شرح زاد المعاد - 01 - من قول المؤلف: وكانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة وحسن الخلق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الإمام العلامة المحقق المفسر المحدث الفقيه اللغوي البارع، الضارب بجميع صنوف أبواب العلم مدىً بعيدًا، وفي كل باب من أبوابه، بحيث لو قرأ شخص ما كتبه -رحمه الله- في التفسير لشهد له بأنه بلغ الغاية، وأنه لا يُجارَى في هذا الباب ولا في هذا المضمار، فإذا تكلم على آية وأوغل في معناها، وما يستنبط منها، جزمت يقينا بأن مثل هذا العلم الذي أبداه، وهذه الفوائد التي استنبطها، تجزم يقينًا أن مثل حفظ الإنسان وفهم الإنسان بمجردهما لا يدرك به مثل هذا العلم، وقد استنبط من بعض الآيات ما يبهر العقول، ولو لم يكن ذلك إلا ما كتبه حول قول الله -جل وعلا-: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وله تنبيهات على آيات لم يسبق إليها- رحمه الله-، وهذا داخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «رب مبلَّغ أوعى من سامع».
والقرآن لا تنقضي عجائبه، لا تنقضي عجائبه، ولذا نجد في كلام ابن القيم حول فهم بعض الآيات ما لا يوجد عند غيره -رحمه الله تعالى- - هذا بالنسبة للتفسير وما يتعلق بكتاب الله، وله به الصلة الوثيقة، فهو صاحب تلاوة صاحب قراءة، صاحب تدبر، صاحب تأمل.
وأما بالنسبة للحديث، فمن قرأ في كتابه تهذيب سنن أبي داود جعله -رحمه الله- في مصاف الأئمة المتقدمين في الغوص على العلل الدقيقة الخفية التي لا يدركها كثير من أهل العلم فضلاً عن المتعلمين، إضافة إلى ما يبثه من أحكام وتنبيهات على بعض الأحاديث في كتبه الكثيرة، وفي الكتاب المدروس زاد المعاد ما يشهد بذلك، فلا يخلو باب من أبواب الكتاب المذكور إلا وفيه تنبيه على صحة حديث أو ضعفه، أو على علته، أو انقطاعه، أو وصله بما لا يوجد عند غيره -رحمه الله-.
العلم مرده إلى الرواية، لكن هناك نظر دقيق في الرواية، ولذا تجد أهل العلم يتفاوتون في التصحيح والتضعيف وفي التعليل والسلامة من العلة والمخالفة والاختلاف على الرواة تجدهم يختلفون، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فتجد ابن القيم -رحمه الله تعالى- - عند المضايق يحرر لك المسألة تحريرًا بالغًا، وتجده يجمع بين الرواية والدراية.
وأما ما يتعلق بالمسائل الفقهية من الحلال والحرام فهذا الكتاب خير شاهد على تبحر هذا الإمام في هذا الباب وهذا المجال، فتجده إذا تطرق لمسألة من المسائل الخلافية، ذكر ما يخطر على البال، وما لا يخطر على البال، وتجده يجمع جمعًا شافيًا كافيًا وافيًا، فإذا بحث مسألة يمكن أن تبحث عند أهل العلم بصفحة أو صفحتين يمكن أن يبحثها في خمسين صفحة، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة جدًّا في هذا الكتاب فضلاً عن غيره، فإذا بحث المسائل الفقهية المتنازع فيها يسيل واديه -رحمه الله- حتى يملأ الخوابي ويبلغ الروابي.
إذا بحث مسائل الاعتقاد وما يؤثر عن سلف هذه الأمة مما يوضح ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- من الاعتقاد الصحيح فلا مزيد، ومن قرأ في اجتماع الجيوش الإسلامية أو في النونية رأى من ذلك الشيء الذي يبهر، فهو إمام في كل باب وفي كل فن. أما بالنسبة لعلوم العربية فله فيها القدح المعلّا بجميع فروعها الاثني عشر، ومن أراد أن يطلع على شيء من ذلك فليقرأ توجيهه لبعض الأوجه الإعرابية في كتبه، وفي هذا الكتاب شيء ليس بالقليل من توجيه بعض الآيات، وما جاء في بعض الأحاديث ما يشكل إعرابه، وكتابه بدائع الفوائد مملوء من المسائل المتعلقة بالعربية.
أقول: هذا هذا الإمام متفنن، وعلمه كما قدمت قد يتعجب منه الإنسان في عمر يسير أحاط بهذه العلوم، وإن تميز بالفهم والحافظة، لكن غيره كثير ممن تميز، لكن لا تجد عند كثير من أهل العلم مثل هذه التحقيقات ومثل هذه التحريرات، وكل هذا مما لا يدرك إلا بالإخلاص الصادق.
فابن القيم -رحمه الله- تُشم رائحة الإخلاص من كتاباته، تشم رائحة الإخلاص من كتاباته، فتجده في مدارج السالكين في كثير من المواضع تجد التواضع الجم، والاعتراف بالجهل والعجز، وفي طريق الهجرتين، وإغاثة اللهفان من ذلك شيء كثير، في طريق الهجرتين لما ذكر حال المقربين، وهذه ذكرتها مرارًا، لكن لا يمنع أن تذكر في هذه المناسبة، لما ذكر حال المقربين، وشرح المنهج والطريقة التي يسيرون عليها في ليلهم ونهارهم، يجزم القارئ أنه يتحدث عن نفسه، هذا منهجه، وهذه طريقته، وهذا ديدنه، ومع ذلك يقسم -رحمه الله- أنه ما شم لهم رائحة، قد يقول قائل: إننا نقرأ أحيانًا في كلام ابن القيم ما يدل على شيء من رؤية ما كتبه -رحمه الله- من قبل نفسه، ففي مباحث التوبة التي أفاض فيها في مدارج السالكين وجه طالب العلم أن يعنى بهذا الفصل من هذا الكتاب، وأن ينظر إليه باهتمام بالغ، ثم قال: فاقرأ هذا الفصل، واهتم به، واعتني به علك ألا تجده في مصنف آخر ألبتة، علك ألا تجده في مصنف آخر ألبتة.
الكلام صحيح يعني مع ما اطلعنا عليه من الكتب التي تعنى بالتوبة ما وجدنا أحدًا تكلم بكلام مثل كلام ابن القيم، لكن هل يقال مثل هذا إن ابن القيم رأى عمله، وأعجبه عمله، وأعجب به مما يخدش الإخلا،ص هو يستثير همة طالب العلم أن يستفيد من هذا الكلام، ولا يظن به أنه يترفع بهذا الكلام، أو يعجب بهذا الكلام، أو أنه رأى عمله وأعجب به. مواطن كثيرة جدًّا نقرؤها لابن القيم يهضم فيها نفسه، والله المستعان.
الموضوع الذي نحن بصدده يتعلق بالآداب والرقائق الآداب والرقائق صِبغة للكتاب كله، حتى إذا ساق الأحكام أدخل فيها ما ينبَّه القلب، فهي صبغة عامة للكتاب، ولذا الإحاطة بجميع ما في الكتاب مما يتعلق بالأخلاق والرقائق مستحيلة إلا باستعراض تام واستقراء للكتاب. وكثير من العلماء والفقهاء على وجه الخصوص يسردون المسائل العلمية بأدلتها وخلافها وما قيل فيها بذيولها، لكن هل يستفيد القلب من استعراض هذه المسائل، تجدها عراكًا وقولًا وقال، فإن قيل قلنا، وكذا، وأدلة من الكتاب والسنة، وأهل العلم عمدتهم على نصوص الكتاب والسنة، فكتب الفقه بحاجة إلى مثل هذا التصرف من ابن القيم، ومما تتميز به منظومة ابن عبدالقوي في الفقه عقد الفرائد، منظومة ابن عبدالقوي –رحمه الله- الدالية الطويلة علها أن تكون في اثني عشر ألف بيت أو أكثر في مجلدين مطبوع، وهي نظم للمقنع، ما تتميز به هذه المنظومة على قوتها ومتانتها وموضوعها في الحلال والحرام، تتميز به أنه استهل الأبواب بما يذكر بالله -جل وعلا.
