويرق لها أكثر من الغلام، وهذا هو الواقع، فعلى هذا فهذا التعليل ضعيف.
منهم من يبدي مناسبة وتعليلًا آخر للتفريق ويقول: إن الجارية تبول من مكان لا ينتشر منه البول، لا ينتشر يعني مكانه واحد، تصب البول في مكان واحد، فغسله لا يصعب ولا يشق، مجتمع في مكان واحد، لكن الغلام وهو يبول من ذلك الأنبوب لا شك أنه يتفرق يمينًا وشمالًا، وعلى الوجه، وعلى الثوب، وعلى النعل، وعلى على الأرض، وعلى كذا، فيشق تتبعه بالغسل فقالوا: فيكتفى فيه بالرش، وهذا واضح ظاهر.
ومنهم من يقول: إن في دم الغلام الذكر من الحرارة ما لا يوجد في دم الأنثى، وهذه الحرارة تتسبب في إضعاف نجاسة هذا البول الذي هو في الأصل مادام الرضيع ما يأكل طعامًا، ويخلط من الأطعمة الثقيلة والخفيفة، ما عنده إلا طعام خفيف جدًّا، فبوله في الجملة أخف من بول الكبير، سواء كان ذكرًا أو أنثى، إذا أضيف إلى هذه الخفة حرارة دم الغلام الذي به بسبب هذه الحرارة تخف هذه النجاسة قدرًا زائدًا على ما في نجاسة بول الصغير ذكرًا كان أو أنثى، لا شك أنه يخف، لكن هذا الأمر ليس بواضح، ولعل أوضح التعليلات أن بول الغلام ينتشر ويتفرق ويشق تتبعه بالغسل، بخلاف بول الجارية.
رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي والدارقطني والحاكم وصححه، وعرفنا أن في سنده يحيى بن الوليد، وهو متوسط، يعني قيل فيه: لا بأس به، والحديث على هذا حسن. وقال أبو زرعة الرازي: لا أعرف اسم أبي السمح هذا، وعرفنا أن في كلام ابن عبد البر تسميته بإياد.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"