التعليق على تفسير القرطبي - سورة النمل (02)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:
قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} [سورة النمل:20-28].
فِيهِ ثَمَانِية عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [سورة النمل:20] ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا جَرَى لَهُ فِي مَسِيرِهِ.."
كل النسخ كذا فيه ثمانية؟
طالب:.......
ماذا عندكم؟ لحظة لحظة. عشرة مسألة هذه ما فيها إشكال. لكن الإشكال في الثمانية.
طالب: ثمانية عشرة.
إمَّا أن يُقال: ثمان عشرة أو ثماني عشرة، أمَّا التاء فلا تقترن بالأول، الجزء الأول من المركب ما تقترن فيه التاء؛ لأنَّه يُخالف التمييز، نقول: ثمانية عشر قولًا صحيح، ثمانية عشر بحثًا صحيح.
طالب:........
ثماني عشرة، أو ثمان عشرة يجوز حذف الياء.
" ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا جَرَى لَهُ فِي مَسِيرِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النَّمْلِ مَا تَقَدَّمَ. وَالتَّفَقُّدُ تَطَلُّبُ مَا غَابَ عنك من شيء. وَالطَّيْرُ اسْمٌ جَامِعٌ، وَالْوَاحِدُ طَائِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّيْرِ هُنَا جِنْسُ الطَّيْرِ وَجَمَاعَتُهَا. وَكَانَتْ تَصْحَبُهُ فِي سَفَرِهِ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى تَفَقُّدِهِ لِلطَّيْرِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِنَايَةُ بِأُمُورِ الْمُلْكِ، وَالتَّهَمُّمُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ."
نعم، باعتباره ملكًا مسؤولًا عن رعيته، والطير من رعيته لا سيما وأنَّ فعلهم معه هو فعل المكلفين، فعلهم سخروا له، وفي مقابل هذه النعمة تفقدهم مطلوب، فإذا كان هذا التفقد بالنسبة للطير فما بالكم بتفقد غيرهم من الإنسان وغيره؟
طالب: التَّهَمُّمُ الاهتمام؟
نعم.
طالب: التَّهَمُّمُ.
التَّهَمُّمُ.
طالب: الاهتمام؟
نعم، بكل جزء منها، والإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، فلابد من أن يتفقد، ولا بد أن يهتم لأمورهم.
" وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ دَخَلَتْ مِنْ مَوْضِعِ الْهُدْهُدِ حِينَ غَابَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَفَقُّدِ الطَّيْرِ؛ لِيَتَبَيَّنَ مِنْ أَيْنَ دَخَلَتِ الشَّمْسُ."
نعم؛ لأنَّ الطير كانت تظله عن الشمس، ووجد فتحة دخلت عليهم الشمس منها فقال: أين الهدهد؟ تفقده.
" وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّمَا طَلَبَ الْهُدْهُدَ؛ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَاءِ عَلَى كَمْ هُوَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ فِي مَفَازَةٍ عَدِمَ فِيهَا الْمَاءَ، وَأَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى بَاطِنَ الْأَرْضِ وَظَاهِرَهَا، فَكَانَ يُخْبِرُ سُلَيْمَانَ بِمَوْضِعِ الْمَاءِ، ثُمَّ كَانَتِ الْجِنُّ تُخْرِجُهُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، تَسْلَخُ عَنْهُ وَجْهَ الْأَرْضِ كَمَا تُسْلَخُ الشَّاةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سَلَامٍ. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ. قَالَ: أَتَسْأَلُنِي وَأَنْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: لِمَ تَفَقَّدَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ دُونَ سَائِرِ الطَّيْرِ؟ قَالَ: احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْ عُمْقَهُ- أَوْ قَالَ مَسَافَتَهُ-، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَعْرِفُ ذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الطَّيْرِ فَتَفَقَّدَهُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ النَّقَّاشِ: كَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا."
يعني عمله عمل المهندس، عمل الجيولوجي الذي يعرف مواطن الماء.
طالب:..........
واحد، نعم، الطائر واحد، الهدهد واحد ليس بجميع، ما تفقد جميع أنواع هذا الطير، أو جميع أفراده، لا، تفقد هذا الطير الذي يصحبه في سفره.
" وَرُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا وَقَّافُ، كَيْفَ يَرَى الْهُدْهُدُ بَاطِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ لَا يَرَى الْفَخَّ حِينَ يَقَعُ فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ تَفَقَّدَ الْهُدْهُدَ مِنَ الطَّيْرِ؟ فَقَالَ: نَزَلَ مَنْزِلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا بُعْدُ الْمَاءِ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ مُهْتَدِيًا إِلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقُلْتُ: كَيْفَ يَهْتَدِي وَالصَّبِيُّ يَضَعُ لَهُ الْحِبَالَةَ فَيَصِيدُهُ؟ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إِلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ.
قُلْتُ: هَذَا الْجَوَابُ قَدْ قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَنْشَدُوا:
إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ | وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَرَأْيٍ وَنَظَرْ |
وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا | يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ |
غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ | وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ |
حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ | رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ |
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي مَسِيرِهِ إِلَّا هُدْهُدٌ وَاحِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ. فَانْظُرْ إِلَى الْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ كَيْفَ لَمْ يَخْف عَلَى سُلَيْمَانَ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعِظَامِ الْمُلْكِ. وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ، قَالَ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ. فَمَا ظَنُّكَ بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ وَيَضِيعُ الرُّعْيَانُ؟ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ. الْحَدِيثَ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ هَذَا الْخُرُوجُ مِنْ عُمَرَ بَعْدَ مَا فُتِحَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ عَلَى مَا ذكره خليفة بن خياط. كَانَ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَأَحْوَالَ أُمَرَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَبَيَّنَّا مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ تَفَقُّدِ أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، وَمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَالسَّفَرِ إِلَى ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ. وَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ الْمُبَارَكِ حَيْثُ يَقُولُ:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ | وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا |
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [سورة النمل:20] أَيْ مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ كقولك: مالي أراك كئيبًا؟ أي مالك؟ وَالْهُدْهُدُ طَيْرٌ مَعْرُوفٌ وَهَدْهَدَتُهُ صَوْتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا مَقْصِدُ الْكَلَامِ الْهُدْهُدُ غَابَ، لَكِنَّهُ أَخَذَ اللَّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَرَاهُ،.."
من لازم الغائب أنَّه لا يُرى، من لازمه أنَّه لا يرى.
" فَاسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَلَى اللَّازِمِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {مَا لِيَ} نَابَ مَنَابَ الْأَلِفِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا أَمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَدْلِ، فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: {مَا لِيَ}."
نعمة الهدهد يعني فائدته في اكتشاف الماء هذه النعمة لا تُقدر بقدر.
" قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَفْعَلُهُ شُيُوخُ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ، هَذَا فِي الْآدَابِ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ!. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ.."
يقصد بالشيوخ أهل التحري والتثبت وإلا فمن نسبوا إلى هذه الفرقة التي هي الصوفية لا شك أنَّ التغير- تغير الحال- يدل على تغيير في النفس، فالإنسان إذا رأى تغيرًا في نفسه أو في ماله أو في ولده يتفقد نفسه، ماذا حصل عنده من التقصير؛ لأنَّ هذا التغير ما حصل إلا بتغير النفس، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد:11]، فقدوا مالهم، في بعض النُّسخ آمالهم، تفقدوا أعمالهم، وهذا بالنسبة للمستحبات، فكيف بالواجبات؟ فكيف بمن يترك الواجبات؟ في الغالب أنَّ من يترك الواجبات أو يرتكب المحرمات لا يوفق لمثل هذا التفقد، ولو تفقد ما وقف لكثرة ما عنده، فيحيل هذا التغير إلى أي ذنب يرتكبه؛ لكثرة ما عنده من الذنوب، لكن الذي عنده مخالفة قد تكون بارتكاب مكروه، أو بترك مستحب أو خلاف الأولى كما هي شأن المقربين، فمثل هذا يتلافى ما عنده. أمَّا المكثر فمثل هذا يحتاج إلى توبة صادقة نصوح تجب ما عنده من هذه الذنوب والمعاصي والآثام، ثم بعد ذلك يبدأ حياة جديدة.
"وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ وَأَيُّوبُ:" ماليَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي (يس) {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة يس:22]. وَأَسْكَنَهَا حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الَّتِي فِي (يس) وَإِسْكَانِ هَذِهِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي فِي (النَّمْلِ) اسْتِفْهَامٌ، وَالْأُخْرَى انْتِفَاءٌ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْإِسْكَانَ {فَقالَ مَا لِيَ}. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ مُبْتَدًَا، وَبَيْنَ مَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَاءُ النَّفْسِ، مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا،.."
يعني (ياء) المتكلم، يعني نفس ياء المتكلم.
"مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا فَقَرَؤوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ فِي يَاءِ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ مَفْتُوحَةً؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ وَهِيَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الِاخْتِيَارُ ألا تسكن فيجحف الاسم. {أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ} [سورة النمل:20] بمعنى بل.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [سورة النمل:21] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ.."
تأويل (أم) هنا بمعنى (بل)؛ لأنَّ (أم) هذه لم يسبقها الهمزة، ولا (سواء)، لا همزة التسوية ولا (سواء) فاحتيج إلى تأويلها بـ (بل).
وأم بها اعطف عن أثر همز التسويه | أو همزة عن لفظ أي مغنيه |
ولا يوجد هذا ولا هذا فاحتيج إلى تأويلها بـ (بل)؛ لأنَّ (أم) هذه لا تأتي إلا على أثر همزة تسوية. في حديث جابر- رضي الله عنه- في الصحيح: «هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا»، وكثر كلام أهل العلم في تأويل (أم) هذه؛ لأنَّها لا تأتي بعد هل إنَّما تأتي بعد الهمزة، ويكثر في أسئلة الناس في الاختبارات وغيرها هل يجوز هذا أم لا؟ هذا ليس بمستقيم على قول جمهور النحاة.
"الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [سورة النمل:21] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ".
{عَذابًا شَدِيدًا} [سورة النمل:21] بطائر بقدر الكف، لكن بقدر الذنب؛ لأنَّ ذهاب الهدهد قد يكون سببًا في هلاك بشر كثير، فذنبه عظيم وجرمه عظيم لو ترك هذه المهمة التي وكلت إليه، وكثير من الناس يترك ما وكل إليه عَظُمَ أو صَغُر من غير مبالاة ولو ترتب عليه ما ترتب، لكن على الإنسان أن يحتاط لنفسه.
" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ، أَمَا إِنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ تَعْذِيبَهُ لِلطَّيْرِ كَانَ بِأَنْ يُنْتَف رِيشُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رِيشُهُ أَجْمَعُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: جَنَاحَاهُ. فَعَلَ سُلَيْمَانُ هَذَا بِالْهُدْهُدِ إِغْلَاظًا عَلَى الْعَاصِينَ، وَعِقَابًا عَلَى إِخْلَالِهِ بِنَوْبَتِهِ وَرُتْبَتِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا أَبَاحَ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ لِلْأَكْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي" نَوَادِرِ الْأُصُولِ" قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو الرَّبِيعِ الْإِيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ الْجَعْفِيِّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْحِرِّيتِ،.."
الْجُعْفِيِّ
طالب: الْجُعْفِيِّ
مثل البُخاري.
"عَنِ الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْحِرِّيتِ،.."
الْخِرِّيتِ ما عند نقطة؟
طالب: الْخِرِّيتِ.
نعم.
"عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: إِنَّمَا صَرَفَ اللَّهُ شَرَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْهُدْهُدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ. وَسَيَأْتِي. وَقِيلَ: تَعْذِيبُهُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ أَضْدَادِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَضْيَقُ السُّجُونِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ، وَقِيلَ: لَأُلْزِمَنَّهُ خِدْمَةَ أَقْرَانِهِ. وَقِيلَ: إِيدَاعُهُ الْقَفَصَ. وَقِيلَ: بِأَنْ يَجْعَلَهُ لِلشَّمْسِ بَعْدَ نَتْفِهِ. وَقِيلَ: بِتَبْعِيدِهِ عَنْ خِدْمَتِي، وَالْمُلُوكُ يُؤَدِّبُونَ بِالْهِجْرَانِ الْجَسَدَ بِتَفْرِيقِ إِلْفِهِ. وَهُوَ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ لَازِمَةٌ هِيَ أَوِ الْخَفِيفَةُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَوْ قُرِئَتْ "لَأَعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ" جَازَ. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [سورة النمل:21] أَيْ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ. وَلَيْسَتِ اللَّامُ فِي {لَيَأْتِيَنِّي} لَامَ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْسِمُ سُلَيْمَانُ عَلَى فِعْلِ الْهُدْهُدِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ فِي أَثَرِ قَوْلِهِ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ}، وَهُوَ مِمَّا جَازَ بِهِ الْقَسَمُ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ:" لَيَأْتِيَنَّنِي" بِنُونَيْنِ."
نعم، الإنسان إنَّما يقسم على فعل نفسه، إذا أراد أن يؤكد فعله بالقسم أكده، لكن يقسم على غيره أن يفعل كذا، والله ليأتينني ما تجيء، إنَّما يُقسم على ما يملك.
" الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [سورة النمل:22] أَيِ الْهُدْهُدُ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا. وَمَعْنَاهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ أَقَامَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَمَا قَالُوا: قَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا. قَالَ: وَمَكَثَ مِثْلُ ظَرَفَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْفَتْحُ أَحْسَنُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ماكِثِينَ} إِذْ هُوَ مِنْ مَكَثَ، يُقَالُ: مَكَثَ يَمْكُثُ فَهُوَ مَاكِثٌ، وَمَكُثَ يَمْكُثُ مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ فَهُوَ مَكِيثٌ، مِثْلُ عَظِيمٍ. وَمَكُثَ يَمْكُثُ فَهُوَ مَاكِثٌ، مِثْلُ حَمُضَ يَحْمُضُ فَهُوَ حَامِضٌ. وَالضَّمِيرُ فِي {مَكَثَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: بَقِيَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ وَالْوَعِيدِ غَيْرَ طَوِيلٍ أَيْ غَيْرَ وَقْتٍ طَوِيلٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْهُدْهُدِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. فَجَاءَ: {فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} [سورة النمل:22] وَهِيَ السَّادِسَةُ".
نعم السياق يدل على أنَّ الذي مكث هو الهدهد، السياق يقتضي هذا لعطفه، قال، وهو له أن يكون الفاعل على نسق واحد وهو الهدهد في الفعلين.
" السَّادِسَةُ: أَيْ عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ {أَحَطُّ} يُدْغِمُ التَّاءَ فِي الطَّاءِ. وَحَكَى" أَحَتُّ" بِقَلْبِ الطَّاءِ تَاءً وَتُدْغَمُ."
الأنبياء وغيرهم من الخلق لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله به، النبي إذا أعلمه الله- جلَّ وعلا- بشيء يخفى عليه لولا هذا التعليم هو كغيره، لا يعلم الغيب إلا الله- جلَّ وعلا-، من يدعي علم الغيب من الكهنة والعراف والمنجمين هؤلاء كفار- نسأل الله السلامة والعافية-، فلا يعلم الغيب إلا الله- جلَّ وعلا-.
" السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [سورة النمل:22] أَعْلَمَ سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا تَوَعَّدَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالذَّبْحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" سَبَإٍ" بِالصَّرْفِ. وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" سَبَأَ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَرْكِ الصَّرْفِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ نُسِبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمُ فِي ذُرَى سَبَإٍ | قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ |
وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ رَجُلٍ، وَقَالَ:" سَبَإٍ" اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبَ بِالْيَمَنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثلاثة أيام.
قلت: وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال. قال قتادة والسدي: بعث إليه اثنى عشرة نبيًّا".
بعث إلى الهدهد أم ماذا؟ على كل حال هذا كلام في نسخة دون سائر النسخ، ما بين قوسين في بعض النسخ، عندكم؟
طالب:.........
أي، لكن ما تمشي، وقع في عيون المعاني عندكم؟ في نسخة من بعض النسخ باء دون سائر النسخ، وهذا الجزء قوبل على نسخ كثيرة جدًّا، يعني على ثماني نسخ، قوبل على ثماني نسخ، بعض الأجزاء قوبلت على ثلاث عشرة نسخة.
طالب: لعله يقصد سبأ، بعثوا إلى سبأـ ثلاثة عشرة نبيًّا؟
ما بعد صار شيء بينه وبين سبأ هذا كلام الهدهد.
طالب: اسم رجل بُعث إليه اثنى عشرة نبيًّا.
يُمكن بُعث اثنى عشرة، لو بعث صار اثنين، بُعث إليه يعني هذا الرجل الذي هو بسبأ بُعث عليه اثنى عشرة نبيًّا أو هذا البلد بُعث إليه اثنى عشرة نبيًّا ممكن. بُعث إليه اثنى عشرة نبيًّا لو كانت بَعث يعني سليمان صار اثني عشر.
" وَأَنْشَدَ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ | يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا |
قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَصْرِفْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ،.."
نعم، فيُمنع من الصرف للعالمية والتأنيث.
