شرح متن الورقات في أصول الفقه (03)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فقد قال إمام الحرمين -رحمه الله-:
والفقه أخص من العلم، والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع، والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو في الواقع.
والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال، وأما العلم المكتسب فهو الموقوف على النظر والاستدلال، والنظر: هو الفكر في حال المنظور فيه، والاستدلال: طلب الدليل، والدليل: هو المرشد إلى المطلوب، والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
والفقه أخص من العلم: الفقه الذي تقدم تعريفه اصطلاحاً أخص من العلم؛ لأن الفقه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية، فهو أخص من العلم، والعلم أعم منه مطلقاً، بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل فقه علم وليس كل علم فقهاً؛ لأن العلم يطلق على جميع العلوم.
الفقيه يقال له: عالم، وعالم يعني بالفقه، المفسر يقال له: عالم، لكن لا يقال له: فقيه، المحدث يقال له: عالم، لكن إذا لم تكن به دراية لا يقال له: فقيه، النحوي عالم، يعني في النحو، لكن لا يقال له: فقيه وهكذا.
فالعلم أعلم مطلقاً من الفقه، وقد يرِد الفقه ويراد به ما يرادف العلم الشرعي، كما في حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، ((يفقهه في الدين)): هل معنى هذا أن الذي يعرف المسائل والأحكام الشرعية بأدلتها، ولا يعرف غير هذا النوع من العلوم يدخل في هذه الدعوى؟
لا يعرف إلا الأحكام، يعرف أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والبيوع والمعاملات والجنايات وغيره، يعرف الفقه بجميع أبوابه، لكنه ليست له يد فيما يتعلق بالسنة أو بكتاب الله -عز وجل- مما هو قدر زائد على ما يحتاجه الفقيه.
هل..، نتصور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول مثل هذا الكلام: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، يفقهه:المراد بالفقه هنا الفهم، والدين بجميع أبوابه، فيشمل جميع أبواب الدين التي منها معرفة العقائد والأحكام والتفسير والمغازي وغيرها، جميع أبواب الدين داخلة في الفقه المدعو به هنا أو المخبر عنه هنا، وقد دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- لابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أن يفقهه في الدين وأن يعلمه التأويل.
سمى بعض العلماء الاعتقاد: الفقه الأكبر، وهو تسمية له مأخوذة من الفقه بالمعنى الأعم لا بمعناه الخاص، وفي قرة العين -شرح الورقات- يقول: وكذا بالمعنى اللغوي ما تقدم بالنظر إلى المعنى الاصطلاحي الفقه أخص من العلم، يقول: وكذا بالمعنى اللغوي؛ فإن الفقه الفهم والعلم المعرفة وهي أعم، لا يمكن أن يفهم إلا وهو عارف، لكن يمكن أن يعرف وهو غير فاهم؟!
على كلامه هو، يقول: المعرفة أعمّ من الفقه الذي هو الفهم، فعلى هذا كل فاهمٍ عارف، وليس كل عارف فاهماً، وإن قلنا: إن الفقه هو الفهم الدقيق للمسائل الخفية اتضح الأمر أكثر، صار الفقه بمعناه اللغوي أخص، .......[1:21:25] عالم وعلام وعليم لكن لا يقال: عارف؛ لأن المعرفة تستلزم سبق الجهل، وعرفنا الجواب عن مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:
والعلـم لفـظ للعموم لـم يخصّ |
| للفقه مفهومـاً بـل الفقه أخـص |
ثم قال -رحمه الله تعالى-:
والعلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع: العلم معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع، العلم المقصود به: ما لا يحتمل النقيض وهو اليقين.
عرفه المؤلف -رحمه الله تعالى- بأنه معرفة المعلوم، أي إدراك ما من شأنه أن يعلم على ما هو به في الواقع، كإدراك حقيقة الإنسان بأنه -كما يقول أهل العلم- حيوان ناطق، فعندنا علم وعندنا جهل، وعندنا ظن وشك ووهم، فالعلم ما لا يحتمل النقيض، العلم لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه، وذكر في قرة العين أن هذا الحد لأبي بكر الباقلاني، يعني التعريف الذي اعتمده المصنف: معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع: هو الذي قرره أبو بكر الباقلاني وهو معروف، وتبعه المصنف واعتُرض بأن فيه دوراً، اعترض بأن فيه دوراً؛ لأن المعلوم مشتق من العلم، المعلوم مشتق من العلم، فكيف تعرف المعلوم وأنت لا تعرف العلم؟ أنت لا تعرف ما اشتق منه، فكيف يقال: العلم معرفة المعلوم؟ المعلوم اسم مفعول مشتق من المصدر الذي هو العلم، فكيف يعرف المصدر بمعرفة بعض مشتقاته فالذي لا يعرف الأصل لا يعرف الفرع؟
يقول: اعترض بأن فيه دوراً؛ لأن المعلوم مشتق من العلم، فلا يعرف المعلوم إلا بعد معرفة العلم، أيش معنى الدور؟ الدور هو أيش؟!
طالب:.......
لا، الدور شيء والتسلسل شيء آخر.
طالب:.......
طيب، صحيح، أخونا..
طالب:.......
نعم، ترتيب الشيء على شيءٍ مترتب عليه، الدور ترتيب الشيء على شيءٍ مترتب عليه، يعني في مثل قول الشاعر:
لولا مشيبــي مــا جفـا |
| لولا جفـاه لــم أشــب |
أيش السبب؟ نعم، هل السبب أنه جفاه لأنه شاب، أو السبب أنه شاب لأنه جفاه؟ نعم؟
طالب:.......
نعم هذا دور، ويقول العلماء في الفرائض -في مسائل الغرقى والهدمى-: إن كل واحد يرث من الآخر من تلاد ماله لا من مما ورثه منه؛ لأنه يلزم عليه الدور؛ لأنه ما تنتهي المسألة أبداً، فيرث كل واحد من الثاني من تلاد ماله من ماله القديم قبل الوفاة، لا مما ورثه منه؛ دفعاً للدور، وهذا مر بكم، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا التفصيل؛ لأن أكثر الحاضرين قد يشق عليهم فهم مثل هذا الكلام، وجاءت تنبيهات كثيرة على أن مستوى بعض الإخوان أقل من مستوى الكتاب، لكن تكون هذه توطئة لقراءته مرتان ومراجعة شروحه فيفهم بإذن الله، وإن كان في الحضور يعني من يستحق الزيادة في البسط والتفصيل، لكن نقتصر بمثل هذا على قدر الحاجة.
