البداءة بحفظ القرآن وبتعلم القرآن في الأصل في حال الصغر من قصار السور؛ لأن تعلُّمها أيسر، فكون الإنسان يبدأ بسورة ويفرغ منها يُعينه على قراءة ما بعدها، فإذا أتقن القرآن نظرًا حينئذٍ له أن يبدأ من الأعلى أو من الأسفل: من الفاتحة، ثم البقرة، أو من سورة الناس، لكن يفعل الأرفق به والأقرب إلى ما يسهل عليه، فإن كان حفظ السور الطوال لا يشق عليه -أو عليها- فليبدأ، وإن كان حفظ السور القصار يُشجِّعه على الاستمرار فالإنسان إذا بدأ بسورة البقرة وعرف أنه لن يُنجز السورة إلا بعد مدة طويلة قد تهبط نفسيته، لكن إذا حفظ سورة، ثم سورة، ثم سورة، ثم سورة تشجَّع، ولا سيما إذا كان حفظه قليلًا، أما إذا كان قد حفظ الكثير وأراد أن يجمع حفظه ويُلملِمه ويحفظ ما بين ما حفظه مما لم يحفظه فليبدأ من الأعلى، أما إذا كان مبتدأً بالحفظ فنصيحتي له أن يبدأ من قصار السور؛ لأن هذا يضمن له الاستمرار ويشجعه عليه.
تقول: (وهل يُشترط حفظه بأحكام التجويد؟) لا يُشترط، والعلماء في القراءات يؤثِّمون مَن لم يُجوِّد، فمَن لم يُجوِّد القرآن فهو آثم عندهم، ويُوجبون التجويد، وإن كان بعضهم يرى أن إيجاب التجويد والقراءة به لا سيما زيادة المدود والتمطيط الذي يُسمَع من بعض القرَّاء يُدخل في إخراج القرآن عن كونه مقروءًا متلوًّا كما أُنزِل، وكما أَمر الله –جلَّ وعلا- بالترتيل، إلى التمطيطِ الذي جاء النهي عنه، والقراءةِ بالألحان التي كرهها السلف، لكن يبقى أن قراءة القرآن على الوجه المأمور به وهو الترتيل مطلوب، بل مأمورٌ به، ولو قيل بوجوبه مع التدبُّر لما بعُد، لكن التمطيط والمدود الزائدة تُخرجه عن أن يكون في حدِّ التغنِّي، والتغنِّي بالقرآن وتحسين القرآن بالصوت على ما جاء في الحديث هذا أمرٌ مطلوب، وقراءة القرآن -كما يقول شيخ الإسلام- على الوجه المأمور به من التدبُّر والترتيل يُفيد القلب من العلم والإيمان والطمأنينة واليقين ما لا يُدركه غيره ممن لم يفعل ذلك، وابن القيم يقول:
فتدبَّرِ القرآنَ إن رمتَ الهدى |
|
فالعلمُ تحتَ تدبُّرِ القرآنِ |
وبعضهم يحمل قول أهل القراءات بوجوب التجويد على نحو قول النُّحاة: (يجب رفع الفاعل)، فهل مَن قال: (ضرب زيدًا عمرًا) يأثم؟ ويقولون: (يجب نصب المفعول)، لكن هل معنى هذا أنه يأثم بتركه إذا قال –مثلًا- (ضرب زيدٌ عمروٌ)؟ لو كان كذلك لأثم عموم الناس في كلامهم ومخاطباتهم، وإنما هو وجوبٌ فنِّي من مقتضيات الفن والعلم، فهو وجوب فنِّي وليس بوجوبٍ حكمي.
ومع ذلك على المسلم لا سيما طالب العلم أن يحرص على أن يقرأ القرآن على الوجه الذي أمر الله به من الترتيل والتدبُّر، والتدبُّر له شأنٌ عظيم، حتى قال العلماء: إن ختمة واحدة بالتدبُّر تعدل العشرات من الختمات بالهذِّ وعدم التدبُّر، ولا شك أن الفائدة التي يتبعها العملُ بالقرآن إنما هي في التدبُّر، فالذي يقرأ هذًّا ولا يعي ما يقرأ، وأحيانًا ما يدري في أي سورة، ولا يدري في أي صفحة، مثل هذا أثر القرآن في نفسه وعمله قليل، فعلى هذا ينبغي للمسلم لا سيما طالب العلم أن يهتم بهذا الأمر ويتدبَّر القرآن.
والسلف معروف حالهم في القرآن، منهم مَن يُكثر من القراءة، ومنهم مَن لا يُكثر من قراءة الحروف، وإنما ينظر فيه ويتدبَّر ويتفقَّه فيه، ومع ذلك لو أن طالب العلم جَعَل له ختمةً للتدبُّر يقضي فيها الشهور، بل السنين، فلا يُستكثر على القرآن مُضي الزمان والوقت، وجَعَل له ختمةً لنيل الحروف وكسب الأجور من جراء هذه الحروف، كما يُذكر عن السلف، فمنهم الذي يختم في ليلة، والذي يختم مرتين في ليلة، والذي يختم في ثلاث، والذي يختم في سبع، والنبي –عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عمروٍ –رضي الله عنهما-: «اقرأ القرآن في سبعٍ ولا تَزِد» [البخاري: 5054]، وحُفِظ عن بعض السلف وذُكِر عنهم أنهم يقرؤون ويختمون في اليوم، وفي اليومين، والثلاثة، ومع ذلك -كما في المصنفات (ابن أبي شيبة) و(عبد الرزاق) وغيرها ممن تُعنى بالآثار- حُجورهم مليئةٌ بالدموع، وهم يقرؤون بهذه الطريقة؛ لأن قلوبهم صافية ومُتَّجهة إلى مُخاطبة الرحمن بهذا الكلام الذي صدر منه ونزل منه وقاله -جلَّ وعلا-.
هو الكتابُ الذي مَن قامَ يقرؤهُ |
|
كأنَّما خاطبَ الرحمنَ بالكلمِ . |
والسائلة التي تسأل تقول: (هل يُشترط حفظه بأحكام التجويد، أو فهم معانيه وتدبُّر آياته والعمل بما فيه؟) هذا كله مطلوب؛ لأنه أُنزِل للعمل، والعمل لا يتم إلا بالفهم، والفهم لا يتم إلا بالتدبُّر، والإيمان إنما يقوى بالنظر في آيات الله –جلَّ وعلا- المتلوَّة، والآيات الكونية، كما قرَّر ذلك ابن القيم في أوائل (الجواب الكافي)، والله أعلم.