كتاب الجنائز من المحرر في الحديث - 05
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعدًا قال في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللبِن نصبًا كما صُنع برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه أحمد ومسلم. وعن معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا إسعاد في الإسلام ولا شغار، ولا عقر في الإسلام، ولا جلب في الإسلام، ولا جنب، ومن انتهب فليس منا»، رواه أحمد وإسحاق عن عبد الرزاق وأبو داود وابن حبان، وقال أبو حاتم: هذا الحديث منكر جدًّا، وقال الدارقطني: تفرد به معمر عن ثابت.
وعند أبي داود قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة.
وعن سعد بن سعيد عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه ابن القطان، ووهم من عزاه إلى مسلم، لكن رجاله رجال مسلم.
وقد روي موقوفًا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وحسنه ابن أبي عاصم من رواية حارثة عن عمرة.
ورواه البيهقي من رواية سفيان عن يحيى بن سعيد عن عمرة، ورواه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وزاد: في الإثم.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: دُفِن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة، وفي لفظ: فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنيهة غير أذنه، رواه البخاري.
ولأبي داود: فما أنكرت منه شيئًا إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض.
وعن القاسم قال: دخلت على عائشة- رضي الله عنها- فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا طئة.."
ولا.. لا مشرفة..
ولا طئة..
ولا لاطئة.
"ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، رواه أبو داود والبيهقي والحاكم في مستدركه بزيادة: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدمًا وأبو بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر رأسه عند رجلي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال البيهقي: وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح وأولى أن يكون محفوظًا.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجَصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، رواه مسلم، وروى أبو داود والحاكم: وأن يكتب عليه، وقال الحاكم: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذه الخلف عن السلف.
وعن الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير عن بشير بن نهيك عن بشير مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان اسمه في الجاهلية زحم بن معبد، فهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما اسمك؟» قال: زحم، فقال: «بل أنت بشير»، قال: بينما أنا أماشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبور المشركين فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا» ثلاثًا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا»، وحانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال: «يا صاحب السبتيتين ويحك، ألق سبتيتيك»، فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلعهما فرمى بهما، رواه أحمد وقال: إسناده جيد، وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه، والبيهقي وقال: هذا حديث قد رواه جماعة عن الأسود بن شيبان، ولا يعرف إلا بهذا الإسناد، وخالد وثَّقه النسائي وابن حبان، ولم يروِ عنه غير الأسود، والأسود روى له مسلم ووثَّقه ابن معين.
وعن أم عطية قالت: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يُعزَم علينا، متفق عليه."
يكفي يكفي.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص" يعني والده، "قال في مرضه الذي هلك" فيه، يعني الذي مات فيه وهلك ومات وتوفي بمعنى واحد، هذا في الأصل، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [سورة غافر:34]، جاء في القرآن في حق يوسف- عليه السلام-، وأهل العلم في الفرائض يقولون: هلك هالك وهو مسلم، والعرف عند المؤرخين أنهم لا يطلقون هذا اللفظ إلا في حق من لا تحمد سيرته، لا يطلقون هلك إلا في حق من لا تحمد سيرته، وهذا عرف خاص لا يمنع من إطلاقه على الأصل، ولذا قال: "أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه" يعني أباه، وسعد من العشرة المبشرين بالجنة معناه الذي مات فيه.
"قال: الحَدوا" أو أَلحِدوا بالوصل والقطع لحدًا، "الحدوا لي لحدًا"، واللحد هو الميل في أسفل القبر إلى جهة القبلة، تحفر الحفرة التي هي القبر بقدر الحاجة مما يمنع انبعاث الرائحة من القبر، ويمنع من الاعتداء على المقبور من السباع وشبهها بقدر الحاجة، ثم بعد ذلك في نهايته يحفر إلى جهة القبلة ما يكفي بدن الميت، يعني يمال بالقبر إلى جهة القبلة، واللحد والإلحاد هو الميل، هو الميل، فالملحد مائل زائغ عن الصراط المستقيم، واللحد هنا ميل إلى جهة القبلة عن سمت القبر.
"الحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللبِن نصبًا" معلوم أنه إذا كان القبر فيه لحد وفيه ميل إلى جهة القبلة فإن من مقتضى ذلك أن ينصب اللبن، يوقف إيقافًا، يكون اللبن منصوبًا لا مفروشًا بخلاف ما لو كان شقًّا، لو كان شقًّا في أسفل القبر يستوعب الميت، فإن اللبن حينئذ يكون مفروشًا على الميت في أسفل القبر، ليس معنى هذا أنه يضغط على الميت بهذا اللبن، لا، إنما يضجع الميت على جنبه الأيمن، ويوضع تحت رأسه شيء من المدر لَبِنة أو شبهها كالوسادة، ثم بعد ذلك يسد هذا اللحد بنصب اللبن عليه، لكن لو كان شقًّا لما أمكن نصب اللبن عليه، وإنما يفرش اللبن فرشًا.
"وانصبوا علي اللبن نصبًا كما صنع برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه أحمد ومسلم". الرسول -عليه الصلاة والسلام- لُحِدَ له في قبره، وجاء في خبر: «اللحد لنا، والشَّق لغيرنا»، مع أن الشَّق جائز، لكن اللحد أفضل منه؛ لأنه هكذا فُعِل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن الله ليختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل، لكن أحيانًا ظروف الأرض لا تسمح باللحد، لا تسمح باللحد إذا لُحد تهدَّم القبر، وحينئذ يعدل عنه إلى الشق بعض الأصناف أو بعض الجهات أو بعض الأراضي لا تحتمل إذا لحد فيها ينهدم ما فوقها بأنه إذا كانت رخوة فلا يمكن فيها اللحد، المسألة حاجة، والحاجة تقدر بقدرها، فإذا لم يمكن اللحد، وغاية ما يقال في الشق: إنه مكروه، وأجازه جمع من أهل العلم، وأهل العلم يقولون: إن الكراهة تزول بأدنى حاجة، الكراهة تزول بأدنى حاجة.
