لا شك أن مَن تعجَّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فالتأليف والتصنيف إنما يكون للمتمكِّن، أما أن يكون طالبًا غير متمكِّن من العلوم ويصنِّف، ويَزُج بهذه المصنفات في الأسواق، فهذا كما قال أهل العلم: (تسويد الورق، والتحلِّي بحِلية السَّرَق)، من أين سيأتي بعلم؟ إنما سينقل من فلان وفلان، ويسرق من هذه الكتب، فقالوا عنه: (إنه تسويد الورق، والتحلِّي بحِلية السَّرَق)، نعم إذا تمكَّن طالب العلم، وصار عنده قدرة على فهم النصوص والنقول، وتحليلها، وتأييد الحق منها، ورد الباطل منها، فهذا مطلوب لطالب العلم.
ويبقى أنه يمكن وهو في مرحلة الطلب أن يعاني الكتابة، فيختصر المطولات، فمَن يقول: (قرأتُ "تفسير ابن كثير"، ولمَّا انتهيتُ منه راجعتُ نفسي فإذا بالحصيلة ضعيفة)، نقول: من المناسب لك جدًّا أن تختصر (تفسير ابن كثير)، لا ليُنشر في الأسواق، وتتداوله الأيدي، ويستلمه الناشرون والموزعون، وإنما هذا لك، وهذه وسيلة من وسائل التحصيل، فأنت إذا عانيتَ وقرأتَ النص، وأردتَ أن تُبقي ما تُبقي منه، وتحذف ما تحذف منه، فلن تعمل هذا إلَّا بعد إعمال فِكِر ومعاناة مع الكتاب؛ لتترك ما تترك على بيِّنة، وتحذف ما تحذف على بيِّنة، وإذا فعلتَ ذلك، وأحضرتَ ذهنك، ورأيتَ أن هذا النص ينبغي إبقاؤه، فلن تقول هذا إلَّا بعد أن تفهم هذا النص، وإذا رأيتَ أن النص الثاني لا حاجة إليه، فأنت عرفتَه وفهمتَه قبل أن تحذفه، وإلَّا فما الذي يُدريك أنه لا حاجة إليه؟ ولذلك نقول: علمك بما تركتَ كعلمك بما أثبتَّ، فتفهم الكتاب كاملًا.
وكذلك -مثلًا- (جامع العلوم والحكم) لابن رجب -رحمه الله- في مجلدين، في شرح أربعين حديثًا، لو أراد أن يختصر شرح كل حديث في صفحة، أو صفحتين، أو ثلاث صفحات، ينتقيها من هذا الكتاب العظيم، فهو يُحضر ذهنه أثناء الاختصار، فهذا عمل طيِّب، ووسيلة من وسائل التحصيل، بل من أقوى وسائل التحصيل، لكنها ليست للتأليف والتصنيف والشهرة، ويقال: ألَّف كذا، وألَّف كذا، وشابٌّ في المستوى الأول من الجامعة عنده عشرون مصنَّفًا! ما هذا؟! لكن إذا كان بهذه الطريقة، بحيث يكون خاصًّا به فلا إشكال، أما أن يُؤلِّف وهو في شبابه بقصد نفع الناس، فنقول: انتظر، فلا تُزَبْزِب قبل أن تُحَصْرِم.