فإذا قرأت مقدمة الجنائز أو الكسوف أو الاستسقاء أو البيوع:
إياك والمال الحرام مورثًا
والفرائض وغيرها من الأبواب تجده يستهل هذه الأبواب بأربعة أبيات، خمسة أبيات تربطك بالله -جل وعلا- وتجعلك تحرص على فهم هذه الأحكام؛ لتعمل بها؛ لأننا مع الأسف نشاهد، وشاهدنا، وأدركنا من يقرأ ويهتم بهذه الأحكام، ويعرف الأحكام العملية بأدلتها، لكن قد يتخلف العمل عنده، تجد عليه ما يلاحظ، ولو استعمل هذا الأسلوب من العلامة ابن القيم -رحمه الله- أو من ابن عبدالقوي أو من غيرهما من يعنى بهذا الشأن ما وجدنا الانفصام أو الانفصال بين العلم والعمل، ابن القيم تجده في كل الأبواب يطرح قضية ما يحيي القلب فيما يتعلق بهذا الباب موضوع الدرس، مركب من شقين؛ هما الآداب والرقائق، الآداب والرقائق، فالآداب جمع أدب، الآداب لأهل الحديث بها عناية فائقة، صنفوا فيها الكتب المفردة، وأدخلوها في مصنفاتهم الجوامع.
البخاري له كتاب الأدب في صحيحه، وله الأدب المفرد، البيهقي كذلك له أدب مفرد، وأيضًا تحدث عن الآداب مع أن صبغة الكتاب العامة أحاديث أحكام. المقصود أن العلماء عُنوا بهذا الجانب، ويقصد بالآداب التي يتحدث عنها أهل العلم أعني علم الكتاب والسنة المراد بها ما يتعلق بأدب النفس وتهذيبها، أما ما يتعلق بأدب الدرس الذي له كيانه وله استقلاله، ويطلق، وإذا أطلق الأدب انصرف إليه مع الأسف، فإنه يُعنى به أدب الدرس الذي اشتملت كثير من المصنفات فيه المطولة والمختصرة والمتوسطة على ما يناقض الأدب الشرعي، فعندنا أدب شرعي، وهو المراد عند أهل العلم، وهو المقصود بهذا الدرس، وهناك أدب يسمونه أدب درس، من كتبه الأغاني والعقد الفريد، كتب كثيرة جدًّا، وعيون الأخبار، وفيه شيء من الأدب العفيف المحتشم، وفيه أيضًا الأدب الماجن، فيه الشيء الكثير.
وعلى كل حال طالب العلم يهمه أدب النفس المستنبَط والمستوحَى من كتاب الله وسنة نبيه- عليه الصلاة والسلام-، ومرجعه في ذلك كتب السنة، كتب السنة، وهو أيضًا مبثوث في كتب المفسرين حول الآيات التي تُعنى بالآداب والأخلاق، يرجع في ذلك إلى كتب السنة سواء كان الأدب مفردًا أو ضمن الجوامع، ويُرجع أيضًا إلى الكتب التي ألفها العلماء في الأدب المشتملة على النصوص وعلى أقوال أهل العلم، ومن أهمها الآداب الشرعية لابن مفلح ومنظومة الآداب لابن عبدالقوي مع شروحها، وأيضًا الوصية المنظومة الميمية للشيخ حافظ الحكمي فيها كثير من الوصايا والآداب تهم طالب العلم.
إذا عرفنا هذا فالآداب جمع أدب، وهو استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً، استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً، عبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمِّي بذلك؛ لأنه يدعى إليه، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه ترجم ترجمة كبرى فقال: كتاب الأدب، باب البر والصلة، باب البر والصلة، الأدب يقصد به التعامل مع الآخرين، فترجم بالترجمة الكبرى العامة باب الأدب، ثم جاء بترجمة جزئية تدخل في هذه الترجمة الكبرى باب البر والصلة، فالبر والصلة من الأدب، فبدأ -رحمه الله تعالى- بما يتعلق بأقرب الناس إليك، وهما الوالدان، فالبر يتعلق بالوالدين، والصلة تتعلق بالأقارب، صلة الأرحام تتعلق بالأقارب، فجعل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- البر أو الصلة من الأدب.
وأما النووي في صحيح مسلم نعرف جميعًا أن صحيح الإمام مسلم غير مترجم، يعني ما فيه أبواب ما تُرجم، إنما فيه الحديث السرد بدون تراجم، النووي ترجم في شرح مسلم بكتاب البر والصلة والآداب، البر والصلة والآداب، فجعل البخاري -رحمه الله تعالى- البر والصلة من أقسام الأدب، فجعل الأدب يشمل البر والصلة وغير هاتين الكلمتين مما يتعامل به مع القريب والبعيد، والنووي جعل البر والصلة قسيمين للأدب، قسيمين وليسا قسمًا منه، إنما جعلهما قسيمين للأدب، ووجهة نظره ظاهرة، إذا أردنا أن نُقسم التعامل مع الناس جعلناهم ثلاثة أصناف أقرب الناس، ثم من يليهم من الأرحام، ثم سائر الناس، فجعل البر للوالدين، والصلة لذوي الأرحام، والأدب مع سائر الناس، فجعل الأدب قسيمًا للبر والصلة.
وعلى كل حال المسألة اصطلاحية، فالأدب كلمة عامة شاملة تشمل التعامل مع القريب والبعيد، بينما النووي جعل الأدب مع البعيد، والبر مع الوالدين، والصلة مع ذوي الأرحام والأقارب، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن القصد معلوم بالنسبة للبر والصلة من الأدب في كتابنا هذا في زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد يشرح فيه هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، معلوم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- توفي والده وأمه حامل به، توفي وهو -عليه الصلاة والسلام- حمل، ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- ست سنين توفيت والدته آمنة بنت وهب، فلم يبقَ له والدان يبرهما.
قد يقول قائل: إذا مات الوالدان ما يبقى من البر شيء؟ يبقى، لكن هذا بالنسبة للوالدين المسلمين النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: بقي من برهما الصلاة عليهما والدعاء لهما والصدقة وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، المقصود أنه يبقى من بر الإنسان بوالديه بعد موتهما، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى عن الاستغفار لهما؛ لأنهما ماتا كافرين، لما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين مات جده عبدالمطلب، فكان أقرب الناس إليه أعمامه، فكان يصلهم، ويقرر -عليه الصلاة والسلام- أن عم الرجل صنو أبيه، فالعم مثل الأب، تجب صلته في الحديث المتفق على صحته: «عم الرجل صنو أبيه» يعني مثل أبيه، هذا ما يتعلق بالأقربين.
أما ما يتعلق بمعاملته مع أزواجه ومعاشرته أهله فكان مثالاً للزوج الكامل، والمراد بالكمال هنا الكمال البشري، فهو أكمل البشر -عليه الصلاة والسلام-، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكتاب المقرر: وكانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة وحسن الخُلق، وكان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها، وكانت إذا هويت شيئًا لا محذور فيه تابعها عليه، وكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقول -عليه الصلاة والسلام-: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وكان- عليه الصلاة والسلام- إذا صلى العصر دار على نسائه فدنا منهن، واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصّها بالليل؛ لأن القسم عماده الليل، وأما بالنسبة للنهار فليس محلاًّ للقسم، إنما الأمر فيه أوسع، فيزار الجميع، لكن لا يعني أنه يخصص النهار لواحدة من نسائه ويترك البواقي، أو لبعضهن دون بعض، لا، العدل واجب، لكن لو ما حضر اليوم في النهار وغدًا ما حضر بالنهار ما تطالبه الزوجة لماذا لم تحضر؟ لأن عماد القسم الليل.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القَسم، وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعًا، هذا ما يتعلق بأزواجه.
وماذا عن أصحابه -عليه الصلاة والسلام-؟ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعامل أصحابه بيعًا وشراءً، وشارك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السائب، فلما قدم السائب قال: أما تعرفني؟ قال: «أما كنت شريكي؟ فنعم الشريك كنت، لا تداري ولا تماري»، قاله لشريكه السائب، وأهدى -عليه الصلاة والسلام-، وقبل الهدية، وأثاب عليها، ووهب واتهب. أما في بيعه وشرائه فكان مثالاً للتسامح، وحث على التسامح في القضاء والاقتضا،ء واشترى من جابر الجمل، وماكسه فيه، فلما قدم المدينة وزن له الثمن ثم أعاد إليه الجمل «أتراني ماكستك لآخذ جملك» هذا مثال، واقتدى به أصحابه في حسن التعامل في البيع والشراء، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، ومعولهم في ذلك الاقتداء به -عليه الصلاة والسلام-، حتى صار من تمام نصحهم لمن يعاملهم ما يُعد في أعراف التجار غفلة.
