لا شك أن العلم واسع جدًّا، وبحرًا لا ساحل له، ومع ذلك ما أُوتيه الخلق من العلم شيء قليل بالنسبة لعلم الله -جل وعلا-، يقول الله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: ٨٥]، ويقول الخضر لموسى –عليهما السلام-: «والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر» [البخاري: 4726]، فهذه العلوم الواسعة التي أوتيها البشر لا شك أنها بحور، ومتفرعة، وكثيرة جدًّا، وأحيانًا يقال عن عالم متفنن متوسع: إنه من بحور العلم، ومع ذلك لن يخرج عن دائرة قوله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
في هذا الإطار وفي سعة العلم نجد بعضَ الناس يتشتَّت ويتخبَّط، ولا يرتب أموره، ولا يطلب العلم على جادة أهل العلم وعلى رسمهم الذي رسموه للمتعلمين، وعلى تصنيفهم الطلاب على طبقات، فمثل هذا لن يُدرك من العلم شيئًا إلا بقدر ما يقرأ، فالعلوم يُبنى بعضها على بعض كالبنيان، ومن فضل الله على طالب العلم أن يجد من يوجهه ويأخذ بيده من أول الطريق، ولذلك تجد بعض الخريجين من الكليات الشرعية وإن كانوا أذكياء وإن كان لديهم حفظ لكن عندما لم يجدوا من يأخذ بأيديهم من أول الطريق تجد أحدهم يتشتَّت في قراءته، وإذا تَخَرَّج وجد أنه ليس عنده شيء يَبني عليه، بينما من وَجد من يأخذ بيده من أول الطريق ليضع قدمه على الطبقة الأولى من طبقات المتعلمين التي أُلِّفت فيها المتون المختصرة الواضحة، بحيث يحفظها ويفهمها ويَحْضُر عليها الدروس ويقرأ عليها الشروح ويسمع ما سُجِّل عليها حتى إذا أتقنها انتقل إلى كتب الطبقة الثانية، ويفعل فيها مثلما فعل في كتب الطبقة الأولى، ثم الثالثة، ثم طبقة المنتهين، وبهذا يحصِّل من العلم الشيء الكثير؛ لأنه إذا بنى العلم بعضه على بعض وسار على الأسس التي بيَّنها أهل العلم والكتب التي ألَّفوها للمتعلمين على مختلف طبقاتهم فإنه -بإذن الله- يتخَرَّج طالب علم، ولا يلزم أن يحفظ كل ما في هذه الكتب؛ لأنه إذا بنى وأسس على طريقة أهل العلم صارت عنده أهلية لفهم ما يتلقاه، ولفهم ما يسمعه، وأيضًا إذا قرأ لا يُشكل عليه شيء، فهو وإن لم يكن فقيهًا بالفعل -بمعنى أنه أتقن كل كتب الفقه أو استحضر المسائل الفقهية بأدلتها- لكن تكون لديه الأهلية، وهي ما يسمى بفقه النفس أو الفقه بالقوة القريبة من الفعل، ولذا تجد طالبَ علم حافظًا لألوف المسائل لكنها ليست على طريقة أهل العلم، وليست لديه الأهلية التي يتعامل بها مع النصوص، فهذا يسمى حافظَ مسائل، وليس بفقيه، بينما لو كان حفظه من المسائل أقل بكثير، ولديه الأهلية والطريقة التي رسمها أهل العلم للتعامل مع النصوص في كيفية التعامل معها وفهمها والاستنباط منها لكان فقيهًا. وقل مثل هذا في بقية العلوم، بمعنى أنه إذا قرأ في العلوم التي أَلَّف فيها أهل العلم على مختلف الطبقات فإنه يستفيد فائدة كبيرة، ويتأهل لأن يكون فقيهَ أمة، فعليه أن يبدأ بالطريق من أوله، ويقرأ في المتون الصغيرة ويحفظها، مع حفظ ما يُحتاج إليه من النصوص في هذه الطبقة، ثم بعد ذلك ينتقل إلى ما هو أرفع منها من كتب الطبقة الثانية، ويصنع فيها على ما تقدم، وهكذا.
ولنا محاضرات ولقاءات عدة في بيان المنهجية في طلب العلم، وكيفية حفظ المتون، وكيفية قراءة الكتب وجرد المطولات، وكيفية بناء طالب العلم لمكتبته.