كيف يلزم الدور على تعريف المؤلف: العلم معرفة المعلوم؟: تصوير ذلك؟ نعم؟
قالوا المعلوم مشتق من العلم فكيف تعرف الفرع وأنت لا تعرف الأصل؟!
طالب:.......
العلم معرفة المعلوم: لو أردنا أن نختار أي مسألة من المسائل العلمية، نقول: وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، هذا علم وإلا معلوم؟
طالب:.......
معلوم، ومعرفة هذا الحكم علم، معرفة هذا الحكم علم، والحكم معلوم، حكم المسألة معلوم، ومعرفة هذا الحكم علم، كيف نعرف المعلوم ونحن لا نعرف العلم؟
هنا قالوا: لأنه يلزم عليه الدور، لكن بأسلوبٍ مبسّط جداً، نقول: إن المعلوم لا شك أنه مشتق من العلم، لكن العلم بجملته يشتمل على معلومات كثيرة، العلم إجمالاً يشتمل على معلومات كثيرة، هذا الكتاب مثلاً علم، وفي هذا الكتاب -الذي هو بمجموعه علم- فيه معلومات كثيرة، فمعرفة هذه المعلومات تدريجياً إذا اكتملت صارت علماً، والأصل الذي يشتق منه هذه الجزئيات وهذه المسائل، العلم -علم الأصول أو علم الفقه أو علم الفرائض أو علم الحديث أو ما أشبه ذلك- هو عبارة عن مسائل تجتمع وتكتمل شيئا فشيئاً حتى تصير علماً، وهذا شيء ملاحظ في المحسوسات، فالمادة التي تتركب من مجموعة جزئيات لا تسمى مادة إلا إذا اكتملت هذه الجزئيات، فإذا أحضرت الماء وأحضرت معه..، غليت هذا الماء ووضعت فيه شيء من السكر والشاي صار شاي، فبمجموع هذه الأمور يصير شيئاً، وبمجموع المسائل يصير علماً، بمجموع هذه المعلومات يصير علماً، وإذا فسر المعلوم بأنه ما من شأنه أن يعلم انتفى الدور.
وقولهم انتقد أيضاً بأن قوله: على ما هو به في الواقع: قدر زائد في الحد، على ما هو به في الواقع: لا يحتاج إليه؛ لأن المعلوم لا يستحق أن يكون معلوماً إلا إذا كان على ما هو به في الواقع؛ إذا خالف الواقع هل يستحق أن يسمى معلوماً؟
لا يستحق، إذن على ما هو به في الواقع: قدر زائد في الحد، والحدود ينبغي أن تكون مع كونها جامعةً مانعة أن تكون أيش؟ مختصرة، لكن هم لا يأبون في التعاريف والحدود التصريح بما هو مجرد توضيح، إذا لم يترتب عليه تطويل للحد، فليكن هذا مما هو تصريح بما هو مجرد توضيح ولا مانع منه.
قوله: معرفة المعلوم: يفضي عدم المعرفة والجهل بقسميه، وعلى ما هو به يخرج الجهل المركب على ما سيأتي.
يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:
وعلمـنا معرفـة المعلوم |
| إن طابقـت بوصفها المحتـوم |
والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع: تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، العلم كما هو مصدر علم يعلم علماً، والجهل أيضاً مصدر جهل يجهل جهلاً وجهالةً.
يقول: تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع: تصور الشيء: إدراكه، يقول الدمياطي في حاشيته على شرح المحلي -وما أحسن قوله- في تعريف العلم: "معرفة"، وفي تعريف الجهل: "تصور" فإنه ليس بمعرفةٍ أصلاً وإنما هو حصول الشيء في الذهن، يعني الجهل على ما قرره المؤلف هو مجرد حصول الشيء في الذهن، ولذا لم يكن مطابقاً للواقع، وإلا صار معرفةً وعلماً.
على خلاف ما هو به: وبعض النسخ: على خلاف ما هو عليه، كأن يتصور الشخص الإنسان: بأنه حيوان راغٍ أو ناهق أو صاهل أو ما أشبه ذلك، هذا علم؟ هذا مطابق للواقع؟
ليس بمطابقٍ للواقع، ليس بمطابقٍ للواقع فهو جهل، وكأن تسأل شخصاً عن ما وراء هذا الجدار فيخبرك، أيش الذي وراء هذا الجدار -وهو لا يعلم ما الذي وراءه- فيخبرك بخبر يخالف الواقع، تسأله ما الذي وراء هذا الجدار يقول: لك جمل، هذا جهل عند المؤلف.
بعضهم يرى أن الجهل الذي عرفه المؤلف هو الجهل المركب، ويقسم الجهل إلى قسمين: جهل بسيط، وهو عدم العلم، وخلو النفس عن الإدراك، وجهل مركب وهو معرفة أو تصور الشيء على خلاف ما هو به، فإذا سألت شخصاً، فقلت له: ما الذي وراء هذا الجدار؟ قال: لا أدري، هذا جهل، بسيط وإلا مركب؟ بسيط، إذا قال لك: جمل، والواقع أنه سيارة، بسيط وإلا مركب؟ مركب.
الجهل البسيط كعدم علمه بما تحت الأرضين، أو بما في قاع البحار، لكن الجهل المركب أن نقول: إن تحت الأرضين كذا، وفي قاع البحار كذا، مما هو على خلاف الواقع، فإذا قلت لزيد مثلاً: عرف الفاعل؟ فقال: لا أدري، نقول: إنه جاهل، لكن جهله بسيط، وإن قال: هـو من وقع عليه الفعل، قلنا: هذا جاهل جهلاً مركباً. أيش معنى مركب؟
طالب:.......
لأنه مركب من جهلين، هو جاهل بحقيقة هذا الشيء، وهو جاهل أيضاً بحقيقة نفسه، يجهل أنه جاهل، يقول الشاعر:
قـال حمـار الحكـيم يومـاً |
| لو أنصـف الدهـر كنت أركب |
يعني صاحبه الذي ركبه أجهل منه؛ لأنه لا يدري أنه لا يدري، فجهله مركب من جهلين.
والشعراء يتجاوزون في مثل هذا فينسبون بعض الأفعال إلى الدهر، وهنا يقول: لو أنصف الدهر كنت أركب!