جرير بن عبدالله اشترى فرسًا بثلاثمائة، ثم لما تم العقد ما قال: فرصة، نتفرق حتى ما يرجع، قال: لا جملك يستحق أكثر من ثلاثمائة، قال: أربعمائة، قال: اشتريت، فلما تم العقد، قال: جملك يستحق أكثر، فما زال به حتى أوصله إلى الثمان مائة، لكن الآن لو يوجد مثل هذا في أسواق المسلمين مع هذه الغربة التي نعيشها ومع هذا التكالب على الدنيا لقالوا: مسكين مسكين مغفل، بل يرمون بالتغفيل من لا يماكس، يعني بمجرد ما يقال له: كم هذه السلعة؟ بمائة ريال، يخرج المائة من الجيب ويدفعها، هذا مسكين، والصحابة بايعوا النبي -عليه الصلاة والسلام- على النصح لكل مسلم، وليس الأمر خاصًّا بهم، فالنصح لكل مسلم هو الدين، فالنبي- عليه الصلاة والسلام- قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم»، للناس كلهم تنصح.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه، وهذا من أدبه -عليه الصلاة والسلام-، ويقول في مزاحه الحق.
ومع الأسف أن تجد بعض طلاب العلم يظن أن المزاح مع الإخوان تجد الناس في هذا على طرفي نقيض؛ منهم من يمزح ويسترسل في مزاحه، ويضطر أحيانًا في مزاحه إلى أن يقول الحق وغير الحق، ويسخر من الناس، ويتعالى عليهم لمزاحه، هذا طرف، الطرف الآخر من يقطع الباب، ويحسم المادة، حتى أثر عن بعض طلاب العلم أنه لا يرد السلام، نسأل الله السلامة والعافية، وذُكر لي عن شخص معروف له منصب فقال: ناقشته في الموضوع قال: في كتب الأدب أدب القضاء أنه إذا كان رد السلام يذهب هيبة القاضي فإنه حينئذٍ لا يرد السلام، قلت: والله لو أثرت بالسند الصحيح عن أبي بكر الصديق لما قبلناه، ونحن نعرف أن رد السلام واجب.
فأقول: الشيطان يسوِّل لبعض الناس ويملي لهم، نعم التوازن قد يكون صعبًا على كثير من الناس، فيحتاج إلى حسم للمادة، فيقطع الصلة بالناس، وينطوي على نفسه؛ لأنه إذا فتح الباب ما استطاع أن يتزن ويتوسط في أمره، نقول: مثل هذا إذا غلب على ظنه أنه يجره مثل هذا هذه الخلطة ومثل هذا المزاح ومثل هذا الاسترسال إلى أن يدخل في حيز المحظور نقول: السلامة لا يعدلها شيء، وهناك مضايق، هناك مضايق قد لا يتخلص منها كثير من الناس، يعني كثير من الناس يصاب بمصيبة ويريد أن يوازن بين فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- من حزن وبين الرضا بالقدر، فلا يستطيع، هذا صعب جدًّا على كثير من النفوس، فتجده إما أن يسترسل مع الحزن، ويبكي، ويرتكب المحظور، أو يفعل كما فعل بعض العبّاد لما مات ابنه ضحك، لما مات ابنه ضحك لماذا؟
لأنه لا يستطيع أن يوازن بين بكاء وقلب يحزن وعين تدمع مع الرضا والتسليم للقدر، فقال هو يقطع هذه المادة ويحسمها بأن يضحك، لكن هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- أكمل هدي، التوسط في الأمور، ووجود مثل هذه المضائق؛ لتتبين أقدار الناس، ولا شك أن من الناس من هو صاحب همة وعزيمة، أموره كلها مخطومة بخطام الشرع وزمامه، وبعض الناس تجتاله المواقف والأحداث يمينًا تارة وشمالاً أخرى.
كان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه ويقول في مزاحه الحق، ويوري- التورية أن يفهم السامع منك غير مرادك-، لكن التورية إذا ارتكبت من أجل تضييع حق لمسلم لا تجوز، أما إذا لم يترتب عليها تضييع وأكل حق لمسلم، وترتب عليها مصلحة، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يوري ولا يقول في توريته إلا الحق مثل أن يريد جهة يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها يريد إلى جهة الشمال مثلاً فيسأل عن الجنوب، كيف طريقه إذا بغينا كذا من أين نذهب؟ إذا أردنا كذا وهو يريد الشمال، مثل هذا تورية، مثل أن يريد جهة يقصدها، فيسأل عن غيرها كيف طريقها؟ وكيف مياهها ومسلكها؟ أو نحو ذلك، وكان يشير على أصحابه ويستشيرهم، وقد أمر بذلك، وهو المؤيد بالوحي.
هو المؤيد بالوحي، ونزل عليه قوله -جل وعلا-: {وشاورهم في الأمر}، وبعض الناس إذا أراد شيئًا ركب رأيه ولم يستخر ولم يستشر، وتأتي النتائج في الغالب عكسية.
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه |
| ونكب عن ذكر العواقب جانبا |
مجرد ما تخطر له فكرة ينفذ فلا يستشير ولا يستخير، ومثل هذا يكون في الغالب حظه الندم، وكان -عليه الصلاة والسلام- يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب الدعوة هذا من أدبه الرفيع -عليه الصلاة والسلام- يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب الدعوة، ويمشي مع الأرملة -عليه الصلاة والسلام- والمسكين، ويمشي مع الضعيف في حوائجهم، يمشي مع هؤلاء يمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف، ويقضي حوائجهم، وبعض الناس يترفع عن أن يغشى ويرتاد مجالسه الضعفاء والمساكين، بعض الناس يخصص مجالسه للملأ وعلية القوم، ويترفع عن مجالسة الفقراء والمساكين، وأدركنا من شيوخنا من يحضر طعامه باستمرار الفقراء والمساكين، ويتقدمون الأغنياء، ولا يقال لهم شيء، ولا يدعّون، ولا يُنكرون، ولا يمنعون. كل هذا اقتداء به -عليه الصلاة والسلام-، فقد أدار اللبن على أهل الصفة قبل أن يشرب -عليه الصلاة والسلام- وهم فقراء المسلمين.
سمع -عليه الصلاة والسلام- مديح الشعر وأثاب عليه، ولكن ما قيل فيه من المديح فهو جزء يسير جدًّا من محامده، وأثاب على الحق، أثاب على هذا الجزء اليسير من حقه -عليه الصلاة والسلام-، هذا بالنسبة لما سمعه -عليه الصلاة والسلام-، أما ما مُدح به بعده مما ارتكبت فيه المخالفات الصريحة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»، فقد وقع في بعض المدائح الشرك الأكبر، ولم يسمع -عليه الصلاة والسلام- من هذا النوع شيئًا، وإلا لبادر بإنكاره، فسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- المديح، وأثاب على الحق؛ لأن ما قيل فيه بحضرته وأقره فهو حق، وأما مدح غيره من الناس فأكثر ما يكون بالكذب، يكون بالمبالغة، يكون بالإطراء، يكون بما لا يستحقه الإنسان، فأكثر ما يكون بالكذب، فلذلك أمر -عليه الصلاة والسلام- أن يُحثى في وجوه المداحين التراب، نجد مع الأسف حتى في مجالس العلم المدح بما في الإنسان وبما ليس فيه، والأصل أن باب المدح لا سيما وأن كثيرًا من الناس يتأثر بالمدح، فإذا كان الإنسان يتأثر بالمدح هذا فلا يجوز مدحه وإلا إذا كان لا يتأثر فالنبي -عليه الصلاة والسلام- مدح بعض الصحابة في وجوههم، فإذا كان ممن يتأثر فمثل هذا يحثو في وجه المداح التراب، أو يوقفه عند حده إذا سمع من المدح. والجزاء من جنس العمل.
والتجربة تشهد بأن من قبل المدح بما فيه سمع الذم بما فيه، من قبل المدح بما فيه سمع وفرح به سمع الذم بما فيه، وأما من سمع المدح بما ليس فيه سمع الذم بما ليس فيه، التجربة موجودة في هذا، هذا أمر مجرب، ومع الأسف أننا نجد بعض من ينتسب إلى العلم، وما كنا نرى من شيوخنا مثل هذا، لكن شيء وفد إلينا، ودرج بيننا، وصار لا يُنكر بيننا، بل صارت بعض الجهات العلمية قيامها على هذا، أرسل لفلان خطاب شكر، وأرسل لفلان كذا، وأرسل، وأما بالنسبة لمناقشات الرسائل العلمية فمبناها على هذا، كما هو معلوم، الطالب يمدح المشرف، والمشرف يمدح الطالب، والمناقش، وهكذا، ولا تسمع أحيانًا استنكارًا لشيء مثل هذا.
