كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 15
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فهذا الدرس العام، وهو لعموم المسلمين على اختلاف مستوياتهم، من طلاب علم وعامة، من كبار وصغار، من رجال ونساء، فهو نافع بإذن الله -جل وعلا- للجميع، وهذه طبيعة الدرس على هذا الكرسي لجميع المشايخ، ولنا درس من سنين في كتاب المحرر لابن عبد الهادي، ورأينا أن يكون الدرس العام في كتاب المحرر لابن عبد الهادي في كتاب الجامع، يعني بعد أن تجاوزنا أحاديث الأحكام الخاصة بطلاب العلم، هناك كتاب من كتب هذا الكتاب يسمى الكتاب الجامع، وأول من وضع هذه الترجمة من المصنفين من علماء المسلمين الإمام مالك في موطئه، وتبعه على ذلك كثير من أهل العلم، فيريدون بذلك أو بهذا الكتاب الجامع الأحاديث التي لا تنضوي تحت ترجمة واحدة، وإنما هي أحاديث متفرقة ينتفع بها عموم الناس.
وقد شرحنا من هذا الجامع أحاديث كثيرة، وكان من آخرها حديث، بل كان آخرها حديث معاوية- رضي الله عنه-: «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، فطال العهد، فهذا الحديث مر على شرحه قرابة العام الكامل، قرابة السنة، ونستأنف هذا الدرس بالحديث الذي يليه، وهو حديث ابن عباس، قال: (قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها»).
الأصل في الأكل أن يكون باليد، هذا الأصل فيه، والأكل بالأدوات كالملعقة والشوكة والسكين وغيرها هذه أمور طارئة، وليست من عادة المسلمين، لكن الأصل فيها الإباحة، لا إشكال إذا كانت أيسر للآكل وأسهل له، ولاعتبارات أخرى لا مانع من الأكل بها، لا يقول أحد بمنعها، لكن الأصل أن الأكل باليد، وأنه بثلاثة الأصابع، كما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-، لكن إن احتيج إلى الأصبع الرابع، فلا بأس؛ لأن هذا فعله -عليه الصلاة والسلام-، ولم يرد نهي عما جاء عن الأكل بأكثر من ذلك، لم يرد النهي، فيكون غايته أنه خلاف الأولى.
على كل حال إذا أكل بثلاثة الأصابع كما هو الثابت عنه -عليه الصلاة والسلام-، وهو اللائق بأهل التخفف من الدنيا، وعدم الركون إليها؛ لأنه جاء أيضًا التوجيه إلى تقليل الأكل: «لقيمات يقمن صلبه»، بخلاف أهل الأكل أهل الشره؛ لأن تخفيف الأكل معين على أمور الدين وعلى أمور الدنيا، فالذي يأكل كثيرًا يشرب كثيرًا، وينام كثيرًا، ويفرط بسبب ذلك في كثير من المستحبات الشرعية، ومن أهمها قيام الليل، وقد يصل التفريط إلى صلاة الفجر، ولذا جاء التوجيه إلى تقسيم البطن إلى ثلاثة أقسام: ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس، فالتقليل بقدر الإمكان هو أنفع للآكل حتى في دنياه في صحته، وما ابتلي كثير من الناس بالأمراض الكثيرة إلا بسبب كثرة الأكل.
على كل حال إذا أكل المسلم وفرغ من أكله يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أكل أحدكم طعامًا»، طعامًا نكرة في سياق الشرط يعم جميع أنواع الطعام، هذا الأصل فيه، لكن لا يدخل فيه أو يخص منه الطعام الذي لا يلوّث اليد، تأكل طعامًا جامدًا يابسًا ما فيه تلويث تلعق يدك أو ما تلعق؟
ما يلزم.
