كتاب الجامع من سبل السلام (8)
نعم.
أحسن الله إليك.
"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد،
فقال في البلوغ وشرحه في باب البر والصلة من كتاب الجامع:
وعن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». متفق عليه. الأمهات جمع أمهة، لغة في الأم."
لأن الأم جمعها أمات، أمات، ولذا يقال في جمع الأمات من غير العقلاء أمات، ومن العقلاء أمهات؛ للتفريق بينهما.
أحسن الله إليك.
"ولا تطلق إلا على من يعقل، بخلاف أم، فإنها تعم، وإنما خصت الأم هنا إظهارًا لعظم حقها، وإلا فالأب محرم عقوقه، وضابط العقوق المحرم كما نقل خلاصته عن البلقيني: وهو أن يحصل من الولد للأبوين أو أحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا."
كما نقل الشارح الذي الكتاب مختصر منه البدر التمام، كما نقل خلاصته عن البلقيني السراج البلقيني.
أحسن الله إليك.
"فيخرج من هذا ما إذا حصل من الأبوين أمر أو نهي فخالفهما بما لا يعد في العرف مخالفته عقوقًا، فلا يكون ذلك عقوقًا، وكذلك لو كان مثلاً على الأبوين دين للولد أو حق شرعي فرفعه إلى الحاكم، فلا يكون ذلك عقوقًا كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في احتياجه إلى ماله، فلم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- شكايتها عقوقًا.
قلت: في هذا تأمل، فإن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أنت ومالك لأبيك» دليل على نهيه عن منع أبيه، عن منع أبيه عن ماله وعن شكايته، ثم قال صاحب الضابط: فعلى هذا العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه كان محرمًا من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين كبيرة أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه، أو عضو من أعضائه في غير الجهاد الواجب عليه، أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة.."
يعني وليس السفر، وليس السفر بفرض على الولد، فإذا كان السفر مسنونًا فلا بد فيه من إذن الأبوين، أما إذا كان السفر واجبًا عليه، تعين عليه الجهاد، يجب عليه، تعين عليه طلب العلم، يجب عليه، لكن إذا كان فرض كفاية يقوم به غيره فلا بد من إذن الوالدين.
أحسن الله إليك.
"أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع أو كسب، أو ترك تعظيم الوالدين، فإنه لو قَدِم عليه أحدهما، ولم يقم إليه، أو قطَّب في وجهه، فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين.
قوله: «ووأد البنات» بسكون الهمزة: هو دفن البنت حية، وهو محرم، وخص البنات؛ لأنه الواقع من فعل، لأنه الواقع من العرب، فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية؛ كراهة لهن، يقال: أول من فعله.."
يعني خشية العار، البنت يخاف عليها فتُدفَن وهي حية، الولد من الذكور قد يحصل له الوأد أو القتل؛ خشية أن يأكل معه، أن يطعَم معه، خشية الإملاق.
أحسن الله إليك.
"يقال: أول من فعله قيس بن عاصم التميمي، وكان من العرب من يقتل أولاده مطلقًا؛ خشية الفاقة والنفقة.
وقوله: «منعا وهات»."
طالب: ..........
قيس بن عاصم؟
نعم قيس بن عاصم التميمي، قال في الحاشية: ذكره الحافظ في الفتح.
ماذا يقول؟
يقول: ذكره الحافظ في الفتح.
التميمي أم التيمي؟
أنا عندي التميمي في الطبعة، هل نرجع للفتح يا شيخ؟
قيس بن عاصم معروف صاحب الحلم والرأي الذي تعلم منه الأحنف، تأكد، تأكد منه.
أحسن الله إليك.
"وقوله: «منعًا وهات» المنع مصدر من منع يمنع، والمراد منع ما أمر الله تعالى به ألا يُمنَع، وهات فعل أمر مجزوم، والمراد به النهي عن طلب ما لا يستحق طلبه.
وقوله: «وكره لكم قيل وقال» يروى بغير تنوين حكاية للفظ، حكاية للفظ الفعل، وروي منونًا، وهي في رواية البخاري: «قيلاً وقالاً»."