ولا يقول قائل: إن القائل حمار وهو غير مكلف.
طالب:.......
كيف؟
طالب:.......
قـال حمار الحكـيم يومـاً |
| لو أنصـف الدهـر كنت أركب |
نسب عدم الإنصاف إلى الدهر، وهذا يوجد في كلام الشعراء كثيراً، وهو مخالفة ظاهرة، لكن قد يقول قائل: إن القائل حمار وهو غير مكلف، قال حمار..؛ لأن فاعل قال من؟ حمار الحكيم، وهو غير مكلف، وما دام غير مكلف فالأمر فيه سعة، يقول ما شاء، نقول لا، مثل ما قال الأخ يصير جاهلاً مركباً.
لأنني جاهل بسيط: الحمار لا يدري، لكن هل يدري أنه لا يدري؟ هنا الإشكال.
وصاحبي جاهل مركب: الحكيم من الحكيم؟ هؤلاء الفلاسفة الذين يهرفون بما لا يعرفون، يتكلمون بما وراء..، بما فوق إدراكهم وإحاطتهم، وهنا: قال حمار الحكيم يوماً: نسبة القول إلى من لا يصلح منه القول، أو من لا يصدر منه القول، يجوز وإلا لا؟ قال الحمار كذا، قال الذئب كذا، يعني لو عقدنا مناظرة بين حمار وحصان، أو بين حمار وجمل محاورة، يجوز مثل هذا؟ نقول: قال الحمار وقال الجمل؟ يجوز وإلا ما يجوز؟
طالب:.......
من الذي أجازه؟
طالب:.......
إسناد مجازي، هذا إذا قلنا بالمجاز، إذا قلنا بالمجاز على ما سيأتي.
على كل حال عقد المناظرات الوهمية التي يقصد منها بيان الحق مثلاً، لو عقدنا مناظرة بين سني وقدري مثلاً، سني وجبري، كما فعل ابن القيم في (شفاء العليل)، قال السني كذا، قال الجبري كذا، قال السني كذا قال القدري كذا، يجوز وإلا ما يجوز؟
طالب:.......
قال وإلا ما قال؟
طالب:.......
نسبه إلى أيش؟
طالب:.......
لكن هل قال وإلا ما قال؟ هذه العلوم مبتكرة من هذا الشخص، لا ينقلها عن شخصٍ بعينه، دعونا في مثالٍ أوضح، مناظرة بين العلوم، قال علم التفسير كذا، قال علم الحديث كذا، وتتفاخر هذه العلوم بعضها على بعض، ووجدت هذه..هاه؟
طالب:.......
هل نقول: إن هذا داخل في حيّز الكذب؟ أو نقول: إن هذا سلكه أهل العلم للفائدة المترتبة عليه، والمفسدة مغمورة في جانب المصلحة؟
هذا موجود عند أهل العلم، والحكم يسري على المقامات مثلاً: حدث الحارث بن همام قال: قال عيسى بن هشام قال فلان، نعم، هل نقول: إن هذا خلاف الواقع فهو كذب، يدخل في نصوص الوعيد الوارد في من كذب؟ أو نقول: نتجاوز عن مثل هذا؛ لوجود المصلحة الكبيرة؛ لأن المقامات فيها ذخيرة لغوية لا توجد في غيرها؟ وإن قيلت على لسان شخصٍ مجهول أو لا حقيقة له؟
طالب:.......
إذا قررنا مبدأ المصلحة والمفسدة قلنا: المصلحة ظاهرة، نعم، الناس بحاجة إلى تأليف مناظرات مبسطة يدركها آحاد الطلاب، أو يدركها عامة الناس؛ ليجادلوا من يجادلهم، والأبواب مفتوحة الآن للمبتدعة في هذه القنوات، يقولون ما شاؤوا، وغزوا الناس في عقر دورهم، يعني لو عقدت مناظرات مبسطة وميسرة بين هذه الفرق تناسب أفراد المتعلمين -بل عامة الناس- صار فيها خير كثير وقرر فيها الحق، فهل نقول: إن مثل هذه المصلحة الراجحة تغمر بجانبها المفسدة، وقد جاء جواز الكذب في مواضع، نظراً للمصلحة؟
المبالغة على خلاف الواقع في بعض صورها، المبالغات: ((أما أبو جهم فكان لا يضع عصاه عن عاتقه))، رجل ضرَّاب للنساء أو كثير الأسفار، لكنه إذا نام عصاه على عاتقه وإلا يضعه؟
نقول: هذا من باب المبالغة، ويتجاوز فيها ما لا يتجاوز في غيره، فمثل هذه الأمور عند كثيرٍ من أهل العلم مغتفرة، ولا شك أن الإنسان الذي يحتاط لنفسه ويتحرى ويتوقف عن مثل هذه الأمور ......[00:10:55] ذلك، لكن هذه موجودة في كتب أهل العلم -مناظرات بين بَشر- ابن القيم عقد مناظرة طويلة في بدائع الفوائد بين شخصين، أحدهما يقول بطهارة المني، والآخر يقول بنجاسته، وأفاض في ذلك بكلامٍ لا يوجد عند غيره، عقد مناظرات في شفاء العليل بين سني وقدري وما أشبه ذلك، كلاماً نفيساً.
فأهل العلم ألفوا..، أيضاً المقامات وإن كان الحريري في آخر مقامته تمنى أن لو خرج منها كفافاً لا له ولا عليه، والله المستعان.
ما الذي جرّنا إلى هذا الكلام؟ قال حمار الحكيم.
يقول ناظم الورقات:
والجهل قل تصور الشيء على |
| خلاف وضعه الذي بـه علا |
وسمي الجهل المركب بذلك لاستلزامه لجهلٍ آخر، لأنه جهل مدرك بما في الواقع مع جهله بأنه جاهل، ففيه جهلان، ولذا قيل:
جهلت وما تدري بأنك جاهل |
| ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري |
من أقبح الأشياء أن يعرف الإنسان ما كلف به وأمر به شرعاً ويخالف بعد تمام المعرفة لحكم الله -عز وجل- في مسألةٍ ما، ثم يخالفها، ويعصي أمر الله -سبحانه وتعالى- ويرتكب ما حرمه الله عليه، فهو باستحقاق اسم الجهل أولى، مثل هذا باستحقاق اسم الجهل أولى، والله -سبحانه وتعالى- يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [(17) سورة النساء]: قرر أهل العلم أن كل من عصى الله فهو جاهل، وإن كان عارفاً بالحكم هو جاهل، وكل من تاب في وقت الإمكان فقد تاب من قريب، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة |
| وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم |
فهذا العاصي الذي يعرف حكم الله في هذه المسألة ويخالف، ويرتكب ما حرم الله عليه هو باستحقاق اسم الجهل أولى من الذي لا يدري.
