التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأنبياء (05)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:89] أَيْ وَاذْكُرْ زَكَرِيَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [آلِ عِمْرَانَ] ذِكْرُهُ. {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} [سورة الْأَنْبِيَاء:89] أَيْ مُنْفَرِدًا لَا وَلَدَ لِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:89] أَيْ خَيْرُ مَنْ يَبْقَى بَعْدَ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:89] لما تقدم من قوله: {يَرِثُنِي} [مريم:6] أَيْ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُضَيِّعُ دِينَكَ، وَلَكِنْ لَا تَقْطَعْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ بِأَمْرِ الدِّينِ عَنْ عَقِبِي. كَمَا تَقَدَّمَ فِي [مريم] بيانه.
قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] أي أجبنا دعاءه: {وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى} [سورة الْأَنْبِيَاء:90]. تقدم ذكره مستوفى: {وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] قَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَجُعِلَتْ وَلُودًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله تعالى فَجَعَلَهَا حَسَنَةَ الْخُلُقِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جَمَعَتِ الْمَعْنَيَيْنِ فَجُعِلَتْ حَسَنَةَ الْخُلُقِ وَلُودًا.
وغير هذين المعنيين من أوجه الحسن مما يحتمله اللفظ.
{إِنَّهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] يعني الأنبياء المسمين في هذه السورة. {كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90]. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى زَكَرِيَّا وَامْرَأَتِهِ وَيَحْيَى.
{إِنَّهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] الضمير الذين يقول عنه إنه كناية يحتمل أن يعود على جميع من ذكر من الأنبياء في هذه السورة، أو من ذكر في هذا المقطع في هذه الآية، احتمال قائم لا يوجد ما يمنع من أن يعود إلى الجميع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَبا} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] أَيْ يَفْزَعُونَ إِلَيْنَا فَيَدْعُونَنَا فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَحَالِ الشِّدَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَدْعُونَ وَقْتَ تَعَبُّدِهِمْ وَهُمْ بِحَالِ رَغْبَةٍ وَرَجَاءٍ وَرَهْبَةٍ وَخَوْفٍ.
أي راغبين راهبين، راغبين راهبين جامعين بين وصفي الرجاء والخوف، وهكذا ينبغي أن تكون حال المسلم أن يجمع بينهما، بين حال الرجاء فيطمع في رحمة الله، وبين حال الخوف فيخشى من عقابه، وقد جاءت النصوص بهذا وهذا، فلا يرجح الرغبة والرجاء فيضعف عمله، ولا يرجح جانب الخوف فيؤديه ذلك إلى القنوط من رحمة الله واليأس، وهذا كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية، أو يحدوه ذلك إلى الخروج من دين الله وهو لا يشعر بالزيادة فيه مما ليس منه.
لِأَنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ مُتَلَازِمَانِ. وَقِيلَ: الرَّغَبُ رَفْعُ بُطُونِ الْأَكُفِّ إِلَى السَّمَاءِ، وَالرَّهَبُ رَفْعُ ظُهُورِهَا، قَالَهُ خُصَيْفٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنَّ عَادَةَ كُلِّ دَاعٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِيَدَيْهِ فَالرَّغَبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَلَبٌ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُوَجِّهَ بَاطِنَ الرَّاحِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَوْضِعُ إِعْطَاءٍ أَوْ بِهَا يُتَمَلَّكُ، وَالرَّهَبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَفْعُ مَضَرَّةٍ يَحْسُنُ مَعَهُ طَرْحُ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَهَابِهِ وَتَوَقِّيهِ بِنَفْضِ الْيَدِ وَنَحْوِهِ.
أما رفع اليدين في الدعاء فهو متواتر، وتقدم بحثه في مواضع من هذا الكتاب، وإن كره بعض السلف، الشعبي لما رأى رجلاً رافعًا يديه يدعو قال: "ثكلتك أمك ما تتناول بهما" أشار إلى هذا المؤلف في مواضع متعددة، لكن السنة فوق ذلك، ولا قول لأحد مع قوله -عليه الصلاة والسلام- والأدلة متضافرة على رفع اليدين في الدعاء، فيه مؤلفات بلغت أحاديثه ما يزيد على خمسين حديثًا في رفع اليدين، فهو متواتر، ومسح الوجه باليدين بعد الدعاء فجاء فيه حديثان، لكنهما ضعيفان لا تقوم بهما حجة، كما قال شيخ الإسلام وغيره.
طالب:..........
في الاستسقاء فقط، في الاستسقاء فقط.
طالب:..........
في مواطن العبادة لا، ترى لو رفعهما في الصلاة وهو يصلي؟ لأن رفعهما حركة، وأيضًا الاستماع مطلوب، وإسكان جميع الأطراف مطلوب في الخطبة ومنها اليدين؛ ولذلك لا يرفع يديه ولا يتسوق ولا يفعل شيئًا، وإن كانت سننًا خارج الخطبة وخارج الصلاة.
الثَّانِيَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه، وقد مضى في [الأعراف] الِاخْتِلَافُ فِي رَفْعِ الْأَيْدِي، وَذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ هُنَاكَ.
