تفسير القرآن على أضرب: منه ما يحتاج إلى نقل، ومنه ما تعرفه العرب بلغاتها، وهذا موجود حتى في وقتنا الحاضر، فالذي يعاصر البادية قد يظهر له شيء من معاني القرآن كان خفيًّا عليه.
وكان يشكل عَلَيَّ في أوائل الطلب -عندما كنت في الصف الأول المتوسط- قول الفقهاء: "وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر" واستحيت في ذلك الوقت أن أسأل المدرس، فشربت مرة من ماء كان في مجتمع للبادية والحاضرة هناك تسمى: "الجردة"، شربت من الزير، وألقيت الباقي في الزير، فقال أعرابي: لا تصب سؤرك في الزير، فعرفت أن السؤر هو الباقي، فالبادية مازال فيهم شيء من الحفاظ على بعض الألفاظ العربية، وإن كانت اختلطت العرب بغيرها فأثروا عليهم، لكن لا يعني هذا أن اللغة انمحت بكاملها، فكثير من الآيات يفهمها العامي من تلاوتها، يعني إذا ألقيت لعامي لا يقرأ ولا يكتب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [(278) سورة البقرة] فلا شك أنه يفهم، ولا يحتاج أن تقول له: ارجع إلى التفاسير، أو ارجع إلى أقوال أهل العلم في هذا.
وأشار إلى هذا الشيخ فيصل بن مبارك -رحمه الله- في مقدمة تفسيره حيث قال: إنه عاصر البادية في الشمال والجنوب والوسط، استفاد منهم في بيان معاني كثير من الألفاظ القرآنية، وذكر أمثلة لذلك في مقدمة تفسيره، ومن هذه الأمثلة أنه ذكر أن شخصًا أنكر على آخر التمسح بالقبور، والتبرك بالصالحين، مستدلاً بقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [(18) سورة الجن] فقال له المنكَر عليه: يا أخي لا يجوز لك وأنت عامي تفسر القرآن؟ يقول: وبعد مدةٍ يسيرة جاءت بنت عليها مسحة جمال فقلت له: ما هذه؟ قال: ابنتي، قال: لماذا لا تتزوجها؟ قال: سبحان الله حرام أتزوج ابنتي! قال: والدليل؟ قال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [(23) سورة النساء] قال: أنت تفسر القرآن وأنت عامي؟ فكثير من ألفاظ القرآن وآياته يدركها الناس كلهم، فلا تحتاج إلى تفسير، فليس كل التفسير يحتاج إلى توقيف، بل منه ما تدركه العرب بلغاتها، ومنه ما يحتاج إلى نقل.