في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق والصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).
هذا الحديث مخيف؛ فالإنسان لا يأمن ولا يضمن ولو عاش طول عمره، ولو اتفقت ألسنة الناس على مدحه طيلة عمره فلان وفلان، فلان يفعل كذا، وفلان يفعل كذا، فهذا حديث مخيف. كان السلف يخافون سوء العاقبة، ويلهجون بحسن الخاتمة، هل خفي عليهم حديث: ((فيما يبدو للناس))؟ ما خفي عليهم، فلم يقيدوا المطلق بالمقيد هنا؛ لأن الخوف من سواء العاقبة يجب أن يستصحبه كل أحد، واللهج بالدعاء بحسن الخاتمة ينبغي أن يكون ديدن كل مسلم. وكان سلف الأمة على وجل عظيم من سوء الخاتمة، ولم يقولوا: "والله الرسول يقول: فيما يبدو للناس، ونحن هذا ليس وصف لنا، نحن نعمل من قلب وإخلاص". لا، هذه تزكية للنفس، ما يدريك أن يزل بك قدمك في آخر لحظة، ما تدري بما يختم لك. فسلف هذه الأمة -فيما يؤثر عنهم من نصوص كثيرة- لم يقولوا بتقييد المطلق هنا، بل صاروا على وجل عظيم وخجل شديد من سوء العاقبة، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم لا سيما من عنده شيء من العلم؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وكثيراً ما يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، فيسأل الله الثبات في كل لحظة من لحظاته، ويسأل الله -جل وعلا- أن يحسن له الخاتمة، وأن يستعمله فيما يرضيه، فلا يعتمد على مثل الرواية المقيدة، ويزكي نفسه يقول: "أنا أعمل مخلصًا، وظاهري مثل باطني"، هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن هذا اغترار، وإعجاب بالنفس.
والعجب فاحذره إن العجب مجترف
أعمال صاحبه في سيله العرم
فالإنسان مع الإحسان، عليه أن يخاف، وهذه حال السلف. وابن أبي ملكية يقول: أدركت ثلاثين يعني -من الصحابة- كلهم يخاف النفاق على نفسه"، لم يقل أحد منهم: "أنا صحابي"، ما قال: "أنا صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا مضمون". لا، حتى البدري منهم ما يقول هذا الكلام، فالسعيد من جمع بين حسن العمل وإساءة الظن بنفسه وإحسان الظن بربه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [(60) سورة المؤمنون] خائفة، تقول عائشة: أهم الذين يزنون، أهم الذين يشربون، أهم الذين يسرقون، قال: ((لا، يا ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويتصدقون ويصومون ويخافون ألا تقبل منهم عباداتهم)). فعلى الإنسان أن يكون خائفاً وجلاً؛ لأنه ما يدريه ما العاقبة، فالإنسان يطمئن، ويرتاح لهذا العمل، ثم يتحقق فيه يوم القيامة {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر]. واحد يُعَلِّم الناسَ الخير، وأنت تظنه أنه مع النبيين والصديقين، وفي النهاية يكون في نفسه "ليقال أنه عالم"، فيكون من أول من تُسعَّر بهم النار.