الحديث ضعيف.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِالرَّفْعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِفَتِهِ وَإِلَى أَيْنَ؟ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَخْتَارُ أَنْ يَبْسُطَ كَفَّيْهِ رَافِعَهُمَا حَذْوَ صَدْرِهِ وَبُطُونُهُمَا إِلَى وَجْهِهِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَدْعُو بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ، وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ. وَقَوْلُهُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا وَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ بِرَفْعِهِمَا إِلَى وَجْهِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَفَةَ فَجَعَلَ يَدْعُو وَجَعَلَ ظَهْرَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ، وَرَفَعَهُمَا فَوْقَ ثَدْيَيْهِ وَأَسْفَلَ مِنْ مَنْكِبَيْهِ. وَقِيلَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَظُهُورُهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّفِقَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَشَارَ أَحَدُكُمْ بِإِصْبَعٍ وَاحِدٍ فَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَإِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ صَدْرِهِ فَهُوَ الدُّعَاءُ، وَإِذَا رَفَعَهُمَا حَتَّى يُجَاوِزَ بِهِمَا رَأْسَهُ وَظَاهِرُهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ فَهُوَ الِابْتِهَالُ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو بِظَهْرِ كَفَّيْهِ وَبَاطِنِهِمَا. وَ{رَغَباً وَرَهَبا} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَرْغَبُونَ رَغَبًا وَيَرْهَبُونَ رَهَبًا. أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِلرَّغَبِ وَالرَّهَبِ. أَوْ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: (وَيَدْعُونَا) بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَالْهَاءِ مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لُغَتَانِ، وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا {رَغَباً وَرَهَبا} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] بِالْفَتْحِ فِي الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الْغَيْنِ وَالْهَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ: نَهْرٍ وَنَهَرٍ وَصَخْرٍ وَصَخَرٍ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. {وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:90] أي متواضعين خاضعين.
طالب:..........
يمسح الوجه إن كان ممن يقتدي بقول الجمهور في قبول مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال، هذه فضيلة يحتج الجمهور بمثل هذا الحديث الضعيف بها، وإلا فالأصل أنه ضعيف لا تقوم به حجة، ينبه تنبيهًا ولا ينكر إنكارًا.
طالب:..........
يظهر من الابتهال الإلحاح في الدعاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها} [سورة الْأَنْبِيَاء:91] أَيْ وَاذْكُرْ مَرْيَمَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا.
لكن ما تقدم أن المؤلف يرى أنها نبية؟
طالب:..........
تقدم أن المؤلف يرجح أنها من الأنبياء، وأطال في تقرير هذا أنها من الأنبياء، ذكرنا في موضعه أن ابن حزم يرى أن هناك ستًا من النساء كلهن أنبياء، وعامة أهل العلم على خلاف، وأن النبوة خاصة بالرجال.
وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِيَتِمَّ ذِكْرُ عِيسَى-عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:91] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آيَةً لِلْعَالَمِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْآيَةَ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَجَعَلْنَا ابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ثُمَّ حَذَفَ.
مثل {وَاللَّـهُ وَرَسولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضوهُ} [سورة التوبة:62] الله أحق أن يرضوه ورسوله أحق، أنت بما عندك ونحن بما عندنا راضون، يعني أنت بما عندك راضٍ ونحن بما عندنا راضون، فيحذف خبر الأول لدلالة الخبر الثاني عليه.
وَعَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَابْنَهَا، مِثْلَ قَوْلِهِ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {وَاللَّـهُ وَرَسولُهُ أَحَقُّ} [سورة التوبة:62] . وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ آيَاتِهَا أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ قُبِلَتْ فِي النَّذْرِ فِي الْمُتَعَبَّدِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلّ- غَذَّاهَا بِرِزْقٍ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يُجْرِهِ عَلَى يَدِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تُلْقِمْ ثَدْيًا قَطُّ. وَ{أَحْصَنَتْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:91] يَعْنِي عَفَّتْ فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْفَاحِشَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْجِ فَرْجُ الْقَمِيصِ، أَيْ لَمْ تَعْلَقْ بِثَوْبِهَا رِيبَةٌ، أَيْ إِنَّهَا طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ. وَفُرُوجُ الْقَمِيصِ أَرْبَعَةٌ: الْكُمَّانِ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَلَا يَذْهَبَنَّ وَهَمُكَ إِلَى غَيْرِ هَذَا. فَإِنَّهُ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ.
لا يذهب وهمك إلى حقيقة الفرج.
لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَهُ مَعْنًى، وَأَوْزَنُ لَفْظًا، وَأَلْطَفُ إِشَارَةً، وَأَحْسَنُ عِبَارَةً مِنْ أَنْ يُرِيدَ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَهَمُ الْجَاهِلِ، لَا سِيَّمَا وَالنَّفْخُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ بِأَمْرِ الْقُدُّوسِ، فَأَضِفِ الْقُدُسَ إِلَى الْقُدُّوسِ، وَنَزِّهِ الْمُقَدَّسَةَ الْمُطَهَّرَةَ عَنِ الظَّنِّ الْكَاذِبِ وَالْحَدْسِ.
طالب: ما يرد هذا {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [سورة آل عمران:47]؟
الكلام في النفخ، أين النفخ؟ النفخ في الفرج الحقيقي أو في فتحة القميص.
طالب: تكلم في الإحصان {أَحْصَنَتْ فَرْجَها} [سورة الْأَنْبِيَاء:91].
الإحصان أمر متفق عليه، وليس الكلام فيه، الكلام في النفخ.
طالب: الكلام هذا عن الإحصان يا شيخ.
طالب:..........
الكلام في النفخ مازال في النفخ.
طالب:..........
في أول الكلام أنها أول امرأةٍ قبلت في النذر في المتعبد {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [سورة آل عمران:35] امرأة عمران كان لا يقبل إلا للرجال فقبلت وهي امرأة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} [سورة آل عمران:36] {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [سورة آل عمران:37] فهي قبلت وهي امرأة، كان لا يقبل إلا الرجال.
{فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:91] يَعْنِي أَمَرْنَا جِبْرِيلَ حَتَّى نَفَخَ فِي دِرْعِهَا، فَأَحْدَثْنَا بِذَلِكَ النَّفْخِ الْمَسِيحَ فِي بَطْنِهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [النِّسَاءِ] وَ [مَرْيَمَ] فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. {آيَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:91] أَيْ عَلَامَةً وَأُعْجُوبَةً لِلْخَلْقِ، وَعَلَمًا لِنُبُوَّةِ عِيسَى، وَدَلَالَةً على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ قَالَ: هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ خَالَفُوا الْكُلَّ. {وَأَنَا رَبُّكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] أي إلهكم وحدي. {فاعبدونِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] أي أفردوني بالعبادة. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] ورواها حُسَيْنٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. والْبَاقُونَ {أُمَّةً واحِدَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] بِالنَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ بِمَجِيءِ النَّكِرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وقال الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ" أُمَّةً" عَلَى الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ اجْتِمَاعِهَا عَلَى الْحَقِّ، أَيْ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ مَا دَامَتْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَاجْتَمَعْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَإِذَا تَفَرَّقْتُمْ وَخَالَفْتُمْ فَلَيْسَ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ صَدِيقِي عَفِيفًا أَيْ مَا دَامَ عَفِيفًا فَإِذَا خَالَفَ الْعِفَّةَ لَمْ يَكُنْ صَدِيقِي.
