يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:(وزيارة القبور على وجهين زيارة شرعية وزيارة بدعية). والزيارة الشرعية التي جاء الحث عليها: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» [ابن ماجة: 1569]، وجاء أيضًا: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» [مسلم: 977]. ولا شك أن زيارة القبور والنظر إليها والتأمل في أحوال المقبورين ومآلهم، لا شك أنه يورث في القلب إنابة وخشية لله -جلّ وعلا-، ويحثه على العمل الصالح، ويكفه عن العمل السيء، وهذا الأصل في القلب الحي. لكن مع الأسف أننا جربنا هذا وجربه غيرنا فوجدنا الجدوى ضعيفة جدًا. وذكر القرطبي المفسر في تفسير قوله تعالى: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2] ذكر شيء من حال السلف في هذا الموضع، وإذا عرضنا عليه أحوالنا نجد أننا لا شيء بالنسبة لهم. والقلب لا شك أنه في أول الأمر إن كانت فيه حياة أنه يتأثر، ثم بعد ذلك إما أن يزداد هذا التأثر أو ينقص، على حسب حياة هذا القلب و موته. فبعض الناس كل ما زاد تردده على هذه القبور زاد تأثره وزاد تأمله. ومنهم من إذا تكررت منه الزيارة خف أمرها وقل شأنها. ويحدثنا بعض الناس يقول: أنا لا أفرق بين القبر، وبين حفرة غيار الزيت. يعني هذا سواء نطقنا به، أو لم ننطق به، فهذا هو الواقع، ونجد هذا من أنفسنا مع الأسف. ولا شك أن هذا القلب يحتاج إلى بعث من جديد، يحتاج إلى إحياء هذا الميِّت. والحسن البصري يقول: تفقد قلبك في ثلاثة مواطن: (عند قراءة القرآن، وفي الصلاة، والدعاء، إن وجدته وإلا فاعلم أن الباب مغلق)، وهذا حالنا، نسأل الله -جلّ وعلا- أن يحيي قلوبنا. فرق بين حال الناس اليوم وبين حالهم قبل ثلاثين سنة أو أكثر من ذلك، يعني بعد انفتاح الدنيا تغيّر الناس تغيرًا كبيرًا جدًا. الصحابة -رضوان الله عليهم- أنكروا قلوبهم بعد أن نفضوا من دفن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لماذا؟ لأنهم يرون في المشاهدة والواقع ما يتأثرون به، نعم يتأثرون بما تركه من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، لكن ليس الخبر كالعيان. كان الناس قبل ثلاثين سنة وهذا شيء أدركناه، بعض الناس إذا رأى الجنازة صار له مدة تتراءى له في النوم، وبعضهم لا يخرج في ذلك اليوم ويحصل له من الأثر ما يحصل، والآن لا فرق. ومن الطرائف التي تذكر مع شديد الأسف أنك تجد العامل في ثلاجة المقبرة يضع بعض أمتعته مع الميت حتى تبرد، إما مشروب، وإما شيء آخر، أين القلوب؟!، والله المستعان. والزيارة الشرعية للقبور التي جاء الحث عليها يقصد منها نفع الميت، وانتفاع الزائر. يقول ابن تيمية: (فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته فزيارته من جنس الصلاة عليه) هذا نفع للميت. والزائر ينتفع بتغيّر حاله ووضعه إذا رأى القبر. وعثمان -رضي الله عنه- إذا رأى القبر بكى بكاء شديدًا، فيقال له: أنت ترى ما هو أعظم من ذلك؟ قال: هذا أول المنازل. فهذه المرحلة الحاسمة الفاصلة، وهذا مفترق الطرق، فإما يمين أو شمال وليس هناك غيرهم. والقرطبي -رحمه الله تعالى- يقول: إذا كانت زيارة القبور لا تؤثر فيك فاحرص على حضور المحتضرين. فإن حالهم ووضعهم مؤثر، يؤثر حتى في القلب المريض. لكن ماذا عمن لا يتأثر ولا في هذه الحالة؟!، يمر بالحوادث ويرى الناس تجاذبهم أرواحهم، ويلفظون أنفاسهم وكأن لا شيء. القلوب دخلها ما دخلها بعد انفتاح الدنيا، وهذا شيء ملاحظ. قد يقول قائل: الناس فيهم خير، وكثر العلم وكثر طلاب العلم، وكثر رواد المساجد. لكن هذه صور ظاهرة والله -جلّ وعلا- لا ينظر إلى الصور الظاهرة، إنما ينظر إلى القلوب والأعمال. والقلوب تأثرت بلا شك، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا» [البخاري: 3185] وهذا هو الحاصل لما فتحت الدنيا. نعم الأبدان مقبلة ولله الحمد، لكن يبقى أن المعوَّل على القلوب.