التجويد يوجبه أهل التجويد.
............................ |
|
مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ الْقُرآنَ آثِمُ |
"آثم" عندهم، لكن كأن الإجماع العملي يُؤخذ منه عدم التأثيم وإن قالوا بوجوبه، وإلَّا لأثم الناس كلهم حتى أهل التجويد، كيف؟ يعني: هل صاحب التجويد كلما قرأ آية في كل مناسبة يقرؤها مجودة؟ وهل قراءته في الركعة الثالثة والرابعة من حيث التجويد مثل قراءته في الأولى والثانية؟ إذن كل الناس آثمون! فالتواتر العملي حتى من أهل العلم، ومن أهل الفتوى، ومن أهل الورع، ومن أهل التجويد، ومن أهل القرآن يُخلِّون بهذا، وكأنَّهم يتفقون عليه، فهل هم آثمون؟
فالوجوب في كلِّ فنٍّ بحسبه، يعني: يلزم، لكن لا يلزم منه الإثم، فمن أراد أن يقرأ بالتجويد يلزمه أن يراعي هذه القواعد، مثل قولهم: (الفاعل يجب رفعه)، هل معنى هذا أن الذي ينصب الفاعل آثم؟! فكل فنٍّ له حكمه، فالذي يظهر من اتفاقهم العملي أن تارك التجويد لا يأثم، ونحن لا نُصادر حكمهم وهم أهل الشأن، وليحرص الإنسان أن يقرأ القرآن على الوجه المأمور به، ولكن لو أوجبنا التجويد لأوجبناه على هيئة واحدة، فإذا أجزنا للقارئ أن يقرأ على وجوه وعلى مدود مختلفة، فأحيانًا يَمدُّ ستًّا، وأحيانًا يَمدُّ أربعًا، فمعناه أننا ما أوجبنا عليه أن يَمدَّ ستًّا، وأجزنا له غير الست، إذن هذا يُؤخذ منه أن التجويد لا يأثم تاركه، شريطة أن يقرأ قراءةً مسقطةً للطلب ومسقطةً للواجب، فما يقرأ قراءةً مُكسرة مُلحنة مُحيلة للمعنى لا تترتب عليها آثارها، إنما يقرأ بتدبر وبتأنٍ وبترتيل، هذا الأصل. علمًا بأن أجر الحروف يُدرك بالقراءة السريعة، وهذا معروف، وجاء في حديث عند أحمد والدارمي بسند حسن: «اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ، هذًّا كان أو ترتيلًا» [مسند أحمد: 22950 / وسنن الدارمي: 3434]، فأجر الحروف مرتب على النطق بالحروف، كل حرف بعشر حسنات، وأجر التدبر قدر زائد، وأجر الترتيل قدر زائد.
وذُكر في ترجمة بعض السلف من الصحابة والتابعين أنهم يقرؤون القرآن في ركعة، لا سيما في المواسم مثل: رمضان، وأُثر عن كثير من السلف أنهم يختمون كل يوم، بل عُرف عن بعضهم أنه يختم أكثر من مرة في اليوم، فهل هذا يمكن مع التدبر ومع الترتيل الذي أوجبه أهل التجويد؟ هؤلاء يريدون استغلال الوقت؛ لتحصيل أكبر قدر من أجور الحروف، ومَن عرف هذه الطريقة وعاناها واستغل المواسم بكثرة القراءة فهو على خير عظيم، ولن يُحرم أجر الحرف على الأقل.