لذا وجدت أمور مضحكة، يعني شخص يقدم لآخر من طلاب العلم قد زوده بسيرته الذاتية من غير طلب، فقرأها المقدم، ثم استهل المحاضر محاضرته بأن اتجه إلى هذا المقدم وقال له: سامحك الله، قطعت عنق صاحبك، وهو الذي أعطاه الكلام كله، فأقول: مثل هذا يقضي على الإخلاص قضاءً مبرمًا.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الفوائد يقول: إذا حدثتك نفسك بالإخلاص، إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فأقبل على حب المدح والثناء فاذبحه بسكين علمك أنه لا أحد ينفع مدحه، ولا يضر ذمه إلا الله -جل وعلا-، ثم قال: وأقبل على الطمع فاذبحه بسكين يأسك من المخلوقين، وأن جميع ما يرد إليك إنما هو من الله -جل وعلا-، فليكن ارتباطك بالله -جل وعلا-، يعني لو أن الواحد منا قيل له: إن الأمير فلانًا أو الوزير فلانًا تحدث عنك في مجلسه البارحة، وأثنى عليك الليلة هذه، أكيد أنه ما ينام من الفرح، لكن لو قيل له أو سمع: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»، هذا لا يحرك شعرة عنده لماذا؟ لأن قلوبنا مرتبطة بالدنيا، ما تعلقت بالآخرة وما يقرب إلى الله -جل وعلا-.
فعلى الإنسان أن يعيد الحسابات، ويتعامل مع الله بوضوح؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، كون الإنسان يتمسكن، أو يتماوت، أو يظهر الصلاح بين الناس فهو يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، فلننتبه إلى مثل هذا، ثم قال -رحمه الله تعالى-: فصل: وسابق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه على الأقدام، وصارع، وخصف نعله بيده، ورقع ثوبه، ورقع دلوه، وحلب شاته، وفلى ثوبه، ما معنى فلى ثوبه؟ قتل القمل الذي فيه، قتل القمل الذي فيه، وفلى ثوبه، وخدم أهله ونفسه، وحمل مع الصحابة اللبِن في بناء المسجد، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة، وشبع تارة، جاع ليصبر، وشبع ليشكر -عليه الصلاة والسلام-، وأضاف وأضيف.
ومع الأسف أن بعض الناس إذا دُعي لضيافة أو غيرها لا يستجيب، ويرى أن اختلاطه بالناس لا سيما إخوانه وأقرانه مما يذهب هيبته، والله المستعان، إلى أن قال -رحمه الله-: وكان -عليه الصلاة والسلام- أحسن الناس معاملة، وكان إذا استسلف سلفًا قضى خيرًا منه، وكان إذا استسلف من رجل سلفًا قضاه إياه، ودعا له، فقال: «بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء»، واقترض بعيرًا فجاء صاحبه يتقاضاه، فأغلظ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهم به أصحابه أن يوقعوا به، أغلظ على النبي -عليه الصلاة والسلام- فهمَّ به أصحابه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً»، وتقاضاه غريم له دينًا، فأغلظ عليه، فهمّ به عمر بن الخطاب فقال: «مه يا عمر، كنت- يعني نفسه- أحوج الناس إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر».
الخطابات الشرعية في المسائل التي فيها أكثر من طرف، لكل طرف منها ما يناسبه، لكل طرف منها ما يناسبه، فهنا المدين يؤمر بالقضاء، والدائن يؤمر بالصبر والإنظار، مسألة تتكرر كثيرًا، تجد شيخًا يأتي إلى محاضرة، ثم بعد ذلك يتأخر قليلاً، ثم تقام الصلاة يدركها ويدرك بعضها، ثم يتجه باللوم إلى الإمام نقول: لا يا أخي، اتجه باللوم إلى نفسك، لماذا تتأخر؟ نعم قد يكون له ظرف زحام في طريق أو شيء، لكن أنت عاتب نفسك يا أخي. وأيضًا من خطابات الشرع ما يتجه إلى الإمام: هذا شخص له قدره، وجاء على حد زعمه بطلبك لينفع الناس، وأنت مأجور، إن شاء الله، على طلبه.
المقصود أن خطابات الشرع إذا كان هناك أكثر من طرف، فلكل طرف ما يناسبه من الخطابات، فليس لهذا الشيخ أن يتجه إلى الإمام، كثير من الناس تفوته الصلاة تقول له: لماذا فاتتك الصلاة يقول: والله الإمام استعجل، أو الإمام ما طول القراءة. يا أخي ارجع إلى نفسك فلمها، لماذا تتأخر وقد سمعت: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ وبالمقابل الإمام إذا كان يستعجل يُوجّه إليه أيضًا أن يرفق بالمأمومين، وأن يجعلهم يدركون الصلاة معه.
وباعه -عليه الصلاة والسلام- يهوديٌ بيعًا إلى أجل، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه، فقال: «لم يحل الأجل»، فقال اليهودي: إنكم لمطل يا بني عبدالمطلب، يعني تؤخرون الأجل، فهمَّ به أصحابه فنهاهم، فلم يزده ذلك إلا حلمًا -عليه الصلاة والسلام- فقال اليهودي: كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة، وبقيت واحدة، وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فأردت أن أعرفها، فأسلم اليهودي، إلى غير ذلك مما يتعلق بأخلاقه وآدابه -عليه الصلاة والسلام-.
فترى الإمام ابن القيم يسوق الأدب النبوي بدليله من الكتاب والسنة، وأحيانًا يسوقه بالنص بنص ما أُثر عنه -عليه الصلاة والسلام-، تجده يسبك الكلام بنصوص أحاديث. لا يمكن في هذه العجالة وفي هذه المدة اليسيرة أن نستقصي ما ذكره ابن القيم في هذا الكتاب الذي خصصه مؤلفه لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان ابن القيم قد أتى على كثير مما أسعفته به ذاكرته؛ لأنه ألف الكتاب في حال السفر، وليس لديه مراجع، والمجزوم به أن المؤلف مهما بلغ من الإحاطة فلن يستطيع أن يوفي الموضوع حقه؛ لأن أدبه -عليه الصلاة والسلام- وخلقه ترجمة عملية للدين بجميع فروعه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان خلقه القرآن. في المسند، مسند الإمام أحمد قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا يونس عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان خلقه القرآن.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: ومعنى هذا أنه -عليه الصلاة والسلام- صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجية له وخلقًا تطبَّعه، يعني استفاده من القرآن فصار يدور مع القرآن أمرًا ونهيًا وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جُبل عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكان خلقه، وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: أف قط عشر سنين.
الإنسان لو يجلس عند شخص آخر ساعة وجد منه التذمر والتأفف وضيق الخلُق وضيق النفس، عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته، وكان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خُلُقًا، ولا مسست خزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شممت مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عرقه -عليه الصلاة والسلام-.
مما يتداوله الناس في هذا الباب ويرفعونه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- حديث: «أدبني ربي، فأحسن تأديب» لكنه حديث ضعيف، حديث ضعيف رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء، والعسكري في الأمثال، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الثامن عشر: إن معناه صحيح، ولكن لا يُعرف له إسناد ثابت، ولكن لا يعرف له إسناد ثابت. يقول القرطبي: وقد روي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أدبني ربي، أدبني ربي تأديبًا حسنًا؛ إذ قال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، فلما قبلتُ ذلك منه قال: {إنك لعلى خلق عظيم}»، وأما حديث: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق أو صالح الأخلاق» فهو حديث جيد بطرقه يبلغ درجة الصحيح لغيره.
وليعلم أن المراد بالأدب ما قدمناه؛ لأن كثيرًا من الناس يسمع الحث على الأدب ما قدمنا أن المراد به أدب النفس، والمراد به الأدب الشرعي، ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- قولاً وفعلاً، وأما ما تعارف الناس عليه واصطلحوا عليه من أدب الدرس الذي مؤلفاته مشحونة بكثير من الإسفاف، من سفاسف الأمور، كثير من المجون، كثير من الأمور التي ينبغي أن يتحاشاه عامة المسلمين فضلاً عن العلماء وطلاب العلم، ومع الأسف أنه يوجد لبعض العلماء مؤلفات في الأدب الذي هو أدب الدرس، وفيها شيء من هذا الإسفاف، علماء فمن قرأ في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء تعجب كيف لعالم له علاقة بكتاب الله- جل وعلا-، ومع ذلك يكتب مثل هذا الكتاب.