" وَمَنْ صَرَفَ وَهُوَ الْأَكْثَرُ؛ فَلِأَنَّهُ اسْمُ الْبَلَدِ، فَيَكُونُ مُذَكَّرًا سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّرٌ. وَقِيلَ: اسْمُ امْرَأَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، كَذَلِكَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَفِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الزَّجَّاجِ فَخَبَطَ عَشْوَاءَ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرُّؤَاسِيَّ سَأَلَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ سَبَإٍ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَتَأَوَّلَ الْفَرَّاءُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الشَّيْءُ لَمْ يَنْصَرِفْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي حِكَايَةِ الرُّؤَاسِيِّ عَنْهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَوْ سُئِلَ نَحْوِيٌّ عَنِ اسْمٍ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الصَّرْفِ، بَلِ الْحَقُّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَالْوَاجِبُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَنْ يَصْرِفَهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَسْمَاءِ الصَّرْفُ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الشَّيْءُ مِنَ الصَّرْفِ لِعِلَّةٍ دَاخِلَةٍ عَلَيْهِ، فَالْأَصْلُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِمَا لَا يُعْرَفُ."
نعم، هذا كلام متين جيد يُحتاج إليه كثيرًا، يعني إذا جهلت هذه الكلمة هل هي مصروفة أو غير مصروفة هل تمنعه من الصرف كما قيل هنا، أو تصرفها على الأصل بأنَّ الأسماء الأصل فيها أنَّها متمكنة، أمكن فهي مصروفة ولا تمنعه من الصرف إلا إذا تحققت العلة، ومادمت تجهل العلة المانعة من الصرف فتبقى على الأصل، وهذا الكلام مثله قل أن يشير إليه أحد.
" وَذَكَرَ كَلَامًا كثيرا عَنِ النُّحَاةِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَالْقَوْلُ فِي" سَبَإٍ" مَا جَاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإِنْ صَرَفْتَهُ؛ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ مِثْلَ ثَمُودَ إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَاطِعَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمَّا كَانَ يَقَعُ لَهُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَانَ التَّذْكِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَخَفُّ.
الثَّامِنَةُ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ وَالْمُتَعَلِّمَ لِلْعَالِمِ: عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَكَ إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ. هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ جَلَالَتِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعِلْمِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِئْذَانِ. وَكَانَ عِلْمُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ،.."
حتى استأذن عليه أبو موسى الأشعري ثلاثة ثم انصرف، فبلغه حينئذٍ إذ انضم أبو سعيد خبر الاستئذان.
" وَغَابَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَا: لَا يَتَيَمَّمُ الْجُنُبُ. وَكَانَ حُكْمُ الْإِذْنِ فِي أَنْ تَنْفِرَ الْحَائِضُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَعْلَمْهُ عُمَرُ وَلَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَكَانَ غَسْلُ رَأْسِ الْمُحْرِمِ مَعْلُومًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَفِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَلَا يُطَوَّلُ بِهِ.
التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [سورة النمل:23] لَمَّا قَالَ الْهُدْهُدُ: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [سورة النمل:22] قَالَ سُلَيْمَانُ: وَمَا ذَلِكَ الْخَبَرُ؟ قَالَ: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [سورة النمل:23] يَعْنِي بِلْقِيسَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ تَمْلِكُ أَهْلَ سَبَإٍ. وَيُقَالُ: كيف خفي عَلَى سُلَيْمَانَ مَكَانُهَا، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ مَحَطِّهِ وَبَيْنَ بَلَدِهَا قَرِيبَةً، وَهِيَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَمَأْرِبَ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، كَمَا أَخْفَى عَلَى يَعْقُوبَ مَكَانَ يُوسُفَ. وَيُرْوَى أَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ، وَيَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَلِدُونَ، كَذَبُوا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا، فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ."
على كل حال المسألة خلافية في مسألة التزاوج بين الأنس والجن مسألة خلافية بين أهل العلم، حتى من من ينتسب إلى التحقيق قد يُنكره، فليس هذا خاص بالملحدة ممن أنكره الماوردي إمام من أئمة الشافعية، ونص على أنَّه لا يُمكن.
طالب:........
نعم، الماوردي تأثر ولو من بُعد ببعض الأقوال التي تبناها المعتزلة تقديم العقل، تأثر الماوردي بشيء من هذا وقال في كتابه أدب الدنيا والدين: والمتبوع إمَّا عقل مطبوع أو نص مسموع، فعنده تأثر بشيء من هذا، ومن يميل إلى الأمور العقلية هذه لا يُمكن أن يدخل في تفاصيل مثل هذه الأمور، يعني فيها مباشرة.
طالب:........
الملاحدة والزنادقة .....
طالب:.......
نعم ملاحدة وزنادقة.
" قُلْتُ: خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْجِنِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ انْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ جُمْجُمَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَنَا فِيهَا رِزْقًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ»، وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ فَقَالَ: «هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ، وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَلَّا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا»، وَهَذَا كُلُّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُمْ يَطْعَمُونَ. وَأَمَّا نِكَاحُهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي (سُبْحَانَ) عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ} [سورة الإسراء:64]. وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جرير ابن حَازِمٍ".
وهيب بالتصغير.
"وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جرير بن حَازِمٍ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ بِلْقِيسَ مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا: بَلْعَمَةُ بِنْتُ شَيْصَانَ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى."
يعني في القصص وما يُحكى أنَّ التزاوج بين الإنس والجن واقع، وحصل وقائع يتحدث عنها الناس، ويسأل بعض النساء أنَّ من الجن ممن خالطها لا يُمكنها من أداء الصلاة حتى يُجامعها- نسأل الله العافية-، دلَّ على أنَّ هذا ممكن.
طالب:.........
ماذا فيه؟
طالب:.........
لا، هذا زاد إخوانكم من الجن، جنس.
طالب:.........
أمَّا طعام المسلمين فللمسلمين، وما يطعمه الكفار فهو للكفار، يعني عظم الخنزير يُمكن يأكله كافر من كفار الجن، وهكذا.
طالب:........
شيصان، بلعمة بنت شيصان. نعم.
طالب:........
ماذا فيه؟
طالب:........
نعم، ما يجوز، ما يجوز أبدًا، شرح غذاء الألباب شرح نظم ثلاثة فيه شيء من هذا، يذكرون هذا كأنَّ كتب الطب تتوارد على مثل هذا، لكنه ما يجوز، رموز للشياطين- نسأل الله العافية- هم يرونها من الأسباب العادية جربوها فنفعت، لكن لا يجوز هذا أبدًا.
" الْعَاشِرَةُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً »، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ.."
ولا خلاف فيه يعني هذا محل إجماع بين من؟ بين أهل العلم.
"وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ نُقِلَ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنَّمَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ ذَلِكَ التَّحْكِيمُ وَالِاسْتِنَابَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ. وَلَمْ يَصِحَّ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ،.."
نعم، فالحسبة من شأن الرجال، الحسبة من شأن الرجال وليست من شأن النساء، كما جاء في الحديث الصحيح: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، ما قال اغدي يا فلانة، أو يا فلانة من النساء مع أنَّ القضية تتعلق بامرأة فدلَّ على أنَّ هذا من شأن الرجال، لا من شأن النساء.
طالب:.........
يعني أسواق نسائية مغلقة لا يدخلها رجال، نعم، فيحتجن إلى محتسبات يبلغن الرجال، يعني الأمور الفصل يكون عند الرجال حتى في مثل هذه الحالة. أمَّا الأمر والنهي فأمر سهل بداياته والأمر باللسان سهل، لكن الإجراءات العملية شأن المرأة أن تُبلغ الرجال.
" فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِيُّ مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنَ الْمَرْأَةِ كَإِمْكَانِهِ مِنَ الرَّجُلِ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ حِفْظُ الثُّغُورِ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنَ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيهِ مِنَ الرَّجُلِ. قال ابن العربي: وليس في كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إِلَى الْمَجْلِسِ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِير؛ِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ، وَتَكُونُ مُنَاظِرَةً لَهُمْ، وَلَنْ يُفْلِحَ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا وَلَا مَنِ اعْتَقَدَهُ."
المرأة البارزة التي تكثر بروزها وخروجها إلى السوق، ومزاولة البيع والشراء مع الرجال مثل هذه تكون بارزة، ويقل الحياء عندها، ويكون لها من الأحكام ما لا يكون للمخدرات.
"الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل:23] مُبَالَغَةٌ، أَيْ مِمَّا تَحْتَاجُهُ الملكة".
الْمَمْلَكَةُ.
" أَيْ مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَمْلَكَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أُوتِيَتْ من كل شيء فِي زَمَانِهَا شَيْئًا فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ دَلَّ عَلَيْهِ. {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} [سورة النمل:23] أَيْ سَرِيرٌ، وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ فِي الْهَيْئَةِ وَرُتْبَةِ السُّلْطَانِ. قِيلَ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ تَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ هُنَا الْمُلْكُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها} [سورة النمل:38]. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ سَوَّى الْهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّهِ فِي الْوَصْفِ بِالْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بَوْنٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعَظِيمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلى عروش أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ، وَوَصْفُ عَرْشِ اللَّهِ بِالْعَظِيمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ."
عِظَم نسبي.
" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طُولُ عَرْشِهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، مُكَلَّلٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ. قال قَتَادَةُ: وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، عَلَيْهِ سَبْعَةُ مَغَالِيقَ. قال مُقَاتِلٌ: كَانَ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا فِي ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَارْتِفَاعُهُ مِنَ الْأَرْضِ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ. وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يَخْدُمُهَا النِّسَاءُ، وكان لِخِدْمَتِهَا سِتُّمِائَةُ امْرَأَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا امْرَأَةٌ مُلِّكَتْ عَلَى مَدَائِنِ الْيَمَنِ، ذَاتُ مُلْكٍ عَظِيمٍ، وَسَرِيرٍ عَظِيمٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً مِنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة النمل:24] قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا زَنَادِقَةً فِيمَا يُرْوَى. وَقِيلَ: كَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الْأَنْوَارَ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أن الوقف على {عَرْشٌ}. قال المهدوي: فعظيم عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ عَظِيمٌ أَنْ وَجَدْتَهَا، أَيْ وَجُودِي إِيَّاهَا كَافِرَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} وَقْفٌ حَسَنٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَى {عَرْشٌ} وَيَبْتَدِئَ {عَظِيمٌ وَجَدْتُها} إِلَّا عَلَى مَنْ فَتَحَ؛ لِأَنَّ عَظِيمًا نَعْتٌ لعرش فلو كان متعلقا بوجدتها لَقُلْتَ عَظِيمَةً وَجَدْتُّهَا، وَهَذَا مُحَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ.."
يعني من كل وجه، لا من الرواية ولا من المعنى؛ لأنَّ القراءة ما فيها عظيمة، عظيم فيستحيل أن يرجع الضمير المؤنث إلى مذكر.
طالب:.........
{وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ}
طالب:.........
هنا قبل وجودها، يقول لها عرش عظيم، وجدتها وقومها.
طالب:........
كل هذا من أجل أن لا يوصف العرش بالعظم فيُشبه عرش الرحمن، كل هذا فرارًا من هذا، والعِظم نسبي، العِظم نسبي ما فيه أدنى إشكال، يعني ما يُمكن أن يوصف بعض ما يقتنيه المخلوق بالعِظم، ما في أدنى إشكال.
طالب:........
فين.
طالب:.......
نعم.
" وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: الْوَقْفُ عَلَى {عَرْشٌ}، وَالِابْتِدَاءُ {عَظِيمٌ} عَلَى مَعْنَى عَظِيمٌ عِبَادَتُهُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ عَرْشَهَا أَحْقَرُ وَأَدَقُّ شَأْنًا مِنْ أَنْ يَصِفَهُ اللَّهُ بِالْعَظِيمِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالِاخْتِيَارُ.."
الذي وصفه هو الهدهد، والله- جلَّ وعلا- يذكر قول الهدهد.
طالب:.........
نعم، لو كان ليس بعظيم ما وكل إلى مثل هذا.
" قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالِاخْتِيَارُ عِنْدِي مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِضْمَارِ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ دَلِيلٌ. وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَصِفَ الْهُدْهُدَ عَرْشَهَا بِالْعَظِيمِ إِذَا رَأهُ مُتَنَاهِيَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَجَرْيُهُ عَلَى إِعْرَابِ {عَرْشٌ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُهُ."
يعني كونه مرفوعًا بمثله دل على أنَّه صفته.
" {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ}[سورة النمل:24] أَيْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [سورة النمل:24] أَيْ عَنْ طَرِيقِ التَّوْحِيدِ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِسَبِيلِ التَّوْحِيدِ فَلَيْسَ بِسَبِيلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ."
هذا وجوده مثل عمده، السبيل المقصود به المستقيم سواء الصراط هو الطريق القويم وما عداه كأنَّه لا يوجد.
" {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} إِلَى اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [سورة النمل:25] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بِتَشْدِيدِ (أَلَّا)، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} غَيْرُ تَامٍّ لِمَنْ شَدَّدَ (أَلَّا)؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَلَّا يَسْجُدُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ (أَنْ) دَخَلَتْ عَلَيْهَا (لَا) وَ (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: بِـ {زَيَّنَ} أَيْ وَزَيَّنَ لَهُمْ لِئَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بِـ {فَصَدَّهُمْ} أَيْ فَصَدَّهُمْ أَلَّا يَسْجُدُوا. وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: (أَنْ) بَدَلٌ مِنْ {أَعْمالَهُمْ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَقَالَ أبو عمرو: و (أن) في موضع حفض عَلَى الْبَدَلِ مِنَ السَّبِيلِ وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا {لَا يَهْتَدُونَ} أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ (لَا) زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [سورة ص:75] أَيْ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَلَيْسَ بِمَوْضِعِ سَجْدَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ، إِمَّا بِالتَّزْيِينِ، أَوْ بِالصَّدِّ، أَوْ بِمَنْعِ الِاهْتِدَاءِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا: {أَلَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بِمَعْنَى أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا؛ لِأَنَّ (يَا) يُنَادَى بِهَا الْأَسْمَاءُ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ | وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ |
قَالَ سِيبَوَيْهِ: (يَا) لِغَيْرِ اللَّعْنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلَّعْنَةِ لَنَصَبَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ مُنَادًى مُضَافًا،.."
نعم، لا بد من تقدير ما يُمكن نداؤه، أمَّا ما لا يُمكن نداؤه فدخول (ياء) النداء عليه لا يسوغ لا من حيث المعنى ولا من حيث العربية؛ إذًا لابد من التقدير وإذا قلنا: يسجدوا، (يا) نداء، كنا قدرنا " يا هؤلاء".
" وَلَكِنَّ تَقْدِيرَهُ يَا هَؤُلَاءِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ عَلَى سَمْعَانَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ: أَلَا يَا ارْحَمُوا، أَلَا يَا اصْدُقُوا. يُرِيدُونَ أَلَا يَا قَوْمٌ ارْحَمُوا اصْدُقُوا، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ {اسْجُدُوا} فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالْأَمْرِ وَالْوَقْفِ عَلَى "أَلَا يَا" ثُمَّ تَبْتَدِئُ فَتَقُولُ: "اسْجُدُوا". قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كُنْتُ أَسْمَعُ الْأَشْيَاخَ يَقْرَءُونَهَا إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى نِيَّةِ الْأَمْرِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ:" أَلَا هَلْ تَسْجُدُونَ لِلَّهِ" بِالتَّاءِ وَالنُّونِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ" أَلَا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ" فَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ حُجَّةٌ لِمَنْ خَفَّفَ. قال الزَّجَّاجُ: وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَقْتَضِي وُجُوبَ السُّجُودِ دُونَ التَّشْدِيدِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. وَقَالَ: التَّخْفِيفُ وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ الْخَبَرِ مِنْ أَمْرِ سَبَأٍ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ إِلَى ذِكْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا انْقِطَاعَ فِي وَسَطِهِ. وَنَحْوَهُ قَالَ النَّحَّاسُ. قَالَ: قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ بَعِيدَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَكُونُ مُعْتَرَضًا، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ يَكُونُ الْكَلَامُ بِهَا مُتَّسِقًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّوَادَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ أَلِفَانِ، وَإِنَّمَا يُخْتَصَرُ مِثْلُ هَذَا بِحَذْفِ أَلِفٍ وَاحِدَةٍ نَحْوَ يَا عيسى بن مَرْيَمَ.
قال ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَسَقَطَتْ أَلِفُ "اسْجُدُوا" كَمَا تَسْقُطُ مَعَ هَؤُلَاءِ إِذَا ظَهَرَ، وَلَمَّا سَقَطَتْ أَلِفُ (يَا) وَاتَّصَلَتْ بِهَا أَلِفُ "اسْجُدُوا" سَقَطَتْ، فَعُدَّ سُقُوطُهَا دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَإِيثَارًا لِمَا يَخِفُّ وَتَقِلُّ أَلْفَاظُهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ" يَا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْبِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَا اسْجُدُوا لِلَّهِ، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ " يَا" لِلتَّنْبِيهِ سقطت الألف التي في" اسجدوا"؛ لأنها أَلِفُ وَصْلٍ، وَذَهَبَتِ الْأَلِفُ الَّتِي فِي" يَا" لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَّهَا وَالسِّينَ سَاكِنَتَانِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى | وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ |
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ مِنَ الْهُدْهُدِ.."
كلام الجوهري في آخر كتاب الصحاح، قال: إن (يا) في هذا الموضع إنَّما هي للتنبيه وليست للنداء، كأنَّه قال:" ألا اسجدوا" يعني أمر بالسجود بعض العرض والتحضيض، فلمَّا أدخلت (الياء)، ياء التنبيه سقطت الألف التي في اسجدوا؛ لأنَّها ألف وصل، وألف الوصل كما أنَّها ساقطة في النطق قد تسقط في الخط.
"وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ مِنَ الْهُدْهُدِ أَوْ سُلَيْمَانَ أَوْ مِنَ اللَّهِ. أَيْ أَلَا لِيَسْجُدُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [سورة الجاثية:14] قِيلَ: إِنَّهُ أَمْرٌ أَيْ لِيَغْفِرُوا. وَتَنْتَظِمُ عَلَى هَذَا كِتَابَةُ المصحف، أي ليس ها هنا نِدَاءٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ إِلَى قَوْلِهِ: {الْعَظِيمِ}، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَيُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْنَى شَرْعٍ؟"
في معنى شرع، يعني شرعيًّا.
" وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ عَنِ الْقَوْمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَهُوَ الثَّابِتُ مَعَ التَّأَمُّلِ، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي (أَلَّا).."
لأنَّ الأمر إنَّما يكون لمن له الأمر، وهو الله- جلَّ وعلا- فلا يأمر بالسجود إلا الله، أو نبيه المبلغ عنه.
" وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي (أَلَّا) تُعْطِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لِلْهُدْهُدِ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَمْنَعُهُ، وَالتَّخْفِيفُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- لِلْأَمْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ أَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ على الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَمْ فِي إِحْدَاهُمَا؟ قُلْتُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ السَّجْدَةِ إِمَّا أَمْرٌ بِهَا، أَوْ مَدْحٌ لِمَنْ أَتَى بِهَا، أَوْ ذَمٌّ لِمَنْ تَرَكَهَا، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ."
أمَّا ما قاله الزمخشري فهو تبعًا لإمامه- الإمام أبي حنيفة- الزمخشري حنفي المذهب، وعند الحنفية سجود التلاوة واجب، وهو الذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-، والجمهور على أنَّه سُنَّة ليس بواجب.
"قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عن الكفار بأنهم يَسْجُدُونَ كَمَا فِي (الِانْشِقَاقِ)، وَسَجَدَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ (النَّمْلُ)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ.
{الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [سورة النمل:25] خَبْءُ السَّمَاءِ قَطْرُهَا، وَخَبْءُ الْأَرْضِ كُنُوزُهَا وَنَبَاتُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَبْءُ السِّرُّ. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى. أَيْ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عليه {ما يُخْفُونَ وَما يُعْلِنُونَ}. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ:" الْخَبُ" بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ التَّخْفِيفُ الْقِيَاسِيُّ، وَذَكَرَ مَنْ يَتْرُكُ الْهَمْزَ فِي الوقف. وقال النحاس: وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَرَأَ:" الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَا" بِأَلِفٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ إِنْ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْبَاءِ فَقَالَ: "الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وَأَنَّهُ إِنْ حَوَّلَ الْهَمْزَةَ قَالَ: الْخَبْيُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: كَانَ أَبُو حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ لَمْ يَلْقَ أَعْلَمَ مِنْهُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ.."
أبو حاتم هذا معروف مرَّ بنا مرارًا الذي هو أبو حاتم السجستاني العارف بلغة العرب وأحوالها، وهو إمام مشهور وإن كان دون أصحابه في النحو لإمامة أصحابه وتفوقهم عليه، لكن لا يعني أنَّه ليس بعالم في هذا الباب.
"وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَفْتُوحَةً، وَتُبْدِلُ مِنْهَا وَاوًا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَضْمُومَةً، وَتُبْدِلُ مِنْهَا يَاءً إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَكْسُورَةً، فَتَقُولُ: هَذَا الْوَثْوُ وَعَجِبْتُ مِنَ الْوَثْيِ وَرَأَيْتُ الْوَثَا، وَهَذَا مِنْ وُثِئَتْ يَدُهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْخَبْوُ وَعَجِبْتُ مِنَ الْخَبْيِ، وَرَأَيْتُ الْخَبَا، وَإِنَّمَا فُعِلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ خَفِيفَةٌ فَأُبْدِلَ مِنْهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ أنهم يقولون: هذا الخبو، يَضُمُّونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَضْمُومَةً، وَيُثْبِتُونَ الْهَمْزَةَ وَيَكْسِرُونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَكْسُورَةً، وَيَفْتَحُونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةً. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَكْسِرُونَ وَإِنْ كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَضْمُومَةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا عَنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَيَقُولُونَ: الرَّدِيءُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَضُمُّوا الدَّالَّ؛ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ضَمَّةً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعُلٌ. وَهَذِهِ كُلُّهَا لُغَاتٌ دَاخِلَةٌ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ،
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَا مِنَ السَّمَاوَاتِ" وَ (مِنْ) وَ (فِي) يَتَعَاقَبَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ يُرِيدُ مِنْكُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. {وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [سورة النمل:25]"
أمَّا تغير الحرف قبل الهمزة تبعًا للعوامل وتغير الهمزة التي هي أخر الكلمة من ذلك امرء، تقول: لقيت امرءًا، وجاء امرؤً، ومررت بامرئ فتتغير حركات الراء تبعًا لتغير حركات الهمزة، ومثل الخبء.
" {وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [سورة النمل:25] قِرَاءَةُ العامة فيهما بياء، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُعْطِي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِتَوْحِيدِهِ وَوُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ، وَإِنْكَارِ سُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ، وَإِضَافَتِهِ لِلشَّيْطَانِ، وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ، مَا خَصَّ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، مِنَ الْمَعَارِفِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ تَهْتَدِي لَهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَحَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ: " تُخْفُونَ" وَ" تُعْلِنُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وهذه القراءة تعطى أن الآية مِنْ خِطَابِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
{اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة النمل:26] قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" الْعَظِيمِ: " رَفْعًا نَعْتًا لِلَّهِ. الْبَاقُونَ بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا عَدَاهُ فِي ضِمْنِهِ وَقَبْضَتِهِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَنْظُرُ} [سورة النمل:27] مِنَ النَّظَرِ.."
طالب:.........
في ضمنه، في ضمنه وقبضته؛ لأنَّه كالقبة على المخلوقات.
" وَمَا عَدَاهُ فِي ضِمْنِهِ وَقَبْضَتِهِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَنْظُرُ} [سورة النمل:27] مِنَ النَّظَرِ الَّذِي هُوَ التَّأَمُّلُ وَالتَّصَفُّحُ. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} [سورة النمل:27] فِي مَقَالَتِكَ. وَ {كُنْتَ} بِمَعْنَى أَنْتَ. وَقَالَ: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} وَلَمْ يَقُلْ سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِكَ؛ لِأَنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ بِفَخْرِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} [سورة النمل:22] صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِهِ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كَذَبْتَ، فَكَانَ ذَلِكَ كِفَاءً لِمَا قَالَهُ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: في قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} [سورة النمل:27] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ؛ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ."
يعني بعد أن توعده بالعذاب الشديد، اعتذر الهدهد قَبِل العذر وعفى عنه.
" وَإِنَّمَا صَارَ صِدْقُ الْهُدْهُدِ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَقْتَضِي الْجِهَادَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حُبِّبَ إِلَيْهِ الْجِهَادُ. وَفِي الصَّحِيحِ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ». وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ عُذْرَ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيٍّ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ. وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الْهُدْهُدَ: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} [سورة النمل:23] لَمْ يَسْتَفِزُّهُ الطَّمَعُ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمُلْكِ إِلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ حَتَّى قَالَ: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة النمل:24] فَغَاظَهُ حِينَئِذٍ مَا سَمِعَ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إِلَى مَا أُخْبِرَ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} [سورة النمل:27] وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الصَّحِيحُ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، حِينَ اسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: ايتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: لَا تبرح حتى تأتى بالمخرج مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ. وَنَحْوَهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ وَغَيْرِهِ."
وهذا من احتياط عمر- رضي الله عنه- في هذا الباب- في باب الرواية- عُرف عمر- رضي الله عنه- بالاحتياط؛ لئلا يتتابع الناس على الرواية ويتساهلون فيها، فيطلب من يشهد للراوي لا مكذبًا له، وإنَّما محتاط لسُنَّة النبي- عليه الصلاة والسلام-؛ وعلى هذا من يتضرع بقوله من المبتدعة الذين يريدون أن يوجهوا قول عمر ويستفيدوا منه بتأييد باطنهم في رد السُّنَّة، المبتدعة كالمعتزلة مثلًا يردون السُّنَّة إذا خالفت العقل هم لا يقبلونها إلا إذا كانت من رواية اثنين، ولا يقبلونها من رواية واحد استنادًا إلى فعل عمر.
فنقول: عمر فعله إنَّما كان احتياطًا للسُّنَّة وفعل هؤلاء إنَّما أرادوا أن يستفيدوا من قول عمر بردالسُّنَّة، فإذا رددنا عليهم مثل ابن حسين البصري المعتزلي، أو الجبائي أو غيرهم ممن يرى وجوب العدد في قبول الخبر فإننا لا نرد على عمر- رضي الله تعالى عنه- في مثل هذا، إنَّما نرد على من أراد أن يوجه قول عمر ليستفيد منه في بدعته التي تقتضي رد السُّنَّة.