واستدلوا على جواز القراءة السريعة بأن داود -عليه السلام- لُيِّن له القرآن وسُهِّل له فكان يقرأ القرآن بين أن تُسرج دابته وبين أن يركب، لكن قد يقول قائل: (إن قرآنه المنزَّل عليه غير قرآننا)، لكن على كل حال الأدلة على جواز القراءة السريعة، وأنها محصِّلة لأجر الحروف كثيرة، وعثمان -رضي الله عنه- كان يختم في يوم، وغيره من سلف هذه الأمة -كما تقدم-. لكن يبقى أنه لا بد أن يكون للعالم ولطالب العلم قراءة تدبر؛ ليفهم، وإلَّا فكيف يتعلم القرآن؟ يعني: إذا قلنا للعامي: (اقرأ هذًّا وحصِّل أجر الحروف؛ لأنك لستَ مؤهلًا لأن تستنبط)، فطالب العلم لا يُعذر، ولذا وُجد منهم مَن يختم في كل ثلاث، مع أعماله الأخرى، ووُجد مَن يختم كل يوم، ووُجد مَن له ختمة تدبر واحدة مكث فيها عشرين سنة، مع أنه يختم كل يوم، لكن هذه للحروف، وهذه للإفادة وترتُّب الآثار، فينبغي لطالب العلم أن يُخصِّص وردًا يوميًّا من كتاب الله -جل وعلا- يحرص عليه ولا يُفرِّط فيه سفرًا ولا حضرًا، والذي يؤجِّل قراءة اليوم إلى غدٍ، أو قراءة النهار إلى الليل، هذا ما يُدرك شيئًا؛ لأنه يستمر في التأجيل.
وقراءة القرآن كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «اقرأ القرآن في سبعٍ ولا تزد» [البخاري: 5054] بإمكان الشخص أن يقرأها في أسبوع من غير تعبٍ ومن غير إخلالٍ بأي عمل منوط به، فيجلس كل يوم بعد صلاة الفجر يقرأ حتى تنتشر الشمس ويختم القرآن في سبع، فيُحزِّب القرآن كتحزيب السلف: ثلاث سور في اليوم الأول "البقرة، وآل عمران، والنساء"، ثم خمس في اليوم الثاني، ثم سبع، ثم تسع، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاث عشرة، ثم المفصَّل، هذه طريقتهم، فإذا جلستَ من صلاة الصبح إلى انتشار الشمس فستنهي سُبع القرآن، وتكون قد امتثلتَ «اقرأ القرآن في سبعٍ ولا تزد»، ولا يعوقك هذا الورد عن تحصيلٍ، بل يعينك على أمور دينك ودنياك، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يجلس حتى تنتشر الشمس [مسلم: 670]، والحديث الذي ورد فيه الأجر المرتب وأنه كأجر حجة وعمرة تامة [الترمذي: 586] هذا فيه كلام لأهل العلم، وفضل الله لا يُحد، وليس الكلام في الحديث من أجل عِظم الأجر، بل هذا الأجر العظيم مرتَّب على أمر عظيم، فتجد هذا الأمر من أشق الأشياء على النفوس، يعني: يسهُل عليك أن يضرب أحدٌ منبِّه السيارة: (أين تريد؟)، (والله نريد الذهاب إلى العمرة)، أو (نريد نخرج في نزهة)، فسهل عليك أنك تركب وتذهب معه، لكن اجلس يومًا، أو يومين، أو ثلاثة حتى تنتشر الشمس! ومرحلة الامتحان فيها مشقة، لكن بعد ذلك تتلذَّذ بالجلوس إلى انتشار الشمس، ومع الأسف أن الإنسان يصلي في بعض المساجد ولا يجد من يجلس فيها بعد الفجر، بل قد يُؤذى الذي يريد أن يجلس وتُطفأ عليه الكهرباء! صحيح أنه وجد بعض المشاكل من بعض الناس، لكن لا تكون هذه سببًا لحرمان الناس الخير، فمن أراد أن يجلس فليُعان وليُيسَّر أمره، لكن مع اليقظة والتنبُّه لما يحصل؛ لأنه وُجد مَن يسرق بعض آلات المسجد، ووُجد مَن يسيء إلى المسجد، لكن هذه ما تكون سببًا للحرمان من الخير.