النبي -عليه الصلاة والسلام- جمع بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في يوم عرفة؛ ليتوفَّر الوقت للذكر والدعاء والإلحاح على الله -جل وعلا-، ووقف -عليه الصلاة والسلام- راكبًا [مسلم: 1218]، ولذا يرى جمع من أهل العلم أن الركوب أفضل، فيستقبل القبلة راكبًا، ويدعو الله -جل وعلا-، ويخلص في دعائه، ويستحضر ما يدعو به، ويصدق اللجأ إلى الله -جل وعلا-، فإن هذا الموقف عظيم، فينبغي أن تُستشعَر عظمة هذا الموقف وقرب الرب -جل وعلا-.
ومن المؤسف أن نجد كثيرًا من طلاب العلم يقضونه إما بالنوم أو بالأحاديث المباحة، وقد يتجاوز بعض الناس في ذلك فيقع في شيء من المحرم من الكلام وغيره، وقد يوجد من الحجاج في هذا الموقف العظيم مَن يرتكب بعض المحظورات كإرسال النظر إلى النساء، إضافة إلى القيل والقال الذي لا ينفع بل يضر، وبعضهم يسترسل فيأتي بما حرَّم الله عليه من غيبة ونميمة ووقوع في أعراض الناس، ولا سيما أهل العلم، فهذا موقف عظيم ينبغي أن يستشعره كل حاج فضلًا عن طالب علم.
وبعض الناس يتشاغل بما لا ينفعه، وهمُّه أن ينتهي هذا اليوم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه؛ ليعود إلى أهله ويزاول أعماله، كأن هذا النسك العظيم صار عبئًا على الناس، والمسألة مسألة أربعة أيام، فكيف تُستثقل هذه الأيام الأربعة؟! وقد كان المسلمون على مر العصور يقضون الأشهر المتتابعة، فيقضون شهرًا أو شهرين في الطريق قادمين إلى الحج، ثم يجلسون في مكة والمشاعر مدة طويلة ليست بيوم أو يومين أو ثلاثة، فهم يأتون قبل الحج بمدة طويلة؛ ليحتاطوا لحجهم، ثم بعد ذلك إذا قفلوا أمضوا الوقت الطويل في الرجوع، والله -جل وعلا- يقول: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل: 7]، والآن قد يصوم الشخص في بلده يوم عرفة وبين أهله ويفطر معهم، ثم يحج ويرجع بعد ثلاثة أيام! هذا من تيسير الله -جل وعلا-، وهذه نعمة يجب شكرها، فعلى الحاج أن يستحضر هذا، وكذلك أصحاب الحملات، وهذا شيء مشاهَد بالنسبة للحملات أنهم من بعد صلاة العصر مباشرة -الوقت الذي هو وقت اللزوم، ووقت تأكد واستحباب الدعاء، ووقت نهاية الموقف الذي ينبغي أن يُحرص عليه أشد الحرص قبل فواته- تجد كثيرًا منهم بعد صلاة العصر يتأهبون للانصراف، نعم هم لا ينصرفون إلا بعد الغروب، لكنهم يتأهبون للانصراف، وبعد الفتاوى التي سُمعتْ في الأعوام المتأخرة أنه يجوز الانصراف قبل غروب الشمس، انظر ماذا سيحدث، ربما يصلون الظهر والعصر جمعًا ويمرون مرورًا! ووقوفهم مجزئ عند عامة أهل العلم، وإن أوجب عليهم جمع من أهل العلم الدم إذا انصرفوا قبل الغروب، فإذا انتشرت هذه الفتاوى وشاعت فلن يكون للوقوف أي أثر في نفس الحاج.
فعلى أهل الحملات أن يرفقوا بمن معهم، وهم مؤتمنون على هذا، وإنما دُفعتْ لهم الأموال؛ ليتفرَّغ الحاج لحجه، ويؤدي حجه على الوجه المشروع، وعلى الحاج إذا جمع بين الصلاتين جمع تقديم وتوفَّر له من الوقت ما يكفي للذكر والدعاء والتلاوة والتضرع والانطراح والانكسار بين يدي الله -عز وجل- فهذا أمر لا بد منه، وهذا وقته، لكن مع الأسف أن الأعمال قيَّدتْ أربابها وأصحابها، فمَن هو طول العام في القيل والقال فمثل هذا لا يوفَّق لاغتنام مثل هذه الأوقات. فعلينا أن نحرص على حفظ النفس واللسان وجميع الجوارح عما يغضب الله -جل وعلا-، وعن أن تضيع علينا سدى؛ لنوفَّق لحفظها في مثل هذه الأوقات الفاضلة، «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» [مسند أحمد: 2803].