على كل حال صُنِع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، لحد له في قبره، ووضع -عليه الصلاة والسلام- جسده الطاهر في هذا اللحد، في هذا الميل إلى جهة القبلة، ونصب عليه اللبن، ثم إذا نصب اللبن تسد الخلل، الفتحات التي بين اللبن تسد بالكسر من الطين المتحجر مثل اللبن، يعني تكسر لبنة بقدر الحاجة، وتسد فيها هذه المنافذ، ثم بعد ذلك يسد بالطين؛ لئلا ينهال عليه التراب، لئلا ينهال عليه التراب، ثم بعد ذلك يهال عليه التراب، يهال عليه التراب، وهذه سنة إلهية بالنسبة للإنسان؛ حفظًا لكرامته حيًّا وميتًا، بخلاف غير المسلم، فإنه يلقى كالبهائم للسباع إذا تولاه أهله فهذا الأمر إليهم بأن دفنوه، لكن الدفن إنما هو للمسلمين، إنما هو للمسلمين، وهذا من أول الأمر في أول ميت من بني آدم {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ} [سورة المائدة:31] حفر له، ودفن، ثم بعد ذلك ابن آدم القاتل حفر لأخيه، ثم واراه في التراب.
هذا من كرامة الله -جل وعلا- للإنسان لاسيما المسلم الذي لا يُترَك {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [سورة عبس:21]، هذا امتنان على الإنسان، ولا يقول قائل: كيف تطيب نفس الإنسان المسلم أن يواري أخاه المسلم تحت التراب، وكذا هذه السنة الإلهية، وما البديل عن ذلك؟!
يعني قد يستغرب كيف تطيب نفوس الصحابة بأن واروا النبي -عليه الصلاة والسلام- أشرف الخلق وأكمل الخلق بالتراب ودفنوه، هذه سنة إلهية، هو لا يتضرر بذلك، بل هي كرامة له، لكن لا يجعل هذا التراب وهذا اللبِن يضغط عليه ويؤذيه، لا، يترك هناك فرصة بحيث لا يكون هناك أذى بالنسبة للميت وإلا لو كان الأمر لا إشكال فيه مسألة الضغط لما احتجنا إلى اللبن، واريناه بالتراب، وانتهى الإشكال، فالحديث فيه بيان على فضل اللحد، وأنه أولى وأفضل من الشق إلا إذا لم يمكن اللحد فإنه يعدل عنه.
وفيه أيضًا أن ما يتخذ من القبور على غير هذه الطريقة من التوابيت والصناديق وغيرها وفرش القبور وتزيين القبور وتطييبها، كل هذه بدع كما صنع برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال: "وعن معمر عن ثابت، عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا إسعاد في الإسلام، لا إسعاد في الإسلام»" الإسعاد أن تأتي المرأة إلى امرأة مصابة فتعينها على النياحة وعلى البكاء على الميت، كأن هذه عادة معروفة في الجاهلية، وهذا من باب التعاون بينهم، لكنه تعاون على الإثم والعدوان تسعدها، والإسعاد هذا إعانة لها على الباطل عن النياحة، وكان موجودًا في الجاهلية، فنفي في الإسلام لا إسعاد في الإسلام، والنفي هنا يراد منه النهي، فإذا كانت النائحة على ما سيأتي آثمة ومرتكبة كبيرة من كبائر الأمور ومن عظائم الأمور، فإن مَن يعينها على ذلك وييسر لها ذلك ويتيح لها مزاولة هذه الجريمة فإنه شريك لها في الإثم.
قال: «لا إسعاد في الإسلام ولا شغار» ولا شغار يعني في الإسلام، كان الواحد في الجاهلية يأتي إلى شخص فيقول: تزوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، ولا مهر بينهما بأن تكون كل واحدة منهما مهرًا للأخرى هذا الشغار، ولا يجوز، ونكاح باطل سمي شغارًا؛ لخلوه عن المهر، لخلوه عن المهر، والشيء الخالي الفارغ يقال له: شاغر، يعني هذا إعلان في الصحف وغيرها يهتم به كثير من الناس، يتابعون الصحف من أجله إذا أعلن عن وظائف شاغرة يعني خالية فارغة ممن يشغلها، هو من هذا الباب، ليس بينهما مهر، لكن قد يسمى مهرًا حيلة حيلة؛ ليُتَوصَّل بهذا المهر الصوري إلى هذا المحرم هذا النكاح الباطل، هذا النكاح المحرم، يقال: تزوجني ابنتك بكذا بمبلغ من المال بمائة ألف مثلاً، وأزوجك ابنتي بمائتي ألف فيعطيه المائة، ثم يردها عليه هذه حيلة مباحة أم محرمة؟
الحيل التي يتوصل بها إلى المحرم محرمة، وهذه حيل اليهود، هذه حيل اليهود، «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل»، هذه الحيلة التي يتوصل بها إلى محرم أو ترك واجب هذه محرمة، أما الحيل التي يتوصل بها إلى فعل واجب أو ترك محرم هذه حيل شرعية، هذه حيل شرعية؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [سورة النساء:98] المقيم بديار الكفر إذا استطاع الحيلة فإنها تلزمه على أي وجه كانت؛ لأنه يفر بذلك من محرم، وكذلك إذا منع من فعل واجب فتحايل على فعله وأمكنته الحيلة فإنها تلزمه هذه حيل شرعية، بخلاف الحيل التي يتوصل بها إلى إسقاط واجب أو فعل محرم فإن هذه حيل اليهود التي نهينا عن ارتكابها.
«ولا شغار ولا عقر» العقر الذبح عند القبور كما يفعله أهل الجاهلية قديمًا وحديثًا الذين يذبحون عند القبور للمقبورين الذين يعقرون لغير الله -جل وعلا- من الجن والشياطين يزعمون أنهم يكفون بذلك شرهم هذا الشرك، نسأل الله العافية {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام:162].
«لا عقر» طيب العقر الذبح، فهل المحظور الذبح أو مجرد التقريب ولو بلا ذبح؟ ذهب شخص مريض أو مسحور- نسأل الله السلامة والعافية- إلى ساحر فقال له: اذبح كبشًا، هذا لا إشكال في دخوله في المحرم، وأنه شرك بالله- جل وعلا-، لكن لو قال: أعطني كبشًا أجرة، ثم هو بطريقته يتولى ذبحها للشياطين أيضًا يدخل في ذلك ولو لم يوجد العقر، لكن الغالب هو الذبح، وعلى هذا لو تولى الذبح بنفسه أو تولاه غيره فالحكم واحد.