طالب:............
{أصدقت} يعني هل أنت صادق؟
طالب:............
أي، لكن تنظر في تصاريف الكلمة، يعني صدقت في هذه المسألة، ويُنظر إليها ولو كان ممن عُرِفَ بعدم الضبط، أو بعدم العدالة والاستقامة ثم جاء بخبر لا يُستعجل في قبوله، لابد من التبين والتثبت، فإن كان مما ضبطه فإنَّه يُقبل، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات:6]. وأمَّا إذا كان جرب عليه الكذب في حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- ولو مرة واحدة فإنَّه ترد جميع أحاديثه، لكن إذا بُلي عليه الكذب مرة واحدة في حديثه مع الناس لا يُسمَّى كاذبًا إنَّما يُسمَّى متهمًا عند أهل العلم، ويفرقون بين صادق وصدوق وبين كاذب وكذاب إلى أخره، عندهم تصاريف هذه الكلمة لها أثرها في الحكم على الراوي.
"السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [سورة النمل: 28] قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي اللَّفْظِ. وَبِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْكَسْرَةِ.."
يعني بإثبات الياء من باب الإشباع، وإلا فالأصل أنَّ الفعل أمر وهو يجزم بما هو يُبنى بما يُجزم به مضارعه، لكن إثبات الياء إنَّما هي من باب الإشباع {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [سورة يوسف:90].
"وَبِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْكَسْرَةِ دَالَّةً عَلَيْهَا "فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ". وَبِضَمِّ الْهَاءِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ على الأصل "فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ". وَبِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِ الضَّمَّةِ" فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ". وَاللُّغَةُ الْخَامِسَةُ قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ" فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ". قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى حِيلَةٍ بَعِيدَةٍ تَكُونُ: يُقَدَّرُ الْوَقْفُ، وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِلَ وَهُوَ يَنْوِي الْوَقْفَ لَجَازَ أَنْ يُحْذَفَ الْإِعْرَابُ مِنَ الْأَسْمَاءِ."
نعم؛ لاحتمال نية الوقف.
" وَقَالَ: {إِلَيْهِمْ} عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [سورة النمل:24] فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْقِهْ إِلَى الَّذِينَ هَذَا دِينُهُمْ، اهْتِمَامًا مِنْهُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَاشْتِغَالًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ،.."
كأنَّ سليمان- عليه السلام- لم يعترف بملكها، لم يعترف بملكها فلم يسند الضمير إليها، وإنَّما أسنده إليهم بمجموعهم ولو كان معترفًا بملكها بمفردها لقال: فألقه إليها.
" وَبُنِيَ الْخِطَابُ فِي الْكِتَابِ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْهُدْهُدَ وَصَلَ فَأَلْفَى دُونَ هَذِهِ الْمَلِكَةِ حُجُبَ جُدْرَانٍ، فَعَمَدَ إِلَى كُوَّةٍ كَانَتْ بِلْقِيسُ صَنَعَتْهَا لِتَدْخُلَ مِنْهَا الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِمَعْنَى عِبَادَتِهَا إِيَّاهَا، فَدَخَلَ مِنْهَا وَرَمَى الْكِتَابَ عَلَى بِلْقِيسَ وَهِيَ- فِيمَا يُرْوَى- نَائِمَةٌ، فَلَمَّا انْتَبَهَتْ وَجَدَتْهُ فَرَاعَهَا، وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَوَجَدَتْ حَالَهَا كَمَا عَهِدَتْ، فَنَظَرَتْ إِلَى الْكُوَّةِ تَهَمُّمًا بِأَمْرِ الشَّمْسِ، فَرَأَتِ الْهُدْهُدَ فَعَلِمَتْ. وَقَالَ وَهْبٌ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ لَهَا كُوَّةٌ مُسْتَقْبِلَةً مَطْلِعَ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلَعَتْ سَجَدَتْ، فَسَدَّهَا الْهُدْهُدُ بِجَنَاحِهِ، فَارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَعْلَمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَتِ الشَّمْسَ قَامَتْ تَنْظُرُ فَرَمَى الصَّحِيفَةَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَاتَمَ ارْتَعَدَتْ وَخَضَعَتْ؛ لِأَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي خَاتَمِهِ، فَقَرَأَتْهُ فَجَمَعَتِ الْمَلَأَ مِنْ قَوْمِهَا فَخَاطَبَتْهُمْ بِمَا يَأْتِي بَعْدُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَمَلَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ بِمِنْقَارِهِ، وَطَارَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَحَوْلَهَا الْجُنُودُ وَالْعَسَاكِرُ، فَرَفْرَفَ سَاعَةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَرَفَعَتِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حِجْرِهَا.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ الْكُتُبِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ)."
في الصحيح وغيره أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- كتب إلى هرقل، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.. إلى آخره، والكتاب طويل، وكتب إلى غيره كسرى، والمقوقس وغيرهم.
"الثَّامِنَةَ عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [سورة النمل:28] أَمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أَدَبٍ لِيَتَنَحَّى حَسْبَ مَا يُتَأَدَّبُ بِهِ مَعَ الْمُلُوكِ. بمعنى: وكن قريبًا حتى ترى مراجعتهم، قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَيْ أَلْقِهِ وَارْجِعْ. قال: وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [سورة النمل:28] فِي مَعْنَى التَّقْدِيمِ عَلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ تَوَلَّ} وَاتِّسَاقُ رُتْبَةِ الْكَلَامِ أَظْهَرُ، أَيْ أَلْقِهِ ثُمَّ تَوَلَّ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ فانظر أي انتظر. وقيل: فاعلم، كقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ} أَيِ اعْلَمْ مَاذَا يَرْجِعُونَ أَيْ يُجِيبُونَ وَمَاذَا يَرُدُّونَ مِنَ الْقَوْلِ. وَقِيلَ: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [سورة النمل:28] يَتَرَاجَعُونَ بَيْنَهُمْ من الكلام."
كل هذا يُضعف القول بأنَّه يلق الكتاب ويرجع ما يجلس، فقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [سورة النمل:28] يعني انتظر إلى أن تعرف ردهم على هذا الخطاب، وتحاورهم فيه.
طالب:.........
كيف؟
طالب:........
هذا بجعل الله- جلَّ وعلا- فيه هذه القدرة؛ لأنَّه لمَّا كُلِّف بما يُكلَّف به العقلاء من قِبل سليمان- عليه السلام- وقام بالمهمة على أكمل وجه لا يمنع أن يكون مثلًا يعرف لذلك نقل لسليمان- عليه السلام- أنَّه خاطبه بكلام فهمه سليمان هل هو بهذه الحروف أو بما فهمه سليمان مما عُلِّم من منطق الطير، أو أنَّه قال بالحرف: {جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً ..} [سورة النمل:22-23] إلى آخره، هل قاله بهذا؟ إذا كان ينطق بهذا الكلام لا شك أنَّه يفهم كلام البشر.
طالب:........
مشاهدة، لكن لمَّا نطق كنطق البشر لا يمنع أن يكون يفهم مثلما يفهم البشر، ما فيه ما يمنع القدرة الإلهية صالحة لكل شيء، شيء ما ندري عنه.
طالب:..........
والله أعلم، هذا شيء ما.
طالب:..........
لكن الأصل أنَّ هذا الهدهد تكلم بهذا الكلام، والأصل أنَّ النملة تكلمت بذلك الكلام.
" قوله تعالى: {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [سورة النمل:29-31].
فيه ست مَسَائِلَ: الْأُولَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [سورة النمل:29] فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: فَذَهَبَ فَأَلْقَاهُ إليهم فسمعها وهي تقول: {يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا} ثُمَّ وَصَفَتِ الْكِتَابَ بِالْكَرِيمِ إِمَّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ عَظِيمٍ فِي نَفْسِهَا وَنُفُوسِهِمْ فَعَظَّمَتْهُ إِجْلَالًا لِسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَإِمَّا أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْهِ بالخاتم، فكرامة الْكِتَابِ خَتْمُهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}".
النبي- عليه الصلاة والسلام- اتخذ الخاتم، لمَّا قيل له إنَّهم لا يقرؤون إلا ما كان مختومًا اتخذ الخاتم.
" وَقَدْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أجذم»".
الحديث معروف ضعفه عند أهل العلم بجميع طرقه وألفاظه، إلا أنَّ لفظ الحمد «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله» حسنه ابن الصلاح والنووي وجمع من أهل العلم.