«إذا أكل أحدكم طعامه فلا يمسح يده» يعني بالمنديل، ولا يغسلها بالماء، «حتى يَلعقها» أو «يُلعقها» غيره ممن لا يتقذر منه كزوجته وولده وجاريته وما أشبه ذلك، يُلعقها بها؛ لأن الباقي في اليد هو من نوع الطعام، ولا يدرى في أي هذا الطعام البركة، قد يكون في هذا الشيء اليسير الذي بقي في اليد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كما هو واقع الناس اليوم إذا أكل وبقي في يده شيء من الطعام ثم غسله، أين يذهب، يعني من خلال واقع الناس اليوم؟
يذهب إلى المجاري، ويختلط بغيره، والنعمة يجب أن تُحفظ من هذا كله.
فعلى كل حال «إذا أكل أحدكم» كما يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- «طعامًا فلا يمسح يده» يمسح يده بالمنديل، وفي الصدر الأول في وقته -عليه الصلاة والسلام- هذه الأمور التي وُجدت عندنا بعد انفتاح الدنيا وقبلنا انفتحت الدنيا على أناس فاستعملوا أشياء لم تكن موجودة في عهده -عليه الصلاة والسلام-، المناديل أتي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فلم يُرده، هذا في الوضوء، لماذا؟
ليبقى الماء يتقاطر من مواضع الوضوء حتى تخرج ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء. لكن الطعام وفيه زهومة ودهونة يعني تؤثر فيما يمسه الإنسان، أيضًا قد تجلب له شيئًا من الحشرات، ولذا جاء الأمر بإزالة أثر الطعام، وفي حديث عند الطبراني: «إذا لم يمسح يده -أو يغسل يده- فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه».
على كل حال في الصدر الأول هذه الأمور التي وُجدت عندنا وفي الأوساط الأخرى من أمور الترف الزائد لا شك أنها لم تكن موجودة في عهده -عليه الصلاة والسلام- ولا فيما بعده من الأقطار التي لم تفتح عليها الدنيا، حتى عندنا إلى وقت أدركناه هذه الأمور نعتبرها طاهرة، فعلى كل حال «يَلعقها» بنفسه، «أو يُلعقها» غيره ممن لا يتقذر به كزوجته وولده وجاريته، والله المستعان.
المناديل وجاء ذكرها في المسح «فلا يمسح يده»، يعني بالمنديل أو بغيره مما يقوم مقامه، وهذا من باب الاستطراد، إذا كان يكفي منديل واحد، والأمر يسير جدًّا، قيام هذا يسيرة، المائة منديل يمكن بريال، هذا المنديل الذي قيمته هللة أو هللتان الإسراف فيه هو نوع من الإسراف؛ لأننا نرى بعض الناس لأدنى سبب قد ينهي نصف الكرتون ليمسح شيئًا يسيرًا على الطاولة أو يمسح شيئًا، لا شك أن هذا نوع من الإسراف، وعلى هذا إذا كفاه اثنان فهل يحتاج أو يأخذ ثالثًا ليقطع على الوتر كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- في الاستنجاء لما جاء بحجرين وروثة ألقى الروثة وقال: «ابغ لي ثالثًا»، هل نقول خذ ثالثًا أو نقول: خلاص كفاية هذا الأصل؛ لأنه مضاد لأصل من أصول الشرع، وهو الإسراف.
على كل حال هذه الأمور ينبغي أن يلتفت إليها ويربى الناشئة عليها منعًا للإسراف، وإن كان يسيرًا بهللة أو بهللتين، لكن إذا تربى الولد على هذا ضبط أموره فيما هو أعلى من ذلك.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: (وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون»).