«ولا عقر في الإسلام، ولا جلَب في الإسلام» أو «لا جلْب في الإسلام، لا جلْب في الإسلام» جلْب الأصل أن السعاة يبعثون لجباية الزكاة من أرباب الأموال في أماكنهم وفي مواردهم، فإذا أمر الساعي أرباب الأموال أن يجلبوا أموالهم إلى مكان واحد تيسيرًا عليه فإن هذا لا يجوز، الأصل أن يذهب إلى أهل الأموال في أماكنهم، ويستلم منهم من أهل الإبل من أهل البقر من أهل الغنم، من أهل عروض التجارة، هذا الأصل أن السعاة يبعثون إلى أرباب الأموال، أما كون أرباب الأموال يكلَّفون بأن يحضروا مواشيهم إلى مكان معيَّن يفرضه الساعي أو يعينه الساعي بحيث يجلبون مواشيهم إلى هذا المكان فلا جلْب في الإسلام؛ لأن هذه الأموال تحتاج إلى مؤونة في نقلها من مكانها الأصلي إلى مكان آخر، لكن إذا تبرَّع صاحب المال، وقدم بزكاته على ولي الأمر وسلمها إليه فالأمر لا يعدوه، لكن يكلَّف بذلك؟ لا. لا جلب في الإسلام.
«ولا جنب في الإسلام، ولا جنب في الإسلام» في حال السباق الذي جاء الحث عليه؛ لأنه مما يعين في حال الجهال «ولا سبَق إلا في نصل أو خف أو حافر» يعني ما فيه سبَق إلا في هذه الأمور والمسابقات التي تجعل في غير هذه الأمور مما يعين على الجهاد لا أصل لها شرعًا، شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- توسع في مفهوم الجهاد، فجعل منه وفي حكمه السبَق في العلم.
على كل حال لا جنْب يعني أنت تسابق ما تجعل بجوار فرسك الذي تسابق عليه فرسًا آخر بحيث إذا تعب هذا الفرس ركبت الثاني.
«ومن انتهب فليس منا» من انتهب أخذ المال علانية بسرعة، هذه النهبة، «ولا ينتهب نهبة وهو مؤمن»، «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة حين ينتهبها وهو مؤمن» الانتهاب قد يقول قائل: مادام هذا ما فيه قطع، النهبة ما فيها قطع؛ لأنها ليست خفية، وليست من حرز، فما فيها من قطع فقد يستهين بها بعض الناس، يقول: لو كانت مثل السرقة لجعل فيها القطع هذه النهبة الأخذ علانية خطفًا بسرعة، هذه «لا ينتهب نهبة حين ينتهبها وهو مؤمن»، «ومن انتهب فليس منا» فليس منا من نصوص الوعيد لا يقتضي هذا التعبير أن يكون خارجًا عن دين الإسلام، لا، لا يكفر بذلك، لكن هذا من نصوص الوعيد التي تمر كما جاءت؛ لأنها أبلغ في الزجر، «ومن انتهب فليس منا».
"رواه" الإمامان "أحمد وإسحاق عن عبد الرزاق عنه" يعني عن معمر عن ثابت عن أنس، "وأبو داود وابن حبان وقال أبو حاتم: هذا الحديث منكر جدًّا"، مع أنه صححه غيره، مع أنه صححه غيره، "وقال الدارقطني: تفرد به معمر عن ثابت، وعند أبي داود قال عبد الرزاق" مفسرًا لجملة: لا عقر في الإسلام قال: "كانوا يعقرون عند المقبرة بقرة أو شاة، بقرة أو شاة" عند القبر وفي مواطن أخرى يحصل العقر والذبح لغير الله -جل وعلا- إذا نزل منزلاً جديدًا وعقر عقيرة من إبل أو بقر أو غنم للشياطين، أو دفعًا للعين، أو ما أشبه ذلك، كل هذا من الشرك، هذا من المنفي داخل في قوله: «لا عقر في الإسلام»، والعقر عند القبر لكثرته يقتصر بعض أهل العلم كعبد الرزاق في التنصيص عليه دون غيره، وهذا من التنصيص ببعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي تخصيصًا عند أهل العلم، حتى ولو كان من الشارع، حتى لو قال النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا يعقرون عند القبر أو لا عقر عند القبر أو غيره، {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [سورة الأنفال:60] في الحديث الصحيح: «ألا إن القوة الرمي»، يعني لا نستعد إلا بالرمي؟
لا، نستعد بكل ما يعين على هزيمة العدو.
قال- رحمه الله-: "وعن سعد بن سعيد عن عمرة عن عائشة" سعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ضعفه جمع من الحفاظ، وقال فيه ابن حجر: صدوق سيئ الحفظ، فالحديث فيه كلام بسببه؛ لكنه له ما يشهد له فيرتقي بذلك إلى درجة القبول.
"عن سعد بن سعيد عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- يقول في الحديث السابق قال أبو حاتم: هذا الحديث منكر جدًّا، هذا الحديث منكر جدًّا، لكن قبله غير أبي حاتم من أهل العلم والضياء المقدسي يقول الأئمة الذين رووه عن عبد الرزاق بعضهم أعلم من أبي حاتم، بعضهم أعلم من أبي حاتم، أبو حاتم إمام، إمام في هذا الشأن، فالتعبير بمثل هذا فيه ما فيه، يحتاج إلى إعادة صياغة، أعلم من أبي حاتم! يعني تنقيص من شأن أبي حاتم، أبو حاتم إمام، لكن لا يمنع أن يكون غيره أرجح منه بوصف أو بكثرة أو ما أشبه ذلك، فأين درجة الضياء المقدسي من درجة الإمام أبي حاتم؟
وعلى كل حال الحديث مقبول عند أهل العلم، قال الدارقطني: تفرد به معمر عن ثابت، وما يضيره إذا تفرد به معمر وهو ممن يُقبل تفرده.
قال بعد ذلك: "وعن سعد بن سعيد عن عمرة عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا، كسر عظم الميت ككسره حيًّا»" لا شك أن حرمة المسلم بعد وفاته كحرمته قبل وفاته، فإذا كسر منه شيء فكأنما كسر منه في حال الحياة، وإذا قطع منه شيء فكأنما قطع منه في حال الحياة، وهذا كما سيأتي في رواية ابن ماجه في الإثم، يعني لا في الضمان ونحوه، لا في الضمان، ولا في القصاص.