حال كونه عفيفًا.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ {أُمَّتُكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ، هَذِهِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ. أَوْ يَكُونُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَلَوْ نُصِبَتْ {أُمَّتُكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] عَلَى الْبَدَلِ مِنْ {هذِهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] لجاز.
ولكنه لم ترد به القراءة، جاز من حيث العربية.
ويكون {أُمَّةً واحِدَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] خبر إن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:93] أي تفرقوا في الدين، قاله الْكَلْبِيُّ. الْأَخْفَشُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ.
في أول الآية {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:92] لو قيل: إن (أمةً واحدة) خبر كان المحذوفة مع اسمها (إن هذه أمتكم كانت أمةً واحدة) كان الناس كلهم على التوحيد، كانوا على التوحيد، ولم يحدث الشرك إلا بعد قرون، لو أضمرت كان مع اسمها (إن هذه أمتكم-أي بني جنسكم- كانت أمةً واحدة) كان الناس أمة واحدة، ثم بعد ذلك اجتالتهم الشياطين وغيروا وبدلوا وأشركوا، فبعث الله النبيين؛ ولذا قال بعد ذلك: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:93] يعني اختلفوا، وتفرقوا بالدين بعد أن كانوا أمةً واحدة.
وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ ذَمَّهُمْ لمخالفتهم الْحَقِّ، وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَنُصِبَ {أَمْرَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:93] بِحَذْفِ فِي. فَالْمُتَقَطِّعُ عَلَى هَذَا لَازِمٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ مُتَعَدٍّ. وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْخَلْقِ، أَيْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ قِطَعًا وَتَقَسَّمُوهُ بَيْنَهُمْ، فَمِنْ مُوَحِّدٍ، وَمِنْ يَهُودِيٍّ، وَمِنْ نَصْرَانِيٍّ، وَمِنْ عَابِدِ مَلِكٍ أَوْ صَنَمٍ. {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:93] أَيْ إِلَى حُكْمِنَا فَنُجَازِيَهُمْ.
ولا يمنع أن يكون الرجوع إلى الله حقيقة {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ} [سورة البقرة:281] أي بعد البعث.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:94] {مِنَ} لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلْجِنْسِ؛ إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْتِيَ بجميع الطاعات فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، فَالْمَعْنَى: مَنْ يَعْمَلْ شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا وَهُوَ مُوَحِّدٌ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:94] أَيْ لَا جُحُودَ لِعَمَلِهِ، أَيْ لَا يَضِيعُ جَزَاؤُهُ وَلَا يُغَطَّى.
لأن الكفر في الأصل الستر والتغطية.
وَالْكُفْرُ ضِدُّهُ الْإِيمَانُ، وَالْكُفْرُ أَيْضًا جُحُودُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ.
«يكفرن العشير».
وَقَدْ كَفَرَهُ كُفُورًا وَكُفْرَانًا. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَلَا كُفْرَ لِسَعْيِهِ). {وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:94] لِعَمَلِهِ حَافِظُونَ. نَظِيرُهُ {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} [آل عمران:195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به.
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ: {وَحَرامٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ (وَحِرْمٌ).
حرمٌ مثل حلٌّ.
وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهم. وهما لغتان مِثْلُ حِلٍّ وَحَلَالٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (وَحَرِمَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: (وَحَرُمَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا" (وَحَرَمَ) وَعَنْهُ أَيْضًا (وَحَرَّمَ)، (وَحُرِّمَ). وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا (وحرم). وعن قَتَادَةَ وَمَطَرٍ الْوَرَّاقِ (وَحَرْمٌ) تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ (عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا).
وَاخْتُلِفَ فِي {لَا} فِي قَوْلِهِ: {لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] فَقِيلَ: هِيَ صِلَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، أَيْ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِصِلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَابِتَةٌ وَيَكُونُ الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ، أَيْ وَجَبَ عَلَى قَرْيَةٍ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا |
| عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرٍ |
تُرِيدُ أَخَاهَا، فَ {لَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] ثَابِتَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْآيَةُ مُشْكِلَةٌ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهَا وَأَجَلِّهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَهُشَيْمٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ وَمُعَلَّى عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] قَالَ: وَجَبَ {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95]، قَالَ: لَا يَتُوبُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاشْتِقَاقُ هَذَا بَيِّنٌ فِي اللُّغَةِ، وَشَرْحُهُ: أَنَّ مَعْنَى حُرِّمَ الشَّيْءُ حُظِرَ وَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى أُحِلَّ أُبِيحَ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ {حَرامٌ} وَ (حِرْمٌ) بِمَعْنَى وَاجِب فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قد ضيق الخروج مِنْهُ وَمُنِعَ فَقَدْ دَخَلَ فِي بَابِ الْمَحْظُورِ بِهَذَا، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ {لَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] زَائِدَةٌ فَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا فِيمَا يَقَعُ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَلَوْ كَانَتْ زَائِدَةً لَكَانَ التَّأْوِيلُ بَعِيدًا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَهَذَا مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ فَالتَّوْبَةُ لَا تَحْرُمُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ أَيْ {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] حَكَمْنَا بِاسْتِئْصَالِهَا، أَوْ بِالْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِهَا أَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ عَمَلٌ لِـ {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] أَيْ لَا يَتُوبُونَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ، وَ{لَا} غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنه-.