لا شك أن النار عدو، وجاء وصفها بأنها عدو في الخبر؛ لأنها تفعل بالإنسان ما يفعله العدو، فتضره في بدنه وفي ماله. كثير من الناس لا سيما في ليالي الشتاء يوقدون النيران، ثم إذا فرغوا من سهرهم ألقى كل واحد بنفسه وتركوا النار، وهذه النار لا شك أنها عدو، وقد يكونون في مكان مغلق، فالأدخنة تضر بهم، الدخان قاتل، فيه سموم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- جالس على الخمرة فجاءت الفويسقة، فأوقدت شيئًا، فجرته أو جرت فتيلة السراج إلى هذه الخمرة فأحرقت منه قدر الدرهم، وهذا هو سبب النهي عن النوم قبل إطفاء النار وإطفاء السراج، لا شك أن هذا مع غفلة عنه يتلف، والسرج كان فيها مواد تزيد في إشعالها من النفط والدهون، مثل الشموع الآن تزيد في إشعال النار، والكيروسين الذي يسمونه الجاز وغير ذلك لو وقع السراج على الأرض وخرج منه شيء من هذه المواد اشتعلت النيران فيه.
وعلى كل حال النبي -عليه الصلاة والسلام- الرؤوف الرحيم بأمته الذي لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه يقول لنا: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون»، السراج وكبار السن أدركوه قبل الكهرباء هل المصابيح الكهربائية تأخذ حكمه؟ نعم هي أكثر أمانًا منه، لكن قد يوجد منها ما يوجد من السراج إذا تحمل الكهرباء أكثر من طاقته قد يحصل منها ما يضر ويحرق، وإذا حصل ذلك فالضرر يكون أعظم وأشد؛ لأنه يسري مع الأسلاك إلى أن يصل إلى آخر البيت، يحرق البيت كله، وبعض الناس يفرط في هذا، ولا يحتاط لقضية الأسلاك المناسبة للطاقة المحتاج إليها من الكهرباء، فيجعل الأسلاك ضعيفة، ثم تحمل لا سيما في أيام الصيف مكيفات وأدوات كهربائية كثيرة، وتحصل الحرائق بسببها، وهذه شبه يومية تحصل في البلدان لا سيما الكبيرة منها، فينبغي الاهتمام بمثل هذه الأمور، وهذه من محاسن شريعتنا الغراء التي فيها كل خير، كل خير في هذه الشريعة، ولله الحمد والمنة أن جعلنا من أتباع محمد -عليه الصلاة والسلام-.
«لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون»، أما في حال الاستيقاظ فينتبه لها، الحاجة داعية إليها وينتبه إليها. قد يستغرق الإنسان في أمور من أمور حياته أو في بحثه لمسألة علمية يستغرق، ثم بعد ذلك يحصل شيء من هذا وهو في حال اليقظة، الحكم واحد، المقصود أنه ينتبه؛ لئلا يحصل الضرر.
ثم قال -رحمه الله-: (وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اختناث الأسقية: أن يشرب من أفواهها»).
السقاء يعم كل ما يوضع فيه الماء كالقرب وبقية الأسقية والجراكن والعلب التي يوضع فيها الماء، وعلى كل حال سبب الحديث مخرج عند ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب أن رجلاً شرب من فم السقاء فانساب في بطنه جان، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنهى عن اختناث الأسقية، يعني الشرب من أفواهها. ومعلوم أن السقاء إحكامه قد لا يمنع من دخول شيء فيه، لا سيما إذا كان شيء صغير مما يضر بالإنسان، والسقاء له جرم يمنع من رؤية ما بداخله، بحيث لا يُرى، فقد يكون فيه شيء يضر الإنسان وهو لا يشعر، وكانت الأسقية والقرب وغيرها مما يحفظ فيه الماء غير محكمة الإغلاق، ولذا لما شرب الرجل الذي جاء في سبب ورود الحديث انساب في بطنه جان، يعني حية صغيرة أفعى صغيرة، فلما بلغ ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن اختناث الأسقية.
قد يقول قائل: إذا أُمن الضرر فهل لي أن أشرب من فم السقاء؟
يعني عندنا مثل هذا الماء الذي بداخل هذه العلبة، هل يُمنع من الشرب من فمها أو فيها؛ لأننا نرى ما بداخلها، ما فيها شيء، نظيفة؟ أولاً: العلة في النهي هو الضرر أو هي الضرر، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فأنا أرى ما في هذه العلبة وأجزم وأحلف أنه ما فيها شيء.