لو أن إنسانًا كسر عظم ميت يأثم إثمًا عظيمًا كأنما كسر عظم حي، لكن هل يضمّن أو يقتص منه؟
لا، ولذا قال: وزاد في الإثم، في آخر الحديث، يعني لا في الضمان، وبهذا نعلم أن الاعتداء على أي جزء من أجزاء الميت لا يملكه أحد كائنًا من كان، ولا الميت نفسه، كما أن الحي لا يملك من نفسه شيئًا فإن الميت لا يملك أحدٌ أن يتصرف فيه بشيء، وليس له أن يوصي بشيء من أجزائه ولا من أعضائه؛ لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا، يعني لو أن إنسانًا حيًّا قال لآخر: خذ السكين واقطع يدي، يجوز أن يقطع يده؟
لا يجوز؛ لأن هذا لا يملك، لا يملك شيئًا من بدنه، لو قال له: اقتلني وإلا قتلتك لا يجوز له أن يقتله بحال، ولا يملك نفسه، ولا شيئًا من نفسه، بهذا يُستدَل على منع التبرع بشيء من الأعضاء، بعض المجامع الفقهية أجازت التبرع بشروط، لكن حديث الباب يدل على أنه لا يُملَك، لا يملكه الميت نفسه، ولو أوصى بذلك، ولا يملكه أقرب الناس إليه لا والد ولا ولد، ولذا قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا»؛ لأنه قد يحتاج إلى شيء من الكسر إذا تصلَّب، تصلبت اليد أو الرجل أو ما أشبه ذلك، والمكان لا يسع، الذي يدفن فيه قد يحتاج إلى شيء من ذلك، لكن يعالَج بغير الكسر، يعالَج بغير الكسر من جهة المفاصل، أما كسر العظم المتصل فلا، ولا يكون ذلك على أي حال من الأحوال؛ لأنه قد تكون الأرض صلبة لا يمكن أن يزاد في القبر، ولا يوجد إلا هذا القبر، فيحتاج إلى شيء من بعض أجزاء الميت فيمكن أن يفعل به ذلك من جهة المفاصل مما لا يترتب عليه كسر.
"رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وحسنه ابن القطان، ووهم من عزاه إلى مسلم" الحديث ليس في مسلم، عند أحمد وأبي داود وابن ماجه ليس في صحيح مسلم.
"لكن رجاله رجال مسلم" يعني هؤلاء رووه من طريق رجال خرج لهم الإمام مسلم، وعلى هذا يصح أن يقال: إنه على شرط مسلم.
"وقد روي موقوفًا" روي الحديث موقوفًا، يعني على عائشة- رضي الله عنها-، لكن هل يمكن أن تقول عائشة هذا الكلام من تلقاء نفسها؟ ليس عندها خبر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فمن يحكم مثل هذا الحكم؟
هذا حكم شرعي مرده إلى الشرع، فالموقوف لا يعارِض المرفوع، وقد جاء التصريح برفعه من طريق رجال خرج لهم الإمام مسلم.
وعلى كل حال الحديث صحيح مرفوعًا، "ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وحسنه ابن أبي عاصم من رواية حارثة عن عمرة، من رواية حارثة عن عمرة" حارثة متابِع لسعد بن سعيد الذي فيه الكلام، وبهذه المتابعة يرتفع ما رُمي به سعد بن سعيد من سوء الحفظ، يعني يغلب على الظن أنه ضبط الخبر؛ لوجود من يوافقه على روايته.
"ورواه البيهقي من رواية سفيان عن يحيى بن سعيد عن عمرة" سفيان عن يحيى بن سعيد عن عمرة، يعني يحيى بن سعيد الأنصاري تابع أخاه سعد بن سعيد، وبهذه المتابعات يرتقي الخبر إلى درجة الصحة، قال: "ورواه ابن ماجه من حديث أم سلمة" ما سبق كله متابعات لسعد بن سعيد، وهذا شاهد لحديث عائشة من حديث أم سلمة- رضي الله عنها- فالحديث بشاهده ومتابعاته يصل إلى درجة الصحيح.
"وزاد: في الإثم، في الإثم" وسبق أن بينا أن الحكم المذكور في الحديث من حيث الإثم الذي يصنع بالميت يأثم كما يأثم إذا صنع في الحي، لكنه لا يضمن أرشًا ولا حكومة ولا قصاصًا. قال- رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- قال: دفن مع أبي" عبد الله بن عمرو بن حرام الذي قتل شهيدًا في غزوة أحد، قال: "دفن مع أبي رجل" النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يجمع الرجلين في الكفن الواحد، وفي القبر الواحد، وقد يحتاج إلى أكثر من ذلك، فكان ممن جمع معه غيره عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله "دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته"، يعني سنحت الفرصة أن يحفر له قبرًا مستقلاًّ، ويخرج من قبره الذي جمع فيه معه غيره بعد ستة أشهر، بعد ستة أشهر.
قال: "فلم تطب نفسي حتى أخرجته، فجعلته في قبر على حدة، على حدة" يعني مستقلاًّ، "وفي لفظ: فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيومَ وضعته"، كيومَ وضعته، كيومَ أم كيومِ؟
طالب: .........
ماذا؟
طالب: ........
بالفتح لماذا؟
طالب: .........
نعم، أضيف إلى جملة صدرها مبني رجع من ذنوبه «كيومَ ولدته أمه، فإذا أضيف الظرف إلى جملة صدرها مبني فإنه يبنى على الفتح، بخلاف ما إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب فإنه يعرب حينئذ؛ {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ} [سورة المائدة:119] نعم صدرها معرب يعرب، أما إذا كان صدرها مبنيًّا فيبنى.
"كيومَ وضعته هُنَيَّة غير أذنه" يعني في أذنه تأثر يسير جدًّا.
"رواه البخاري، ولأبي داود: فما أنكرت منه شيئًا" لأنه شهيد، وهو حي في قبره حياة برزخية، الله أعلم بها، ليست كحياة الأحياء الذين يأكلون ويشربون ويتكلمون، لكن الله أثبت لهم الحياة، وهذه الحياة لا تشبه حياة من روحه في جسده، وإنما هي حياة الله أعلم بكيفيتها، ومن آثار هذه الحياة بقاء الجسم كما هنا قال: "ولأبي داود: فما أنكرت منه شيئًا إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض"، وهو على جنبه الأيمن، ويلي الأرض، يعني إذا وضع تحت رأسه لبِنة أو ما أشبه ذلك لا شك أنها قد تؤثِّر كما تؤثر في الحي.
"إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض" وإلا بقية بدنه كما هو، يعني ما تغير منه شيء، وجاء في بعض الأخبار أنهم احتاجوا إلى أرض في عهد الصحابة، أو خشوا على المقبورين أن يتأثروا بنداوة الأرض كما في بعض الأخبار الأخرى، فأصابت المسحاة رجلًا واحدًا منهم، فسال الدم منه، هذا من كرامة الله -جل وعلا- لبعض عباده الصالحين، وحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء بلا شك، ومع ذلك ليست هي كحياة من روحه في جسده.
