التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (14)
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود:116] أَيْ أَشْرَكُوا وَعَصَوْا {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}[هود:116] أَيْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَإِيثَارِ ذَلِكَ عَلَى الْآخِرَةِ، {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116].
قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود:117] أَيْ أَهْلَ الْقُرَى، بِظُلْمٍ أَيْ بِشِرْكٍ وَكُفْرٍ، {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود:117] أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ من تَعَاطِي الْحُقُوقِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِالْكُفْرِ وَحْدَهُ حتى ينضاف إليه الفساد".
لأن الأمم قد تعيش وتستمر، في شيء من رغد العيش، وإن كانوا كفارًا، فلا يعجل لهم بالعقوبة ما لم يظلم بعضهم بعضًا أو يظلموا غيرهم؛ لأن الذي يعجل العقوبة هو الظلم، والتعدي على الآخرين، أما مجرد الكفر والشرك فهذا لا شك أن عقوبته في الآخرة أشد وأنكى، لكن في الدنيا إنما تعجل العقوبة للظالمين.
"كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِاللِّوَاطِ".
نعم، بهذه المعاصي، وإن كان عندهم من المعاصي والذنوب ما هو أعظم الذي هو الشرك. نعم.
"وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ أَقْرَبُ إِلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الشِّرْكِ فِي الْآخِرَةِ أَصْعَبَ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ.
لأن سكوتهم عن الظالم تعاون معه على الظلم والعدوان، فهم مستحقون للعقاب من هذه الحيثية؛ لأن سكوتهم عنهم معاونة معه على ظلمه.
" وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ وَنَقْصًا مِنْ حَقِّهِمْ، أَيْ مَا أَهْلَكَ قَوْمًا إِلَّا بَعْدَ إِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا كَانَ رَبُّكُ لِيُهْلِكَ أَحَدًا وَهُوَ يَظْلِمُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى نِهَايَةِ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِهِ".
فليس بظلم حينئذٍ، لو أن الله -سبحانه وتعالى- أهلك أعبد الناس ما كان ظالم له؛ لأنه في تصرفه، لكن جرت سنته U أنه لا يهلك الصالحين المصلحين، وإنما يهلك الظلمة، نعم من انتهى أجله من هذه الدنيا رحل، وكان من أصلح الناس، وبالمناسبة في هذا اليوم صُلي على شخص توفي البارحة؛ الشيخ: فهد عبيد -رحمه لله-، وهو من أزهد الناس فيما نعلم وأصلحهم، والله المستعان. رحمه الله رحمة واسعة.
"دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}[يونس:44]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ، أَيْ مُخْلِصُونَ فِي الْإِيمَانِ. فَالظُّلْمُ الْمَعَاصِي عَلَى هَذَا.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}[هود:118] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ :أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ، أَهْلُ ضَلَالَةٍ أَوْ أَهْلُ هُدًى، {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[هود:118] أَيْ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}[هود:119] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ. وَقِيلَ: مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ، فَهَذَا غَنِيٌّ وَهَذَا فَقِيرٌ، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] بِالْقَنَاعَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ .{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:120] قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ وَيَمَانٌ: الْإِشَارَةُ لِلِاخْتِلَافِ، أَيْ وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: وَلِرَحْمَتِهِ خَلَقَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلِتِلْكَ، وَالرَّحْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَر"ٌ .
المصدر يُشار إليه بالمذكر، ويُخبر عنه بالمذكر، {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فعلى هذا الإشارة تعود إلى الرحمة، {لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، خلقهم ليرحمهم، فهذا الأصل، ليعبدوه، خلقهم ليعبدوه فيؤولون إلى رحمته بعد موتهم، والله المستعان. الاستثناء: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}[هود:120] فدل على أن الاختلاف ليس برحمة، الاختلاف لذاته ليس برحمة، والاجتماع والائتلاف هو الرحمة، والفرقة ليست من الرحمة، وأما ما يضاف عليه من قوله-عليه الصلاة والسلام-: «اختلاف أمتي رحمة» فهذا لا يثبت، لكن لا شك أن الاختلاف الناتج عن اجتهاد أهل الاجتهاد يترتب عليه الثواب، والثواب من الرحمة، الاختلاف الناتج عن اجتهاد أهل الاجتهاد، وليس أهل الأهواء، أو من ليسوا من أهل الاجتهاد، كلٌّ يقول برأيه ما يشاء، ويقول بغير علم، هذا ضلال -نسأل الله العافية-.
لكن الجر المرتب على الخلاف إذا نشأ عن اجتهاد أهل الاجتهاد. ولو لم يتفقوا على قول واحد، وكلهم مأجور؛ من أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد.
"وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى الْفَضْلِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ لِلِاخْتِلَافِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَدْ يُشَارُ بِـ " ذَلِكَ" إِلَى شَيْئَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[البقرة:68]".
إذا قيل: فلان ليس بقصير ولا طويل بل هو بين ذلك، يعني بين ذلك الطول والقصر.
"وَلَمْ يَقُلْ: بَيْنَ ذَيْنِكَ وَلَا تَيْنِكَ، وَقَالَ: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وَقَالَ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } [يونس:58] وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى{ لِأَنَّهُ يَعُمُّ، أَيْ وَلِمَا ذُكِرَ خَلَقَهُمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ، قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا"..
لما ذُكر من الاختلاف والرحمة، خلقهم فجعلهم شتى؛ منهم من خُلق للاختلاف والفرقة والشقاق والنزاع، ومنهم من خُلق للائتلاف والرحمة والاجتماع، جعلهم بين ذلك، منهم من هو على هذه الحال، ومنهم من هو على هذه الصفة، منهم شقي ومنهم سعيد.
"وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مَالِك - رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ، قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: خَلَقَهُمْ؛ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، أَيْ خَلَقَ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ لِلِاخْتِلَافِ، وَأَهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ، فَرِيقًا يَرْحَمُهُ، وَفَرِيقًا لَا يَرْحَمُهُ.
وقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وَالْمَعْنَى: وَلِشُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَلَقَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:105] أَيْ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ خَلَقَهُمْ."
لكن هذا بعيد لطول الفصل.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود:119]مَعْنَى " تَمَّتْ " ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ وَقَدَّرَ فِي أَزَلِهِ، وَتَمَامُ الْكَلِمَةِ امْتِنَاعُهَا عَنْ قَبُولِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} مِنْ " لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ وَجِنْسِ النَّاسِ. " أَجْمَعِينَ " تَأْكِيدٌ، وَكَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ نَارَهُ كَذَلِكَ أَخْبَرَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَمْلَأُ جَنَّتَهُ بِقَوْلِهِ: »وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا » خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ."
نعم لما احتجت في الجنة، والنار، حيث قالت الجنة: في الضعفاء والمساكين، وتلك قالت: إنما في الجبارون والمتكبرون، فقال للجنة: أنتِ رحمتي وقال للنار كذا، ولكل واحدة منكما ملؤها، ولا يظلم ربك أحدًا، الجنة يملؤها ويخلق لها ما يملؤها، والنار بعثها وإن كانوا أكثر إلا أنها لن تضيق بهم، إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض وأهلها من كل ألف واحد، فما عظم النار! نسأل الله العافية والسلامة منها.
" قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ}[هود:120]. كُلًّا نُصِبَ بِ " نَقُصُّ" مَعْنَاهُ: وَكُلُّ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلُ نَقُصُّ عَلَيْكَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: " كُلًّا " حَالٌ مُقَدَّمَةٌ، كَقَوْلِكَ: كُلًّا ضَرَبْتُ الْقَوْمَ".
أي جميعهم.
{منْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ}[هود:120] أَيْ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ. {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] أَيْ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُكَ فِيهَا مِنَ الْأَذَى. وَقِيلَ: نَزِيدُكَ بِهِ تَثْبِيتًا وَيَقِينًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَشُدُّ بِهِ قَلْبَكَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ"
في كل هذا تسلية للنبي –صلى الله عليه وسلم- وتثبيت له –صلى الله عليه وسلم-، لما قص عليه أخبار الأمم الماضية، الرسل والأنبياء السابقين، ومواقف الأمم السابقة من أنبيائهم ورسلهم، كل هذا ممت يثبته ويشد من أزره- عليهم الصلاة والسلام-.
"وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نُصَبِّرُ بِهِ قَلْبَكَ حَتَّى لَا تَجْزَعُ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: نُطَيِّبُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَ"مَا" بَدَلٌ مِنْ كُلًّا، الْمَعْنَى: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ}[هود:120] أَيْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمَا، وَخَصَّ هَذِهِ السُّورَةَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقِيلَ: خَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَأْكِيدًا، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، يُرِيدُ النُّبُوَّةَ. {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] الْمَوْعِظَةُ مَا يُتَّعَظُ بِهِ مِنْ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ، وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنَ السُّوَرِ قَدْ جَاءَ فِيهَا الْحَقُّ وَالْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى، وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ، {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود:120] أَيْ يَتَذَكَّرُونَ مَا نَزَلَ بِمَنْ هَلَكَ فَيَتُوبُونَ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُتَّعِظُونَ إِذَا سَمِعُوا قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ".
كما في قوله تعالى: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين؛ لأن المؤمن هو الذي يتعظ وهو الذي يزدجر، وهو الذي يعتبر، هذا هو الأصل، وقد يسمع الكافر كلمة فيتعظ بها ويزدجر فيسلم بسببها، لكن المؤمن هو الذي ينصت لكلام ربه ويعتبر به، ويزدجر بأوامره، وينتهي عن نواهيه.
" قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}[هود:121] تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. {إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}[هود:122] تَهْدِيدٌ آخَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [هود:123] أَيْ غَيْبُهُمَا وَشَهَادَتُهُمَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى".
وإذا كان له الغيب، وما غاب فيهما، فما ظهر من باب أولى.
"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَمِيعُ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ فِيهِمَا. وَقَالَ الْبَاقُونَ: غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نُزُولُ الْعَذَابِ مِنَ السَّمَاءِ وَطُلُوعُهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيّ: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [هود:123] أَيْ عَلِمَ مَا غَابَ فِيهِمَا، أَضَافَ الْغَيْبُ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ تَوَسُّعًا؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ ، تَقُولُ: غِبْتُ فِي الْأَرْضِ، وَغِبْتُ بِبَلَدِ كَذَا. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123] أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَمْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ يُرْجَعُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ يُرَدّ.ُ
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:123] أَيِ الْجَأْ إِلَيْهِ وَثِقْ بِهِ. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[هود:123] أَيْ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ. والْبَاقُونَ بِيَاءٍ عَلَى الْخَبَرِ . قَالَ الْأَخْفَشُ".
سعيد، يعني الأوسط، سعيد بن مسعدة.
"سَعِيدٌ " يَعْمَلُونَ" إِذَا لَمْ يُخَاطِبِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، قَالَ: بَعْضُهُمْ وَقَالَ : تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : قُلْ لَهُمْ { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: خَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ "هُودٍ" مِنْ قَوْلِهِ: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[هود:123].
إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. تَمَّتْ سُورَةُ هُودٍ، وَيَتْلُوهَا سُورَةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَام-".