ثم قال -رحمه الله تعالى-:
والعلم الضروري: ما لا يقع عن نظرٍ واستدلال كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق، أو بالتواتر، وأما العلم المكتسب: فهو ما يقع عن نظرٍ واستدلال: لما عرف العلم وما يقابله من الجهل، ذكر أقسام العلم، وأنه ينقسم إلى قسمين: ضروري قطعي، والقسم الثاني: علم مكتسب نظري، وعرفنا أن العلم يراد به ما لا يحتمل النقيض بحالٍ من الأحوال، يعني سواء كان ضرورياً قطعياً، أو نظرياً مكتسباً النتيجة مفاد الخبر مائة بالمائة، ما ينزل ولا واحد بالمائة، لا مجال فيه للاحتمال الآخر أو النقيض.
فقال عن الأول –الضروري- وأنه لا يحتاج إلى مقدمات ولا إلى نظر ولا استدلال كما يحصل بإحدى الحواس الخمس، يعني إذا نظرت إلى هذه الورقة وجزمت بأنها بيضاء بعد نظرها، هل في احتمال ولا واحد بالمليون أنها غير بيضاء؟
نعم، ما في احتمال، مائة بالمائة النتيجة، وكما لو كانت سوداء أو خضراء فنظرت إليها، سمعت صوت تميزه عن غيره، شممت رائحة، ذقت طعماً، لمست شيئاً، كل هذا مورث للعلم الضروري القطعي الذي لا يحتمل النقيض.
ما يدرك بواسطة الحواس الخمس لا يحتاج في تصديقه إلى مقدمات، بل يحصل الجزم به بدون مقدمات، بل بمجرد حصول هذا الإدراك، الذي يدرك بواسطة الحواس الخمس لا يحتاج إلى مقدمات، ومفترضة في شخصٍ يميز بين الألوان والروائح والأصوات، شخص سمع نهيق الحمار وهو يعرف الحمار من قبل، هل يحتمل أن يسأل عن هذا الصوت هل هو نهيق حمار أو صياح ديك؟ لا يحتمل، لكن شخص سمع صوت حيوان لم يألفه ولم يعرفه ما سمع صهيل الفرس في عمره كله يمكن يسأل ما هذا؟ فإذا استقر عنده صار من الضروريات.
ومثل العلم الحاصل بالحواس الخمس العلم الحاصل بالتواتر، فسامعه ملزم بتصديقه من أول وهلة دون نظرٍ في رجاله، ومثله -بل أولى منه- ما ثبت بالقرآن، ولهذا لما كانت الحوادث والوقائع المتقدمة والسابقة على زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- الثابتة لديه بالتواتر -في قصة الفيل مثلاً وقصص الأمم السابقة المتلقاة المتداولة بين الناس التي يتداولها الناس بعضهم عن بعض، طبقةً عن طبقة، تتواتر- هذه القصص -كقصة أصحاب الفيل- شاهدها النبي عليه الصلاة والسلام؟؟
لم يشاهدها، لكنها بلغته بطريقٍ متواتر، بطريق التواتر، فجاء الاستفهام عنها بالقرآن بأي صيغة؟
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل]، فعبّر عنها بالرؤية، فنزّل المتواتر منزلة المشاهد في القطعية.
فالعلوم الضرورية كالمسائل المعلومة من الدين بالضرورة مما لا يعذر أحد بجهله كوجوب الصلاة وتحريم الزنا ونحو ذلك، فمثل هذه لا يحتاج السامع، ولا تحوج المتكلم إلى استدلال، يعني لو قال شخص لآخر مسلم عاش بين المسلمين: صلِّ فإن الصلاة واجبة وتأثم إذا تركت الصلاة، هل يستطيع أن يقول له: ما الدليل على ذلك؟ أو يقول له مثلاً: الزنا حرام السرقة حرام الربا حرام، هل يطالبه بالدليل؟ لا يطالبه بالدليل؛ لأن مثل هذه الأمور معلومة من الدين بالضرورة، أمور قطعية ضرورية، لا تحتاج لا إلى نظر ولا إلى استدلال، ومثله ما استفاض لدى الخاص والعام من المسلمين وغيرهم من وجود بعض البلدان كمكة والمدينة وبغداد وما أشبه ذلك من البلدان المشهورة، هذه علوم ضرورية، يعني لو قال لك شخص: جئت من بغداد، أو من دمشق أو القاهرة أو ما أشبه ذلك، تقول: انتظر انتظر؛ حتى أرجع إلى معجم البلدان فأرى هذه البلدة فعلاً موجودة وإلا لا؟! يحتاج إلى ذلك؟! ما يحتاج؛ هذه أمور ضرورية.
هناك طائفة -ملاحدة هم دهريون- موجودة في الهند يقال لهم: السمنية، السمنية هؤلاء يقولون: إنه ليس هناك علم إلا ما يدرك من طريق الحواس، الأخبار مهما كثر ناقلوها لا يعتمد عليهم، وهؤلاء لا عبرة بقولهم.
إذا عرفنا ذلك فالحواس الخمس سبب للإدراك، البصر سبب للإبصار، والسمع سبب لإدراك الصوت وهكذا. والسبب عند أهل السنة يحصل به المسبب، يحصل به..، والله -سبحانه وتعالى- هو المسبب فلا تستقل الأسباب بالتأثير، خلافاً للمعتزلة، ولا تلغى آثارها بالكلية كما تقول الأشعرية.
الأسباب الناس فيها طرفان ووسط، فمثلاً في وقت الشتاء، الناس بحاجة إلى دفء، إذا لبست من الثياب ما يحصل به الدفء، فعند الأشعرية الثياب هي التي وقتك من البرد، وهي مستقلة بالتأثير عند المعتزلة، مستقلة بالتأثير، وعند الأشعرية لا قيمة لها، وإنما يحصل الدفء عندها لا بها، وعند أهل السنة: حصل بها الدفء والله -سبحانه وتعالى- هو الذي جعل فيها هذا التأثير، ولو شاء لسلبها هذا التأثير.