طيب وما يمكن أن تكون العلة مركبة ومن هذا ومن أمر آخر وهو أن لا يتقذره من يأتي من بعده ويشرب منه؟
يعني إذا كانت العلبة هذه تزيد على حاجة الإنسان، بل قد تكفي الاثنين والثلاثة والأربعة، أراد أن يشرب من فمها الذي بعده قد يتقذر ولا يشرب من بعده فيهدر البقية، ففي مثل هذه الحالة يسكب من هذه العلبة في شيء يشرب منه ويبقى البقية لمن بقي يريد الشرب منها، فقد تكون العلة مركبة من أكثر من وصف.
على كل حال الإنسان إذا كانت العلب صغيرة تكفيه ولا تزيد عن حاجته هذا لا إشكال لا سيما وقد أُمن الضرر وانتفت العلة الأولى، فلا إشكال في ذلك.
بعض العلب بحجم هذه ويشربها الإنسان عادة ولا تزيد عن حاجته، لكنه لا يرى ما في جوفها، فهل الحكم واحد مثل الشيء الذي نراه، أو نقول معك علبة بيبسي صبها في إناء، وتأكد من أنه ما فيها شيء كالسقاء، ماذا يقول؟
طالب: .......
هذا بغض النظر عن حكم شرب مثل هذه الأشربة التي فيها نوع ضرر، وإن كان الضرر غير مباشر، لكن يقررون أن المشروبات الغازية فيها ضرر، ما نبحث من حيث حكم أصل الشرب، لكن افترض أنه عصير مجمع على حله في علبة مغطاة ما تدري ما الذي فيه، هل نقول: إنها مثل السقاء يلزمك أن تسكب منها في إناء بحيث ترى ما في جوفها، أو نقول: إن العلة التي هي الضرر منتفية باطراد استعمال المستعملين، ما فيه أحد شرب عصيرًا في علبته المغطاة، وخرج من بطنها شيء، لدقة هذه المصانع، ويقظة القائمين عليها، هي مصانع آلية، يعني ما يتطرق إليها شيء، والنادر لا حكم له وإلا وُجد المصانع تتفاوت، لكن الأصل فيها أنها نظيفة، حتى الماء وُجد في بعضه ما يلاحظ عليه، لكن الأصل والغالب والذي يحصل خلاف هذا الأصل والغالب نادر جدًّا لا يرتب عليه حكم، فلا يلزم أن كل من اشترى علبة عصير أن يسكبها في كوب ثم يشربها.
الأسقية من الأدم من الجلد جاء النهي عن الانتباذ فيها، لا لا الأسقية ليست الجلد، الأسقية الأخرى الصلبة النقير والمقير والمزفت هذه أوعية صلبة، فإذا انتبذ فيها يمكن أن يتغير هذا النبيذ، ويصل إلى حد الإسكار، وأنت لا تشعر، بخلاف الأسقية من الجلد؛ لأنه إذا تغير ما فيها انتفخت، وقد تتمزق من قوة اشتداد الخمر، ولذا جاء النهي عن الانتباذ في الأوعية الصلبة مثل النقير والمقير والمزفت وغيرها مما جاء النص فيه. ثم بعد ذلك رُخص فيه، يعني بعد أن مضى وقت طويل على تحريم الخمر وارتاضت النفوس، وكرهه المسلمون، وصاروا يحتاطون، أول الأمر أول ما حُرم مثل هذا النهي من باب الاحتياط، ثم بعد ذلك لما أذعن الناس، وعافت أنفسهم هذا الخمر وتقذروها.
على كل حال النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ والنهي والنسخ كله موجود في الصحيح في مسلم وغيره.
