التعليق على تفسير القرطبي - سورة الإسراء (11)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه،
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
"قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً} [سورة الإسراء: 82]
فِيهِ سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: "وَيُنْزِلُ" بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص. و{مِنَ} لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَنُنَزِّلُ مَا فِيهِ شِفَاءٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَفِي الْخَبَرِ: "مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ". وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ تَكُونَ {مِنَ} لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّهُ يُحْفَظُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ".
يعني لأن القرآن يُحفَظ.
"لِأَنَّهُ يُحْفَظُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ، قاله ابْنُ عَطِيَّةَ".
لكن ما المانع أن يكون من القرآن، يعني بعض القرآن شفاء، وبعضه أحكام، وبعضه أمثال، وبعضه مواعظ؟ لا يمنع من هذا مانع.
في قوله في آخر الآية: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [سورة الإسراء:82] ينتفع بالرقية المؤمن، {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
{وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً} مفهومها أن الكافر والظالم، ولو كان مسلمًا، فإنه لا ينتفع، ولا يُشفى بالقرآن. ولعل المؤلف يعرض عليها.
"وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ هَذَا، بَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ أَنَّ إِنْزَالَهُ إِنَّمَا هُوَ مُبَعَّضٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا شفاءً، ما فيه كله شفاء.
الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهِ شِفَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ، وَلِكَشْفِ غِطَاءِ الْقَلْبِ مِنْ مَرَضِ الْجَهْلِ لِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّانِي: شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ الظَّاهِرَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ".
هو مُشتملٌ على الأمرين معًا، هو شفاء القلوب، كما هو الأصل، والهدف من إنزاله، وهو أيضًا شفاءٌ للأبدان؛ لأنه ينفع في الرقية، كما في حديث أبي سعيد الآتي، إضافةً إلى كونه شفاءً للقلوب.
"وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ- وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَرِيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، قَالَ: فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا".
الحديث في الصحيح، عن أبي سعيد في الصحيح، وعزوه للدارقطني نزول من المؤلف. مرَّ بنا مرارًا ما يدلُّ على أن المؤلف عنايته بالحديث أقل من عنايته بغيره من العلوم، ولذا يعزو إلى السُنن، ويعزو إلى الكتب الغريبة جدًّا من الأجزاء والفوائد، والحديث مُخرَّج في الأصول.
وعلى كل حال، الحديث صحيحٌ، بل في الصحيح، وفي (جامع الترمذي) أنه قرأ الفاتحة سبع مرات.
"فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا، فَأَبَوْا، قَالَ: فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ".
قَتَّة، سليمان بن قَتَّة.
"وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَمُوتُ. قَالَ: قُلْتُ: أَنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطُونَا. فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً. قَالَ: فَقَرَآتُ عَلَيْهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ".
هل الأفضل في مثل هذه الحالة، إذا وجِد أُناس مثل هؤلاء القوم اللئام، الذين استضافوهم، فأبوا أن يُضيفوهم، هل الأفضل أن ينفعوهم بدون مقابل، كما فعل الخضر، أو بمقابل، كما فعل أبو سعيد؟
طالب: بمقابل.
طالب: حسب الحال، يا شيخ.
بحسب الحال، يعني إذا رُجي إسلامهم مثلاً، وخُشي أنهم إذا أُخِذَ منهم المقابل، لا يُسلمون، فلا شك أن المصلحة تقتضي ألا يؤخذ منهم شيء. وعلى كل حال، «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا، كتاب الله»، كما في هذا الحديث في الصحيح. فالمقابل لا إشكال فيه، لكن هل الأولى أن يأخذ الإنسان المقابل أو لا يأخذ؟ يعني هل الأولى أن يأخذ الإنسان المقابل على الرقية وعلى القراءة والإقراء والتدريس والتعليم وشغل المناصب الدينية، أو الأفضل أن يتبرع الإنسان، ويرجو بذلك ما عند الله -جلَّ وعلا- من غير أن يشوب عمله بأمرٍ من أمور الدنيا؟
لا شك أنه إذا وجِد من يتورع عن هذه الأمور، ووجد من يقوم بكفايته وكفاية من يعول من غير ذل المسألة، لا شك أن بذل هذا للناس بدون مقابل أفضل، لكن لا إشكال في كون التدريس يؤخذ عليه الأجر، والرقية يؤخذ عليها الأجر، وغير ذلك.
ومن أهل العلم من يتورَّع في تعليم العلوم الشرعية، الحديث والتفسير والعقائد والفقه، ويأخذ على غيرها من العلوم. حتى وجد من أهل الحديث من يُحدِّث الناس مجانًا، ويأخذ على (ألفية ابن مالك) كل بيت درهمًا، يعلم الناس بهذا. ووجد أيضًا من يأخذ الأجر على التحديث، وكرهه جمعٌ من أهل العلم، لكن حديث أبي سعيد يدلُّ على أنه لا شيء فيها، ما لم تكن هي الهدف وهي القصد، لكن إذا تفرَّغ للتعليم، وانقطع عن الكسب له ولأهله، فلا مانع من أن يأخذ أجرة.
طالب: ...
ماذا؟
طالب: ..............
لا، ما يلزم، لكن إذا انقطع، فله أن يأخذ بدون كراهة، حتى عند الآخرين؛ لأن هذا أفضل بكثير من ذل المسألة.
طالب: بدل من أن يُنفق عليه أحد، هل الأفضل أن يأخذ الأجرة؟
هو أفضل أن يأخذ الأجرة من أن يتكفف الناس، أو يتحمل منة الناس، بلا شك.
"فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: فَأَفَاقَ وَبَرَأَ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالنُّزُلِ".
النُزل: الضيافة.
"وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالشَّاءِ، فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ أَنَا وَأَصْحَابِي وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الْغَنَمِ".
تورعوا، توقفوا في حكمها حتى يسألوا، وهذا الأصل في المسلم، ألا يُقدِم على شيء إلا ومعه فيه برهان.
طالب: ما يكون هذا دليلًا على من يقول: أن الأصل في الأشياء الحرمة؟
دليل عليه أو له؟
طالب: دليل له.
لأنهم امتنعوا ولا ثُرّب عليهم، قد يكون امتنعاهم من باب الورع؛ ولذلك ما امتنع أبو سعيد. فيهم من امتنع وفيهم من لم يمتنع، فلا دليل لهذا ولا لهذا.
"حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، شيءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي. قَالَ: «كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ»، خَرَّجَهُ فِي كِتَابِ السُّنَنِ".
"شيءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي" يعني هل للإنسان أن يجتهد في مثل هذه الأمور وينتزع من القرآن آيات أو سورًا، يقرأ بها على المرضى ويُخصص لكل مرضٍ رقية، ويزعم أن هذا شيءٌ ألقي في روعه؟ أو نقول: أن صنيع أبي سعيد اكتسب الشرعية من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ يوجد من الرقاة من يُخصص لكل مرض رقية، فإذا وجِد في لفظ الآية ما يُناسب المرض، فهذا لا إشكال فيه، لكن أن تُخصص آيات ويُكتب على بعض الأمراض بعض الآيات، وابن القيم ذكر ما يُكتب لكذا، وما يُكتب لكذا، وهو من المُحققين. فهل نقول أن مثل هذا تكفي فيه التجربة، إذا نفعت هذه الآية أو هذه السورة في هذا الموضع؟ لا مانع من إجراء العادة مجرى النص، بمعنى أنها نفعت في هذا الموضع، فدلَّ على أنها تصلح أن تُخصص لهذا الموضع، وهذا عليه عمل الرقاة، يرقون الناس بآياتٍ بحسب أمراضهم، فإذا كان في الآية شيء من الإشارة إلى هذا المرض، اعتمدوه. وبعضهم تجربة، يُجرب. أو نقول: يُقتصر على الرقية بالفاتحة التي ورد فيها النص، وبالمعوذتين فقط؟ هذا من القرآن، ومن الأدعية ما جاء في العوَّذ في النصوص النبوية، والدعاء أمره مفتوح، لكن اعتماد تخصيص شيء من الآيات لمناسباتٍ معينة وفي أوقات أو في أزمان أو لأمراضٍ معينة، لا شك أن مثل هذا يحتاج في الأصل يحتاج إلى نص. وأهل العلم هو معتمد عندهم هذا، يخصصون، حتى ابن القيم -رحمه الله- يُخصص، وقبله من أهل العلم من يُخصص.
يعني يُكتب للحزاز مثلاً: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [سورة البقرة:266]، يُكتب لوجع الضرس كذا، يُكتب لعسر الولادة كذا، يُكتب كذا لكذا. هذا من القرآن. دعنا ممن يكتب على هذه الأمراض حروفًا مقطعة أو طلاسم أو ما شابه ذلك، لا إشكال في تحريمه. لكن من يُخصص بعض الآيات لبعض الأمراض، هل نقول: إن الأصل في الرقية أن بابها واسع ومفتوح، ولا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا؟ فيكون في هذا من التوسع ما فيه، أو نقول: نقتصر على ما ورد وما عدا ذلك يحتاج إلى نص؟ فالبقرة تُقرأ على المسحور، هذه مُجربة، «ولا تستطيعها البطلة» يعني السحرة. وأيضًا الآيات التي ورد فيها ذكر السحر، ويُقرأ على الفَزِع آيات السكينة، هل يتوسّع في مثل هذا؟ أو يُقتصر على الوارد باعتبار أن الرقية الشرعية عبادة؟ بماذا نقول؟
طالب: ... نُجرب هذا نافع.
يعني هل التجربة ... معروف أن الأسباب، الرقية سبب، والأسباب معروف أنها إما أن تكون شرعية أو عادية، ثبتت بالتجربة، ثبت نفعها بالتجربة. أما لو أن إنسانًا جعل سببًا ما ليس بسبب شرعي ولا عادي، فهذا شرك. لكن لو جرت العادة بنفع هذا النبات لهذا المرض، واطرد فيه هذا النفع، فلا إشكال في جواز التداوي به. فهل نقول مثل هذا، إذا جُربت هذه الآية لهذا المرض؟
طالب: لا نقول بالتجربة، لحديث ...
نعم؟
طالب: ..............
نعم، لو قلنا بالتجربة ما انتفع به في أول الأمر. هو معروف أن التجربة لا تحصل من مرة واحدة، لا تحصل إلا من التكرار.
طالب: إذا كان نفع هذا النبات في علاج هذا الداء، أجزنا التداوي به مع عدم ورود النص. فنقول: لو جرت العادة بنفع الآية في هذا المرض، مع استصحاب الأصل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [سورة الإسراء:82].
نعم، يعني تندرج تحت الأصل العام، الذي هو هذه الآية.
طالب: قد يكون معنى هذا النص، يا شيخ، أن الله سبحانه وتعالى أبهم أي الآيات التي يكون فيها شفاء، ترك الأمر للتجربة ...
وتكون {مِن} حينئذٍ تبعيضية، يعني ليس كل القرآن ينفع للاستشفاء، استشفاء الأبدان، نعم. يعني لو جاء مريض مثلاً، مريض فيه مرض مُعضل، فتقرأ عليه سورة تبت، نعم، صحيح، معك الأصل العام: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ}، احتمال، إن عافاه الله، فهذا سبب من الأسباب. أو تتوخى من القرآن ما فيه شيء من الاستعاذة أو فيه إشارة ولو من بعيد إلى هذا المرض، كما يفعله الرقاة؟
على كل حال العادة جرت بهذا، وأهل العلم تواطئوا عليه وفعلوه، فلا يُثرَّب، مادام من القرآن، فلا إشكال إن شاء الله تعالى.
طالب: إذا كان يعني مسألة ... الكتب ووضع هذه الآية ... أما بالنسبة للمتداول بين القراء والعلماء أن هذا ينفع لهذا، مجرد تناقل الألسن، أما وضع أن هذه السورة تنفع لهذه الأمراض، يكون كأنه نص مع تقادم الزمن أو وحي ...
يعني مثل ما ذكر ابن القيم، يُمنع كلامه في (زاد المعاد) وفي (الطب النبوي)، نعم؟
هو لا يغيب عن بالنا أن السبب لا شك أنه مؤثر وقوي، الذي هو القرآن، لكن يبقى أن السيف- كما يقول أهل العلم- بضاربه، لا بحده. فقد يقرأ شخص على مريض، لا يستفيد. ويقرأ آخر، فيستفيد. وهذا شيءٌ مُشاهد، يستفيد المرضى من شخص، ولا يستفيدون من آخرين. والأخبار عن أهل العلم في هذا الباب، لاسيما أهل العلم والعمل، أهل العبادة، أهل الزهد، أهل الورع، تأثيرهم في هذا أقوى.
