يقصد بالمكاسرة: المماكسة، أي: محاولة الزبون تخفيض السِّعر.
الأصل في هذه المسألة أن البائع يأخذ ربحًا مناسبًا، لا يزيد في السِّعر بحيث يظلم الناس، ويشقُّ عليهم، وإذا عُرف أن الناس يبيعون بأسعار مناسبة متقاربة مقاربة؛ فإذا حصلت المُماكسة بشيء يسير؛ فإن هذا لا يضرُّ، لكن الإشكال من الطرفين؛ فقد تجد صاحب سلعة يقول لك: (بألف)، وتذهب إلى محلٍّ ثانٍ في موقع آخر فيقول لك: (بمائة)، فمثل هذا لا شك أنه لعب على الناس وخداع، وقد حضرتُ شخصًا معه ثلاثة أسطال من العسل، فقال له الزبون: (بكم؟)، قال: (الواحد بسبعمائة، والجميع بألفين)، نزَّل له من السِّعر مائة، فقال الزبون: (بخمسة ريالات، والثلاثة بخمسة عشر ريالًا)، فرْق شاسع، أضعاف مضاعفة! فماذا تتصوَّرون؟ ما ذهب الزبون إلا بها بخمسة عشر ريالًا! وبعض الناس يُبرِّر لنفسه مثل هذه الزيادة، ويقول: (لو عرضتُها بثمنٍ بخسٍ ما اشتُريتْ)؛ لأن الناس يستدلون على جودة السِّلعة بقيمتها، فلو تأتي المرأة إلى محلِّ القماش -مثلًا-، ويقول لها صاحب القماش: (المتر بعشرة ريالات)، لقالت: (هذا رديء ما يصلح)، لكن لمَّا يقول: (بثلاثمائة ريال) تشتري، ويصير جيِّدًا! وهذا هو الحاصل في أسواق المسلمين مع الأسف، وهناك قصص من هذا النوع كثيرة جدًّا، منها أن امرأة جاءت إلى محلٍّ وشخص جالس فيه، فقالت: (بكم المتر؟)، فقال البائع: (بمائتين وخمسين)، فقالت: (لعلَّه يصير بمائتين)، فوافق على المائتين، وأخذتْ ثلاثة أمتار بستمائة ريال، والشخص الجالس هذا معه في الكيس نفس القماش من محلٍّ ثانٍ، فقال: (أنا أخذتُ ثلاثة أمتار بخمسة وأربعين ريالًا، بدل ستمائة ريال)، فقال البائع: (أنت أخذت بخمسة عشر؟ لو تريد مترًا من عندي بعشرة ريالات أعطيتُك، لكن لو أقول لها: بعشرة، أو بخمسة عشر؛ ما اشترتْ)! لكن هل هذا مُبرِّر لرفع السِّعر وظلم الناس بهذه الطريقة؟ هذا ليس بمُبرِّر أبدًا، وهذا أكل أموال الناس بالباطل، يعني: عشرة أضعاف القيمة، وأهل العلم يَعدُّون الثلث غَبنًا تُردُّ به السِّلعة، فمثل هذا موجود في أسواق المسلمين مع الأسف، وهذه حجَّته، لكن لو عَرض السِّلعة بخمسة عشر، وقال المشتري: (بأربعة عشر) أو (ثلاثة عشر) وماكَس بهذه الحدود؛ فلا يوجد ما يَمنع، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول لجابر -رضي الله عنه-: «أَتُراني ماكستُك لآخذ جملك؟» [مسلم: 715]، المقصود أن المُماكسة بالمعقول، والتفاوت اليسير بين طلب البائع وطلب المشتري هذا مغتفَر، ويوجد. وبعض الناس من المشترين من طبعه المُماكسة، يعني: ما يصلح أن تقول له: (هذا الكتاب بعشرين ريالًا) مباشرة، فهو مُماكِس مُماكِس، فلو تقول له: (بريال)، لقال: (لا، نَزِّل)، فهو طَبع عنده، وعادة جرى عليها، ولا تجود نفسه بأخذ السِّلعة بأول ما يُذكَر، فلا بد من ملاحظة هذا من البائع؛ فعليه أن يَرفق بإخوانه المسلمين، وأيضًا من المشتري؛ فلا يُلِحُّ، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى» [البخاري: 2076]، فلا بد من تبادل مثل هذا الشعور بين المسلمين، أما أن يرفع البائع عشرات الأضعاف، والمشتري يخفض أضعافًا مضاعفة من قيمة السِّلعة، فلا، لا يصلح هذا، ولا هذا.
وبالنسبة إذا كانت المماكسة من المرأة؛ فلا شك أن المرأة عليها من الستر، والصيانة، والاحتراز، والاحتياط، ما لا يوجد مثله على الرجل، فعليها أن تنظر في قيمة السِّلعة بقدر الحاجة، فتُكلِّم صاحب المحلِّ إذا لم يوجد مَن يقضي لها حاجتها: (بكم هذا القماش؟)، بصوت عاديٍّ لا خضوع فيه، فإذا قال: (بعشرة)؛ فإن أعجبها وإلا فتنصرف؛ لأن الأخذ والردَّ مع الباعة لا شك أنه يفتح أبوابًا ومجالًا للشيطان، وإذا كثر الإمساس قلَّ الإحساس، فيوجد نساء خرَّاجات ولَّاجات، في أحكام الرجال، ويسمِّيهنَّ أهل العلم: (بَرْزَات)، وما الذي دعاهم إلى أن يقولوا مثل هذه العبارات في حقِّ هؤلاء النِّسوة؟ من كثرة ما يرون، فعلى المرأة أن يكون خروجها من بيتها بقدر الحاجة، فإذا وُجد مَن يكفيها؛ فلا تخرج، وإذا خرجتْ؛ فتخرج بالضوابط والحدود الشرعية، ثم بعد ذلك إذا احتاجت الكلام مع الرجال؛ فليكن الكلام من غير خضوع، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وأيضًا بقدر الحاجة، وإن انصرفتْ عنه من غير مُماكسة، وسألت المحلَّ الآخر حتى تجد السِّعر المناسب؛ فهو أولى.
يقول: (أحيانًا يُقلِّل البائع من السِّعر تحت ضغط المشتري)، على المشتري أن يكون سمحًا، كما أن على البائع أن يكون سمحًا، لكن إذا قلَّل بطوعه واختياره؛ فالأمر لا يعدوه.
(وأحيانًا يُقلِّل من نفسه برضًا، فما حكم الحالتين؟)، البيع صحيح، لكن ينبغي أن يكون الطرفان على ما ذَكر النبي -عليه الصلاة والسلام- من السماحة والتيسير.