النبي -عليه الصلاة والسلام- في مرض موته أمر بأن يصب عليه من سبع قِرب لم تُحلل أوكيتها، النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيح أمر بأن يصب عليه في مرضه لما اشتد عليه المرض أمر بأن يصب عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتها، والسبع جاء ذكرها في كثير من النصوص.
وعلى كل حال هذا النص وهو صحيح لا كلام فيه، فهل يأخذ الأوعية الحافظة مثل الجراكن الآن حكم القرب؟
يعني إذا أراد الإنسان أن يصب على رأسه أو شيء من هذا من ماء زمزم أن يأخذ كوبًا ويأخذ من سبعة جراكن، ممكن أم نقول: هذا خاص بالقرب، لم تحلل أوكيتها يعني تكون أول ما يؤخذ من القرب، وليكن في هذه الجراكن أول ما توضع العبوة الجديدة تأخذ كأسًا، وتأخذ من سبعة جراكن، وتصب على رأسك أو حتى تشرب.
المقصود أن الأصل في ماء زمزم أنه مبارك، وإذا اتبع فيه ما وجه إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه أولى، وإن كان بعضهم يقول: هذا خاص به -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه علم من السر والحكمة ما لا يعلمه غيره، ولكن هذا أمر ليس فيه محظور؛ لئلا يقال: إنه فيه مثلاً وسيلة إلى محرم أو إلى بدعة أو إلى شرك وشيء من هذا، فالأمر فيه سعة.
ثم قال -رحمه الله-: (وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب من ماء زمزم، من دلو منها، وهو قائم»)، والأحاديث التي مرت كلها في الصحيحين في البخاري ومسلم.
ثبت النهي في صحيح مسلم وغيره عن الشرب قائمًا، وجاء فيه نوع تشديد، وهو أن «من شرب قائمًا فليقئ» أو «فليستقئ»، يُخرج ما شربه، والنهي صحيح صريح، لكن جاء مثل هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب من ماء زمزم من دلو منها وهو قائم.
وعن علي -رضي الله عنه- أنه توضأ في رحبة مسجد بالكوفة ثم شرب ما بقي من الوضوء قائمًا وقال: فعلت كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث في البخاري. وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: «أنه شرب من شن معلق وهو قائم».
«شرب من ماء زمزم من دلو منها وهو قائم» الحديث الذي معنا، وحديث علي -رضي الله عنه-: توضأ ثم شرب ما بقي من وضوئه وقال: لعلكم تنكرون هذا، فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك، يعني توضأ ثم شرب ما بقي من وضوئه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا في البخاري، وشرب النبي -عليه الصلاة والسلام- من شن معلق وهو قائم. فعندنا أحاديث في شربه -عليه الصلاة والسلام- قائم، وأحاديث ثابتة في النهي والأمر بالقيء إذا شرب قائمًا، فهذا ثابت، وهذا ثابت، فما موقف العلماء من هذه الأحاديث المتعارضة؟
العلماء منهم من يجيب عن الشرب قائمًا يثبت النهي، ويستمر على المنع يقول: أحاديث الشرب قائمًا؛ لأن الأرض غير مناسبة للجلوس، تعرفون الأماكن التي فيها سقاية، وفيها شرب يتناثر من الماء على الأرض، ويكون فيها شيء من الوحل، فلا تناسب الجلوس، فيكون هذا خاصًّا بمثل هذه الحالة، ويبقى النهي على أصله.
ومنهم من يقول: النهي منسوخ، نهى ثم أذن وفعل خلاف هذا النهي، فالنهي منسوخ. وعكس ابن حزم فقال: النهي هو الناسخ، ويبقى أنه لا يجوز لأحد أن يشرب وهو قائم، وهذه الأحاديث التي ثبت فيها أنه -عليه الصلاة والسلام- شرب وهو قائم منسوخة.
