كتاب الديات من المحرر في الحديث - 06
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
ففي آخر الدرس الماضي، وفي حديث عكرمة قال:
"حدثنا ابن عباس أن أعمىً كانت له أم ولدٍ تشتم النَّبي –صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كانت ذات ليلةٍ جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه، فأخذ الِمغْوَل..
"المِغوَل" بالمعجمة -كما يقول المؤلف- والأكثر على أنه بالمهملة وهو المِعوَل، والمِعوَل بالعين المهملة، كما قال أكثر الشراح: حديدةٌ، قالوا: يُنقر بها الجبل أو الجبال والأشياء الصلبة.
وفي آخر سورة المُلك ذكر الشُّراح عند قوله -جلَّ وعلا-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] قال بعضهم معترضًا على هذا: تأتي به الفؤوس والمعَاول، فغارت عيناه، وهذا من العقوبات المُعجلة على من يعترض على الله وعلى رسوله، وعلى كتاب الله وسُنَّة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
وذكر العلماء من هذا النوع أشياء: كمن جعل السواك في دبره، فقالوا: إنه حمل بقطعة لحمٍ وضعها بعد تسعة أشهر، بعد ألآمٍ شديدةٍ طيلة هذه التسعة الأشهر؛ لأنه استهزأ بالسُّنَّة.
والذي وضع في نعليه المسامير، وقيل له: لماذا؟ قال: أريد أن أطأ أجنحة الملائكة في حديث «تَحُفُّهمْ الْمَلَائِكَةَ بِأَجْنِحَتِهِا» يعني: طلبة العلم، قال: يُريد أن يطأ أجنحة الملائكة بهذه المسامير، ما الذي حصل؟ أنه ساخت به الأرض، فخُسِف به.
وذكروا من ذلك أشياء كلها تدل مع ما جاء وليست بمفردها يُستدل بها أو يؤخذ منها أحكام، إلا أن الأصل ما جاء عن الله وعن رسوله –عليه الصلاة والسلام-، وهذه عقوبات مُعجّلة، وما ينتظرهم في الآخرة أعظم؛ لأن الاعتراض على الله وعلى رسوله أمره عظيم وشأنه خطير.
"قال: فأخذ المغول" على رأي المؤلف؛ لأنه يقول: المِغوَل بالمعجمة، كما سيأتي بكلام الخطابي.
"فوضعه في بطنها واتكأ عليها" يعني: جعل ثِقله على هذا المغول، حتى نفذ فيها، فنفذ في بطنها. "اتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل"، ولها من هذا من الأعمى ولدان، كما سيأتي، وهذا الطفل الثالث.
"فلطخت ما هناك بالدم" معلوم أنه إذا نزل الطفل من بطن أمه تصحبه الدماء، وأيضًا ما خرج منها بسبب الجرح الذي نشأ عن هذا المعول.
"فلما أصبح ذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس" ذُكِرت القصة، وأن رجلًا قتل جاريته.
"فلما أصبح ذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس، فقال: «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»" وما مِن مسلم إلا وللرسول –عليه الصلاة والسلام- حق عليه حق، فتجب إجابته. "فقام الأعمى يتخطى رقاب الناس وهو يتزلزل" يعني يتمايل، ويضطرب في مشيه؛ هيبةً للنبي –عليه الصلاة والسلام- إضافةً إلى ما يتصف به من العمى، والهيبة للنبي– عليه الصلاة والسلام- أنه جُعِل الرُّعب بينه وبين عدوه مسيرة شهر.
وكل من له نصيب من إرث النبوة من علمٍ وعمل يكون له نصيبٌ من هذا الرُّعب، وهذه الهيية، وهذا شيءٌ مُشاهد، ورأيناه كثيرًا في العلماء الذين اتصفوا بالعلم النافع، والإخلاص في علمهم وعملهم، فتصير لهم هيبة، وقد يكونون من أضعف الناس، قد يكونون من العميان أيضًا، فإذا دخل عليهم من يُريد سؤالهم، أو يُريد منهم شيئًا أضاع نصف ما كان يُريد أو أكثر.
"حتى قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها" يعني: جارية لي، وأنا الذي قتلتها، ثُم بيَّن السبب.
"كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين" يعني: في جمالهما. "وكانت بي رفيقة" يعني كون هذه الجارية لها أولاد من هذا الأعمى، وهو بحاجة إلى رعايته أولاً؛ لأنه أعمى، وإلى رعاية أولاده وحضانتهم، هذا كله يجعله يتساهل في أمرها، لكنه غيرةً لله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- أقدم إلى ما فعل تاركًا وراء ظهره كل المصالح المترتبة على وجودها.
"وكانت بي رفيقة" يعني: لا يُظن أنه قتلها تشفيًا، أو لأنه قد يجد أفضل منها لا. "وكانت بي رفيقة، فلمَّا كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المِغَول" على رأي المؤلف، وبعض الشراح، والمعول على رأي الأكثر.
"فوضعته في بطنها" كأنها كانت مستلقية نائمة.
"فوضعته في بطنها، واتكأت عليها، حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»"؛ بسبب شتم النبي –عليه الصلاة والسلام- وسبّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- أهدر النبي –عليه الصلاة والسلام- دمها، فلا تستحق شيئًا في مقابل هذا القتل، وليس عليه ذنبٌ بسبب قتلها، وإلا فالقتل أمره عظيم، كما تقدَّم، لكن هذه مستحقةٌ للقتل، فسابُّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُقتل. قاله كثيرٌ من أهل العلم، بل نقل ابن المنذر الاتفاق على أن مَن سبّ النبي –صلى الله عليه وسلم- صريحًا وجب قتله، فإنه يجب قتله.
وقال الخطابي: لا أعلم خلافًا في وجوب قتله إذا كان مسلمًا، ومعلومٌ أنه إذا كان مُعاهدًا فإنه ينتقض عهده بهذا السب، وقال بعضهم: يجب قتله، والذين قالوا: لا يجب قتله، قالوا: إن اليهود كانوا يقولون إذا قدموا على النبي –عليه الصلاة والسلام- قالوا: السام عليك يا محمد، يعني: الموت، فيُجيبهم النبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «وعليكم»، ولم يتعرض لهم بأذى لا بقتلٍ ولا بضربٍ ولا شيء، قالوا: هذا المعاهد.
وقولهم: السام عليك ليس صريحًا في السب، والسام الموت، وكلٌ سيموت، والرسول –عليه الصلاة والسلام- يرد عليهم بمثل ما قالوا.
"رواه أبو داود وهذا لفظه، والنسائي، واستدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله" استدل به على وجوب قتل من سبّ النبي –عليه الصلاة والسلام-، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابٌ اسمه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول" كتاب من أنفع، بل أنفع -كما قال ابن حجر- ما صُنِّف في هذا الباب.
"والمغول بالمعجمة" على رأي المؤلف –رحمه الله- "والمغول بالمعجمة، قال الخطابي: هو شبيهٌ للمِشمَل أو المُشمَّل، ونصله دقيقٌ ماضٍ" بدليل أنه لَما اتكأ عليه نفذ في بطنها وما وراء بطنها، وقال: والمِشمَل أو "المُشمَّل السيف القصير".
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.