رواية في البخاري، ما هي رواية البخاري، يعني ما فيه غيرها، لا.
أحسن الله إليك.
"وهي رواية في البخاري «قيلاً وقالاً» بالنقل بالفعلية إلى الاسمية، والأول أكثر، والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره فيقول: قيل كذا وكذا بغير تعيين القائل، وقال فلان كذا وكذا، وإنما نهى عنه؛ لأنه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم، ولكونه قد يتضمن الغيبة والنميمة والكذب لاسيما مع الإكثار من ذلك قل ما يخلو عنه.
قال المحب الطبري: فيه ثلاثة أوجه أحدها أنهما مصدران للقول تقول: قلت قولاً وقيلاً، وفي الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام.
ثانيها إرادة حكاية أقاويل الناس.."
لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فلا بد أن يقع منه من الكلام ما هو مرغوب عنه، بل قد يتعدى ذلك إلى الحرام.
أحسن الله إليك.
"ثانيها: إرادة حكاية أقوال الناس، والبحث عنها؛ لتخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا، وقيل له كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لما يكرهه المحكى عنه.
ثالثها: أن ذلك حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك في أن يكثر منه بحيث لا يأمن، بحيث لا يأمن من الزلل، وهو في حق من ينقل بغير تثبت في نقله لما يسمعه، ولا يحتاط له، ويؤيد هذا الحديث الصحيح: « كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع أخرجه مسلم ».
قلت.."
يعني في مقدمة صحيحه، في مقدمة صحيحه، ولا بد من هذا في التخريج؛ لأن ما في المقدمة يختلف أحكامه عما في الصحيح.
أحسن الله إليك.
"قلت: ويحتمل إرادة كل من الثلاثة. وقوله: وكثرة السؤال هو السؤال للمال أو عن مشكلات أو عن المشكلات من المسائل.."
التي يقصد منها تعجيز المسؤول وإلا فالسؤال للإفادة سواء كانت حاجة، قضايا واقعة فلمن وقعت له أن يسأل امتثالًا لقوله -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل:43]، وإن كانت مسائل علمية مفترضة غير واقعة فلا مانع منها؛ للتعلم والتمرن والتفقه.
أحسن الله إليك.
"أو مجموع الأمرين، وهو أولى، وتقدم في الزكاة تحريم مسألة المال، وقد نهى عن الأغلوطات، أخرجه أبو داود، وهي المسائل التي يغلط بها العلماء؛ ليزلوا، فيُنتج بذلك.."
يَنتج.
"فيَنتج بذلك شر وفتنة، وإنما نهى عنها؛ لكونها غير نافعة في الدين، ولا يكاد أن يكون إلا فيما لا ينفع. وقد ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو يندر وقوعها جدًّا؛ لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الذي لا يخلو صاحبه عن الخطأ، وقيل: كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، وكثرة سؤال إنسان معيَّن عن تفاصيل حاله، وكان مما يكرهه المؤوِّل."
المسؤول، يكرهه المسؤول.
بعض الناس يكره أن تسأله عن شيء من حاله، وبعضهم يكره أن تزيد، وبعضهم يكره أن تسترسل، وكل إنسان له طبعه وطريقته، فإذا كان يكره فلا تسأل.
أحسن الله إليك.
"وقوله: «وإضاعة المال» المتبادر من الإضاعة ما لم يكن لغرض ديني ولا دنيوي، وقيل: هو الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، ورجح المصنف أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العبادة، وفي التبذير تفويت تلك المصالح، إما في حق صاحب المال، أو في حق غيره، قال: والحاصل أن في كثرة الإنفاق ثلاثة وجوه: الأول: الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعًا، ولا شك في تحريمه.
والثاني: الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعًا، ولا شك في كونه مطلوبًا ما لم يفوِّت حقًّا آخر أهم من ذلك.."
نعم، مطلوب بالقصد الأول، فإذا فوَّت حقًّا آخر منه صار مطلوب الترك بالقصد الثاني.
أحسن الله إليك.