يعني شخص يقرأ الفاتحة في ماء، الفاتحة فقط، فيُصر عليه المريض أن يقرأ غيرها من القرآن، قال: تكفي الفاتحة، قال: يا شيخ، احتسب، هذا مريض. قرأ معها سورة الإخلاص، فانكسر الكوب. لا شك أن السيف نافع بذاته، لكن أيضًا حده ما يكفي، لا بد من الضارب الذي يضرب بهذا السيف. والرقية نوع من أنواع الدعاء، يعني يرقي الناس شخص يُخلط في مأكله وفي مشربه وفي ملبسه فمثل هذا يكون نفعه أقل. وإن كان الأصل أن النفع للقرآن، لكن من الذي يوصل هذا النفع إلى هذا المريض؟ هو بواسطة الراقي، والله المُستعان.
طالب: أحسن الله إليك، يا شيخ. عن التجربة، في بعض المشايخ يقرأ ورده في المسجد، فإذا جاء المريض قرأ عليه في المحل الذي هو فيه، الصفحة، المحل الذي وقف عليه، ويُشفى المريض.
يبقى أن هذه الأمور ليست قواعدها مُطردة، قد يلوح لعبد ما يلوح لغيره، يُجرب شخص ما لا ينفع مع غيره، يُجرب لمريض ما لا يُجدي مع غيره، وهكذا.
المقصود أن مثل هذه الأمور فيها شيء من الخفاء؛ ولذا يدخل في هذه المهنة من يُحسن ومن لا يُحسن، يدخل فيها المُخلص وغير المُخلص؛ ولذا كثر الدخول فيها من قِبَل أناسٍ لا خلاق لهم، وضُبطت عليهم أمور، مُنعوا من أجلها، وتسببوا لغيرهم في التضييق عليهم؛ لأنها مصدر كسب. المريض يريد الشفاء بأي ثمنٍ كان.
طالب: بعض الناس يتوسَّعون في هذا، حتى إنهم يفعلون أمورًا شركية، فمنهم مثلاً: من يدفن حديدة، ... ومنهم من يسحب الدم، ويقول: أنا أخرجت الجن، فما ضابط مسألة التجربة؟
لا، «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»، «اعرضوا علي رقاكم»، فإذا كان فيها شيء من الاستعانة بالشياطين، ولو من غير تقديم شرك لهم في أول الأمر، يكتفون بمجرد الاستعانة والإعانة، ثمَّ بعد ذلك إذا دخلوا في المشروع، واشتهروا بهذا، يفرض عليهم الجني ما يريد أو الشيطان ما يريد من تقديم شيء من التنازلات، لا سيما ما يتعلق بالشرك أو امتهان القرآن أو ما أشبه ذلك، نسأل الله العافية.
طالب: كيف يُقال: القرآن يشفي كل مقام ...؟
لكن تحديد الأمراض فيه تحكم، وإذا عُرف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مسح العين فبرئت، وعيسي -عليه السلام- وضعه في شفاء المرضى معروف، ومن كان أقرب إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، كان نصيبه من هذا أوسع أو أكبر. لكن من بَعُد عن هديهم، لا ينتفع ولا يُنتفَع به، إلا القليل النادر، والله المُستعان.
طالب: ...
التجربة أثبتها من يعاني هذا الأمر، لكن يبقى أن الأمور المحسوسة يختلف حكمها عن الأمور المعنوية، يعني الأمور الحسية إذا ثبتت بالتجربة، خلاص انتهى، ما أحد يُنكر؛ لأنها مُشاهدة بالعيان. لكن تخصيص هذه الآية لهذا المرض من خلال أن شخصًا شُفي بهذا السبب، أو اثنين أو ثلاثة، من أهل العلم من يرى أن طرد هذا لا بأس به، ما المانع؟ لأنه يندرج تحت هذا الأصل الذي معنا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ}. ومنهم من يرى أن تخصيص هذه الآية أو هذا الدعاء لهذا المرض أو في هذا الوقت، أنت مثلاً لو رأيت آية فيها ذكر، مثلاً صباحًا أو مساءً أو أي وقت من الأوقات، ولزمت قراءتها في هذا الوقت من غير نص، يجوز أو لا يجوز؟ ما يجوز. فتخصيص الآيات والأوراد والأذكار بغير مُخصص، يحتاج.
"وَخَرَّجَ فِي (كِتَابِ الْمَدِيحِ) مِنْ حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ".
(المديح) أو (المُدبَّج)؟
طالب: شيخ، في الحاشية: "في بعض الأصول:" المُذبَّح" ولم نوقف لتصويبه".
لا، هو لعله (المُدبَّج). التدبيج والمُدبَّج: نوع من أنواع علوم الحديث، وهي أن يروي عن الشيخ ويروي عنه الشيخ؛ أي الأقران يروي بعضهم عن بعض.
"قال: حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «يَنْفَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَطْنِ وَالسُّلِّ وَالْحُمَّى وَالنَّفْسِ أَنْ تَكْتُبَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ بِمِشْقٍ- يَعْنِي الْمَغْرَةُ- أَعُوَّذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، وَأَسْمَائِهِ كُلِّهَا عامة من شر السامة والغامة، وَمِنْ شَرِّ الْعَيْنِ اللَّامَّةِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَمِنْ أَبِي فَرْوَةَ وَمَا وَلَدَ». كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ شَرِّ أَبِي قِتْرَةَ.
الْعَيْنُ اللَّامَّةُ: الَّتِي تُصِيبُ بِسُوءٍ، تَقُولُ: أُعِيذُهُ مِنْ كُلِّ هَامَّةٍ لَامَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُعِيذُهُ مِنْ حَادِثَاتِ اللَّمَّةِ، فَيَقُولُ: هُوَ الدَّهْرُ، وَيُقَالُ الشِّدَّةُ. وَالسَّامَّةُ: الْخَاصَّةُ، يُقَالُ: كَيْفَ السَّامَّةُ وَالْعَامَّةُ. وَالسَّامَّةُ السُّمُّ. وَمِنْ أَبِي فَرْوَةَ وَمَا وَلَدَ. وَقَالَ: ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَتَوْا رَبَّهُمْ- عَزَّ وَجَلَّ-، فَقَالُوا: وَصَبٌ بِأَرْضِنَا. فَقَالَ: خُذُوا تُرْبَةً مِنْ أَرْضِكُمْ فَامْسَحُوا نَوَاصِيَكُمْ. أَوْ قال: نواصيكم رُقْيَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-".