"وقيل: لأنه بدأ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا الْجُلَّةُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُقِرُّ لَكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا لَكَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: تَوَهَّمَتْ أَنَّهُ كِتَابٌ جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كان الموصل طيرًا. وقيل: {كَرِيمٌ} حسن، كقول: {وَمَقامٍ كَرِيمٍ} أَيْ مَجْلِسٍ حَسَنٍ. وَقِيلَ: وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ، لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ لِينِ الْقَوْلِ وَالْمَوْعِظَةِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَحُسْنِ الِاسْتِعْطَافِ وَالِاسْتِلْطَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ سَبًّا وَلَا لَعْنًا، وَلَا مَا يُغَيِّرُ النَّفْسَ، وَمِنْ غَيْرِ كَلَامٍ نَازِلٍ وَلَا مُسْتَغْلَقٍ، عَلَى عَادَةِ الرُّسُلِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [سورة النحل:125]، وَقَوْلُهُ لموسى وهرون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} [سورة طه:44]. وَكُلُّهَا وُجُوهٌ حِسَانٌ وَهَذَا أَحْسَنُهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحَدٌ قَبْلَ سُلَيْمَانَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ" بِزِيَادَةِ وَاوٍ.
الثَّانِيَةُ: الْوَصْفُ بِالْكَرِيمِ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [سورة الواقعة:77] وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ وَبِالْأَثِيرِ وَبِالْمَبْرُورِ، فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزُ وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً، وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً. فَأَمَّا الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ فَقَدْ وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [سورة فصلت:41-42] فَهَذِهِ عِزَّتُهُ وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ إِلَّا لَهُ، فَاجْتَنِبُوهَا فِي كُتُبِكُمْ، وَاجْعَلُوا بَدَلَهَا الْعَالِي، تَوْفِيَةً لِحَقِ الْوِلَايَةِ، وَحِيَاطَةً لِلدِّيَانَةِ، قاله الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ.
الثَّالِثَةُ: كَانَ رَسْمُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا كَتَبُوا أَنْ يَبْدَؤوا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ،.."
طالب:..........
كيف؟
طالب: كتاب عزيز.
أي، كأنَّه قال هذا خاص بالقرآن الوصف خاص بالقرآن، فلا يوصف المخلوق به، مع أنَّه جاء امرأة العزيز، قالت امرأة العزيز، ما فيه ما يمنع، والله أعلم.
طالب:.........
لأنَّه يتصف بالكرم، وأمَّا العزة التي هي بأنواعها الثلاثة فقد يكون غير متصف بها، قد يتصف بالكرم وسهل أن يتصف المخلوق بالكرم، لكن اتصافه بالعزة ليست بيده.
طالب:.........
الكتب لها شأن، هل هي ملحقة بالرسائل أو بالخطب؟ ولذلك صحيح البخاري ما فيه حمدلة، فاحتاج أهل العلم أن يقولوا إنَّ الكتب إلحاقها بالرسائل، هي رسائل من هذا العالم المؤلف إلى من يقرأه من طلاب العلم، فشبهوها بالرسائل وإن بُدئت بالخطبة فمن مراسم الخطبة أن تُبدأ بالحمدلة، وعلى كل حال رسائل النبي- عليه الصلاة والسلام- ما فيها حمدلة، وخطبه كلها فيها حمدله، من ألحقها بالرسائل قال تُبدأ بالبسملة، ومن ألحقها بالخطب قال: تُبدأ بالحمدلة. أمَّا في كتاب عرض قبل خمسة عشرة سنة يُباع في معرض الكتاب تبع الجامعة، وهو موضوعه العقيدة، ومؤلفه كتب في مقدمته كانت الكتب التقليدية تبدأ بالبسملة والحمدلة، كأنَّ هذا، والله أعلم وقف على تضعيف «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه باسم الله ولا بحمد الله» تضعيف كل الطرق، ما احتاج أن يبتدأ لا ببسملة ولا بحمدلة ردًّا لهذا الحديث، وهذا جهل، هذا جهل مركب؛ لأنَّه إن لم يثبت هذا الخبر فكتبه- عليه الصلاة والسلام- ورسائله بُدئت بالبسملة، خطبه بدأت بالحمدلة، القرآن الكريم بُدأ بالبسملة والحمدلة، فكيف يُقال مثل هذا؟
لأنَّ بعض الناس يضيق نظره إلى رأي ضعف حديث ألغى كل ما يتعلق بالحديث ولو دلت عليه الأدلة الأخرى، فتجد بعض الناس إذا ضعف حديث الجلوس بعد صلاة الصبح وصلاة ركعتين مع الإشراق، حين تطلع الشمس تجده يشن حملة على من يفعل ذلك أو من يصلي ركعتين، يقول: هاتان الركعتان لا أصل لهما، طيب صلاة الضحى ماذا تقول فيها؟ يقول بعضهم لبعض: نريد أن نمشي ولا نصلي صلاة العجائز صلاة الإشراق؟ إن لم يصح هذا الخبر فيوجد أدلة أخرى تدل على مشروعية صلاة الضحى من الكثرة بحيث لا يُنكرها إلا جاهل- والله المستعان-.
طالب:........
هذه الحمدلة إن كان هناك خطبة، إن أراد أن يكتب خطبة يقدم بها بين يدي كتابه يذكر الحمدلة، وإن اقتصر على الكتاب دون مقدمة فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كذا.
طالب:..........
ما فيه ما يمنع أبدًا، ما فيه ما يمنع. عندنا البداءة بالبسملة والبداءة باسم الكاتب، النبي- عليه الصلاة والسلام- يقول: من فلان إلى فلان، يبدأ بالبسملة ويقول من فلان إلى فلان؛ ولذا يستحب أهل العلم أن يبدأ الكاتب بنفسه مطلقًا، ومنهم من يقول: إن كان المكتوب إليه أصغر من الكاتب يبدأ بنفسه وإلا بدأ بالكبير من باب قوله- عليه الصلاة والسلام-: «كبر كبر»، أمَّا الإمام أحمد- رحمه الله- مع اهتمامه بالسُّنَّة فإنَّه كان يبدأ بالمكتوب إليه تواضعًا، وعندنا في الآيات هنا من المقدم، سليمان أم البسملة؟ من خلال الآيات.
طالب: سليمان.
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة النمل:30]، لكن هل هذا ترتيب للكلام، هل سليمان كتب من سليمان، بسم الله الرحمن الرحيم، إلى فلانة؟
طالب:..........
أو أنَّها قالت: إنَّ الكتاب جاء من سليمان، وأنَّه بُدئ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، ما فيه إشكال أبدًا؛ ولذلك قول بعضهم: إنَّه يُبدأ بالكتاب قبل البسملة لا حظ له من النظر ولا مستمسك له بهذه الآية.
طالب:...........
على كل حال السُّنَّة إذا سلم الإنسان من التعالي والتكبر والعجب بالنفس السُّنَّة أن يبدأ بنفسه.
" الثَّالِثَةُ: كَانَ رَسْمُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا كَتَبُوا أَنْ يَبْدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا كَتَبُوا بَدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ إِذَا كَتَبُوا بَدَءُوا بِعُظَمَائِهِمْ فَلَا يَبْدَأِ الرَّجُلُ إِلَّا بنفسه»".
مُخرَّج؟
طالب: .......
يعني من خلال نظره فيما عنده، ما خرَّجه. مُخرَّج عندكم؟ عزاه لأحد؟
" قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ" الْبُسْتَانِ" لَهُ:.."
طالب: السمرقندي؟
أبو الليث السمرقندي، نعم.
" وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ لَجَازَ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ وَفَعَلُوهُ لِمَصْلَحَةٍ رَأَوْا فِي ذَلِكَ، أَوْ نَسْخِ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، فَالْأَحْسَنُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِنَفْسِهِ تُعَدُّ مِنْهُ اسْتِخْفَافًا بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَتَكَبُّرًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكْتُبَ إِلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، أَوْ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِ."
في حكمه إذا كتب لولده أو لزوجته وما أشبه ذلك، لكن الحق أحق أن يُتبع، والسُّنَّة في ذلك ظاهرة، فإذا سلم القلب من التعالي والتعاظم والإعجاب بالنفس فالأصل الاقتداء بالنبي- عليه الصلاة والسلام-.
" الرَّابِعَةُ: وَإِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ كِتَابٌ بِالتَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلَامِ مِنَ الْحَاضِرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَدَّ الْكِتَابِ وَاجِبًا كَمَا يَرَى رَدَّ السَّلَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى كَتْبِ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" فِي أَوَّلِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ، وَعَلَى خَتْمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيبَةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الرَّسْمُ، وَبِهِ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا كِتَابٍ لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا فَهُوَ أَغْلَفُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ»".
مُخَرَّج؟ كرم الكتاب.
طالب:...........
نعم، لا قيمة له.
" وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ، هُوَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَنْ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ كِتَابًا وَلَمْ يَخْتِمْهُ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ خَتْمٌ."
يقوم مقام الختم التوقيع، التوقيع بحيث يُأمن من تزوير الخطاب، يقوم مقام الختم.