"الثالث: الإنفاق في المباحات، وهو منقسم إلى قسمين: أحدها أن يكون على وجه يليق بحال المنفق، وبقدر ماله، فهذا ليس بإضاعة، ولا إسراف.
والثاني: أن يكون فيما لا يليق عرفًا، فإن كان بدفع مفسدة إما حاضرة أو متوقعة فذلك ليس بإسراف، وإن لم يكن كذلك فالجمهور على أنه إسراف.
قال ابن دقيق العيد: ظاهر القرآن أنه إسراف، وصرح بذلك القاضي حسين، فقال في كتابه قسم الصدقات: هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على الغارم، وقال الباجي من المالكية: إنه يحرم استيعاب جميع المال للصدقة، قال: ويكره كثرة الإنفاق في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرًا لحادث."
قوله: يحرم استيعاب جميع المال بالصدقة إذا ترتب عليه تضييع لمن يمون، أو ترتب عليه أنه لا يصبر ولا يحتسب، ويتسخط ولا يرضى، ويتكفف الناس، أما إذا كان لديه من القدرة على الاكتساب بحيث لا يضيع نفسه، ولا يحرج نفسه بسؤال الناس، وينفق على من تحت يده، كما صنع أبو بكر، جاء بجميع ماله فمثل هذا محمود وليس بمذموم.
أحسن الله إليك.و
"قال: ويكره كثرة الإنفاق في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرًا بحادث؛ كضيف، أو عيد، أو وليمة، والاتفاق على كراهة الإنفاق في البناء الزائد على قدر الحاجة، ولاسيما إذا انضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، وكذلك احتمال الغبن الفاحش في المبايعة بلا سبب."
يعني كونه يشتري السلعة بأضعاف قيمتها هذا من إضاعة المال، وكونه يبني سكنًا له بمبلغ كبير، وبإمكانه أن يقتصر على نصف هذا المبلغ فهذا إضاعة للمال، والناس ما يحسبون لهذا حسابًا، تجدهم يتدينون، يتحملون الديون الكثيرة التي تستمر عشرات السنين؛ من أجل أن يزيد في سكنه، من أجل أن يباهي به الناس.
امرأة تقول: عندي أربعمائة وثمانون ألفًا نقدًا بالبنك، بحثت عن بيت مناسب ما وجدت إلا أن أدفع هذه الأربعمائة وثمانين ألفًا، ولمدة ستة عشر سنة أدفع من راتبي خمسة آلاف شهريًّا، امرأة تقول هذا الكلام، أربعمائة وثمانين ألفًا، تجيء ببيت مناسب جدًّا لها من دون دين، من غير دين، لكنها المباهاة، وفعلنا وصنعنا إلى آخره، والله المستعان.
أحسن الله إليك.
"وقال السبكي في الحلبيات.."
ما كان الناس يتكلفون للبيوت أبدًا، ابن عمر بنى بيته بنفسه في خمسة أيام، خمسة أيام وهو ساكن، وهو الذي بناه بنفسه، وكان الناس إلى عهد قريب يبنون بأيديهم، وإذا شق عليهم الأمر وقفوا عند باب المسجد والناس يطلعون، أعان الله من يعين، وهذا يحمل له لبنة، وهذا يحمل له شيئًا يخلط، وهذا يحمل الخشب، وينتهون من غير ديون، ولا شيء، والفرق الآن صار السكن هو الهم، هو الهم الأصلي، يعني إذا أمن الإنسان السكن فمعناه ارتاح، والباقي سهل، ثم يأتي بعد السكن السيارة، تجده يجد سيارة تنقل رجله من بلد إلى بلد، وبالراحة بعشر ما يبذل، كله من أجل مباهاة الناس، أنا سيارتي كذا أنا..
والله المستعان.
أحسن الله إليك.
"وقال السبكي في الحلبيات: وأما إنفاق المال في الملاذ المباحة فهو موضع اختلاف، وظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [سورة الفرقان:67] أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف، ومن بذل مالاً كثيرًا في عرض يسير فإنه يعده العقلاء مضيِّعًا. انتهى.
وقد تقدم الكلام في الزكاة على التصدق بجميع المال بما فيه كفاية."
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه...