قد جاءَ ذكرُ لفظِ (الذاتِ) على لسانِ أئمةِ الإسلامِ، فشيخُ الإسلامِ –رحمه الله-يقولُ: (فكَمَا أَنَّ ذَاتَه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ)، ويقول: (الكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ)، وتَرِدُ بكثرةٍ على لسانِ أهلِ العلمِ فيقولون: الذاتُ الإلهيةُ، وقول خبيب –رضي الله عنه-: «وذلك في ذاتِ الإلهِ» [البخاري: 3054]. وثبتت إضافة (الذات) إلى الله في السنةِ، فروى البخاريُّ من حديثِ أبي هريرةَ –رضي الله عنه- ولم يُصرِّحْ برفعِه قال: «لم يَكْذِبْ إبراهيمُ عليه السَّلامُ إلا ثلاثَ كَذِباتٍ ثنتَيْنِ منهن في ذاتِ اللهِ» البخاري:[3358]، ورواه مسلمٌ [2371] وأبو داودَ [2212] والنسائيُّ في الكبرى [8375] وأحمدُ [9241] وغيرُهم من طريقِ أيوبَ عن محمدٍ عن أبي هريرةَ –رضي الله عنه- أيضًا أن رسولَ اللهِ ﷺ قال: «لم يَكْذِبْ إبراهيمُ النبيُّ عليه السلام قطُّ إلا ثلاثَ كَذِباتٍ ثنتَيْنِ منهن في ذاتِ اللهِ؛ قولُه: إني سقيمٌ، وقولُه: بل فعَلَه كبيرُهم هذا، وواحدةٌ في شأنِ سارَّةَ». فالبخاري –رحمه الله- خرّج الحديث موقوفًا على أبي هريرة –رضي الله عنه- مع لفظة (ذات)، وعلقه مرفوعًا في كتاب الطلاق، وخرّجه مرفوعًا من طرق متعددة، لكن ليس فيها لفظة (ذات)، وسواءٌ كانت مرفوعةً كما صرح بذلك مسلمٌ أو موقوفةً كما في صحيحِ البخاريِّ، فهي كلمةٌ تُضافُ إلى اللهِ، إذ لا يُظَنُّ بالصحابيِّ أن يقولَها من تلقاءِ نفسِه، فلها حكمُ الرفعِ، فثبوتُ إضافةِ الذاتِ إلى اللهِ في هذا الحديثِ لا إشكالَ فيه، وهناك أحاديثُ ورواياتٌ في هذا المعنى غير ما ذكر. ولذا يقولُ شيخُ الإسلامِ –رحمه الله-: (وقد وُجِدَتْ في كلامِ النبيِّ -ﷺ- والصحابةِ). فإضافةُ الذاتِ إلى اللهِ ثابتةٌ، وشيخُ الإسلامِ يَقْصِدُ بها ما يُرادِفُ النفسَ الثابتةَ بالقرآنِ؛ ولذا يقولُ: (وقد روي في حديث مرفوع وغير مرفوع «تفكَّروا في كل شيء، ولا تفكَّروا في ذاتِ اللهِ» فإن كان هذا اللفظ أو نظيره ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد وجد في كلامهم إطلاق اسم (الذات) على النفس كما يطلقه المتأخرون). وتصديرُه من قِبَلِ شيخِ الإسلامِ بصيغةِ التمريضِ يدلُّ على أنه لا يَجْزِمُ بثبوتِه، وكأنه يترَدَّدُ في إثباتِ الذاتِ للهِ، مع أنها واردةٌ في كلامِه كثيرًا، وشيخُ الإسلامِ –رحمه الله- من أحرصِ الناسِ على اتباع السنَّةِ، وما دامَ قد أثبَتَ هذا اللفظ مَن تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بتقليدِه وهو من الغَيْرةِ على عقيدةِ هذه الأمةِ بالمكان الأرفع والمحل الأسنى- مما تلَّقَى من كتابِ اللهِ وسنةِ نبيِّه ﷺ- فلا شك أن استعماله يصح. وإن كانت المطابقةُ تَحتاجُ إلى نظَرٍ، ففي حديثِ إبراهيمَ لو جعَلْنَا النفسَ مكانَ الذاتِ، وقلنا: «اثنتَيْنِ منها في نفسِ اللهِ»، لم يَسْتقمِ الكلامُ، وهذا هو المَلْحَظُ الدقيقُ الذي يَنْبغي أن يُراعَى في مثلِ هذه الأمورِ، وأكثرُ الناسِ لا يَنْتَبِهُ لهذه الملاحظِ الدقيقةِ التي انتَبَه لها شيخُ الإسلامِ –رحمه الله- والمعنى الذي يُرادُ بهذا الفظ قد لا يَنْطَبِقُ من كلِّ وجهٍ على ما يُريدُه العلماءُ من إطلاقِ الذاتِ والصفاتِ الذاتيَّةِ إلى آخرِه.
والرَّاغبُ في (المفرداتِ) يقولُ: (وقد استعارَ أصحابُ المعاني الذاتَ، فجعلوها عبارةً عن عينِ الشيء، جوهرًا كان أو عرَضًا، واستعملوها مفردةً ومضافةً إلى المضمرِ بالألفِ واللام، وأجروها مجرى النفسِ والخاصةِ، فقالوا: ذاتُه، ونفسُه وخاصتُه، وليس ذلك من كلامِ العربِ). وفي (المِصباحِ) نقلًا عن ابنِ بَرْهَانَ يقولُ: (قولُ المُتكلِّمين: (ذاتُ اللهِ) جهلٌ؛ لأن أسماءَه لا تَلْحَقُها تاءُ التأنيثِ، فلا يُقالُ: علَّامةٌ وإن كان أعلمَ العالمين. وقولُهم: الصفاتُ الذاتيةُ خطأٌ أيضًا؛ فإن النسبةَ إلى ذاتٍ ذووي؛ لأن النسبةَ تَرُدُّ الاسمَ إلى أصلِه). ويُعلِّقُ صاحبُ (المِصباحِ) بقولِه: (وما قالَه ابنُ بَرْهانَ فيما إذا كانت بمعنى الصاحبةِ والوصف مسلَّمٌ، والكلامُ فيما إذا قُطِعَت عن هذا المعنى واستُعْمِلَتْ في غيرِه بمعنى الاسميَّةِ نحو: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]، والمعنى عليمٌ بنفسِ الصدورِ؛ أي ببواطنِها وخفيَّاتِها، وقد صار استعمالُها بمعنى نفسِ الشيءِ عُرْفًا مشهورًا، حتى قال الناسُ: ذاتٌ مُتَميِّزةٌ، وذاتٌ مُحْدَثَةٌ، ونسبوا إليها على لفظِها من غيرِ تغييرٍ فقالوا: عيبٌ ذاتيٌّ، بمعنى جبِلِّيٍّ وخِلْقيٍّ). ثم عقَّب بقولِه: (فالكلمةُ عربيَّةٌ، ولا التفاتَ إلى مَن أَنْكَرَ كونَها من العربيةِ، فإنها في القرآنِ، وهو أفصحُ الكلامِ العربيِّ). وما دامت نسبةُ الذاتِ إلى اللهِ ثابتةٌ في الجملة، فالأمرُ فيه سَعَة من هذه الحيثيَّةِ. والله أعلم.