" وَقَالَ أَنَسٌ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكْتُبَ إلى العجم فَقيل لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا كِتَابًا عَلَيْهِ خَتْمٌ، فَاصْطَنَعَ خَاتَمًا وَنَقَشَ عَلَى فَصِّهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَكَأَنِّي أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه.
السادس: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [سورة النمل:30]، {وَإِنَّهُ} بِالْكَسْرِ فِيهِمَا أَيْ وَإِنَّ الْكَلَامَ، أَوْ إِنَّ مُبْتَدَأَ الْكَلَامِ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ". وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ" أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ" بِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَكُونَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلٌ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَعْنَى أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ.."
أُلْقِيَ. بمعنى أُلقِيَ.
"بِمَعْنَى أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ، أَيْ لِأَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَلِأَنَّهُ، كَأَنَّهَا عَلَّلَتْ كَرَمَهُ بِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ وَتَصْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ" أَلَّا تَغْلُوا" بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مِنْ غَلَا يَغْلُو إِذَا تَجَاوَزَ وَتَكَبَّرَ. وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ."
تعلوا، الغلو راجع إلى العلو يعني متقاربان في المعنى.
" {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [سورة النمل:31] أي منقادين طائعين مؤمنين.
قوله تعالى: {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل:32-34].
فِيهِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [سورة النمل:32] الْمَلَأُ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) الْقَوْلُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَعَهَا أَلْفُ قَيْلٍ. وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَيْلٍ مَعَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفٍ. وَالْقَيْلُ الْمَلِكُ دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ. فَأَخَذَتْ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ قَوْمِهَا، وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي أَمْرِهَا، وَأَعْلَمَتْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مطرد عندها في كل أمر يعرض، بقولها: {مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [سورة النمل:32]، فَكَيْفَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ الْكُبْرَى. فَرَاجَعَهَا الْمَلَأُ بِمَا يُقِرُّ عَيْنَهَا، مِنْ إِعْلَامِهِمْ إِيَّاهَا بِالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ، ثُمَّ سَلَّمُوا الْأَمْرَ إِلَى نَظَرِهَا، وَهَذِهِ مُحَاوَرَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا هُمْ أَهْلُ مَشُورَتِهَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ."
يعني عدة أهل بدر.
"الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران:159] فِي (آلِ عِمْرَانَ) إِمَّا اسْتِعَانَةً بِالْآرَاءِ، وَإِمَّا مُدَارَاةً لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْفُضَلَاءَ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} [سورة الشورى:38]. وَالْمُشَاوَرَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَخَاصَّةً فِي الْحَرْبِ، فَهَذِهِ بِلْقِيسُ امْرَأَةٌ جَاهِلِيَّةٌ كَانَتْ تَعْبُدُ الشَّمْسَ: {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [سورة النمل:32]".
المشاورة والمشورة والشورى لا شك أنَّها من ضرورات الملك، من ضروراته؛ لأنَّ الشخص الواحد لا يُمكن أن يستقل بتدبير هذا الملك مع عِظمه وسعته وانتشاره وكثرة من هو مسؤول عنه، لابد من أن يستشير؛ لأنَّه قد يخفى عليه أهم المهمات؛ لأنَّه بشر، وإذا كان المؤيد بالوحي أُمِرَ بالشورى، فكيف بمن دونه- عليه الصلاة والسلام-.
" {قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [سورة النمل:32] لِتَخْتَبِرَ عَزْمَهُمْ عَلَى مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِمْ، وَحَزْمَهُمْ فِيمَا يُقِيمُ أَمْرَهُمْ، وَإِمْضَائَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ لَهَا، بِعِلْمِهَا بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَبْذُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ دُونَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِمُقَاوَمَةِ عَدُوِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ أَمْرُهُمْ وَحَزْمُهُمْ وَجِدُّهُمْ كَانَ ذَلِكَ عَوْنًا لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَبِرْ مَا عِنْدَهُمْ، وَتَعْلَمْ قدر عزمهم لم تكن على بصيرة مِنْ أَمْرِهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي اسْتِبْدَادِهَا بِرَأْيِهَا وَهَنٌ فِي طَاعَتِهَا، وَدَخِيلَةٌ فِي تَقْدِيرِ أَمْرِهِمْ.."
لو لم يكن في الشورى وعرض الرأي على أهل الرأي إلا كسب ود هؤلاء؛ لأنَّها لو تصرفت من دون أن تعرض الأمر عليهم خذلوها.
" وَكَانَ فِي مُشَاوَرَتِهِمْ وَأَخْذِ رَأْيِهِمْ عَوْنٌ عَلَى مَا تُرِيدُهُ مِنْ قُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، وَشِدَّةِ مُدَافَعَتِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ فِي جَوَابِهِمْ: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [سورة النمل:33] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ قُوَّةِ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ يَرْكُضُ فَرَسُهُ حَتَّى إِذَا احْتَدَّ ضَمَّ فَخِذَيْهِ فَحَبَسَهُ بِقُوَّتِهِ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [سورة النمل:33] سَلَّمُوا الْأَمْرَ إِلَى نَظَرِهَا مَعَ مَا أَظْهَرُوا لَهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَخْبَرَتْ عِنْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمُلُوكِ بِالْقُرَى الَّتِي يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ خَوْفٌ عَلَى قَوْمِهَا، وَحِيطَةٌ وَاسْتِعْظَامٌ لِأَمْرِ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
{وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل:34] قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ بِلْقِيسَ تَأْكِيدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَتْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- مُعَرِّفًا لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتِهِ بِذَلِكَ وَمُخْبِرًا بِهِ. وَقَالَ وَهْبٌ: لَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ لَمْ تَعْرِفِ اسْمَ اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟! فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَا نَظُنُّ هَذَا إِلَّا عِفْرِيتًا عَظِيمًا مِنَ الْجِنِّ يَقْتَدِرُ بِهِ هَذَا الْمَلِكُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَسَكَّتُوهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَرَاهُمْ ثَلَاثَةً مِنَ الْعَفَارِيتِ، فَسَكَّتُوهُ، فَقَالَ شَابٌّ قَدْ عَلِمَ: يَا سَيِّدَةَ الْمُلُوكِ! إِنَّ سُلَيْمَانَ مَلِكٌ قَدْ أَعْطَاهُ مَلِكُ السَّمَاءِ مُلْكًا عَظِيمًا فَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا بَدَأَ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرَّحِيمُ نُعُوتُهُ، فَعِنْدَهَا قَالَتْ: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} في الحرب واللقاء {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} ردوا أمرهم إِلَيْهَا لِمَا جَرَّبُوا عَلَى رَأْيِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فَ {قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً} [سورة النمل:34] أَهَانُوا شُرَفَاءَهَا لِتَسْتَقِيمَ لَهُمُ الْأُمُورُ، فَصَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَهَا {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ}.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً} هَذَا وَقْفٌ تَامٌّ، فَقَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- تَحْقِيقًا لِقَوْلِهَا: {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} وَشَبِيهٌ بِهِ فِي سُورَةِ (الْأَعْرَافِ) {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [سورة الأعراف:109-110] تَمَّ الكلام، فقال فرعون: {فَماذا تَأْمُرُونَ} [سورة الأعراف:110]. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ. هُوَ قَوْلُ بِلْقِيسَ، فَالْوَقْفُ {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل:34] أَيْ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ سُلَيْمَانُ إذا دخل بلادنا."
هذا تصديق لكلامها، {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل:34] هو تصديق لكلامها، وليس من كلامها، فالمرجح أنَّه من قول الله- جلَّ وعلا-.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد.
طالب: أحسن الله إليكم، سؤال الجمعة الماضية حصل في ناس من الإخوان كانوا في المطار منهم من أحرم يريد العمرة، ولبى في مطار الرياض ثم إن تأخرت الطائرة وأخروهم أربعة وعشرين ساعة، فأفتى من أفتاهم بأنَّهم يفسخون الإحرام؟
إحصار.
طالب: أفتوا بهذا.
اشترطوا؟
طالب: لا.
ما اشترطوا، ولا أحصروا ولا ذبحوا ولا حاجة، مادام دخلوا في النسك لابد من إتمامه.
طالب: حتى لو من الرياض.
ولو.
طالب: هم كانوا في الرياض
ولو كان، مادام دخلوا في النسك، يعني لو تجهزوا ولبسوا وما نووا إلا بعد ذلك ما يضر هذا.
طالب: لكنهم دخلوا، نووا.
لكن نووا لابد من إتمام.
طالب: يعودوا ويلبسوا الإحرام.
أي يلبسون، يلبسون.
طالب: ومنهم من أتى أهله.
الآن السفر ما تأكد الأصل أنَّه قائم.
طالب: الدرس قائم إن شاء الله.
يعني الأصل أنَّ فيه درسًا، لكن أجركم على الله لو جئت أحسن من لو عدمتم الدرس.
"