فيما تقدم من الإشكالات والإجابة عنها، هل انحل الإشكال أو ما انحل؟ {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] أهلك الفعل الماضي يأتي ويراد به حقيقة الفعل وهو وقوعه والفراغ منه، ويأتي ويراد به الشروع فيه، ويأتي ويراد به إرادته، فإذا قلنا: إن المراد بالفعل هنا إرادة الفعل حرامٌ على قرية أردنا إهلاكها، وقررنا إهلاكها، أنهم لا يرجعون ولا يثوبون ولا يتوبون {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95] أي أردنا إهلاكها {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:95]، وبهذا لا نحتاج إلى تقدير ولا تغيير للمعنى، إنما قالوا: حرام معناها واجب، هما ضدان الحرام والواجب ضدان، فكيف ينزل اللفظ منزلة ضده؟ ولا داعي لهذا فإذا قلنا إن أهلكنا أردنا إهلاكها، وقررنا إهلاكها، وقضينا إهلاكها، وكتبنا عليهم إهلاكها، لا يرجعون؛ لأنهم حقت عليهم كلمة العذاب، وحينئذٍ يطبع على قلوبهم فلا يرجعون.
الطالب: {إِنَّ الَّذينَ حَقَّت عَلَيهِم كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤمِنونَ} [سورة: يونس:96].
نعم.
طالب:..........
ما فيه أدنى إشكال، وله نظائر في النصوص.
طالب:..........
إلا قوم يونس هؤلاء مستثنون، استثني من هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب إلا قوم يونس.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:96] تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمْ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا فُتِحَ سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلَ {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82].
يمثلون به لمجاز الحذف، مجاز الحذف {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي أسأل أهل القرية، وهنا {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:96] سد يأجوج ومأجوج، والذين لا يقولون بالمجاز، يقولون: ممكن سؤال القرية ويمكن إجابتها، القرية تطلق على العمران بما فيه، ويمكن أن يسأل حتى العمران كما سأل علي -رضي الله تعالى- عنه القبور، وهم لا يجيبون جوابًا لفظيًّا، جواب مقال، وإنما يجيبون جواب الحال، فيمكن أن تسأل الخراب أين سكانك؟ أين عمارك؟ فتجيب بأنهم ذهبوا، ماتوا، مضوا بلسان الحال لا بلسان المقال، فلا نحتاج حينئذٍ إلى تقدير.
{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:96] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ كُلِّ شَرَفٍ يُقْبِلُونَ، أَيْ لِكَثْرَتِهِمْ يَنْسِلُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. وَالْحَدَبُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ الْحِدَابُ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدَبَةِ الظَّهْرِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
فَمَا رَعِشَتْ يَدَايَ وَلَا ازْدَهَانِي |
| تَوَاتُرُهُمْ إِلَيَّ مِنَ الْحِدَابِ |
أي ما تأثر، ما تأثر بهم، ما خاف منهم ولا تقوى بهم.
وَقِيلَ: {يَنْسِلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:96] يَخْرُجُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ |
وَقِيلَ: يُسْرِعُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
عَسَلَانَ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا |
| بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ |
يُقَالُ: عَسَلَ الذِّئْبُ يَعْسِلُ عَسَلًا وَعَسَلَانًا إِذَا أَعْنَقَ وَأَسْرَعَ.
هو في الأصل مسرع، لكن لما برد عليه الليل زادت سرعته (فنسل) أي زادت سرعته، فالنسلان سرعة الجري.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلَ» أَيْ عَلَيْكَ بِسُرْعَةِ الْمَشْيِ.
متخرج؟
طالب: ابن الأثير في النهاية.
طالب:..........
صدق الله وكذب بطن أخيك لا لا؛ لأن العسل عسل حقيقي ما هو بسرعة المشي.
طالب:..........
المعلق عندك؟
طالب:..........
لا، النبي-عليه الصلاة والسلام- وصف له العسل الحقيقي ما هو بسرعة المشي، وإن كانت سرعة المشي علاجًا، علاجًا لمرض البطن، وعلاجًا للتخمة، لكن يبقى أن الوارد في الحديث العسل المراد به الحقيقي جني النحل.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلَ» أَيْ عَلَيْكَ بِسُرْعَةِ الْمَشْيِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالنَّسَلَانُ مِشْيَةُ الذِّئْبِ إِذَا أَسْرَعَ، يُقَالُ: نَسَلَ فُلَانٌ فِي الْعَدْوِ يَنْسِلُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ نَسْلًا وَنُسُولًا وَنَسَلَانًا، أَيْ أَسْرَعَ. ثُمَّ قِيلَ فِي الَّذِينَ يَنْسِلُونَ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ: إِنَّهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
أقرب مذكور (وهم) ضمير يعود على أقرب مذكور وهم يأجوج ومأجوج.
وَقِيلَ: جَمِيعُ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْقِفِ، وَهُمْ يُسْرِعُونَ مِنْ كل صوب. وقرئ فِي الشَّوَاذِّ (وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ) أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51]. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:97] يَعْنِي الْقِيَامَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ (فَاقْتَرَبَ) جَوَابُ (إِذَا). وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى |
أَيِ انْتَحَى، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] {وَنادَيْناهُ} [الصافات:104] أَيْ لِلْجَبِينِ نَادَيْنَاهُ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ (إِذَا) {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:97].
يكون {وَنادَيْناهُ} [الصافات:104] جواب لما.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:97] مَعْطُوفًا عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا يَا وَيْلنَا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر:3] الْمَعْنَى: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ.
حذف القول كثير {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم} [سور آل عمران:106] أي يقال لهم: أكفرتم؟
قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:97]. {هِيَ} ضَمِيرُ الْأَبْصَارِ، وَالْأَبْصَارُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا تَفْسِيرٌ لَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَخَصَتْ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَعْدِ. وَقَالَ الشَّاعِر:
لَعَمْرُ أَبِيهَا لَا تَقُولُ ظَعِينَتِي |
| أَلَا فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ |
فَكَنَّى عَنِ الظَّعِينَةِ فِي أَبِيهَا ثُمَّ أَظْهَرَهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: {هِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:97] عِمَادٌ، مِثْلَ. {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ} [الحج:46].