يعني بقية الحديث السابق.
"أَوْ قال: نواصيكم رُقْيَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، لَا أَفْلَحَ مَنْ كَتَمَهَا أَبَدًا، أَوْ أَخَذَ عَلَيْهَا صفدًا. ثم تُكتب فاتحة الكتاب وأربع ءايات مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ مَوْضِعِ {لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} إِلَى آخِرِهَا، وَعَشْرًا مِنْ أَوَّلِ "آلِ عِمْرَانَ" وَعَشْرًا مِنْ آخِرِهَا، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْمَائِدَةِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْأَعْرَافِ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي يُونُسَ مِنْ مَوْضِعِ {قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}. وَالْآيَةَ الَّتِي فِي طَه {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى}، وَعَشْرًا مِنْ أَوَّلِ الصَّافَّاتِ، وَ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. تُكْتَبُ فِي إِنَاءٍ نَظِيفٍ ثُمَّ تُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ نَظِيفٍ، ثُمَّ يَحْثُو مِنْهُ الْوَجِعُ ثَلَاثَ حَثَوَاتٍ، ثُمَّ يتوضأ منه كوضوئه للصلاة، ويتوضأ قبل وضوئه لِلصَّلَاةِ؛ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طُهْرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ وَصَدْرِهِ وَظَهْرِهِ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَشْفِي اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ-، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَدْرَ مَا يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كِتَابًا.
فِي رِوَايَةٍ: وَمِنْ شَرِّ أَبِي قِتْرَةٍ وَمَا وَلَدَ. وَقَالَ: «فَامْسَحُوا نَوَاصِيَكُمْ» وَلَمْ يَشُكَّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ"
طالب: بيِّن الضعف، يا شيخ.
واضح، واضح، آثار النكارة عليه ظاهرة، والمخالفة للأحاديث الصحيحة فيه.
طالب: ..............
وفيه التنصيص على عدم أخذ العطاء، "لا أفلح من كتمها أبدًا وأخذ عليها صفدًا" يعني العطاء، مع أن الحديث: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا، كتاب الله».
طالب: الآيات المنصوصة هنا ...
لا، هو من آيات السحر، إذا كان المرض سحرًا، يُكتب مثل هذا.
طالب: ...
أين؟
طالب: ..............
نعم، معروف الكتابة في إناء أو في شيءٍ من هذا، معروف عندهم، لا إشكال، يُكتب في ورق ويُجعل في ماء أو يُنفث في الماء مباشرةً، هذا شيء عندهم.
"وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ كَانَ يَنْفُثُ؟، قَالَ: كَانَ يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ".
من السائل في: "فسألت الزهري"؟
طالب: عروة بن الزبير.
غلط؛ لأن الزهري يروي عن عروة، فكيف يسأله عروة؟ الزهري يروي الخبر عن عروة، فكيف يسأله عروة؟ العكس مقبول، الزهري يسأل عروة، لا بأس. لكن ..
طالب: ما يكون مالكًا؟
هو احتمال أن يكون مالكًا، لكن من الذي قال؟ معمر، غير بعيد أن يكون معمرًا.
"وَرَوَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نفسه الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَتَفَلَ أَوْ نَفَثَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ اللُّغَوِيُّونَ تَفْسِيرُ "نَفَثَ" نَفَخَ نفخًا لَيْسَ مَعَهُ رِيقٌ. وَمَعْنَى" تَفَلَ" نَفَخَ نَفْخًا مَعَهُ رِيقٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أُنْفِثْ عَلَيْهِ ... وَإِنْ يَفْقِدْ فَحَقَّ لَهُ الْفُقُودُ
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَمِنْ جَوْفِ مَاءٍ عَرْمَضِ الْحَوْلِ فَوْقَهُ ... مَتَى يَحْسُ مِنْهُ مَائِحُ الْقَوْمِ يَتْفُلِ
أَرَادَ يَنْفُخُ بِرِيقٍ. وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي النَّفْثِ".
لأنه ماءٌ ليس بحلو، مالح، مُر، متى يحسُ منه المائح؟ مائح القوم: الذي في أسفل البئر، يملأ الدلو، يُقال له: مايح، بالياء، والماتح، بالتاء: الذي أعلى البئر يستقي، الذي يسحب الدلو بالرشاء، يُقال له: ماتح. ويطردون هذا، فيقولون: الأعلى للأعلى، والأسفل للأسفل.
"أَرَادَ يَنْفُخُ بِرِيقٍ. وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي النَّفْثِ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ: رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يَكْرَهُ الرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ فِي الدِّينِ، إِذْ فِي نَقَلَتِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ إِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا مَنْسُوخًا؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْفَاتِحَةِ «مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ». وَإِذَا جَازَ الرَّقْيُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهُمَا سُورَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَتِ الرُّقْيَةُ بِسَائِرِ الْقُرْآنِ مِثْلَهُمَا فِي الْجَوَازِ، إِذْ كُلُّهُ قُرْآنٌ. وَرُوِيَ عنه -عليه السلام- أنه قال: «شفاء أمتي فِي ثَلَاثٍ: آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ لَعْقَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةٍ مِنْ مِحْجَمٍ». وَقَالَ رَجَاءٌ الْغَنَوِيُّ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شِفَاءَ لَهُ".
المعروف في حديث: «الشفاء في ثلاث» أنها: شرطة محجم، أو كية بنار، أو شربة عسل، ليس فيها ما ذكره: آية من كتاب الله، لكن الآية يدلُّ لها ما معنا.
"الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّشْرَةِ، وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضَ أَوْ يَسْقِيهُ، فَأَجَازَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ وَيُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ".
لكن ليس على إطلاقه، هناك أمور نافعة لكنها منهيٌ عنها. نافعة لما تشتمل عليه من نفع من وجه، وضررٍ من وجه. أما ما فيه نفعٌ محض من غير ضرر، فهذا لا يُنهى عنه.
"وَلَمْ يَرَ مُجَاهِدٌ أَنْ تُكْتَبَ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ تُغْسَلُ ثُمَّ يُسْقَاهُ صَاحِبُ الْفَزَعِ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ".
طالب: قوله: "ولم ير" ولم ير بأسًا أو لم ير جوازًا؟
الذي أجازه سعيد، ولم يرَ مجاهد أن تُكتب، يمنع يعني، كأنه يمنع، قول مخالف للقول السابق.
طالب: يعني لم يرَ هذا الفعل؟
نعم، لم يرَ هذا الفعل.
طالب: قول عائشة في نفس السياق.
نعم، لكن الكلام في قول مجاهد.
طالب: ...
نعم، ولكنه مع ذلك يقول: "ولم يرَ مجاهد أن تُكتب" لم يرَ أن تُكتب الآيات، يعني دلَّ على أنه يمنع، وتكون الأقوال حينئذِ غير مرتبة.
"وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ. وَقَالَ الْمَازِرِيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النُّشْرَةُ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ عَنْ صَاحِبِهَا، أَيْ: تَحُلُّ. وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، قَالَ النَّخَعِيُّ: أَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ بَلَاءٌ، وَكَأَنَّهُ ذهب إلى أنه ما مُحي به القرآن فهو إلى أن يعقب بَلَاءً أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يُفِيدَ شِفَاءً".
طالب: شيخ، عائشة هل ترى الكتابة؟
عائشة؟
طالب: ..............
هذه الكتابة أو القراءة في الماء، لا فرق؛ لأن الكتابة سوف تُمحى بالماء، والإفادة من الماء، لكن الكتابة التي تُعلَّق على المريض، هذه التي يختلف فيها الصحابة -رضوان الله عليهم-.
"وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلْتُ أَنَسًا فَقَالَ: ذَكَرُوا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ".
التي هي النُشرة.
"وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ: «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ».
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذِهِ آثَارٌ لَيِّنَةٌ وَلَهَا وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وسنة رسوله -عليه السلام-، وعن الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ، فَهِيَ غُسالة شيء لَهُ فَضْلٌ، فَهِيَ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»".
من جهة، هذا الماء الذي نُفث فيه، ماء نُفث فيه كلامٌ مبارك، فهو يُشبه الماء الذي توضأ به النبي -عليه الصلاة والسلام- أو أدخل فيه يده، ويُشبه أيضًا من وجه ماء زمزم، وهو ماءٌ مبارك، وهذا إذا لم يتعدَّ الأمر إلى الاعتقاد بالراقي؛ لأن بعض الناس، إذا حصل له شفاء من هذا الراقي، تعدَّى به الأمر وظن أن له تأثيرًا! لا شك أن فعله سبب، ولا بد أن يعتقد كلٌّ من الراقي والمرقي أن الرقية سبب، وأن الشفاء بيد الله -جلَّ وعلا-. لكن إذا وصل الحد إلى أن يعتقد المريض أن هذا بيده شيءٌ من الأمر أو بيده شفاء، فحينئذٍ يُمنع.
"قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا النَّصَّ فِي النُّشْرَةِ مَرْفُوعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهِ".
طالب: شيخ، أحسن الله إليك، كيف يُقال: السيف بضاربه، وإذا اعتقد أن أحدًا ينفع ما لا ...؟
ويبقى أنه سبب، الضارب سبب.
طالب: ليس سبب مؤثر.
يعني بجعل الله -جلَّ وعلا- له الأثر، المنع في أن يغفُل الإنسان عن كون الشافي هو الله -جلَّ وعلا-، والمريض في مثل هذه الظروف، لا شك أن كثيرًا من الناس، لا سيما إذا ضَعُف تعلقه بالله -جلَّ وعلا-، ينصرف قلبه إلى هذه الأسباب المادية، واضح.
"الْخَامِسَةُ- قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَعْنَاقِ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا، إِذَا لَمْ يُرِدْ مُعَلِّقُهَا بِتَعْلِيقِهَا مُدَافَعَةَ الْعَيْنِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أن ينزل به شيءٌ مِنَ الْعَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الصحيح من البهائم أو بنى آدم شيءٌ مِنَ الْعَلَائِقِ خَوْفَ نُزُولِ الْعَيْنِ"
يعني يجوز تعليقها للرفع لا للدفع، مع أن ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى منع التعليق مطلقًا، ولو كان من القرآن، و«من تعلَّق شيئًا، وكل إليه».
"وَكُلُّ مَا يُعَلَّقُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكِتَابِهِ؛ رَجَاءَ الْفَرَجِ وَالْبُرْءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَالرُّقَى الْمُبَاحِ الَّذِي وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِإِبَاحَتِهِ مِنَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي نَوْمِهِ، فَلْيَقُلْ: أَعُوَذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَسُوءِ عِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ». وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعَلِّمُهَا وَلَدَهُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ كَتَبَهَا وَعَلَّقَهَا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ». وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ تَمِيمَةً مَرْبُوطَةً، فَجَبَذَهَا جَبْذًا شَدِيدًا فَقَطَعَهَا، وَقَالَ: إِنَّ آلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ التَّمَائِمَ وَالرُّقَى وَالتِّوَلَةَ مِنَ الشِّرْكِ. قِيلَ: مَا التِّوَلَةُ؟ قَالَ: مَا تَحَبَّبَتْ بِهِ لِزَوْجِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ له، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ قَلْبًا». قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: التَّمِيمَةُ قِلَادَةٌ فِيهَا عُوَذٌ، وَالْوَدَعَةُ خَرَزٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: التَّمِيمَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقِلَادَةُ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا عُلِّقَ فِي الْأَعْنَاقِ مِنَ القلائد؛ خشية العين أو غيرها من أنواع البلاء، وكأن المعنى في الحديث: من يعلق خشية ما عسى أن تَنْزِلَ أَوْ لَا تَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ. فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَعَافِيَتَهُ"
ما عُلِّق في الأعناق من القلائد خشية العين وغيرها، من أنواع البلاء، وكأن المعنى في الحديث: من يُعلِّق خشية ما عسى أن ينزل، ... سقط سطر، أو غيرها من أنواع البلاء، وكأن المعنى في الحديث: من يُعلِّق خشية ما عسى أن ينزل أو لا ينزل؟
طالب: ..............
من عندك؟
طالب: ..............
وهذا في بعض النسخ دون بعض. والكتاب اعتمد في تحقيقه على نُسخ كثيرة جدًّا، بعض الأجزاء على ثلاث عشرة نسخة، بعض الأجزاء قوبل على ثلاث عشرة نسخة.
"وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً- وَهِيَ مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى- فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ، أَيْ: فَلَا بَارَكَ اللَّهُ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
أي: فلا تركه في دعةٍ وسكون وراحة بال وعافية.
"وَهَذَا كُلُّهُ تَحْذِيرٌ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ وَالْقَلَائِدِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَقِيهُمْ وَتَصْرِفُ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَصْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُوَ الْمُعَافِي وَالْمُبْتَلِي، لَا شَرِيكَ لَهُ. فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَعَلَّقَ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَلَيْسَ مِنَ التَّمَائِمِ.
وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ تَعْلِيقَ التَّمِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَبْلَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَبَعْدَهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمَا كُرِهَ تعليقه غير القرآن، أشياء مأخوذة عن العرافين وَالْكُهَّانِ، إِذْ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ مُعَلَّقًا وَغَيْرَ مُعَلَّقٍ لَا يَكُونُ شِرْكًا، وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»، فَمَنْ عَلَّقَ الْقُرْآنَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ اللَّهُ وَلَا يَكِلَهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَرْغُوبُ إِلَيْهِ وَالْمُتَوَكَّلُ عليه في الاستشفاء بالقرآن".
كلام ابن مسعود، وفعل ابن مسعود شامل لما كان من القرآن ومن غير القرآن، يُلاحظ فيه سد الذريعة، وحماية جناب التوحيد، فهذا التعليق لا يُعرف عن الصحابة أنهم فعلوه، إلا ما حصل من امرأة ابن مسعود أنها علقت، وأنكر عليها ابن مسعود.
"وسُئِل ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ التَّعْوِيذِ: أَيُعَلَّقُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ يُحْرَزُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ قُرْآنٌ".
يعني بحيث لا يُمتهن، وتناله الأيدي، وتمسه الأمور التي تدنسه.
"وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِذَا وَضَعَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ الْغَائِطِ. وَرَخَّصَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي التَّعْوِيذِ يُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالشَّيْءِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّقُهُ الْإِنْسَانُ.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} تَفْرِيجُ الْكُرُوبِ وَتَطْهِيرُ الْعُيُوبِ وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ مَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى مِنَ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، بَلْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ». قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ".
وهذا هو الحد الأدنى للجزاء على تلاوة القرآن، حرف بعشر حسنات، والمراد بالحرف: حرف المبنى في قول الأكثر، من حرف الهجاء، وليس المراد به حرف المعنى. وعلى هذا من قرأ جزءًا من القرآن، فيه أكثر من مئة ألف حسنة، الجزء الواحد، فيه أكثر من مئة ألف حسنة. والختمة الواحدة تشتمل على أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، وهذا هو الحد الأدنى، {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [سورة البقرة:261].
"{وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً} لتكذيبهم. قال قَتَادَةُ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ".
إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان، يعني بزيادة الأجر أو نقصٍ منه؛ لأنه إما أن يُعطيه حقه من القراءة والتدبُّر والتفكُّر، أو تكون حاله بضد ذلك، حال الغافل، اللاهي، وإن كان يقرأ القرآن. حال المُستخِف بالقرآن، فهذا يقوم عن نقصان، نسأل الله العافية.
"ثُمَّ قَرَأَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [سورة فصلت: 44]. وَقِيلَ: شِفَاءٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ البيان".
وهذا على أساس أن الشفاء معنوي، الشفاء فيه: شفاء القلوب، وقد تقدَّم. {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} هذا السيد الذي لُدِغ، هو مسلم أو كافر؟ نعم، جاء عن بعض العلماء ما يدلُّ على أنه كافر، واستفاد من الرقية، الشفاء بيد الله -جلَّ وعلا-، أراد أن يُظهر كرامة هؤلاء الصحابة عند أولئك الذين استعانوا بهم ولم يُضيفوهم.
طالب: ...
نعم؟
طالب: ..............
المسألة خلافية بين أهل العلم، منهم من يُجيزها للضرورة، والصواب أنها حرامٌ مطلقًا؛ لأن السحر لا يُمكن أن يكون بغير شرك، ولا يجوز أن يُشرك الإنسان لدفع بلاء أو ما أشبه ذلك، بل هو من نوع المصائب، التي على الإنسان أن يصبر عليها ويحتسب ويؤجر. أما أن يُشرك بالله- جلَّ وعلا- من أجل أن يُشفى، فـ«إن الله -جلَّ وعلا- ما جعل شفاء أمتي فيما حرّم عليها».
طالب: شيخ، أين المسألة السابعة؟
كثير هذا عنده، كثير يقول: ست، ويذكر خمس أو سبع أو ثمان، والمقصود أنه يزيد وينقص، يكون حصره من غير استقراء في بداية الأمر، فهو يتصور أن في الآية سبع مسائل، أو عشر مسائل، ثمَّ يزيد عليها واحدة أو ينقص منها واحدة.
طالب: هل يجوز أن يضع المصحف في السيارة ...؟
إذا أجاز آية، أجاز المصحف,
طالب: طهارة المحل ...
هذا ظالم، لكن لا يمنع أن يُشفى لأمرٍ عارض، وهو إظهار شرف هؤلاء القوم، الذين استعانوا بهم ولم يُضيفوهم، وعقوبةً لهم هذه اللدغة التي حصلت لسيدهم، عقوبة لهم، وشفاؤه إكرامًا لهؤلاء النفر.
طالب: هم كسبوا من هذا الأمر.
نعم، هم كسبوا من كل وجه.
طالب: بعض الإخوة المختصين بالطب النفسي والمعالجة النفسية من إنكار أن القرآن يشفي هذه الأمراض؟
لا، هذا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، ما ثبت بالقرآن، هذا خطر عظيم. يعني يتأولون أن ما فيه شفاء؟
طالب: لا، يقولون: ما يشفي من المرض الحسي.
لا، لا، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ}. يعني يكفي أن يكون شفاءً من الأمراض المعنوية فقط، حتى الأمراض الحسية، العين، مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- فبرئ.
طالب: ...
لا تقع هذه، معنوية أم حسية؟ اللديغ، لا، هذا كلام لا أصل له، باطل.
طالب: جعل الرقية ...
ما عُرف عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإسلام من تفرغ لهذا الأمر. لكن إذا حصل شيءٌ عارض، وأراد أحدهم أن ينفع أخاه، لا يتأخرون. لكن مع ذلك، لا يوجد من تصدى لهذا الأمر وتفرَّغ له، بحيث يُعرف به، ولا يوجد له عملٌ غيره، وهو مصدر رزقه، لا يُعرف عن سلف هذه الأمة.
"قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً} [سورة الإسراء: 83]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ خَسَارًا، صِفَتُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكَفْرَانِ لِنِعَمِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَمَعْنَى {نَأى بِجانِبِهِ} أَيْ: تَكَبَّرَ وَتَبَاعَدَ. وَنَاءَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: بَعُدَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، يُقَالُ: نَأَى الشَّيْءُ أي بعد. ونائتة وَنَأَيْتُ عَنْهُ بِمَعْنًى، أَيْ بَعُدْتُ. وَأَنْأَيْتُهُ فَانْتَأَى، أَيْ أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ. وَتَنَاءَوْا تَبَاعَدُوا. وَالْمُنْتَأَى: الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ: "وَنَاءَ" مِثْلُ بَاعَ، الْهَمْزَةُ مُؤَخَّرَةٌ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ مِنْ نَأَى، كَمَا يُقَالُ: رَاءَ وَرَأَى. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّوْءِ، وَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا لِلْوُقُوعِ وَالْجُلُوسِ نَوْءٌ، وهو من الأضداد".
يُقال: هذا عمل لا ينوء به إلا فلان، يعني لا يقوم به ويطيقه إلا فلان، يعني عملٌ ثقيل لا ينوء به إلا فلان، يعني لا يمكن أن يقوم به إلا فلان؛ لأنه يُناسبه.
"وقرئ: "وَنَئِيَ" بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَالْعَامَّةُ" نَأى" فِي وَزْنِ رَأَى.
{وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً} أَيْ: إِذَا نَالَهُ شِدَّةٌ مِنْ فَقْرٍ أَوْ سَقَمٍ أَوْ بُؤْسٍ يَئِسَ وَقَنَطَ؛ لِأَنَّهُ لَا يثق بفضل الله تعالى.
قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً} [سورة الإسراء: 84]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاحِيَتُهُ".
الآية السابقة: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ} يحتمل أن المراد به جنس الإنسان، وأن كل إنسان يُنعَم عليه يُعرِض، وهذا الأصل فيه، إلا العدد القليل النادر الموفَّق. {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ} أصابه شيءٌ من ضر الدنيا، آيس وقنط. ويحتمل أنه يُراد به الإنسان الكافر، من العام الذي أُريد به الخصوص.
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاحِيَتُهُ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. وقال مُجَاهِدٌ: طَبِيعَتُهُ. وَعَنْهُ: حِدَتُهُ. وقال ابْنُ زَيْدٍ: عَلَى دِينِهِ. وقال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نِيَّتُهُ. وقال مُقَاتِلٌ: جِبِلَّتُهُ. وقال الْفَرَّاءُ: عَلَى طَرِيقَتِهِ وَمَذْهَبِهِ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى مَا هُوَ أَشْكَلُ عِنْدَهُ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّكْلِ، يُقَالُ: لَسْتَ عَلَى شَكْلِي وَلَا شَاكِلَتِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُّ امْرِئٍ يُشْبِهُهُ فِعْلُهُ ... مَا يَفْعَلُ الْمَرْءُ فَهُوَ أَهْلُهُ
فَالشَّكْلُ هُوَ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ وَالضَّرْبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ} [سورة ص:58]. والشِّكْلُ (بِكَسْرِ الشِّينِ): الْهَيْئَةُ، يُقَالُ: جَارِيَةٌ حَسَنَةٌ الشِّكْلِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشَاكِلُ أَصْلَهُ وَأَخْلَاقَهُ الَّتِي أَلِفَهَا، وَهَذَا ذَمٌّ لِلْكَافِرِ وَمَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِ. وَالْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا نَزَلَتَا فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ.
{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا} أَيْ: بِالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَمَا سَيَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: {أَهْدى سَبِيلًا} أَيْ: أَسْرَعُ قَبُولًا، وَقِيلَ: أَحْسَنُ دِينًا. وَحُكِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- تَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه-: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ آيَةً أَرْجَى وأحسن من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلى آخره فلم أرَ فِيهِ آيَةً أَرْجَى وَأَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (*) حم (*) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (*) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ} [سورة غافر:1-3] قَدَّمَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَفِي هَذَا بشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ".
بشارة للمؤمنين، باعتبار أن ذنوبهم قابلة للغفران من غير توبة، بخلاف الكفار، الذين لا يُغفر لهم.
"وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه-: قَرَأَتُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قوله تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الحجر:49]. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر:53].
قُلْتُ: وَقَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ"
هذا المؤلف، المُفسِّر.
"فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأنعام:82]".
مثلها: قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء:48] فالذي لا يُشرك بالله -جلَّ وعلا-، يُغفر له. أما آية الزمر: {قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} هذه مربوطة بالتوبة؛ لأنها تتناول الشرك كما تتناول غيره من المعاصي.
طالب: ...
هذه قصة ... المؤلف في الآثار والأخبار يُغرب، ولا يلتزم الصحة، نعم، هو يلتزم ألا يذكر شيئًا من الإسرائيليات أو أشياء لا يقبلها عقل، مع أنه حصل له شيءٌ يسير من ذلك. وأما بضاعته من الحديث، فهي ليست بالبضاعة الكافية لمن يتصدى لتفسير القرآن.
طالب: نسبها إلى أبي حيان في (البحر المحيط).
ما يكفي، حتى أبو حيان من أين أخذه؟ وأين أبو حيان؟ هذا قبل أبي حيان.
طالب: ...
أبو حيان أخذه من هذا، أبو حيان مُعاصر لشيخ الإسلام، وهذا في طبقة شيوخ شيخ الإسلام.
طالب: استثناء صفة ...
يعني ما يليق بك إلا كذا، ولا يليق بالله -جلَّ وعلا- إلا كذا، نعم، يعني ما يُجانسه ويُشاكله ويليق به، هذا خبر، والإخبار دائرته أوسع من الوصف.
"قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراءء:85]
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالُوا: سَلُوهُ. فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الوحى قال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي مُسْلِمٍ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-"
أسكت وسكت، معنىً واحد.
"وَفِيهِ: وَمَا أُوتُوا. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، أَيُّ الرُّوحِ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ".
جاءت تسمية جبريل بالروح في مواضع من القرآن، يقول: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [سورة القدر:4] المقصود به: جبريل -عليه السلام-.
"وَقِيلَ: هُوَ عِيسَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ الشُّورَى. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، فِي كُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، فِي كُلِّ لِسَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لُغَةٍ، يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّ تِلْكَ اللُّغَاتِ، يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا أَظُنُّ الْقَوْلَ يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-".
نعم، مقطوعٌ ببطلانه.
"قُلْتُ: أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّرَائِفِيُّ، حَدَّثَنَا: عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بن صالح، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس في قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يَقُولُ: الرُّوحُ مَلَكٌ.
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي أَبُو هِرَّانٍ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) يَزِيدُ بْنُ سَمُرَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} قال: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ ... الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرُّوحُ مَلَكٌ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ وَأَلْفُ وَجْهٍ، يُسَبِّحُ اللَّهَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَعَنْهُ: جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ، هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِصِفَةٍ وَضَعُوهَا مِنْ عِظَمِ الْخِلْقَةِ".
ما وضعوها؟ وصفوها.
طالب: ...
"بِصِفَةٍ وصفوها مِنْ عِظَمِ الْخِلْقَةِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ حَيَاةُ الْجَسَدِ. وَقَالَ أَهْلُ النَّظَرِ مِنْهُمْ: إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الرُّوحِ وَمَسْلَكِهِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَيْفَ امْتِزَاجُهُ بِالْجِسْمِ وَاتِّصَالُ الْحَيَاةِ بِهِ، وهذا شيءٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الرُّوحُ خَلْقٌ كَخَلْقِ بَنِي آدَمَ وَلَيْسُوا بِبَنِي آدَمَ، لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ.
وَالصَّحِيحُ الْإِبْهَامُ؛ لِقَوْلِهِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ: هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ كَبِيرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، مُبْهِمًا لَهُ وَتَارِكًا تَفْصِيلَهُ؛ لِيَعْرِفَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَطْعِ عَجْزَهُ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا".
نعم، إذا تطاول الإنسان لمعرفة ما لا يُدركه، أو ادَّعى أنه يعرف ما لا يعرفه غيره، يتذكر مثل هذه الآية، شيءٌ بين جنبيه، وبين جوانحه، لا يدري ما هو، لا يدري ما حقيقته، به حياته وبفقده موته، ومع ذلك لا يدري ما هو.
فإبهام حقيقة الروح، لا شك أنه مُعجز؛ لبيان عجز الإنسان عن حقيقة نفسه، وخاض في تعريف الروح أهل الكلام، وأطالوا الكلام في حقيقتها وماهيتها، ومكان وجودها من البدن، لكن لم يصلوا إلى أكثر من قوله -جلَّ وعلا-: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. الإنسان مهما بلغ من العلم، ومهما جمع، فإنه لن يعدو حقيقة هذه الآية، {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
نعم، بعض الناس عنده إحاطة بكثيرٍ من العلوم، لكنها إحاطة نسبية، إذا نُسِبَ إلى غيره من البشر. لكن ما علمه بالنسبة لعلم الله- جلَّ وعلا-؟ نتذكر قوله -جلَّ وعلا-: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
طالب: ...
على كل حال، خاضوا فيها، لكن لن يصلوا إلى حقيقتها، يعني أكثر ما يُقال فيها: أنها بوجودها توجد الحياة، بفقدها تُفقد الحياة. لكن هل في هذا شيء من الدلالة على حقيقتها؟ وماهيتها؟ ما فيه شيء.
طالب: ...
لا، الأصل أن يُقال مثل ما قيل. ولذلك السيوطي لما فسَّر هذه الآية وعرَّف الروح، نَدِم على ذلك في الخاتمة، وقال: إنه لو اقتفى أثر المحلي ولم يتعرض لتفسيرها، موافقةً للآية، كان أفضل، هذا هو الحكمة.
"وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ هَكَذَا، كَانَ بِعَجْزِهِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ أَوْلَى. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: تَعْجِيزُ الْعَقْلِ عَنْ إِدْرَاكِ مَعْرِفَةِ مَخْلُوقٍ مُجَاوِرٍ لَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَنْ إِدْرَاكِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} اخْتُلِفَ فِيمَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: السَّائِلُونَ فَقَطْ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ بِجُمْلَتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَمَا أُوتُوا" وَرَوَاهَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ الْعَالَمُ كُلُّهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ {وَما أُوتِيتُمْ}.
وَقَدْ قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: كيف لم نؤتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [سورة البقرة:269]؟ فَعَارَضَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِ اللَّهِ فَغُلِبُوا. وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «كُلًّا» يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بـ{ما أُوتِيتُمْ} جميع الْعَالَمِ. وَذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ قَالَتْ لَهُ: نَحْنُ عَنَيْتَ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ: «كُلًّا». وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [سورة لقمان: 27] حَكَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-".
وفي قصة موسى مع الخضر، لما رحل موسى -عليه السلام- بحثًا عن الخضر ووجده، ووجد عنده من الأعاجيب والعلوم ما ليست عند موسى، قال له الخضر: ما علمي مع علمك إلا مثل ما نقص هذا العصفور من اليم، ماذا ينقص العصفور من اليم؟ لا شيء، لا يمكن نسبته إلى اليم. هذا علم موسى، نبي، رسول من أولي العزم، وهذا علم الخضر، الذي عنده من علم الله ما لا يوجد عند موسى، ما نسبة علمهما إلى علم الله، إلا مثل ما نقر هذا العصفور، فكيف بغيرهم؟ من المؤسف أن يوجد بين طلاب العلم من إذا عرف مسألة، ولو من وجهٍ قاصر، انتفخ وتعاظم وتعالى على الناس وتكبَّر وازدراهم، وشهر لسانه في ثلبهم، المقصود: أن على الإنسان أن يتواضع، ولا شك أن العلم يبعث على التواضع، كل ما زاد الإنسان من العلم، زاده تواضعًا؛ لأنه عرَّفه بالفعل حقيقة نفسه.
"وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ السَّائِلِينَ عَنِ الرُّوحِ هُمْ قُرَيْشٌ، قَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ: سَلُوهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنِ اثْنَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَخَبَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ فِي الرُّوحِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ: مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ".
يكفي، بارك الله فيك.
اللهمَّ صلِّ على محمد.