والقول بالنسخ سواء كان قول من قال بنسخ أحاديث النهي أو قول من قال بنسخ أحاديث القيام كلها تحتاج إلى ثبوت التاريخ، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، ومن أراد أن يجمع بين هذه النصوص كما فعل بعض أهل العلم قال: إن الشرب قائمًا من فعله -عليه الصلاة والسلام- صارف للنهي من التحريم إلى الكراهة، ففعله -عليه الصلاة والسلام- لبيان الجواز. فإذا قلنا: إن أحاديث النهي منسوخة قلنا: لا فرق بين أن تشرب قائمًا أو قاعدًا؛ لأن أحاديث النهي منسوخة، لكن إذا قلنا: إن النهي ثابت، وفعله -عليه الصلاة والسلام- بالشرب من قيام فيما يخالف النهي لبيان الجواز، كثيرًا ما ينهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن شيء ثم يفعله للتشريع، ولبيان أن ذلك النهي ليس على سبيل الإلزام، وإنما هو على سبيل الكراهية أو خلاف الأول، وهذا قول يبدو أنه هو أرجح الأقوال، ويبقى أن الشرب جالس أفضل وأمرأ، والشرب قائمًا لا مانع منه كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هذا بالنسبة للشرب، وماذا عن الأكل؟ الأكل قائم؟ جاء في حديث في بعض ألفاظ حديث النهي عن الشرب قائمًا: «قيل: فالأكل؟ قال: الأكل أشد».
وعلى كل حال هو مثله الحكم واحد كله طعام، اللهم إلا إذا كان الأكل أو الشرب قائمًا يضر بالإنسان، إذا كان يضر بالإنسان ويعرضه للضرر، فيمنع من هذه الحيثية، ونرجع ونقول: إن القول المرجح أن أحاديث الشرب قائمًا، إنما هي لبيان الجواز، فلا مانع من الشرب قائمًا، لكن القعود أفضل.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: (وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه»).
يعني إذا كان الطعام مشتركًا، والجلوس عليه عدد من الناس، ولا شك أنه في بعض الأوقات والأزمنة الشديدة التمرة الواحدة مؤثرة، فإذا كان أحد الجالسين على الطعام عنده شره، فبدلاً من أن يأكل تمرة تمرة كغيره يأخذ ثنتين، ويأكلهما معًا، وفي بعض السنين حاجة قد تحمل على هذا الشره؛ لأنه ما يصدق أن يرى طعامًا.
يقول: وأصبح والنوى عالي معرسهم، وليس كل النوى تلقي المساكين، الذين يتضاغون من الجوع إذا رأوا التمر يمكن بالنوى يأكلون، وهذه الشدائد مرت بالناس عمومًا، والمسلمون مر بهم من الشدائد ما مر وحصل لهم مثل هذا، والآن شواهد الحال عند إخواننا المشردين واللاجئين شواهد عيان يراها الناس بأعيانهم، بينما يوجد في فئات كثيرة من المسلمين من الترف ما لا يخفى.
الآن في الحديث الأول «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها»، يعني قد يبقى في اليد شيء يسير، حبات يسيرة من الطعام جاء النهي عن أن تمسح بالمنديل أو تغسل بالماء، فتذهب سدى، فكيف بمن يلقي بالأطعمة التي بعضها ما جُلس عليها أصلاً تلقى بالمزابل؟!
وصل الترف ببعض الناس- ومع الأسف من المسلمين - من يلقي الإناء بما فيه من أطعمة، وقد تكون الذبيحة كاملة في المزبلة، يعني إذا جاء النهي عن إهدار حبة أو حبتين أو حبات من الأرز على اليد حتى تُلعق أو يَلعقها الآكل أو غيره، فكيف بمن يلقي بهذه الأشياء ولنا إخوان قد يكون بعضهم موجودًا بيننا يعيش بيننا يحتاج إلى هذا الطعام، نعم وُجد مؤسسات خيرية وجمعيات تستقبل هذه الأطعمة، وتوزعها على المحتاجين، وهذا عمل طيب مشكور يُشكرون عليه، ويثابون عليه إن شاء الله، لكن في كثير من الأحيان وعند بعض الطبقات العليا من الناس ما ينظرون إلى مثل هذا، خلاص، العمال يرمونه في الزبائل، فلنخشَ العقوبة.