أي ذكرها بالمضمر، ثم ذكرها بالظاهر.
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {هِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:97] التَّقْدِيرُ: فَإِذَا هِيَ، بِمَعْنَى الْقِيَامَةِ بَارِزَةٌ وَاقِعَةٌ، أَيْ مِنْ قُرْبِهَا كَأَنَّهَا آتِيَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ ابْتِدَاءً فَقَالَ: {شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:97] عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، أَيْ مِنْ هَوْلِهِ لَا تَكَادُ تَطْرِفُ.
ما يلزم أن يكون مبتدأ وخبر، أي التقديم والتأخير تكون أبصار فاعل باسم الفاعل شخص؛ لأن شخص يعمل عمل فعل شاخص، يعمل عمل فعله.
يَقُولُونَ: يَا وَيْلنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ بِمَعْصِيَتِنَا، وَوَضْعِنَا الْعِبَادَةَ فِي غير موضعها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةٌ لَا يَسْأَلُنِي النَّاسُ عَنْهَا! لَا أَدْرِي أَعَرَفُوهَا فَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهَا، أَوْ جَهِلُوهَا فَلَا يَسْأَلُونَ عَنْهَا، فَقِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] لَمَّا أُنْزِلَتْ شَقَّ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: شَتَمَ آلِهَتَنَا، وَأَتَوْا ابْنَ الزِّبَعْرَى وَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ حَضَرْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَمَا كُنْتَ تَقُولُ لَهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ لَهُ: هَذَا الْمَسِيحُ تَعْبُدُهُ والْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا أَفَهُمَا مِنْ حَصَبِ جَهَنَّمَ؟ فَعَجِبَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَرَأَوْا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ خُصِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] وَفِيهِ نَزَلَ {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57] يَعْنِي ابْنَ الزِّبَعْرَى {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] بِكَسْرِ الصَّادِ، أَيْ يَضِجُّونَ، وَسَيَأْتِي.
لكن من لفظ الآية وقريش تعرف مدلولات الألفاظ {إِنَّكُمْ وَما} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] و(ما) لغير العاقل، فيخرج بذلك عيسى- عليه السلام- وعزير، ومن يعبد ممن هو على الجادة ولم يرض بذلك، وأما من يعبد من العقلاء أو على غير الجادة فحكمه إذا رضي بذلك حكمه حكم غير العقلاء، يعامل معاملة غير العقلاء.
طالب:..........
تأتي لكن الأصل فيها من غير العاقل تأتي.
طالب:..........
لكن إذا أمكن الجواب قريش تعرف تأتي لغير العاقل هذا الأصل فيها، قد يقول قائل: إذا أخرجنا عيسى وأخرجنا عزير؛ لكونهما عقلاء، وأخرجنا من عبد من دون الله وهو غير راضٍ بالعبادة وهو على الجادة على التوحيد، إذا أخرجناهم بقي يلزم على هذا أن نخرج من عبد وهو راضٍ؛ لأنه من العقلاء نقول: لا هؤلاء ينزلون منزلة غير العقلاء؛ لأن رضاهم بذلك دليلٌ على عدم عقلهم، ظاهر.
الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الآية أصل في الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَأَنَّ لَهُ صِيَغًا مَخْصُوصَةً، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا.
من صيغ العموم، الموصولات من صيغ العموم.
فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ فَهِمَ {مَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] فِي جَاهِلِيَّتِهِ جَمِيعَ مَنْ عُبِدَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ وَهُمُ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ، وَاللُّسْنُ الْبُلَغَاءُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَهِيَ لِلْعُمُومِ وَهَذَا وَاضِحٌ.
الثَّالِثَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقُودُ جَهَنَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرأ علي بن أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةُ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا-: (حَطَبُ جَهَنَّمَ) بِالطَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ (حَضَبُ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ الْحَصَبَ. قَالَ: وَذُكِرَ لنا أن الحضب في لغة أهل الْيَمَنِ الْحَطَبُ، وَكُلُّ مَا هَيَّجْتَ بِهِ النَّارَ وَأَوْقَدْتَهَا بِهِ فَهُوَ حَضَبٌ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْمَوْقِدُ مِحْضَبٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] كُلُّ مَا أَلْقَيْتَهُ فِي النَّارِ فَقَدْ حَصَبْتَهَا بِهِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ حَصبٌ لِجَهَنَّمَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} [البقرة:24]. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحِجَارَةِ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [الْبَقَرَةِ]، وَأَنَّ النَّارَ لَا تَكُونُ عَلَى الْأَصْنَامِ عَذَابًا وَلَا عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْنِبْ، وَلَكِنْ تَكُونُ عَذَابًا عَلَى مَنْ عبدها: أول شيء بِالْحَسْرَةِ، ثُمَّ تُجْمَعُ عَلَى النَّارِ فَتَكُونُ نَارُهَا أَشَدَّ مِنْ كُلِّ نَارٍ، ثُمَّ يُعَذَّبُونَ بِهَا. وَقِيلَ: تُحْمَى فَتُلْصَقُ بِهِمْ زِيَادَةً فِي تَعْذِيبِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَتْ فِي النَّارِ تَبْكِيتًا لِعِبَادَتِهِمْ.