ابن الوردي له كتاب في غاية السفول والإسفاف، وذكر في مقدمته أن بعض الناس قد ينتقد أن يصدر هذا الكتاب من شخص قاضٍ ومفتٍ، وما علموا أن الأدب شيء، والعلم شيء آخر، فهم خاطئ، هذا فصل الأدب عن الدين لا وجه له، بل الدين حاكم على كل شيء، حاكم على كل شيء، أما ما يتعلق بالشق الثاني من عنوان الدرس، وهو الرقائق، فقد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بكتاب الرقاق، بكتاب الرقاق، قال ابن حجر: قال مُغْلَطَاي: عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق، البخاري قال: كتاب الرقاق، وقال مُغْلَطَاي: عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق، قال ابن حجر: منهم ابن المبارك، وله كتاب كبير في الزهد والرقائق، والنسائي في الكبرى، وروايته كذلك، يعني في البخاري في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري، والمعنى واحد، الرقاق والرقائق معناهما واحد، وكل منهما جمع رقيقة.
سميت هذه الأحاديث المدرجة تحت هذه الترجمة بهذا الاسم؛ لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة، هذه الأحاديث المدونة التي أدرجها الإمام البخاري وغيره ممن كتب في هذا الباب هذه الأحاديث وهذه النصوص تحدث في القلب رقة، ولا غنى لأحد عن هذه الرقائق، هي السياط سياط القلوب التي تدعو الإنسان وتحمله على العمل بما علم، وإلا فقد يغفل الإنسان إذا كان اشتغاله مع الأحكام وعلوم الآلة مثلاً لا شك أنه ينشغل بها، ثم لا يلبث أن يتخلف عن العمل، إذا قرأ في مثل هذه الكتب وهذه الأبواب الرقاق التي هي سياط للقلوب بعثته هذه على العمل، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أبدع أيما إبداع في هذا الكتاب، ضمن كتابه العظيم الصحيح، وأورد فيه النصوص الكثيرة تحت تراجم دقيقة برع فيها الإمام البخاري، وأردفها بما أثره عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين مما لا يوجد في غيره، فعلى طالب العلم أن يُعنى به، أعني كتاب الرقاق من صحيح البخاري.
قال أهل اللغة: الرقة والرحمة ضد الغِلَظ، ويقال لكثير الحياء: رق وجهه استحياءً، وقال الراغب: متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة، متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة، كثوب رقيق وثوب صفيق، ومتى كانت في نفس فضدها القسوة، كرقيق القلب وقاسي القلب، وجمع كثير من العلماء بين الزهد والرقائق، كتبوا في الباب كتبًا أسموها الزهد والرقائق، فما علاقة الزهد بالرقائق؟
الزهد نتيجة لإدامة النظر في الرقائق، يعني متى يزهد الإنسان؟ إذا تلقى ما جاءه عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- وما جاء عن سلف هذه الأمة من الرقائق، حينئذٍ يزهد في الدنيا، والزهد مطلوب؛ لأن الإنسان إنما خلق لغاية، وهي تحقيق العبودية لله -جل وعلا- مع عمارة الأرض التي لا تقوم العبودية إلا بها، إنما الهدف الأصلي تحقيق العبودية، عمارة الأرض {ولا تنس نصيبك من الدنيا} من أجل تحقيق هذا الهدف، فإذا أدام النظر في الرقائق حصلت له هذه المنقبة التي هي الزهد.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه زاد المعاد لا يكاد يخلو باب من أبوابه من لفتة توجيهية تذكِّر القلب وتلفته إلى تحقيق ما خلق من أجله، فنذكر لذلك أمثلة من أعظم ما يوعظ به الإنسان، ويرقق قلبه، ويذكر به القرآن، القرآن الكريم ابن القيم -رحمه الله- في هذا الكتاب عني عناية فائقة بما يتعلق بكتاب الله -عز وجل- قراءة وحفظًا وفهما وتدبرًا واستنباطًا وتعلمًا وتعليمًا، لماذا؟ لأنه أولى ما يُذَكر به، فأولى ما يذكر به من يخاف الله -عز وجل-، ويرجو ثوابه كما قال الله -جل وعلا- في آخر سورة ق: {نحن أعلم ما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قال -رحمه الله: فصل في هديه -صلى الله عليه وسلم- في قراءة القرآن واستماعه وخشوعه وبكائه عند قراءته واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك:
كان له -صلى الله عليه وسلم- حزب يقرؤه، ولا يخلُّ به، وكانت قراءته -عليه الصلاة والسلام- ترتيلاً امتثالاً للأمر الإلهي: {ترتيلاً} لا هذًّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، فيمد الرحمن، ويمد الرحيم، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته، فكان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وربما كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، وكان تعوذه قبل القراءة وصنيعه -عليه الصلاة والسلام- يُفسر قول الله -جل وعلا-: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}، وأن المراد فإذا قرأت يعني أردت القراءة، وليس معناها إذا فرغت من القراءة كما يقول بعض أهل الظاهر، صنيعه يفسر المراد بالفعل الماضي؛ لأن الفعل الماضي يأتي ويراد به الفراغ من الشيء، وهذا هو الأصل في الفعل الماضي يأتي ويراد به الشروع في الفعل، ويأتي ويراد به إرادة الفعل، إرادة الفعل، وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبدالله بن مسعود فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع -عليه الصلاة والسلام- لسماع القرآن حتى ذرفت عيناه، وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومتوضئًا ومحدثًا، ولم يك يمنعه من قراءته إلا الجنابة.
ثم ذكر -رحمه الله- كيفية قراءته -عليه الصلاة والسلام- وترجيعه، والأمر بتزيينه بالأصوات، والخلاف في قراءته بالألحان، ورجّح عدم جواز قراءة القرآن بالتطريب والألحان إلا ما كان عليه سلف هذه الأمة كعبدالله بن مسعود وكأبي موسى الأشعري وغيرهما، لكن هل كل من قرأ القرآن يتذكر به، هل كل من قرأ القرآن يتذكر به؟ أو كل من استمع القرآن يتذكر به؟ الجواب لا؛ لأن الإنسان يدرك هذا من نفسه، تمر علينا الآيات ولا تحرك ساكنًا، تمر السور وقد ينتهي الإنسان من حزبه ما تأثر، وقد ينتقل من سورة إلى سورة وما شعر، من الذي يتذكر بالقرآن؟
إنما يتذكر بالقرآن من قال عنه المولى -جل وعلا-: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الفوائد في أول الكتاب: إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته، اجمع قلبك عند تلاوته، يعني من حصل لجماعة أن صلوا الظهر جماعة، والراوي يقول: جماعة كثر، فصلى بهم الإمام وجهر بالقراءة وأمنوا على قراءته، مثل هذا يتذكر بالقرآن؟ أو جميع من وراءه ممن يتذكر بالقرآن، وشوهد من هو ساجد يرفع أصبعه كذا يتشهد، وفي آخره قال: آمين في السجود، يعني مثل هذا يتلذذ بعبادة؟ والمشتكى إلى الله -جل وعلا-.
هذا واقعنا وسبب ذلك ما ران على القلوب من الذنوب والمكاسب المدخولة والمطاعم المغشوشة، هذا يغطي القلب، كيف تستفيد وأنت في تعاملك مع الله -جل وعلا- في كثير من أحوالك مع تقصير كبير وخلل عظيم؟ يعني يصلي الإنسان ويخرج من صلاته ما استفاد شيئًا، والله -جل وعلا- يقول: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} الصلاة التي تترتب عليها آثارها هي الصلاة التي تُؤدَّى على مراد الله -جل وعلا-، وعلى ضوء ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- من قوله وفعله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» تجد بعض المسلمين يصلي ويسرق، وقد يشرب الخمر، وقد يكذب، إلى غير ذلك، فما نهته صلاته لا عن الفحشاء ولا عن المنكر.
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} يصوم الإنسان بالنهار ويزاول المنكرات والجرائم بالليل، إذًا ما ترتبت الآثار على هذه العبادة، وقل مثل هذا في الحج، {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} بشرط التقوى لمن اتقى لا إثم عليه، يرجع بدون ذنب، لكن شريطة التقوى، والله المستعان.