في الجليس الصالح للمعافى بن عمران بسند صحيح عن الحسن البصري قال: إنه بلغ الترف في قوم حتى استنجوا بالخبز، بلغ بهم الترف حتى استنجوا بالخبز، فما لبثوا إلا يسيرًا حتى أكلوا العذرة! بعض البلدان المجاورة يعني من أربعين سنة، وهذا ذُكر في جرائدهم أنه وجد من بعض كبار الموظفين أنهم تُمسح طاولاتهم برقائق الخبز، وبعض المتنفذين يمسحون خفافهم، الجزم برقائق الخبز، لكن النتيجة حروب إلى الآن ما يستطيع الإنسان يخرج عن بيته، إلى الآن حروب من ذلك الوقت: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، يعني له مدلول، «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها»، إذا كان عندك شيء يمكن أن يستفاد منه، سواء كان المستفيد إنسانًا أو حيوانًا لا يجوز أن تهدره، قد يكون الكسل باعثًا لبعض الناس عنده نية خير عنده، يريد أن ينفع إخوانه، لكن يكسل، ولا تسمح نفسه بأن يضع هذا في إناء أو في كيس ويجد من يعطيه إياه.
الآن المطاعم يطلب الطلب يأتي شخص ويطلب طلبًا ويبقى ثلاثة أرباعه، وبإمكانه أن يقول ضعوه لي في إناء، وجرت العادة بذلك، ما يرفضون، يضعونه له في الكيس ويعطيه أحدًا، لكن يقول: اتركه على الطاولة، النتيجة عمال المطعم على طول للزبالة، فعلى الإنسان أن يهتم لما ينفعه، ويحذر كل الحذر من زيادة الترف زيادة الإسراف والتبذير، كل هذا ضار ومؤذٍ بعقوبة، نسأل الله السلامة والعافية.
«نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه» قد يكون جوعه أشد منهم، قد يكون جوع هذا الرجل الذي أخذ التمرتين أشد منهم، تكون حاجته إلى الطعام أشد، وحينئذٍ إذا استأذنهم وأذنوا فالأمر لا يعدوهم، لكن لا بد من استئذانهم لا سيما إذا كانوا شركاء له، دفعوا شيئًا من أموالهم، لا بد أن يستأذنهم، يجب عليه أن يستأذنهم، والأولى أن يصنع ما يصنعون.
ولا شك أن حاجات الناس إلى الطعام متفاوتة، فبعض الناس يأكل ثلاث أضعاف ما يأكله الآخر، وإن كانوا شركاء في هذا المال الذي يسمونه النَّهْد، يسميه العوام أيش؟ قَطَّة، يسمونه قطة، وهو أصله في مسماه اللغوي: النهد، كان الناس يتناهدون إذا سافروا كل واحد يدفع مبلغًا من المال، ثم إذا وُضع الطعام يأكلون منه، بعضهم يأكل ثلاثة أضعاف ما يأكله زميله الذي دفع مثله، مثل هذا جرت العادة بأن مثل هذا يُتسامح فيه، ولا يدقق فيه، لكن ليحرص ويأكل بقدر ما دفع، وإن زاد أكله دفع أكثر لبراءة ذمته.