نعم هم يعذبون حسيًا ومعنويًا، فالنار بحرارتها عذابٌ حسي، ورؤيتهم لسبب دخولهم النار عذابٌ معنوي، نسأل الله السلامة، حسرة نسأل الله السلامة والعافية.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] أَيْ فِيهَا دَاخِلُونَ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، أَيْ أنتم واردوها مَعَ الْأَصْنَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْخِطَابُ لِلْأَصْنَامِ وَعَبَدَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ وَإِنْ كَانَتْ جَمَادَاتٍ فَقَدْ يُخْبَرُ عَنْهَا بِكِنَايَاتِ الْآدَمِيِّينَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا عِيسَى وَلَا عُزَيْرٌ وَلَا الْمَلَائِكَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ {مَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:98] لِغَيْرِ الْآدَمِيِّينَ. فَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: (وَمَنْ). قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْرِكُو مَكَّةَ دون غيرهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها} [سورة الْأَنْبِيَاء:99] أَيْ لَوْ كَانَتِ الْأَصْنَامُ آلِهَةً لَمَا وَرَدَ عَابِدُوهَا النَّارَ. وَقِيلَ: مَا وَرَدَهَا الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:99].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيها زَفِير} [سورة الْأَنْبِيَاء:100] أَيْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرَدُوا النَّارَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالشَّيَاطِينِ، فَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَعَلَى الْخِلَافِ فِيهَا، هَلْ يُحْيِيهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُعَذِّبُهَا حَتَّى يَكُونَ لَهَا زَفِيرٌ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ: وَالزَّفِيرُ صَوْتُ نَفْسِ الْمَغْمُومِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [هُودٍ]. {وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:100]
يجعل الله -جل وعلا- في هذه الأصنام وإن كانت جمادات إحساسًا وتألمًا، ويخرج منها ما يخرج زيادةً في عذاب عابديها، زيادةً في عذاب عابديها، أو أن الضمير {لَهُمْ فِيها} [سورة الْأَنْبِيَاء:100] يعود على من يصلح للعود عليه، وممن لا يصلح العود عليه فلا يعود عليه، والقدرة الإلهية صالحة.
قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ صُمًّا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} [الاسراء:97]. وَفِي سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ رَوْحٌ وَأُنْسٌ، فَمَنَعَ اللَّهُ الْكُفَّارَ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ، بَلْ يَسْمَعُونَ صَوْتَ مَنْ يَتَوَلَّى تَعْذِيبَهُمْ مِنَ الزَّبَانِيَةِ.
{لا يَسْمَعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:100] سماع شيئًا ينفعهم، نفى الله -جل وعلا- السمع عن الكفار والبصر؛ لأنهم لا يسمعون شيئًا ينفعهم ولا ينتفعون بما يسمعون.
وَقِيلَ: إِذَا قِيلَ لَهُمُ {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يَصِيرُونَ حِينَئِذٍ صُمًّا بُكْمًا، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فِي جَهَنَّمَ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخْرَى فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا، وَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ فِي النَّارِ مَنْ يعذب غيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} [سورة الْأَنْبِيَاء:101] أَيِ الْجَنَّةُ {ولئِكَ عَنْها} [سورة الْأَنْبِيَاء:101] أَيْ عَنِ النَّارِ {مُبْعَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:101] فَمَعْنَى الْكَلَامِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: {إِنَّ} هَاهُنَا بِمَعْنَى (إِلَّا) وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} [سورة الْأَنْبِيَاء:101] فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ عُثْمَانَ مِنْهُمْ».
متخرج؟
طالب:..........
من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة فهو منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} [سورة الْأَنْبِيَاء:102] أَيْ حِسَّ النَّارِ وَحَرَكَةَ لَهَبِهَا. وَالْحَسِيسُ وَالْحِسُّ الْحَرَكَةُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَاشِدٍ الْحَرُورِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} [سورة الْأَنْبِيَاء:102] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَجْنُونٌ أَنْتَ؟ فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} [سورة مريم:71] وقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] وقوله: {إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:86]. وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ مَنْ مَضَى: اللَّهُمَّ أَخْرِجْنِي مِنَ النَّارِ سَالِمًا، وَأَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَائِزًا. وقال أبو عثمان النهدي: عَلَى الصِّرَاطِ حَيَّاتٌ تَلْسَعُ أَهْلَ النَّارِ فَيَقُولُونَ: حَسَّ حَسَّ.
طالب:..........
من سقط منه في النار، نسأل الله العافية.
طالب:..........
حضره، حضره.
طالب:..........
أحضره غدًا، وراجع.
طالب:..........
التذكرة وغيرها للقرطبي يقولون هذا.
وَقِيلَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةِ لَمْ يَسْمَعُوا حِسَّ أَهْلِ النَّارِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يَسْمَعُونَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:102] أَيْ دَائِمُونَ وَهُمْ فِيمَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَقَالَ: {وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ}
[فصلت:31].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ {لَا يَحْزُنُهُمُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ. والْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ.
من الثلاثي وأبو جعفر من الرباعي.
قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
أي الثلاثي.
وَأَحْزَنَهُ لُغَةْ تَمِيمٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَقْتٌ يُؤْمَرُ بِالْعِبَادِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ إِذَا أَطْبَقَتِ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذُبِحَ الْمَوْتُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: هُوَ الْقَطِيعَةُ وَالْفِرَاقُ. وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلَاثَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كَثِيبٍ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ وَلَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا مُحْتَسِبًا وَهُمْ له رضوان، وَرَجُلٌ أَذَّنَ لِقَوْمٍ مُحْتَسِبًا، وَرَجُلٌ ابْتُلِيَ بِرِقٍّ الدُّنْيَا فَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ». وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ الْغُلَامُ، فَكَلَّمْتُ مَوْلَاهُ حَتَّى عَفَا عَنْهُ، فَلَقِيتُ أَبَا سَعِيدٍ الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أَخِي مَنْ أَغَاثَ مَكْرُوبًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ. سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] أَيْ تَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُهَنِّئُونَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] وَقِيلَ: تَسْتَقْبِلُهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {هَذَا يَوْمُكُمُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] أَيْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ، فَحُذِفَ. {الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] فيه الكرامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ (تُطْوَى) بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ {السَّمَاءُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] رَفْعًا عَلَى ما لم يسم فاعله. ومجاهد (يطوي) عَلَى مَعْنَى يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاءَ. الْبَاقُونَ {نَطْوِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَانْتِصَابُ {يَوْمَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الصِّلَةِ، التَّقْدِيرُ: الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَهُ {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104]. أَوْ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِ (نُعِيدُ) مِنْ قَوْلِهِ {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104]. أَوْ بِقَوْلِهِ: {لَا يَحْزُنُهُمُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103] أَيْ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي نَطْوِي فِيهِ السَّمَاءَ. أَوْ عَلَى إِضْمَارِ وَاذْكُرْ، وَأَرَادَ بِالسَّمَاءِ الْجِنْسَ، دَلِيلُهُ: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104].