"وعن القاسم قال: دخلت على عائشة"، القاسم بن محمد بن أبي بكر، دخلت على، القاسم بن محمد تكون عائشة عمته، "قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: يا أمه، فقلت: يا أمه" عائشة أم المؤمنين، وهو واحد منهم، {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [سورة الأحزاب:6]، "فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه"؛ لأنهم في بيتها دفنوا، "اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفه ولا لاطئة" يعني ليست مرتفعة، وليست مستوية مع الأرض، المشرف المرتفع، واللاطئ المستوي مع الأرض، فيكون مستوى القبر أقل من المشرف وفوق اللاطئ؛ لأنه إذا كان مشرفًا افتُتِن به، ولذا يقول علي لأبي الهيَّاج: أبعثك على ما بعثني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، واللاطئ الذي لا بروز له ولا ظهور عن مستوى سطح الأرض، عرضة لأن يداس ويوطأ ويمتهن، ولا يعرف أنه قبر، إنما يكون الأمر وسطًا بحيث يعرف أنه قبر فلا يمتهن، ولا يوطأ، ولا يداس، ولا يجلس عليه، ولا يكون مشرفًا يفتتن به وحده، فقدره أهل العلم بقدر الشبر.
"لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء يعني مجللة بالبطحاء، مجللة يعني وضع عليه شيء من البطحاء، وليس معنى مبطوحة يعني مسطوحة كذا، إنما هي مسنَّمة كما في حديث سفيان التمَّار عند البخاري قال: رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنَّمًا، رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنَّمًا، يعني محدَّبًا، وهنا مبطوحة ليس معنى مبطوحة يعني مسطوحة، إنما وضع عليها شيء من البطحاء، وهذا لا يكون فيه اختلاف بين هذا الحديث وبين حديث سفيان التمَّار.
"رواه أبو داود والبيهقي والحاكم في مستدركه بزيادة: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدَّما"، يعني إلى جهة القبلة مقدمًا إلى جهة القبلة، وهكذا يفعل عند الصلاة وعند الدفن يقدَّم الأفضل، يقدَّم الأفضل بالنسبة للصلاة، يقدم إلى الإمام، وبالنسبة للدفن يُنظَر الأفضل، والتفضيل كما تقدم يكون بالأكثرية أخذًا للقرآن، وهنا يقول: "فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدَّمًا، وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم"-، يعني أنزل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، "وعمر رأسه عند رجلي النبي -صلى الله عليه وسلم"-، يعني يعادل وسط أبي بكر- رضي الله عنه-، هم على هذه الكيفية، والصور التي تذكر على ألسنة الرواة في كيفية قبورهم مذكورة في تواريخ المدينة، يعني ذكرها ابن شبة، وذكرها بالتصوير صاحب وفاء الوفاء، ما هو تصوير دقيق، إنما يصور القبور.
"وقال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، صحيح الإسناد ولم يخرجاه" البيهقي له كلام، البيهقي قال: إنه أصح من حديث سفيان التمَّار، طيب حديث سفيان التمار في صحيح البخاري، وهذا ليس في شيء، وهذا إيش؟
حديث القاسم فيه ضعف أيضًا، حديث القاسم فيه ضعف عند أهل العلم، وسبب التضعيف مخالفته لما في صحيح البخاري، لكن يمكن الجمع بينه وبين ما في صحيح البخاري فيرتفع التضعيف؛ لأن قوله: مبطوحة فهم منه بعضهم أنها مسطحة، فهو مخالف لما في صحيح البخاري أنها مسنمة، يعني محدبة، فضعف لمخالفته لما في صحيح البخاري، لكن إذا أمكن التوفيق بينهما وارتفعت هذه المخالفة فلا مانع من إثباته، البيهقي قال: إنه أصح من حديث سفيان التمار، وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي على سنن البيهقي بقوله: هذا خلاف اصطلاح أهل هذا الشأن، بل حديث التمار أصح؛ لأنه مخرج في صحيح البخاري، وحديث القاسم لم يخرَّج في شيء من الصحيح. لكن إذا أمكن الجمع فلا منافاة بين الحديثين، ولا مانع من أن يُثبَت الحديثان.
"وقال البيهقي: وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح وأولى من أن يكون محفوظًا" يعني من حديث سفيان التمار، وهذه زلة من الإمام البيهقي- رحمه الله تعالى-، كيف يرجِّح ما لم يروه البخاري ولا مسلم على ما رواه البخاري وخرجه في صحيحه، هذا على خلاف ما اتفق عليه أهل العلم من أن ما في الصحيحين أصح مما في سواهما.
قال -رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجَصَّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه" تقدم حديث أبي مرثد الغنوي: لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها، ولا تجلسوا عليها، وتقدم ما في قوله: لا تجلسوا عليها، وأن معناه عند الجمهور القعود، مجرد القعود منهي عنه، لماذا؟ لأنه امتهان، وحرمة الميت كحرمة الحي، والإمام مالك -رحمه الله- يرى أن المراد بالقعود هنا القعود لقضاء الحاجة، القعود لقضاء الحاجة، هذا تقدم في حديث أبي مرثد، لكنه خلاف الظاهر، هذا حمل القعود على القعود لقضاء الحاجة، لا شك أنه خلاف الظاهر، وأن المراد به مجرد الجلوس، وهذا ما فهمه جمهور أهل العلم.
قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر" يعني يطلى بالجص، وفي حكمه ما يقوم مقامه من الإسمنت والرخام وغير ذلك من الأحجار؛ لئلا يفتتن به، يترك كما كان في صدر هذه الأمة، يحفر القبر ويكون التراب بجواره، فإذا ما دفن الميت أهيل عليه ذلك التراب، ويكون القدر الزائد من التراب؛ لأنه سوف يزيد التراب؛ لأن الزيادة هذه في مقابل جسد الميت واللبِن توضع على القبر ليرتفع عن مستوى الأرض، هذه طريقة الصحابة، وهذا ما فعل به -عليه الصلاة والسلام-، ولذا نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، والأصل في النهي التحريم، الأصل في النهي التحريم، ووقع فآم من هذه الأمة فيما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزادوا على ذلك، بل بنوا على القبور المشاهد، بل بنوا عليها المساجد، فأشبهوا اليهود والنصارى الذين لعنهم النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وقلدهم وشابههم جمع غفير من هذه الأمة، نسأل الله السلامة والعافية، فوقعوا فيما حذر منه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولعن فاعله.
