كنا إلى ما قبل ربع قرن تقريبا لا يطيق الواحد كلمة ثناء عليه من غيره، وكنا نلوم من يسمع الثناء ويسكت فضلًا عن كونه يثني على نفسه، ثم اختلطنا بغيرنا ممن اعتادوا قبول المدح، فسمعنا مَن يثني على نفسه، بل سمعنا من يتحايل على غيره ليمدحه، ورأينا من يغضب إذا لم يمدح فتساهلنا، والإنسان ابن بيئته يتأثر بها شاء أم أبى، فصرنا نسمع المدح ولا نعترض! وقد دلت التجربة على أن الإنسان إذا مُدح بما فيه سمع من الذم ما فيه، وإذا مُدح بما ليس فيه وسكت وأقر سمع من الذم ما ليس فيه، وقد جاء التوجيه النبوي: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» [مسلم (3002)]، لا سيما في حق من يتأثر بالمدح، ومن الحوادث القريبة أن شخصًا جيء به من جهة من جهات بلاد المسلمين، وكان عالما في فنه وإن كان في مسائل الاعتقاد عنده تخليط، فقال المعرِّف له: (الشيخ الفاعل التارك العالم العلامة الذي لا يضاهيه في الحديث إلا فلان).
قال الضيف: (يا شيخ، فلان لا يعرف الحديث).
ثم واصل المعرِّف قائلًا: (وقد ألّف في الحديث وعلومه أربعين كتابًا).
فقال الضيف: (لا يا شيخ! سبعين).
وهذا المجلس حضرته بنفسي، وكنا نأنف أن نسمع مثل هذا الكلام.
بل لقد وصل الأمر ببعضهم إلى أعظم من ذلك: شخص له محاضرة -وهو من الشباب- جاء وكتب سيرته الذاتية، وأعطاها المقدم من تحت الطاولة، فقرأها المقدم ثم لما شرع قال: هداك اللَّه يا أخي، قطعت عنق صاحبك!
ثم وجد فينا وبيننا من يغضب إذا لم يمدح.
ومن الناس من إذا قيل له في أول الأمر: (يا شيخ)، قال: (ما أنا بشيخ)، ثم إذا سمع ما هو أعظم من شيخ رضي بشيخ، ثم إذا سمع لفظا آخر رضي بما دونه وهكذا، فالإنسان يحتاج إلى تربية للنفس، وعلى كل حال هناك علامات وبوادر تدل على الإخلاص، وعلامات أخرى تنافيه، فسماع المدح دون إنكار، ومن ثم مدح النفس والتشوف إليه وطلبه من الغير خلل في الإخلاص بل هو قادح فيه.