القراءة التي اعتمدها المؤلف (كطي السجل للكتاب) هي قراءة نافع، وهي التي اعتمدها المؤلف.
طالب: في الآيات التي وضعوها في الكتب.
في التفسير (كطي السجل للكتاب).
طالب: (للكتاب) هنا.
طالب:..........
الآية التي قبلها {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:103].
طالب:..........
قبل النهاية بثلاثة أسطر؟ ارفع نسختك ارفع، لا لا، هذه مصححة على إحدى عشر نسخة مخطوطة، ويذكرون اختلاف قراءة المؤلف على القراءة المعروفة، لكنهم حينما وضعوا الآيات والأصل أن التفسير ما فيه آيات، وضعوا المصحف على قراءة حفص، والأصل أن يجعلوه على قراءة نافع.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَا فِيهَا، فَاللَّامُ بِمَعْنَى (عَلَى) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اسْمُ كَاتِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّ كُتَّابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْرُوفُونَ لَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا فِي أَصْحَابِهِ مَنِ اسْمُهُ السِّجِلُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ عُمَرَ وَالسُّدِّيُّ: {السِّجِلِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104]. مَلَكٌ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، تُرْفَعُ إِلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، يَرْفَعُهَا إِلَيْهِ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْخَلْقِ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهِ فِيمَا ذَكَرُوا هَارُوتُ وَمَارُوتُ. وَالسِّجِلُّ الصَّكُّ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّجَالَةِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ، وَأَصْلُهَا مِنَ السَّجْلِ وَهُوَ الدَّلْوُ، تَقُولُ: سَاجَلْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعْتُ دَلْوًا وَنَزَعَ دَلْوًا، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ فَسُمِّيَتِ الْمُكَاتَبَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ مُسَاجَلَةً. وَقَدْ سَجَّلَ الْحَاكِمُ تَسْجِيلًا. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا |
| يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدِ الْكَرَبِ |
ثُمَّ بُنِيَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى فِعِلٍّ مِثْلَ حِمِرٍّ وَطِمِرٍّ وَبِلِيٍّ. وَقَرَأَ أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: {كَطَيِّ السُّجُلِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] بِضَمِّ السِّينِ وَالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: {كَطَيِّ السَّجْلِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّمَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (لِلْكِتَابِ). وَالطَّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الدَّرْجُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. وَالثَّانِي: الْإِخْفَاءُ وَالتَّعْمِيَةُ وَالْمَحْوُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:1، 2] {وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]. (لِلْكِتَابِ) وَتَمَّ الْكَلَامُ. وَقِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَحَفْصٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَيَحْيَى وَخَلَفٍ: {لِلْكُتُبِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] جَمْعًا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] أَيْ نَحْشُرُهُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بُدِئُوا فِي الْبُطُونِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا أَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ قَرَأَ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}» [سورة الْأَنْبِيَاء:104] أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَابَ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) مُسْتَوْفًى.
وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَتَنْبُتُ مِنْهُ لُحْمَانُهُمْ وَجُسْمَانُهُمْ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ بِالثَّرَى. وَقَرَأَ {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104]. وقال ابن عباس: المعنى نهلك كل شيء وَنُفْنِيهِ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] أَيْ نَطْوِيهَا فَنُعِيدُهَا إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ فَلَا تَكُونُ شَيْئًا. وَقِيلَ: نُفْنِي السَّمَاءَ ثُمَّ نُعِيدُهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ طَيِّهَا وَزَوَالِهَا، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [إبراهيم:48] وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الانعام:94] وقوله -عز وجل-: {عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[سورة:الكهف48] {وَعْداً} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَعَدْنَا وَعْدًا" عَلَيْنا" إِنْجَازُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ أَيْ مِنَ الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] إِنَّا كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى مَا نَشَاءُ.
قادرين على ما نشاء، والأصل الإطلاق في القدرة {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الحج:6] لكن جاء تعليقه بالمشيئة، وليس من باب التعليق الذي يفهم من التعليق الذي لا يشاؤه لا يقدر عليه، ليس هذا من باب التعليق وجاء في الحديث الصحيح: «فإني على ما أشاء قادر» في صحيح مسلم، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، ليس هذا من باب التعليق بمعنى أنه له مفهوم الذي لا يشاؤه لا يقدر عليه، إنما هو تصريح بما هو موجوب التوضيح.
وَقِيلَ {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:104] أَيْ مَا وَعَدْنَاكُمْ وَهُوَ كما قال: {كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:18]. وَقِيلَ: {كانَ} لِلْإِخْبَارِ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَضَائِهِ. وقيل: صلة.
طالب:..........
وهمان فهي هي مفرد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] الزَّبُورُ وَالْكِتَابُ وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ زَبُورٌ. زَبَرْتُ أَيْ كَتَبْتُ وَجَمْعُهُ زُبُرٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] الَّذِي فِي السَّمَاءِ {أَنَّ الْأَرْضَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] أَرْض الْجَنَّةِ {يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قال الشَّعْبِيُّ: {الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] زبور داود، و{الذكر} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] تَوْرَاةُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-. قال مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: {الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] كتب الأنبياء- عليهم السلام-، و{الذكر} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] الْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَهَا الله من بعد موسى على أنبيائه، و{الذكر} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] التَّوْرَاةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ" فِي {الزَّبُورِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] بِضَمِّ الزَّايِ جَمْعُ زُبُرٍ.