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر يعني من باب أولى إذا فعل به ما هو أعظم من ذلك بأن شيدت عليه الأبنية، وبنيت عليه المساجد، وزخرفت القبور كما هو حاصل، وكتب عليها المراثي، بل وجد من القبور ما يكسى بالذهب، نسأل السلامة والعافية، كل هذا مما يفتن المسلمين بأن يأتي من يأتي أنه ما فعل به هذا دون غيره إلا لأنه ولي من أولياء الله، ثم يتبع ذلك التبرك بقبر هذا الولي، ثم يتلو ذلك الدعاء عنده، وظن الإجابة، دعاء الداعي عند قبر هذا الميت، ثم يتجاوز الأمر ذلك إلى دعاء الميت، فيقع في الشرك الأكبر، وهذا حاصل، نسأل الله السلامة والعافية.
فحماية جناب التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك هذا ما جاءت به الشريعة، ولذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، هذا مثل ما جاء في حديث أبي مرثد: ولا تجلسوا عليها، مجرد القعود على القبر حرام؛ «لأن يقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتلخص إلى جلده فتحرقه خير له من أن يجلس على قبر، خير له من أن يجلس على قبر».
يذكر عن ابن عمر أنه كان ينام على القبر ويضطجع عليه، لكن هذا إن صح عن ابن عمر فإنه لا يقابَل به ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.
"وأن يبنى عليه" أيضًا نهى أن يبنى على القبور مما يكون وسيلة إلى الشرك بهذا المقبور، وقد وقع الأمر كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لا تقوم الساعة حتى يعبد فآم من أمتي الأوثان، وهذا ما حصل في كثير من أقطار المسلمين، تجد القبور في المساجد، ويصرف لها من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله- جل وعلا- ما هو معلَن وغير خفي في كثير من الأقطار، وقد يقام الضريح الكبير، نسأل الله السلامة والعافية على شعرة، وفي المشرق ضريح من أكبر الأضرحة في العالَم اسمه ضريح الشعرة، يزعمون أن في هذا المكان شعرة من شعرات عبد القادر الجيلاني، وهناك السدنة، وهناك من يطوف، وهناك من يبيع الماء الذي يدخل من تحت الضريح ويخرج من الجهة الأخرى، حتى التراب يباع هناك، ولا شك أن هذا خلل كبير منافٍ للتوحيد، صرف شيء من أنواع العبادة لأحد من الخلق هذا لا شك أنه من الشرك، نسأل الله السلامة والعافية، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بمثل هذا الحديث يسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك، ويحمي بذلك جناب التوحيد.
"رواه مسلم.
وروى أبو داود والحاكم: وأن يُكتب عليه، وأن يُكتَب عليه"، يُكتَب، ومن نظر إلى القبور في كثير من البقاع وجدهم يجعلون بجوارها ألواحًا من الرخام أو من غيرها، ويكتبون فيها معلومات ترجمة لهذا الميت، ويعدون بعض محاسنهن وهذا داخل في المنهي عنه، والأصل في النهي التحريم، الحاكم له كلام، الحاكم أبو عبد الله النيسابوري صاحب المستدرك له كلام.
"قال: هذه الأسانيد صحيحة، هذه الأسانيد صحيحة"؛ لأنها في مسلم، "هذه الأسانيد صحيحة"، قال: "وليس العمل عليها؛ فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذه الخلف عن السلف" هل هذا مسلَّم؟ هل العبرة بما يوجد؟ هل العبرة بما يوجَد أو العبرة بما ثبت عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-؟ الحافظ الذهبي رد على الحاكم وقال: إنه ما أتى بطائل، لم يأتِ بطائل، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم ممن لم يبلغهم النهي، يعني هذا إحسان ظن بمن فعله من التابعين، أما من أشربت قلوبهم حب البدع فمثل هؤلاء لا عبرة بهم، وقد صنف بعض المغاربة كتابًا أسماه بناء المشاهد والمساجد على القبور، ويرى هذا الرأي وقال مثل ما قال الحاكم هنا، في مقدمته أورد تساؤلاً: هل البناء على القبور، هل البناء على القبور بدعة محرَّمة، كما يقوله- يسمي الوهابية يقول: أو أنه بدعة... توارثها الخلف عن السلف؟ يتوارثون بدعة جاءت النصوص بخلافها والنهي عنها والتحذير منها، وحينئذ تكون حسنة عنده، هذه محادّة للنص، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «كل بدعة ضلالة، كل بدعة ضلالة».
على كل حال الحافظ الذهبي -رحمه الله- رد على الحاكم، وأنه لا يُعرَف أحد من الصحابة فعل ذلك فضلاً عن أن يوجد فيما يرفع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما يدل على ذل، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين، وتابعه عليه غيرهم ممن لم يبلغهم النهي، وهذه المسألة من عظائم الأمور التي وقع فيها كثير من المسلمين، وترتب عليها تضييع لكثير من أصول الدين؛ لأن هذه مناقضة، ما أُحدِث بدعة إلا وقد ضُيِّع بسبب ذلك سنة، ويكفي أن ننظر في الرحلات التي يكتبها الرحَّالون، ويصفون ما يحصل حول هذه المشاهد وحول هذه المساجد، وحول هذه القبور المشيَّدة.
يعني من أراد أن يمثل لجميع ما ذكره الإمام المجدد في كتاب التوحيد مما يخل بالتوحيد فلينظر في رحلة ابن بطوطة، فما يدخل بلدًا إلا ويسأل عن هذه القبور وهذه المشاهد وهذه المعابد التي يزاول فيها الشرك، ويصف ما يحصل بدقة ويقصد، قبرًا ينسب إلى نبي أو رجل صالح على رأس جبل شاهق يستغرق منه الوقت الطويل في الصعود والمكث عنده، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا شك أن هذا خلل في جناب توحيد الألوهية، وإذا أردت أن تستدل لجميع الأبواب التي ذكرها الإمام المجدد فما عليك إلا أن تقرأ هذه الرحلة وهو مغرَم بهذه المشاهِد، يتتبعها ويسأل عنها، بل أول ما يسأل إذا دخل أي بلد من البلدان عنها، ويحرص على لقاء بعض من تُدَّعَى لهم الولاية، بعض من تُدَّعَى لهم الولاية.
وذكر أنه وجد في مكان شديد البرد، فأعطاه شخصٌ جبَّة فلبسها، ثم زار شخصًا تدعى له الولاية فقال له: أهذه جبة فلان؟ هو لا يعرفه، من بلد آخر، يدعي بذلك علم الغيب، نسأل الله السلامة والعافية، ولا يمنع أن يكون له أعوان من شياطين الجن يخبرونه بذلك؛ فتنة له ولغيره به، يقول: وانتقل إلى بلد فالتقى بولي تدعى فيه الولاية، آخر فقال له: يا فلان- هذا في رحلة ابن بطوطة- يا فلان أتعجب من فلان الذي أخبرك بصاحب الجبة، فإنه أحد الأقطاب الذين يدبرون الكون، نسأل الله السلامة والعافية!