فالأسباب التي أمرنا باتخاذها لا نعتمد عليها اعتماداً كلياً فالاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- المسبب، وهو الذي جعل فيها مثل هذا التأثير، ولو شاء لسلبه منها، ولذا تجد بعض الناس يفعل بعض الأسباب ومع ذلك لا يستفيد منها، تتخلف آثارها بوجود مانع، أو لأمرٍ يريده الله عز وجل.
الدعاء سبب؛ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر]، قد لا تحصل الإجابة؛ لوجود مانع، قد يجاب بغير ما سأل، ولذا يستشكل كثير من الناس، يقول: فلان صلى الصبح مع الجماعة وحصل له حادث كيف؟ ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي))؟
نعم صلاة الجماعة سبب، الأوراد والأذكار أسباب، لكن قد تتخلف، فعلى الإنسان أن يفعل الأسباب ولا يعتمد عليها، يعتمد على مسببها، ولا نقول: إنها تستقل بالتأثير أو لا أثر لها بالكلية.
عند الأشعرية يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس -صغار البعوض بالأندلس- ما هو بإلزام هذا موجود بالحرف في كتبهم، هذه ما هي مسألة إلزامية، موجود بالحرف في كتبهم، يجوز أن يرى الأعمى وهو بالصين، البقة -صغار البعوض وهي في الأندلس- وهو أعمى، كيف أعمى ما يشوف؟ وهل السبب يحصل به شيء؟ ما يحصل به شيء، إنما يحصل عنده لا به، يلزمون بـ...، كأن..، كلامهم مخالف لعقول الناس كلهم، لكن هم خرجوا من هذا بقولهم..، قد تقول لهم: ما الفرق بين هذا الأعمى، ليش هذا الأعمى يضرب الجدار، والمبصر..... من الباب؟ ما في فرق بينهما، في فرق بين الأعمى والمبصر؟ نعم، هذا يصبخ الجدار والعمود وكذا،.....[00:26:28] الباب، إذن البصر له قيمة وسبب، يقول لك: لا، الإبصار حصل عنده لا به، تقول: طيب أنا أشرب الماء وأروى من شربه، يقولون: حصل الري عند الشرب لا به، طيب وإذا أكلت شبعت، يقول: حصل الشبع عند الأكل لا به.
لكن يدخل هذا الكلام في ما معنا من الجهل المركب؛ لأن هذا الذي يقول: أعمى الصين يجوز أن يرى بقة الأندلس، هذا يعرف أنه لا يعرف؟ لا، عند نفسه أنه من أذكى الناس، وقد يوجد الذكاء لكن إذا لم يكن العون من الله -سبحانه وتعالى- فالذكاء لا شك أنه نعمة وفضل من الله -سبحانه وتعالى- كغيره من النعم التي تفضل بها الله -سبحانه وتعالى- على عباده، لكن إذا ما استغل هذا الذكاء فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى- ويوصل إلى جنته صار نقمة ما صار نعمة، فالإنسان قد يؤتى الذكاء لكن لا يؤتى الزكاء، وبعضهم يقول: الزكاء هو الذكاء لا.. نعم، ما في أحد إذا أراد أن يقول: الذكاء قال: الزكاء؟
القسم الثاني من أقسام العلم: هو العلم المكتسب، عرفه المصنف بقوله:
هو ما يقع عن نظرٍ واستدلال: وأما العلم المكتسب فهو الموقوف على النظر والاستدلال: وذلك كالعلم بأركان العبادات وشروطها وأركان العقود وغيرها مما لا يدركه كل أحد، مما لا يدركه كل أحد إلا بالنظر والبحث عن مقدماته، كدقائق العلوم الثابتة بالأدلة مما لا خلاف فيه بين العلماء.
إذن عرفنا أن العلم هو لا يحتمل النقيض، لا يحتمل النقيض، والذي فيه خلاف يحتمل النقيض وإلا ما يحتمل؟ الذي فيه خلاف يحتمل النقيض، وأما ما يختلف فيه أهل العلم من المسائل فإنها لا تدخل في هذا بل هي ظنية كما سيأتي في تعريف الظن.
فالعلم بقسميه الضروري القطعي، والنظري المكتسب لا يحتمل النقيض بحال بخلاف الظن على ما سيأتي، لكن الفرق بينهما أن الضروري لا يحتاج إلى نظر كالعلم بأن الواحد ليس باثنين، إذا قلت لزيد من الناس: كم نصف الاثنين؟ يقول: انتظر معي آلة خليني أشوف، يمكن؟
ما يحتاج إلى أن انظر واستدلال ولا مقدمات ولا شيء بيقول لك: واحد على طول.
إذا قلت له: النار باردة وإلا حارة؟ يقول: اصبر خليني أشوف؟ لا ما يمكن، هذا لا يحتاج إلى نظر ولا إلى استدلال فهو علم ضروري، بخلاف النظري إذا قلت للواحد: كم نصف الاثنين؟ قال لك مباشرة واحدة، لكن إذا قلت لزيد من الناس: كم سبع 1955 كم سبعها؟
هذه ضرورية وإلا نظرية تحتاج إلى نظر واستدلال وقسمة و..؟
هذه نظرية، لا يمكن أن يقول لك مباشرة إلا عاد إذا كانت الموهبة متميزة جداً يقول لك: سبعها 115، هذا يحتاج إلى نظر واستدلال، يحتاج إلى آلة يحتاج إلى قسمة، فإن مثل هذا يحتاج إلى مقدمات وقسمة ونحو ذلك، والنتيجة لا تحتمل النقيض، يعني إذا استقر الأمر وعرفت أن سبعها 115 صارت في النتيجة مثل واحد نصف الاثنين، مائة بالمائة.
ولذا فإن التمثيل من قبل بعضهم بأن المذي نجس، وأن طواف الوداع واجب، وأن عقد الإجارة عقد لازم، وغير ذلك من المسائل المختلف فيها هنا التمثيل بمثل هذا فيه نظر؛ لأن هذه المسائل لا تدخل في العلم بل هي ظنية، وسيأتي ما بين العلم والظن، ووجوب العمل بالجميع، هذا أمر متقرر، ونقرره فيما سيأتي -إن شاء الله تعالى- فيه نظر على مقتضى صنيع في التفريق بين العلم النظري والظن على ما سيأتي.
يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:
والعلم إما باضطرارٍ يحصـل |
| أو باكتسابٍ حاصـل فالأول |
ثم قال -رحمه الله تعالى-:
والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه، والاستدلال طلب الدليل، والدليل هو المرشد إلى المطلوب: النظر، وهو التأمل، وليس المراد به الرؤية بالبصر؛ لأن النظر يطلق ويراد به الرؤية البصرية، نظرت إلى كذا، المراد به: الرؤية بالبصر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [(22-23) سورة القيامة]، فالمراد بالنظر هنا: التأمل والتفكير في الشيء لمعرفة حقيقته، والمنظور فيه أعمّ من أن يكون أحكاماً شرعية أو غيرها، لكن لما كان علم أصول الفقه مما يحتاج إليه من يعاني استنباط الأحكام الشرعية صار الاهتمام بالنسبة للنظر في الأحكام الشرعية، فالنظر والتأمل هو طريق معرفة الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها من قبل من لديه أهلية النظر، من قبل من لديه أهلية النظر، وهو المجتهد على ما سيأتي.
والفكر حركة النفس في المعقولات لا في المحسوسات، والاستدلال طلب الدليل المؤدي إلى المطلوب، والدليل هو المرشد إلى المطلوب، والمراد به اسم الفاعل الدال، فالذي يدل غيره -الطريق المحسوس- كي لا يضل ولا يتيه نسميه دليل، فهو داله على مراده ومقصوده.
واتخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- ابن أريقط من أجل أيش؟ نعم، يدله، فالذي يرشد الناس إلى حكم المسألة دليل وهو الدال، وهكذا بمعنى دال، فإذا سمعت بحكمٍ شرعي فطلبت دليله، ثم تأملت في الدليل ثبوتاً ونفياً وبحثت عن وجه الدلالة من هذا الدليل استوفيت ما ذكره المصنف من الاستدلال والنظر والتفكر في الدليل والتأمل فيه وهكذا.
يقول الناظم:
وحد الاستدلال قـل ما يجتلب |
| لنا دليلاً مرشداً لما طلب |
ثم جاء إلى ما يتمم القسمة من ذكر الظن والشك بعد أن ذكر العلم والجهل، قال:
الظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر: فلما ذكر العلم الذي لا يحتمل النقيض ذكر ما يحتمله -يحتمل النقيض- إما مع الرجحان أو مع التساوي، فالراجح من الاحتمالين هو الظن، ويقابله المرجوح وهو الوهم، ومع التساوي يسمى شك، فإذا بلغك الخبر، وليكن مثلاً قدوم زيد، بلغك أن زيداً قدم، فإن كان تصديقك لهذا الخبر نسبته مائة بالمائة، فهو أيش؟ العلم، وإن كان نسبة تصديقك سبعين بالمائة مثلاً فهو الظن، وإن كانت النسبة خمسين بالمائة فهو الشك، وإن كانت النسبة ثلاثين بالمائة مثلاً فهو الوهم، فالعلم موجب للعمل بلا خلاف، والظن موجب له عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم، الظن موجب للعمل عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم، ونؤكد على هذا؛ لأن المبتدعة لهم مسلك، ولأهل السنة مسلك.
المبتدعة لما يقسمون المعلوم إلى مثل هذه الأقسام لهم هدف ومقصد ومغزى أن يقولوا: أكثر الأدلة ظنية، وأخبار الآحاد ظنية، والظن لا يثبت به علم، إذن العقائد لا تثبت بالمظنونات، فينفون الأسماء والصفات من هذه الحيثية -من هذه الجهة- ونحن ننفصل من هذا ونقول: ما تثبت به الأحكام تثبت به العقائد، فالظن موجب للعمل في جميع أبواب الدين عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم، تثبت بغلبة الظن، وأكثر الأحكام من هذا النوع، وغالب الأحكام مربوط بغلبة الظن ومعلق به.
وقد يرد الظن ويراد به اليقين كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [(46) سورة البقرة]. ويرد ويراد به المرجوح، ويراد حينئذٍ الوهم، وهو الذي لا يغني من الحق شيئاً.
والشك عند أهل العلم لا يزيل اليقين، فمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث فهو على طهارة بخلاف ما إذا غلب على ظنه، احتمال ضعيف أنه انتقضت طهارته يلتفت إلى هذا الاحتمال؟ يبني على غلبة الظن، لكن لو كان متردد على حدٍ سواء نقول: الشك لا يرفع اليقين.
إذا عرفنا هذا فالذي يفيده القرآن الكريم ومتواتر السنة هو العلم، وأما خبر الآحاد ففي الأصل..، قرب الشيخ؟
إذا عرفنا هذا فالذي يفيده القرآن الكريم ومتواتر السنة هو العلم، وأما خبر الآحاد ففي الأصل لا يفيد إلا الظن عند جمهور العلماء، وقد يفيد العلم بالقرائن على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وبيان ذلك..، قد يقول قائل: كيف خبر صحيح يفيد الظن؟ خبر صحيح نقله العدل الضابط عن مثله بسندٍ متصل وسلم من الشذوذ والعلة، كيف نقول يفيد الظن؟
نقول: نعم، بيان ذلك أن الراوي العدل الضابط المتقن مهما بلغ من الدرجات العليا في هذه الأوصاف -ولنأخذ على ذلك من الأمثلة مالك نجم السنن- مهما بلغ الراوي في هذه الأوصاف فإنه ليس بمعصوم، بل هو كغيره يطرأ عليه الخطأ والنسيان، وقد وهم الإمام مالك في بعض الأحاديث وفي بعض أسماء..، وفي أسماء بعض الرواة لذا فإن خبره يحتمل النقيض.
يعني إذا جاءك خبر عن شخص قال لك شخص بمنزلة مالك عندك: قدم زيد ألا يحتمل أن هذا الشخص وهم أو أخطأ؟ الاحتمال قائم، إذن خبره يحتمل النقيض، وما دام الاحتمال قائماً فإن الخبر يفيد الظن، وهذا الاحتمال وإن كان ضعيفاً إلا أنه لا يمكن نفيه، لا يمكن نفي هذا الاحتمال.
لما عرفنا أن العصمة خاصة بمن عصمه الله -سبحانه وتعالى- وهو نبيه -عليه الصلاة والسلام- أما من عداه فيحتمل عليه الخطأ والسهو والغفلة والنسيان، وما دام هذا الاحتمال موجوداً فإن الخبر لا يرتفع إلى درجة العلم اليقيني القطعي، وإنما هو مفيد للظن، لو صارت نسبة صدق الخبر 99% فهو ظن ما لم يصل إلى المائة بالمائة.