{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ يُرَادُ بِهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ فِي الدُّنْيَا قال قَدْ وَرِثَهَا الصَّالِحُونَ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [الزمر:74] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا أَرْضُ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ تَرِثُهَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ بِالْفُتُوحِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} [الأعراف:137]، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادِ الصَّالِحِينَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ {عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:105] بِتَسْكِينِ الْيَاءِ. {إِنَّ فِي هَذَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:106] أَيْ فِيمَا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ {لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:106] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هُمْ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: {عَابِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:106] مُطِيعِينَ. وَالْعَابِدُ الْمُتَذَلِّلُ الْخَاضِعُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ كُلُّ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْفِطْرَةِ مُتَذَلِّلٌ لِلْخَالِقِ، وَهُوَ بِحَيْثُ لَوْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ وَاسْتَعْمَلَهُ لَأَوْصَلَهُ ذَلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ.
لكن لما لم يتأمل ما ذكر لم يكن من العابدين.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الأول بعينه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:107] قَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَحْمَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ سَعِدَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ سَلِمَ مِمَّا لَحِقَ الْأُمَمَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ.
"ومن لم يؤمن به سلم" رحمة للعالمين مؤمنيهم وكافريهم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ سَلِمَ مِمَّا لَحِقَ الْأُمَمَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ.
أي سلامة في الدنيا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:108] فَلَا يَجُوزُ الْإِشْرَاكُ بِهِ. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:108]أَيْ مُنْقَادُونَ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ فَأَسْلِمُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] أَيِ انْتَهُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [سورة الْأَنْبِيَاء:109] أَيْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:109].
مثل ما تقدم في الآيات السابقة { فَهَل أَنتُم شاكِرونَ} [سورة الأنبياء:80] يعني أشكروا.
أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ عَلَى بَيَانِ أَنَّا وَإِيَّاكُمْ حَرْبٌ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} [الأنفال:58].
بحيث تكونوا سواء في العلم بالخبر، لا يزيد علمكم على علمهم {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} [الأنفال:58] بحيث يستوي علمكم مع علمهم، فلا يكون هناك خديعة ولا غش ولا خيانة.
أَيْ أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ نَقْضًا، أَيِ اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَهُمْ، فَلَيْسَ لِفَرِيقٍ عَهْدٌ مُلْتَزَمٌ فِي حَقِّ الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَعْلَمْتُكُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيَّ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَلَمْ أُظْهِرْ لِأَحَدٍ شَيْئًا كَتَمْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ.
النبي-عليه الصلاة والسلام- قاسم «إنما أنا قاسم» يبلغ العلم للجميع على حدٍ سواء، والله -جل وعلا- هو المعطي، بحيث يكون نصيب هذا أكثر من نصيب هذا، وإن كان الجميع سمعوا على حدٍ سواء.
{وَإِنْ أَدْرِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:109] {إِنْ} نَافِيةٌ بِمَعْنَى (مَا) أَيْ وَمَا أَدْرِي. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:109] يَعْنِي أَجَلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَدْرِيهِ أَحَدٌ لَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: آذَنْتُكُمْ بِالْحَرْبِ، وَلَكِنِّي لَا أَدْرِي مَتَى يُؤْذَنُ لِي فِي محاربتكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:110] أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهِ. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:111] أَيْ لَعَلَّ الْإِمْهَالَ {فِتْنَةٌ لَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:111] أَيِ اخْتِبَارٌ لِيَرَى كَيْفَ صنيعكم وَهُوَ أَعْلَمُ. {وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:111] قِيلَ: إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى بَنِي أُمَيَّةَ فِي مَنَامِهِ يَلُونَ النَّاسَ، فَخَرَجَ الْحكمُ مِنْ عِنْدِهِ فَأَخْبَرَ بَنِي أُمَيَّةَ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: ارْجِعْ فَسَلْهُ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:109]، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:111] يَقُولُ لِنَبِيِّهِ-عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ.
طالب:..........
التخريج غيره النسخة هذه واحدة؟ ما هي بواحدة.
طالب:..........
نفس هذه، لكن هذه غيره غيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] خَتَمَ السُّورَةَ بِأَنْ أَمَرَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ وَتَوَقُّعِ الْفَرَجِ مِنْ عِنْدِهِ، أَيِ احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَانْصُرْنِي عَلَيْهِمْ. رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَقُولُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا. وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} [الْأَعْرَافِ:89] فَأُمِرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] فَكَانَ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ يَقُولُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] أَيِ اقْضِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصِّفَةُ هَاهُنَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: رَبِّ احْكُمْ بِحُكْمِكَ الْحَقِّ. وَ{رَبِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّهُ نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: (قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) بِضَمِّ الْبَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَحْنٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ رَجُلُ أَقْبِلْ، حَتَّى تَقُولَ: يَا رَجُلُ أَقْبِلْ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ:" {قالَ رَبِّ أحكَمْ بِالْحَقِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] بِقَطْعِ الْأَلِفِ مَفْتُوحَةَ الْكَافِ وَالْمِيمُ مَضْمُومَةٌ. أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَبِّي أَحْكَمُ بِالْحَقِّ مِنْ كُلِّ حَاكِمٍ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ (قُلْ رَبِّي أَحْكَمَ) عَلَى مَعْنَى أَحْكَمَ الْأُمُورَ بِالْحَقِّ. {وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:112] أَيْ تَصِفُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ وَالسُّلَمِيُّ (عَلَى مَا يَصِفُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وقرأ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. والله أعلم.
سورة الحج مائة صفحة تحتاج إلى خمسة دروس، وعندنا الجمعة والاثنين القادم والجمعة التي تليها بعد.
طالب:..........
تأخرنا.
طالب: اختبارات السبت.
لا ما عندهم اختبارات.
طالب:..........
ما فيه إلا الاثنين والجمعة خلاص.
طالب:..........
لا خمسة عشر لا عندك يمكن إلى حد ستين أو سبعين.
طالب:..........
ما رأيكم؟
طالب:..........
نوقف، أقول إذا بدأنا وانتهينا ...
"