يعني الاستدراج قد يكون مثلاً هذا قبر مجصص، وعليه رخامة أو شيء من ذلك، ثم بعد ذلك يتردد عليه، وينتهي هذا الجيل، يأتي جيل آخر يقولون: ما فعل به هذا إلا لأنه أو لأنه، ثم يستدرجون إلى أن يصل الحد إلى هذا، إلى أن يصل الحد أن يدعى في شخص لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا أنه يدبِّر الكون، إثبات إله مع الله -جل وعلا- هذ هو الشرك الأكبر، يعني إذا لم يكن هذا هو الشرك فما على وجه الأرض شرك.
قال: "وعن الأسود بن شيبان، عن خالد بن شمير، عن بشير بن نهيك، عن بشير مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان اسمه زحم، عن بشير مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان اسمه في الجاهلية زحم بن معبد".
زحم، الزحام والتضييق هذا غير مطلوب، مثل حزن، الحزونة ليست مطلوبة، النبي -عليه الصلاة والسلام- يغير الأسماء التي فيها معنى مكروه، الزحام مكروه، زحم بن معبد.
"فهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما اسمك؟» قال: زحم" يعني تعجب من بعض الأسماء، العرب كثير منهم مغرَم بهذه الأسماء، بعضها قبيح بأسماء الحشرات، بأسماء الحيوانات، بأسماء أمور قبيحة، وتجدهم يسمون بها، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- يغير هذه الأسماء سواء كانت قبيحة أو كانت تدل على شيء من التزكية للنفس.
"فقال: «ما اسمك؟» قال: زحم، قال: «بل أنت بشير»"، وما أحسن هذا الاسم، البشارة بما يسر قال: أنت بشير، "قال: بينما أنا أمشي أو أماشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- يعني يمشي معه، "مر بقبور المشركين فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا»، يعني فاتهم خير كثير بعدم إسلامهم، وبشركهم بالله -جل وعلا-، وأي شر أعظم مما ينتظره المشرك! وأي خير أدركه هذا المشرك! نسأل الله العافية، لم يدرك شيئًا.
«لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا» يعني فاتهم كثير، فاتهم الخير كله؛ لأن ما أدركوه مما يمكن أن يقال له: خير فهو لا شيء بالنسبة لما ينتظر المسلم من خير، ولذا جاء في الحديث أنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيُغمَس في النار غمسة واحدة فيقال له: هل رأيت خيرًا قط قال: لا والله، وطول حياته مائة سنة في النعيم في الدنيا، لكن الدنيا كلها لا شيء بالنسبة للآخرة، ويؤتى بأبعس وأتعس شخص في الدنيا فيغمس في الجنة وفي أنهار الجنة فيقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله؛ لأن الدنيا كلها بالنسبة للآخرة ليست بشيء.
"قال: بينما أنا أماشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبور المشركين فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا» ثلاثًا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا»"، أدرك المسلمون خيرًا كثيرًا، وأدركوا الخير الكثير في الدنيا، وفات المشركين الخير الكثير في الدنيا، وإن تنعموا ظاهرًا فإنهم في حقيقة الأمر في عذاب، بخلاف المؤمن، وإن اشتدت عليه الأمور في الدنيا فإنه في نعيم لا يدركه إلا مثله، والنعيم يتحقق بالمسلم بقدر ما معه من علم وعمل، حتى قال بعضهم، شيخ الإسلام وغيره يقول: نحن في جنة، أو في الدنيا جنة من لم يدخلها في الدنيا لم يدخلها في الآخرة، يعني من لم يتلذذ بإيمانه وعلمه وعمله فهذا فيه نظر، يحتاج إلى إعادة نظر في قلبه وفي علمه وفي عمله.
ويقول بعضهم: إننا في نعمة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، وأي نعيم من أن يمثل الرجل بين يدي ربه -جل وعلا- في ركعتين في جوف الليل يناجيه بهما بحضور قلب وانكسار وذل وانطراح بين يدي الله -جل وعلا-؟ هذا نعيم لا يدركه كل أحد، وأي نعم يدركه من يتلو كتاب الله على الوجه المأمور به، أو يذكر الله -جل وعلا- خاليًا فتفيض عيناه بالدموع! هذا نعيم الدنيا، أما الحطام الفاني فمهما بلغ فإنه زبد في الغالب يكون وبالاً على صاحبه، يشقى به جمعًا ويصلى به لظى، نعم هناك من يجمع الأموال من وجوهها الشرعية، وينفقها في وجوهها الشرعية، هذا على خير، إن شاء الله، لكن الغالب أنه لا يمكن الخلاص من الأموال لاسيما إذا كثرت.
"ثم مر بقبور المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا»"، أولئك يعذبون في قبورهم، وهؤلاء ينعمون في قبورهم، القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
"وحانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرة" التفت بسرعة، نظر عن يمينه أو شماله "فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان" يعني بين القبور، بين القبور يمشي عليه نعلان سِبتيتان، منسوبة إلى السِّبت، وهو الحَلْق، يعني نعال من أدم ليس عليها شعر، السَّبت والسِّبت هو التحليق، وجاء في وصف الخوارج أن سيماهم التسبيت، يعني حلق الشعر فقال: «يا صاحب السبتيتين ويحك» كلمة عذاب ويح وويل، «ويحك ألقِ سبتيتيك»، حينئذ لا يجوز المشي بين القبور فضلاً عن أن يمشى على القبور بنعال وبدون نعال، لكن بين القبور لا يجوز المشي بالنعال، وجمهور أهل العلم يطلقون الكراهة، يطلقون الكراهة، وعندهم القاعدة أن الكراهة تزول بأدنى حاجة، يعني إذا وجد حر شدي، أو برد شديد، أو شوك مؤذٍ عندهم فلا مانع أن يمشى بين القبور بالنعال عند الحاجة إلى ذلك.
وعلى كل حال قوله: «ألق سبتيتيك» يدل على الوجوب، فيحتاط لمثل هذا أشد الاحتياط؛ لئلا يخالف الأمر النبوي، وفي حكم السبتيتين جميع أنواع النعال والخفاف من باب أولى؛ لأنه ليس لذات السبتيتين خصيصة يعلق بها الحكم، وإن زعم ابن حزم أن الحكم خاص بها فليمش بين القبور بما شاء من نعال وما شاء من خفاف غير السبتيتين، وهذا لا يقوم بظاهريته، أما الأكثر فعلى أنه لا فرق بين النعال السبتية وغيرها من النعال.
"فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلعهما فرمى بهما" امتثل فورًا، امتثل الأمر النبوي -عليه الصلاة والسلام-، أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، فألقى، وهذه طريقة الصحابة رجالاً ونساءً يبادرون بالامتثال ليس لهم خِيَرة إذا جاء الأمر أو النهي عن الله وعن رسوله ليس لأحد خيرة، ما يقول: أنظر في أمري هل يناسبني أو لا يناسبني، لا، يعني على المأمور من قبل الله -جل وعلا- أو المنهي سرعة المبادرة، والإنسان قد يمتثل، لكن فرق بين من يمتثل فورًا وبين من يتردد.
إبراهيم -عليه السلام- لما أُمر بذبح ابنه تله للجبين بدون تردد، وهو الولد، بكره، ليس عنده غيره أمر بذبحه فتله للجبين فيه سرعة امتثال أم ما فيه؟ وأمة قاهرة بكاملها تؤمر بذبح بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون، يعني فرق بين امتثال وبين امتثال، هؤلاء فعلوا، لكن بعد إيش؟! وهي بقرة، يعني لو جزئت على هذه الأمة يمكن ولا دانق يكون نصيب الواحد منهم، لكنهم شددوا فشدد عليهم.
فعلى الإنسان أن يبادر بالامتثال، يبادر بالامتثال إذا أمر ما يتردد ولا يتلون ولا يتريث ولا ينظر في الأعذار، ولا ينظر في مسببات الأمر، ولعل الأمر فيه قيد أو فيه شيء لا يشملني أو كذا، يبادر.
قال: "رواه أحمد وقال: إسناده جيد، وأبو داود وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه، وقال البيهقي: وقال هذا حديث قد رواه جماعة عن الأسود بن شيبان، ولا يعرف إلا بهذا الإسناد، وخالد وثقه النسائي وابن حبان، ولم يرو عنه غير الأسود".
يعني هل من مقتضى تفرد الأسود بالرواية عنه أن يكون مجهول العين، مجهول العين هو المقل في الرواية بحيث لا يروي عنه إلا واحد، لكن هذا وثق، وثقه النسائي وهو متشدد في التوثيق، ووثقه ابن حبان وقد قيل في توثيقه ما قيل، على كل حال الرجل مادام وثق فلا يمكن أن يقال: إنه مجهول.
"والأسود روى له مسلم، وثقه ابن معين".
قال- رحمه الله-: "وعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا"، نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا، أم عطية هي التي سبق ذكرها في غسل ابنة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
نهينا، والصحابي إذا قال: أمرنا أو نهينا فلا ينصرف إلا إلى من له الأمر والنهي، وهو الرسول- عليه الصلاة والسلام-، ولا يُظَن بأم عطية أن تقول: أمرنا أو نهينا والمراد بذلك أبو بكر أو عمر فضلاً عن غيرهما من الصحابة، فالآمر والناهي هو النبي -عليه الصلاة والسلام- لاسيما إذا كان الأمر والنهي في الأحكام الشرعية، مثل هذا في حكم شرعي فإنه لا ينصرف إلا لمن له الأمر والنهي.
وجاء في بعض الروايات: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ لا خلاف في كونه مرفوعًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا يظن بأم عطية أن تقول أمرنا أو نهينا والمراد بذلك أبو بكر أو عمر فضلاً عن غيرهما من الصحابة، فالآمر والناهي هو النبي -عليه الصلاة والسلام- لاسيما إذا كان الأمر والنهي في الأحكام الشرعية مثل هذا في حكم شرعي فإنه لا ينصرف إلا لمن له الأمر والنهي، وجاء في بعض الروايات: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ لا خلاف في كونه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ للتصريح بالآمر. يعني إذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» أو «نهيت عن قتل المصلي» فمن الآمر والناهي له؟
هو الله -جل وعلا-.
الصحابي إذا قال: أمرت أو نهيت أو أمرنا أو نهينا فالآمر والناهي هو النبي -عليه الصلاة والسلام-، فحكمه الرفع عند جمهور أهل العلم، خالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني وبعض الأصوليين، لكن لا عبرة بخلافهم، فعامة أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم على أنه مرفوع، أما إذا صرح بالآمر فقال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا مرفوع اتفاقًا، لكن يبقى في دلالة هذا التعبير من الصحابي عن الأمر والنهي الصحابي ما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا، إنما قال: أمرنا رسول الله، أو نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجماهير أهل العلم على أنه بمثابة الأمر الصريح والنهي الصريح، كأن الصحابي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- افعلوا كذا، أو اتبعوا الجنائز، وخالف في هذا داود الظاهري وبعض المتكلمين قالوا: لا يكون له حكم الرفع حتى أو لا يدل على الوجوب كالأمر الصريح والنهي الصريح إلا إذا ساق اللفظ النبوي، قال: لأنه قد يسمع من النبي -عليه الصلاة والسلام- كلامًا يظنه أمرًا أو نهيًا وهو في الحقيقة ليس بأمر ولا نهي.
لكن هذا الكلام باطل؛ لأن الصحابة إذا ما عرفوا مدلولات الألفاظ الشرعية فمن يعرفها بعدهم؟ إذا ما عرف الصحابي حقيقة الأمر وحقيقة النهي فلا يظن في أحد من الأمة يأتي بعدهم بعد أن اختلطوا بغيرهم، وتأثرت لغاتهم، أن يفهموا هذه المدلولات الشرعية بعد الصحابة، فالقول مردود. نهينا عن اتباع الجنائز، نهينا عن اتباع الجنائز، وتعني بذلك النساء، نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- في أول الأمر عن زيارة القبور، ثم جاء الإذن في ذلك، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة»، فزوروها هذا يشمل الرجال والنساء، لكن قول أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز يخرج النساء عن قوله: فزوروها، وجاء اللعن؛ «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج»، هذا لعن، نسأل الله السلامة والعافية، فأم عطية تقول عن اتباع الجنائز نعم ثبت النهي عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنهي الأصل فيه التحريم.
وأما قولها: ولم يُعزم علينا فهذا فهمها- رضي الله عنها وأرضاها-، وإذا اقترن هذا باللعن لعن الله زوارات القبور، والعلة ظاهرة أن النساء لا يتحملن مثل هذه المناظر والمشاهد، بل فيهن من الضعف والجزع ما لا يوجد عند الرجال، فخص الرجال بزيارة القبور واتباع الجنائز، وأما قولها: ولم يعزم علينا فهذا من فهمها -رضي الله عنها وأرضاها- والحديث في الصحيحين "متفق عليه".
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
"