وما دام الاحتمال قائماً فإن خبر الثقة لا يثبت العلم لهذا الاحتمال، فعلى هذا لا يفيد إلا الظن، فإذا احتفت به قرينة، إذا احتفت به قرينة ارتفع احتمال النقيض؛ لأن الاحتمال في الأصل ضعيف، ووجدت هذه القرينة التي تقاوم هذا الاحتمال فإنه حينئذٍ يفيد العلم إذا احتفت به قرينة، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وهذا خلافاً لمن يزعم أن خبر الواحد يفيد العلم مطلقاً كحسين الكرابيسي وداود الظاهري، أو يزعم أن خبر الواحد يفيد الظن مطلقاً.
ولا تلازم بين الظن هنا وعدم العمل، بل لا بد أن يعمل به، وعرفنا أن خبر الواحد وإن كان مما يفيد الظن فإن العمل بالظن واجب عند جميع من يعتد بقوله من أهل العلم.
يقول الناظم:
والظـن تجويـز امـرئ أمريـن |
| مـرجحـاً لأحــد الأمريــن |
يحتاج أن نعيد هذا وإلا ما يحتاج؟
نعم، عرفنا أن العلم هو الذي لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه، فنتيجة صدق الخبر، أو نسبة صدق الخبر فيه مائة بالمائة، إذا نزلت هذه النسبة ولو واحد صارت النسبة تسع وتسعين بالمائة فهو ظن؛ لأنه احتمال راجح، فإذا كانت النسبة خمسين بالمائة فهو الشك، إذا نزلت النسبة عن الخمسين إلى الصفر فهو وهم، والصفر كذب، نعم والصفر هو الكذب، فإذا صارت النسبة أقل من مائة فهو الظن، والراوي الضابط الحافظ المتقن كما مثلنا بمالك -رحمه الله تعالى- مهما بلغ من الحفظ والضبط والإتقان فإنه لا بد أن يتصف بالوصف الملازم الذي لا ينفك عنه الإنسان -وهو السهو والخطأ والغفلة والنسيان- وإن كانت النسبة ضعيفةً والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"على كل حال الجهة منفكة، والنهي عاد لأمرٍ خارج عن الصلاة وعن شرطها، فالصلاة صحيحة.
الذي يعتد به: بمعنى أنه لا يؤمر بإعادته، إذا كان عبادة فتبرأ ذمته بفعله، وذلك إذا كان مستوفياً للشروط والأركان والواجبات، أما إذا اختل شرط من الشروط أو ركن من الأركان مع القدرة عليه فإنه حينئذٍ لا يعتد به ولا يعد صحيحاً، ولا تترتب آثاره عليه، ومثله في المعاملات، وهذه العبارة مألوفة، إذا قيل: تعتد بهذه الركعة أو لا تعتد بها: يعني أنها صحيحة مجزئة أو غير صحيحة.
الكراهة هنا للتنزيه، والصارف عن التحريم..، أولاً الكراهة لفظ مشترك، وليست نص في التحريم، ولا في كراهة التنزيه، لفظ مشترك ليست مثل الأمر أو النهي، يعني لو قال: لا تتحدثوا بعد صلاة العشاء، قلنا: الأصل في النهي التحريم، ويصرفه عن التحريم كونه -عليه الصلاة والسلام- سمر في بعض الليالي.
وعلى كل حال السهر داء ابتلي به الناس، لكن إن كان على علم أو إصلاحٍ بين الناس أو مدارسة خير أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو عبادة أو تأليف أو ما أشبه ذلك فهو خير -إن شاء الله تعالى- لكنه خلاف الأصل.
أولاً: الجملتان ليستا بمتفقتين، بل هذه لها دلالة وتلك لها دلالة أخرى، وقال بهذه أقوام، وقال بتلك أقوام، فالحرام ما حرمه الله يعني: أن ما عداه حلال، ما لم ينص عليه فهو حلال، والذي يقول: إن الحلال ما أحله الله فمعناه أن الذي لم ينص على حله فهو حرام.
أما بالنسبة للدخان فجاءت النصوص التي تومئ إلى منعه، {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف]، والمعتمد عند أهل العلم من المحققين أنه حرام، وهو ضار أيضاً.
حتى ما يضعه في فيِّ امرأته يثاب عليه إذا قصد بذلك أن تستعين هذه المرأة في هذا الأكل على طاعة الله -عز وجل- وأن يسقط عنه ما أوجبه الله عليه، لا شك أن استحضار مثل هذا قدر زائد، قدر من الثواب زائد على مجرد ثواب وجوب النفقة، فيستحضر النية مع ذلك، إذا لم يستحضر النية فالوجوب سقط عنه، بمعنى أنه لا يؤمر أن ينفق عليها ثانية إذا لم يستحضر النية، الإنفاق صحيح، لكن يبقى أنه إذا استحضر النية كما إذا استحضر النية في أكله هو وشربه ونومه وجماعه وما أشبه ذلك فإنه يثاب على ذلك قدراً زائداً على مجرد الفعل.
من حيث الأصل الدعاء لا شيء فيه، لكن تخصيص علي -رضي الله عنه- بهذا الدعاء دون غيره من الصحابة لا شك أنه يشم منه رائحة -رائحة الميل إلى علي -رضي الله عنه- وهو أمير المؤمنين رابع الخلفاء الراشدين، مشهود له بالجنة، وفضائله جمة -رضي الله عنه وأرضاه- لكن الميل إليه وتفضيله على غيره بما في ذلك أبي بكر وعمر وعثمان هذا لا شك أنه تشيّع، وإن لم يتعرض لسب الشيخين، أما إذا تعرض لسبهما فهو رفض نسأل الله العافية.