يقول ابن القيم في الفوائد: إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطَب به أو من يخاطِبه به، من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه. يقول الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- في ميميته:
هو الكتاب الذي من قام يقرؤه |
| كأنما خاطب الرحمن بالكلم . |
تخاطب الله -جل وعلا-، ونقرأ القرآن وكأننا نقرأ في جرائد، كأننا ما نقرأ كلام الله -جل وعلا-، تجد المدير والمسؤول إذا جاءه أنظمة أو لوائح جمع الوكلاء، وجمع رؤساء الأقسام، وعكفوا على هذه اللوائح يدرسونه؛ ليعلموا منطوقها ومفهومها، وما يدخل فيها، وما يخرج منها، وماذا يراد بها؟ وإذا أشكل عليهم شيء استفصلوا، ثم تأتي اللوائح التفصيلية لهذا النظام، ويعتنى به هذه العناية، وهذا لأنه مرتبط بالدنيا والوظيفة، لكن الوظيفة العظمى التي لأجلها خُلق الإنسان لا نلتفت إليها، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتضٍ ومحل قابل وشرط لحصول الأثر، التأثير يحتاج إلى وجود السبب وانتفاء المانع وقبول المحل، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتضٍ ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
فقوله: {إن في ذلك لذكرى} إشارة إلى ما تقدم من أول السورة سورة ق إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر، يعني من قرأ من أول السورة إلى قوله: {إن في ذلك لذكرى} ولم يتأثر، ولم يدكر، يراجع قلبه، يراجع قلبه. وقوله: {لمن كان له قلب} هذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال -جل وعلا- {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيًا} أي حي القلب، وقوله: {أو ألقى السمع}، وننتبه لكلمة أو لماذا لم يأت بالواو أو ألقى السمع أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثير بالكلام، وقوله: {وهو شهيد} أي شاهد القلب حاضر غير غائب. قد يقول قائل: لماذا لم يقل: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقى؟ لأنه لا بد من إلقاء القلب لمن يكون له قلب حي ويلقي أيضًا؛ لأنه لو كان له قلب حي وما يلقي السمع، فهل يستفيد؟ ما يستفيد، ولو ألقى السمع وليس له قلب حي لا يستفي،د لماذا لا يؤتى بواو الجمع؟
أولًا أو تأتي بمعنى الواو، أو تأتي بمعنى الواو، وربما عاقبت الواو إذا إلى آخره في كلام ابن مالك، الأمر الثاني أنها بمعنى الواو طردًا لكن عكسًا قد يقول قائل: إنه يكفيني أن يكون قلبي حي أو يقول قائل مثلاً: إن قلبي يحتاج إلى علاج، فلا داعي أن ألقي السمع، لا بد أن أعالج قلبي قبل أن ألقي السمع، نقول: لا أنت مطالب بالأمرين كل واحد منهما على حدة، ثم بعد ذلك إذا انضم بعضهما إلى بعض تمت الفائدة، قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساهٍ، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله، فإذا حصل المؤثر، فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن، والمحل القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر، وهو الانتفاع والتذكر. والله -جل وعلا- يسر القرآن، الله- جل وعلا- يسر القرآن للذكر، يعني للتذكر، فهل يتذكر به كل قارئ؟ {ولقد يسرنا القرآن للذكر} هل يتذكر به كل قارئ ولو كان غافلاً لاهيًا ساهيًا؟
الجواب: لا، ولذا قال الله -جل وعلا-: فهل من مُدَّكر؟ فهل من مدكر أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ هل من محل قابل لا بد من قبول المحل، علق البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بصيغة الجزم عن مطر وهو الوراق في قوله تعالى: {فهل من مدكر} هل من طالب علم فيعان عليه؟ هل من طالب علم فيعان عليه؟ فلا بد من استحضار هذا عند تلاوة القرآن وفهمه والعمل به وحفظه مما يذكر ويرقق القلب.
ويدخل في الرقائق ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- من أنه كان يعود المرضى ذكر- رحمه الله تعالى- فصلاً في هديه -صلى الله عليه وسلم- في عيادة المريض، وذكر فيه أنه- عليه الصلاة والسلام- يدعو للمريض، ولا شك أن رؤية المرضى تجعل الإنسان يحاسب نفسه، أنك بدل من هذه القوة التي تتمتع بها تكون في أي لحظة من اللحظات مثل هذا الضعيف العاجز، ذكر فيه أنه -عليه الصلاة والسلام- يدعو للمريض، ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله فيقول: كيف تجدك؟ يجلس عند رأسه متوكلاً على الله -جل وعلا- وقد يضع يده على رأسه ويدعو له، كثير من الناس يأنف من القرب من المريض، وبعض الناس لا يزور المرضى؛ خشية العدوى، بعضهم يقول: المستشفيات موبوءة، وفيها جراثيم، وفيها، ويفوته خير عظيم، والله المستعان، وكان يسأل المريض عما يشتهيه فيقول: هل تشتهي شيئًا، فإن اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به، لكن إن كان يضره لا يأمر به، وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ويقول: «اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا». وكان يدعو للمريض ويرقيه، ولم يك من هديه -صلى الله عليه وسلم- أن يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض ولا وقتًا من الأوقات، بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهارًا وفي سائر الأوقات.
نعم يوجد الآن من يخصص الخميس مثلاً تجتمع فيه عنده عبادات كثيرة، فتجده يصوم يوم الخميس، ويتصدق، ويعود المرضى، يتبع الجنائز، يصلي عليها، ويزور المقابر إذا لم يصل على الجنازة، المقصود أنه يجتمع عنده في هذا اليوم أمور كثيرة، النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يخصص يومًا لهذه العبادات، نعم جاء تخصيص بعض الأيام بصيامها، لكن تخصيص بعض الأيام بزيارة المقابر أو المرضى لم يكن من عادته -عليه الصلاة والسلام-، ولم يأت عنه ما يدل على ذلك، قد يقول قائل: إن يوم الخميس يوم فراغ، الأيام الأخرى لا يستطيع؛ لأن عنده دوامًا أو دراسة أو تدريسًا لهذا الهدف، لا لأن هذا اليوم يختص بهذه العبادة. نقول: لا يكون ذلك ديدنًا، يخلفه في بعض الأيام، ثم يخرج من المحظور، وفي المسند عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه: «إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرفة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإذا كان غدوه صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح».
وكم يُحرم الإنسان في تكاسله وفي تثاقله عن عيادة المرضى، والله المستعان، وفي لفظ: «ما من مسلم يعود مسلمًا إلا بعث الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه أية ساعة من النهار كانت حتى يمسي، وأي ساعة من الليل حتى يصبح»، فعيادة المرضى مما يرقق القلوب، فهي داخلة في الرقائق.
ثم ذكر –رحمه الله تعالى- فصلاً في هديه -صلى الله عليه وسلم- في الجنائز والصلاة عليها وتوابع ذلك، فأول ذلك تعاهد المريض في مرضه وتذكيره الآخرة، تذكيره الآخرة وأمره بالوصية والتوبة، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه، لا بد من استغلال مثل هذه الظروف، المريض بحاجة ماسة إلى ما يعينه سواء كان فيما يتعلق بمرضه أو غيره، لو أهدى إليه كلمة طيبة، وبشره، بش في وجهه، وأطمعه في رحمة الله- جل وعلا-، وأملى عليه ما يريده من توجيه، فعلى من يعمل في هذا المجال أن يستغل مثل هذه الظروف، فالمريض مثل الغريق، فالطبيب عليه أن يستغل مثل هذه الظروف، وكذلك من يعود المريض، لكن قبول قول الطبيب بالنسبة للمريض لا تردد فيه؛ لأنه يرى أن حاجته متعلقة بهذا الشخص، فإذا أهدى إليه نصيحة وأسدى إليه توجيهًا، وأمره أن يثق بالله -جل وعلا-، وأن يطمع به في شفائه، ووجَّهه إلى ما ينفعه في دينه، وحسن خاتمته، يكون له منّة. كثير من الناس عنده فرص للدعوة يفوتها، ما يقدر قدر الوظيفة إلا من عاناها، فمثلاً الذي يعطي المواعيد في المستشفيات أو في غيرها، عندك موعد في مستشفى، الموظف الذي على الجهاز يقول: موعدك بعد شهرين، ثم يقول المريض: حاول يا ابن الحلال أنك تقدم، لعلك كذا، ثم يحاول أن يقدمه أسبوعًا يملكه، ثم إذا رأى عليه ملاحظة قال: يا أخي أنت عليك كذا، لو أقبلت على الله -جل وعلا- وتركت هذه المعصية أعانك الله -جل وعلا- وشفاك، ولو وجهه إلى الصيام، إلى القيام، إلى تلاوة القرآن على الوجه يعني هذه لا يعجز عنها أحد، لكنه الحرمان.