في المطاعم ما يسمى بالبوفيه المفتوح، تدخل تدفع خمسين ريالًا وتأكل، وهذا للناس كلهم خمسين، ستين، أربعين على حسب ما يحددون، بعض العلماء يمنع من مثل هذا؛ لأن فيه غررًا وجهالة، فقد تدفع خمسين وتأكل ما قيمته مائتا ريال، وقد تدفع الخمسين، تأكل ما قيمته عشرة عشرون وتنتهي، ولا شك أن مثل هذا غرر وجهالة، لكن أصحاب المطاعم ينظرون في متوسط الناس ومستواهم، ويزيدون عليه، فيكسبون من عشرة، ويخسرون من واحد ما يضرهم هم، لكن بعض العلماء نظر إليها من جهة الغرر والجهالة، ومنع من ذلك، ولا شك أن الورع يمنع من مثل هذا، والتحريم يحتاج إلى شيء بعد يخصه من الدليل، لكن أقل ما في ذلك الكراهية الشديدة، وقال بعضهم بتحريمه.
الكلام في التمر «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه»، وهذا يتناول غير التمر من أنواع الأطعمة التي لها أجزاء متعددة، يشملها أيضًا، يأخذ علبتي ماء، وغيره يأخذ واحدة، قل مثل هذا في جميع ما له أجزاء.
كم بقي؟
عندك أسئلة؟
التصوير جاءت فيه النصوص الصحيحة الصريحة واللعن في البخاري وغيره من كتاب البيوع، ولعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المصور، فتصوير ذوات الأرواح حرام. لكن العلماء من المعاصرين بعضهم يقول: إن التصوير بالآلات لا يدخل في النصوص؛ لأنه ليس من عمل الإنسان، وإنما هو من عمل الآلة، والتصوير الذي ورد فيه النص هو ما يعمله الإنسان بنفسه. وهذا كلام بعضهم، وهذا كلام كثير، ولذلك تجدونهم يساهمون في هذه القنوات، ويصوَّرون، ولا إشكال عندهم فيه، والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله. وأما بالنسبة لي أنا فأرى أنه داخل في النصوص التي تشدد في أمر التصوير بأنه لا يجوز، وكونه عمل الآلة، من الذي حرَّك الآلة؟ نعم، من الذي حرك الآلة وضغط ذرها لتصور؟ القتل بالمسدس عمل من؟ عمل المسدس أم عمل الذي ضغط الزر؟
طالب: الذي ضغط الزر.
مثله مثل الكاميرا، وأكرر أن هذا قولي واجتهادي، ولا حجر؛ لأن فيه علماء من شيوخنا من هو خير منا وأفضل منا خرجوا في قنوات، واقتدى الناس بهم، بل حثوا الناس على الخروج في القنوات.
حديث «إن أتاني يمشي أتيته هرولة»، والحديث في الصحيح؟
للعلماء في مثل هذا مسلكان؛ الأول أن ما أثبته الله -جل وعلا- لنفسه وأثبته له رسوله يُثبت كما جاء من غير تعرض لتأويله، مع اعتقاد انتفاء المماثلة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فليست كهرولة المخلوق، وإنما هرولة تليق بجلاله وعظمته، وهذا قول معروف عند جمع من أهل العلم في مثل هذا. ومنهم من يقول: إن هذا ثبت على سبيل المشاكلة والمجانسة في التعبير، وهذا أسلوب معروف في القرآن وفي كلام العرب، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، السيئة الأولى جناية الجاني لا شك أنها سيئة، لكن معاقبة الجاني هل هي سيئة؟ حسنة ليست سيئة، لكن قيل لها: سيئة من باب المشاكلة في التعبير، وهذا معروف عند أهل العلم.
على كل حال إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا، وثبت عن ابن عمر أنه قال: لو كنت مسبحًا لأتممت، يعني أنه لا يصلي السنن لا سيما الراتبة، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان لا يترك الوتر ولا ركعتي الفجر في سفر ولا حضر، فهما مستثنيان من العموم.
وعلى كل حال الأيام المحددة للسفر المعمول به والمفتى به عندنا أنها أربعة أيام، وأقوى ما في هذا الباب من الأدلة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أذن للمهاجرين بعد الحج بثلاث ليالٍ، ومنعهم مما زاد على ذلك، مما يدل على أن الأربعة إقامة، وقد نُهي المهاجر أن يقيم في البلد الذي هاجر منه.