على كل حال تخصيص علي -رضي الله عنه- بمثل هذه العبارة، أو بمثل قول بعضهم: -عليه السلام- كل هذا لا يليق ولا يسوغ، فالترضي عن الصحابة هو الجادة عند أهل العلم، وهم على حدٍ سواء، كما أن النبي -عليه الصلاة والسلام- خص بالصلاة والسلام فلا يقال له: عز وجل، وإن كان عزيزاً جليلاً، لكن العرف عند أهل العلم جرى على ذلك، فالله -سبحانه وتعالى- يقال: عز وجل، ولا يقال للنبي -عليه الصلاة والسلام- وإن كان عزيزاً جليلاً: عز وجل، وإنما يقال: صلى الله عليه وسلم، وبهذا يحصل الامتثال، امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب]، فإن زيد على ذلك فليقل: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، أما الاقتصار على الآل فهو من عمل بعض المبتدعة، وهذا مشبه لعمل بعض المبتدعة، والاقتصار على الصحب دون الآل فيه مشابهة لمبتدعة آخرين، فإذا زيد على النبي -عليه الصلاة والسلام- فلتكن الزيادة للآل والصحب معاً، ولكلٍ حقه، فالآل أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاعتراف بحقهم وفضلهم، والصحابة فضلهم وصيانتهم وحفظهم وتبليغهم للدين معروف، فلا نشبه الروافض ولا نشبه النواصب، فإذا زدنا على ما نخرج به من العهدة فلتكن الزيادة للآل والصحب معاً؛ لنبتعد عن مشابهة المبتدعة الذين هم على طرفي نقيض.
وما جاء في التشهد -الصلاة الإبراهيمية- هذا خاص بالصلاة، وأما خارج الصلاة فتبرأ الذمة ويخرج الإنسان من العهدة إذا قال: صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بذلك، وأما الاقتصار على الصلاة دون السلام والعكس فقد نص النووي على كراهة ذلك، نص النووي على كراهة الاقتصار على الصلاة دون السلام أو العكس في مقدمة شرح مسلم، لكن خصّ ابن حجر الكراهة بمن كان ديدنه ذلك، يعني طول عمره يصلي ولا يسلم أو يسلم ولا يصلي، أما من كان يصلي أحياناً، ويسلم أحياناً، ويجمع بينهما أحياناً، فهذا لا كراهة بالنسبة له، والاقتصار على الصلاة دون السلام موجود في كلام كثير من أهل العلم، في مقدمة مسلم وفي كثيرٍ من كتب الشافعي -رحمه الله- حتى النووي نفسه -رحمه الله- في بعض كتبه صلى ولم يسلم.
أقول: إذا كان لديه أهلية النظر في النصوص وعنده الآلة التي يستطيع بها الاستنباط من الكتاب والسنة فإنه لا يسوغ له التقليد، بل حرمه جمع غفير من أهل العلم، والمقلد عند عامة أهل العلم ليس من أهل العلم، على ما سيأتي في الاجتهاد والتقليد -إن شاء الله تعالى- أما بالنسبة للعامي ومن في حكمه ممن ليست لديه أهلية النظر فإن فرضه التقليد، لكن من يقلد، يقلد من تبرأ ذمته بتقليده.
النظم أثبت، ولذا يحرص كثير من أهل العلم على تحفيظ طلابه النظم؛ لأنه يثبت، أما النثر فهو ينسى.
أقول: العلم الأصل فيه أنه يحتاج إلى معاناة، فالذي لا يُفهم من أول مرة، في المرة الثانية والثالثة وهكذا، الذي لا يفهم من خلال كتاب، يفهم من خلال كتابٍ آخر، فإذا لم تفهم المتون التي ألفها المتقدمون، فارجع إلى المختصرات التي كتبها المتأخرون؛ لأنها كتبت بلغتك، وهي توطئ وتسهل الطريق لك حتى تفهم كلام المتقدمين، وكتب المتقدمين لا غنى عنها لطالب العلم.
وبالنسبة للفهم الناس يتفاوتون فيه، منهم سريع الفهم، ومنهم البطيء في فهمه، فالبطيء في فهمه عليه أن يكرر، والسريع في فهمه عليه أن يتجاوز ما فهمه، والله المستعان، وعليك أن تلجأ بصدق وتنكسر بين يدي ربك أن يعينك على فهم العلم الشرعي، والعمل به.
لا، هناك فرق؛ المكروه فيه مخالفة للدليل الذي يدل على المنع لولا وجود الصارف من التحريم إلى الكراهة، وخلاف الأولى هو ما هو في أمرين مباحين أحدهما أولى من الآخر، ففعل المفضول خلاف الأولى، وفعل الفاضل هو الأولى.
يعمل بالراجح عنده، وما يدين الله به، إذا كان من أهل النظر، وإذا لم يكن من أهل النظر بأن كان عامياً أو في حكم العامي من المبتدئين، فإنه تبرأ بذمته إذا قلّد من جمع بين العلم والعمل والتقوى والورع، والله المستعان:
وليس فـي فتتواه مفتٍ متبـع
ما لـم يضف للعلم والدين الـورع
حجته أن الإباحة ليس فيها كلفة ولا مشقة؛ لأنها مردودة إلى اختيار المكلف إن شاء فعل وإن شاء ترك، فمن هذه الحيثية ليس فيها تكليف، في الأمر المباح إن شئت فعلته وإن شئت تركته لذاته، لا لما يترتب عليه من آثار، هذا المباح إن حصل به إعانة على فعل واجب أو مستحب صار له حكماً، وإن حصل بسببه تفريط وتضييع للواجبات صار حراماً وهكذا، لكن هو في الأصل مباح، وليس فيه تكليف؛ لأن ما يرد فيه إلى اختيار المكلف ليس فيه تكليف، هذه وجهة نظر من يقول: إن المباح ليس حكماً تكليفياً، وإنما ذكر من باب تتميم القسمة، أما من يقول: إنه حكم تكليفي فيرى أن الحكم هو خطاب الله والإباحة حصلت بخطاب الله.
هو واجب اتفاقاً، وكونه فرض -على قول الجمهور- الواجب والفرض لا فرق بينهما.
على كل حال في كل علمٍ من العلوم كتب للمبتدئين وأخرى للمتوسطين وثالثة ورابعة وهكذا، سلالم وجواد مطروقة عند أهل العلم، تحتاج إلى شيءٍ من البسط، وقلنا بالنسبة لهذا العلم: إن أولى ما يبدأ به مثل هذا الكتاب الذي هو الورقات، ثم بعد ذلكم إذا أتقنه وضبطه وسمع عليه ما سجل من أشرطة، وقرأ الشروح والحواشي على هذا الكتاب، نعم، ينتقل إلى الكتب التي تلي مثل هذا الكتاب، إما مختصر التحرير أو مختصر الروضة، ثم بعد ذلكم ينظر في المطولات عند الحاجة، ويعتني بمسودة آل تيمية والموافقات للشاطبي وإرشاد الفحول للشوكاني وغيرها من الكتب التي تمتاز بشيءٍ من التحقيق.