كثير من الناس تأتيه الفرصة مواتية، يوسف -عليه السلام- استغل حاجة الرجلين، استغلها في الدعوة وهو في السجن، فعلى كل إنسان أن يستغل مثل هذه الظروف، وكل من المسلمين على ثغر، وهكذا كان دأبه -عليه الصلاة والسلام- استغلال المناسبات في التذكير والتوجيه وهذا المشهد، مشهد الاحتضار والأموات والقبور وما يتعلق بها من أعظم المشاهد تأثيرًا في القلوب، ولذا أُمرنا بزيارة القبور؛ لأنها تذكر الآخرة، يقول الله -جل وعلا- {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر}، يعني شغلكم ما أنتم فيه من مكاثرة في أمور الدنيا ومباهاة بها حتى زرتم المقابر يعني حتى متم ودفنتم، واستدل بهذه الآية أعرابي لا يقرأ ولا يكتب لما سمعها قال: بعث القوم ورب الكعبة، كيف؟ الزائر لا بد له أن يرجع، معنى حتى زرتم المقابر يعني دفنتم مدة مؤقتة ثم رجعتم، فهذه فيها دليل على البعث، ومنهم من يقول: إن المراد بالزيارة هنا زيارة القبور.
ولا شك أن زيارة القبور لها أثر في ترقيق القلوب، لكن القلوب الحية القريبة، أما بعض القلوب فلا فرق بينه بين أن يذهب، لا فرق عنده بين أن يذهب إلى المقابر أو إلى الملاهي، إذا وجد في الخمسين من يدخن على شفير القبر، وجد من يغتاب، ويكذب في المقبرة، كيف يتعظ مثل هذا؟ لا بد من المراجعة، لا بد من المحاسبة، لا بد من المراقبة، يقول القرطبي في تفسيره: أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله تعالى حتى متم ودفنتم في المقابر، وزيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي، من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، يواظب على مشاهدة المحتضرين.
لكن وصل الحد ببعض الناس أن زاول بعض المعاصي مع الأموات، يعني قديمًا كان النباش ينبش القبر ويسرق الكفن، هذه عادة قديمة سيئة من مئات السنين موجودة، ينبش القبر، ويسرق الكفن، أين القلب؟ وجد ما هو شر من ذلك في قضايا يصعب الحديث عنها، والله المستعان.
يقول -رحمه الله تعالى-: وزيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قِصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسى قلبه ولزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت وانجلت به قساوة قلبه فذاك، يعني هذا قلب قريب إن استفاد من مجرد ذكر الموت، يعني قبل ثلاثين سنة من دون مبالغة إذا مرت الجنازة بين البيوت بعض الناس يجلس أيامًا ما يخرج من البيت، ما يخرج من البيت، يعني نظير ما يسمع عن بعض الصحابة أنه إذا تأثر بالقرآن وبكى مرض، وكان يعاد، يعاد؛ لأن التأثر حقيقي، أثر في البدن، وأثر في القلب.
لكن الآن تسمع القارئ يبكي بكاءً شديدًا في أول الآية، في آخرها الصوت فيه تأثر، في الآية الثانية كأن شيئًا لم يكن، ما نلاحظ هذا عند كثير من القراء؟ لا نحكم على القلوب، لكن هذا ما ظهر لنا، يعني يتأثر في أول الآية ويبكي، ثم في آخرها الصوت فيه شيء من الجروشة، لكن الآية الثانية ما كأنه قرأ القرآن، يستعيد كما كان، كأنه الآن دخل الصلاة، وبعض الناس يبكي في الفاتحة، سمعنا بعض شيوخنا يبكي في الفاتحة في الركعة الثانية، لماذا؛ لأنه سبقه بكاء في السجود واستمر معه. المقصود أننا لا نغالط أنفسنا، علينا أن نراقب بدقة، ونسعى في علاج القلوب.
يقول: فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور المسلمين تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول؛ لأن الأول مجرد ذكر من غير عيان، من غير معاينة، عثمان- رضي الله تعالى عنه وأرضاه- إذا رأى القبر بكى بكاءً شديدًا، ويقال له: ماذا يبكيك، قبر عادي؟ يعني موت قال: القبر هذا أول الابتلاء والامتحان، إن تجاوزت هذه المرحلة فما بعده خير، وإن لم تتجاوزها فما بعده شر، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير، وفي مشاهدة من احتضر وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة، فلذلك كان أبلغ من الأول، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الخبر كالمعاينة»، رواه ابن عباس، انتهى كلام القرطبي.
لكن ماذا يصنع بقلب لا يؤثر فيه شيء لا قراءة قرآن، ولا زيارة قبور، ولا تذكر موت، ولا رؤية المحتضرين، لا يؤثر فيه شيء ألبتة، يعني في ثلاجة الأموات واحد جاء بزجاجة ببسي ووضعه حتى يبرد، قد يقول قائل: وهذا وقع لنا ولغيرنا من كثرة ما تتردد على القبور صار أثرها في النفس ضعيفًا، أنت تشاهد حفرة تأتيها اليوم وغدًا وبعد غد، تتردد عليها وهي حفرة، لماذا؟ لأنك تزور هذه القبور من غير قلب، ولو أحضرت القلب تأملت ماذا يكون لك في هذه الحفرة، وما مآل جسدك في هذه الحفرة، تأثرت، لكن أبدًا من أجل أنه وضع له برنامجًا وصار يتعامل ببدنه فقط، وضع له أجزاءً من القرآن يقرؤها ولا يصدق أن يفرغ منها، ويضع له برنامجًا يزور المقابر في الأسبوع مرة مثلاً، برنامج روتيني، أو يزور المستشفيات أو غيرها من غير حضور قلب، مثل هذه الأمور جوفاء لا تجدي، نفعها قليل، ولذلك يحصل ما يحصل من بعض المسلمين في المقابر وفي المستشفيات وفي غيرها، هكذا نجد الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في جميع الأبواب يذكر ما ينفع القلب ضمن ما يذكره من الأحكام الفقهية.
فالكتاب مخصص لهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- في جميع أبواب الدين، لكنه يذكر الأحكام ليست جافة، إنما هي سهلة لينة، يخاطب فيها القلب قبل البدن، في الصلاة ذكر- رحمه الله تعالى- أنها صلة للعبد بربه، وأنه لا بد فيها من الخشوع الذي يقوي الصلة بالله- جل وعلا-، وأن تفعل على مراد الله -جل وعلا-.
شيخ الإسلام في حديث الصلوات الخمس، الصلوات الخمس كفارة لما بينهما يقول -رحمه الله تعالى-: الصلاة التي لم يرجع صاحبها منها إلا بعشر أجرها هذه يرجى منها تكفير؟ هذه إن كفرت نفسها بركة، يكفي، ونحن نسمع هذه الأحاديث، ونوسع الرجاء والأمل، ونغفل عن أحاديث أخرى، نعم هذا كلام من لا ينطق عن الهوى، وهو مبلغ عن الله -جل وعلا- الذي لا يخلف الميعاد، لكن مع ذلك أنت عليك تبعات.
ذكر في كتاب الزكاة أسباب انشراح الصدور، أسباب انشراح الصدور، وهذا علاقته بالقلب ذكر في الصيام أنه من أعظم أسباب تحقق التقوى للصائم، وأنه من أعظم ما يعين على مراقبة الله -جل وعلا-، والكلام في مثل هذه الموضوعات كثير جدًّا في الكتاب، ومبثوث فيه، ولو جُرِّد عله ألا يقل عن مجلد، يمكن أنه لا يقل عن مجلد، لو جرد الكلام في هذه المسائل، لكن هذا كلام اقتطفناه يناسب الوقت؛ لأن الوقت، الإخوان عندهم من صلاة الفجر، فلا نريد الإطالة عليهم بهذا نكتفي، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"أورد ابن القيم -رحمه الله تعالى- أحاديث كثيرة في كتابه، بل مبناه، مبنى الكتاب على الأحاديث، وهو يورد الأحاديث، وهي على ثلاثة أقسام، منها ما هو صحيح، وهو الكثير الغالب، ومنها ما هو الحسن الذي يُعمل به في جميع أبواب الدين، ومنها ما ضعفه قريب محتمل، وينبه على هذا الضعف، وليس معنى هذا أن الإمام ابن القيم معصوم من أن يقع في كلامه ما يجانب الصواب، بل هو كغيره من أهل العلم في كلامه الصواب، وهو الأصل، وقد يقع في كلامه ما يُخالَف فيه ويعارض، وقد يصحِّح حديثًا هو في الواقع لا يرتقي إلى درجة الصحة، وقد يكون عنده العكس، فهو كغيره من الأئمة، لكنه إمام جهبذ نقاد خبير، الصواب في جانبه غالبًا.
طبعة الأرنؤوط في خمسة مجلدات لا شك أنها طبعة مخدومة، وفيها تخريج وفيها تعليق وفيها بيان لدرجات الأحاديث، فهي نافعة لطالب العلم، وأما النونية فهي مطبوعة قديمًا بمصر، وقبل ذلك طبعت في الهند في مجلد، ومصر كذلك في مجلد صغير، وطبعت مع شرحها للشيخ ابن عيسى، ومع شرحها للهراس، وجميع الطبعات لا تخلو من أخطاء، لكنها أخطاء يسيرة، والكتاب مُحقق، ويصدر قريبًا، إن شاء الله تعالى، في أربع رسائل، في أربع رسائل ماجستير، النونية.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- يذكر في مصنفاته التفسير، لكن تفسير من صنعه من أوله إلى آخره لم يوقف عليه، لكن مع ذلك طُبع التفسير القيم لابن القيم في مجلد، طبع من أربعين أو أكثر من أربعين سنة، وهو كتاب نافع، وأيضًا طُبع تفسير ابن القيم في خمسة مجلدات أو ستة، وهو مجموع من كلامه في كتبه المنثور في كتبه.
على طالب العلم أن يسدد ويقارب، فكما أنه مطالب بالتزود من العلم، وأن يعبد الله على بصيرة هو مندرج في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه»، فهو مطالب بتغيير المنكر على هذه المراتب الثلاث، لكن هل عليه أن يرتاد الأماكن التي توجد فيها المنكرات، أو يقتصر وينحصر في بيته ليطلب العلم؟
أولاً العلم الشرعي هو أفضل العبادات، هو أفضل نوافل العبادات عند أهل العلم، هو أفضل نوافل العبادات، لكن إذا عمت المنكرات وصار إنكارها ووجوبه متعينًا على القادر من طلاب العلم ومن غيرهم، لا شك أن الإنكار؛ لأنه واجب مقدم على طالب العلم، لكن ليس له أن ينكر إلا ما يعرف حكمه، وأن يتوخى في إنكاره الأسلوب المناسب الذي لا يترتب عليه منكر أعظم منه.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- قبل أن يلتقي بشيخ الإسلام ابن تيمية كان ميله إلى التصوف، كان ميله إلى التصوف، لما التقى بشيخ الإسلام لا شك أنه استفاد فائدة عظيمة، وصحح وضعه، ومع ذلك في كثير من عباراته فيها شيء مما يتعلق بما أبديناه قريبًا من الرقائق، وكثير من الناس يصنف العالم على ما يغلب في أسلوبه، المواعظ والرقائق كثير من الناس جعلها للوعاظ والقصاص، وهذا النوع يكثر في المتصوفة، الوعظ والقصص، فصنف من يكثر كلامه في هذا الباب على هذ الفئة، وكثير من الناس ما يستوعب أن بعض الناس أوتي مواهب كثيرة، فتجده مفسِّرًا بقدر ما هو محدث، وتجده فقيهًا بقدر ما هو واعظ، فإذا اجتمعت هذه الأمور للإنسان لا شك أن الحديث: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، وهذا السؤال عنه لا شك أن المراد بالدين بجميع أبوابه، ليس معنى هذا الفقه بالحلال والحرام، العقائد هي الفقه الأكبر، ومع ذلك لا بد أن يتفقه في الكتاب، ويفهم مراد الله -جل وعلا- في كتابه، هذا فقه، بل أعظم أنواع الفقه، يتفقه في السنة، يتفقه في جميع أبواب في الآداب في الأخلاق في الرقائق، في غيرها من أبواب الدين.
فمن نظر في كلام ابن القيم، وجعله لا يوجد له متن فقهي على طريقة الفقهاء، ولا يوجد له متن في مصطلح الحديث، ولا يوجد له متن حديثي، ولا يوجد له ما صُنِّف على طريقة العلماء في المتون التي يتربى عليها طلاب العلم، يقول: ابن القيم كيف نصنفه؟ نسمع كلامه الكثير الذي يؤثر في القلب إذًا هو واعظ، والوعاظ والقصاص كثرتهم وتصنيفهم مع المتصوفة، والتصوف لا شك أنه مراتب منه ما هو مخرج عن الملة، يعني بدعة كبرى مغلظة، ومنه ما هو دون ذلك، منه ما هو مفسق، ومنها بدع كبرى لا تخرج عن الملة، ومنها ما هو بدع صغرى، ومنها ما يجعل العالم يؤثر جانب العمل أكثر من العلم، وحينئذٍ يحسب على هذه الفئة، ومنهم من يؤثر جانب العلم على العمل فيوصف بالجفاء.
المقصود أن على الإنسان أن يتوسط في أموره، وأن يكون علاجه لبدنه وما يتعلق به بقدر علاجه لقلبه، وتكون أعماله الظاهرة موازية لأعماله الباطنة، فابن القيم كثر في كلامه ما يرقق القلوب، وكثر في كلامه النقول عن بعض رؤوس المتصوفة ممن تصوفهم بعضه مقبول، وبعضه غير مقبول، فتجده ينقل عن الجنيد، وعن أبي سليمان الداراني، وعن فلان وعلان، وذي النون المصري، كثير من المتصوفة ينقل عنهم ابن القيم، لكن هل ينقل عنهم الباطل؟ ما ينقل إلا حقًّا، وشيخ الإسلام أيضًا يعنى بأقوالهم، ويذكرهم، ولا يعني هذا أنه متصوف إذا نقل منهم، ولا يعني أنا إذا نقلنا عن شافعي صرنا شافعية، أو عن حنفي صرنا حنفية.
نعم عند المتصوفة أخطاء، وأخطاؤهم متفاوتة، منهم من يعبد الله على غير ما شرع، ومنهم من يصل به تصل به بدعته إلى أن يخرج من الملة، فالتصوف المغرق هذا لا شك أنه خطية أن يعبد الله من غير ما شرع، هذا على خلاف شهادة أن محمدًا رسول الله، المقصود أن التصوف متفاوت، وابن القيم ينقل عنهم وعن غيرهم، والحق يُقبل ممن جاء به، يقبل ممن جاء به.
إتمامًا للسؤال السابق وخشية من أن يصنف بعض طلاب العلم إما يصنف خطيبًا، أو يصنف واعظًا، أو يصنف كذا أو كذا، قيل لشخص: لماذا لا تشرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري، قال: أنا لا أريد أن أصنف واعظًا، أريد أن أصنف فقيهًا، صحيح الناس ما يستوعبون إذا كثر كلام الإنسان في هذه المناسبة، تجد بعض الناس يأنف من أن يستفتيه، وبعض كبار أهل العلم هم فقهاء أئمة أجلاء، برعوا في الخطابة، تجد كثيرًا من الناس يقول: هذا خطيب، ماذا عنده؟ نحن نريد أن نسأل الراسخين، وهو في واقعه راسخ، لكن الناس ما يستوعبون إذا ظهر من حال الإنسان أنه يعنى بباب من أبواب الدين صنفوه عليه، وجعلوه ما يفهم غيره.
السؤال الذي ذكر فيه السائل أنه بالنسبة للمبتدئ، هل يبدأ عند بعض المتعلمين من صغار المعلمين، أو يستغل وجود فرصة وجود الكبار قبل أن يطلبهم فلا يجدهم.
على كل حال عليه أن يذهب ويأخذ العلم عن الثقات، أهل العلم والعمل، ويبدأ بمن يفهم عنهم، طالب العلم المبتدئ، لو ذهب إلى عالم كبير قد لا يفهم عنه، فالعالم الكبير يشرح على مستوى الحاضرين، وعلى المستوى الكتاب المشروح، فإذا وجد بينهم مبتدئ قد لا يستفيد، ينتقل هذا المبتدئ إلى من هو دونه ممن يستطيع إيصال المعلومة إليه بسهولة، فإذا فهم عن هذا الشيخ، ووجد نفسه تأهل إلى أن يأخذ عن المتوسطين من أهل العلم ينتقل إلى الطبقة الثانية، ثم بعد ذلك يطلع إلى العلماء الكبار، ولذا صنّف أهل العلم المتعلمين إلى طبقات، وصنفوا لهم مصنفات تتناسب مع أعمارهم وأفهامهم، فلا يناسب أن يقرأ الطالب المبتدئ بكتاب صُنف للمتقدمين المنتهين، والعكس أيضًا، ما يصلح، فعلى طالب العلم أن يتدرج في الطلب، فيحضر من الدروس ما يفهم، ويحضر عند المشايخ من يفهم له، ثم بعد ذلك يرتقي إلى ما فوقه.