التعليق على تفسير القرطبي - سورة النور (10)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه:
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} لَمَّا ذَكَرَ وُضُوحَ الْآيَاتِ زَادَ فِي الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَصْنُوعَاتِهِ تَدُلُّ بِتَغْيِيرِهَا عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ، فَلَهُ بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَقَدْ بَعَثَهُمْ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَخْبَرُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْخِطَابُ فِي" {أَلَمْ تَر}َ" لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعْنَاهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْمُرَادُ الْكُلُّ. {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ} مِنَ الْمَلَائِكَةِ. {وَالْأَرْضِ} مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ، وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لِلطَّيْرِ صَلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ. وَقِيلَ: إِنَّ ضَرْبَهَا بِأَجْنِحَتِهَا صَلَاةٌ، وَإِنَّ أصواتها تَسْبِيحٌ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: التَّسْبِيحُ هَاهُنَا مَا يُرَى فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ. وَمَعْنَى" صَافَّاتٍ" مُصْطَفَّاتِ الْأَجْنِحَةِ فِي الْهَوَاءِ. وَقَرَأَ الْجَمَاعَةُ: " وَالطَّيْرُ" بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى" مَنْ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ" وَالطَّيْرَ" بِمَعْنَى مَعَ الطَّيْرِ".
فتكون الواو حينئذٍ للمعية، الرفع على أنها عاطفة، والنصب على أنها واو المعية.
"قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُهُ يُخْبِرُ، قُمْتُ وَزَيْدًا" بِمَعْنَى مَعَ زَيْدٍ. قَالَ: وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرَّفْعِ."
نعم إذا قلت: قمتُ وزيدًا فالنصب أجود من الرفع؛ لأن الرفع في هذه الصورة ضعيف، العطف على ضمير الرفع المتصل دون فاصل ضعيف، فالمتجه في مثل هذه الصورة النصب، والنصب مختار لدى ضعف النسق.
يعني إذا ضعف النسق فالنصب هو المختار والعكس.
" قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: قُمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ، كَانَ الْأَجْوَد الرَّفْع، وَيَجُوزُ النَّصْبُ".
لأن الرفع هو الأصل، النسق هو الأصل فهو الأجود إذا وجد ضمير الفصل.
"{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، أَيْ عَلِمَ صَلَاةَ الْمُصَلِّي وَتَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِ. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَجُوزُ نَصْبُ" كُلّ" عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ قِيلَ: الْمَعْنَى قَدْ عَلِمَ كُلُّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٍ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَهُ الَّذِي كُلِّفَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ النَّاسِ :{كُلٌّ قَدْ عُلِمَ صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُه} غَيْرَ مُسَمًّى الْفَاعِلُ. وَذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: {كُلٌّ قَدْ عَلَّمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: كُلٌّ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُلٌّ قَدْ عَلَّمَ غَيْرَهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، أَيْ صَلَاةَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ التَّعْلِيمُ الَّذِي هُوَ الْإِفْهَامُ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُعَلِّمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كُلٌّ قَدِ اسْتَدَلَّ مِنْهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّعْلِيمِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَالصَّلَاةُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، وَكُرِّرَ تَأْكِيدًا، كَقَوْلِهِ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى}. وَالصَّلَاةُ قَدْ تُسَمَّى تَسْبِيحًا، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ".
والسبحة هي السنة، وهي الصلاة، ففي ارتباط بين التسبيح وبين الصلاة الشرعية، وأولى التقديرات هو الأول، {كلٌّ} تنوين عوض عن مضاف إليه، تقديره: كل أحدٍ قد علم الله -جل وعلا- صلاته وتسبيحه، وامتثاله لأمره، وعدم امتثاله.
"{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تَقَدَّمَ في غير موضع قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا} ذَكَرَ مِنْ حُجَجِهِ شَيْئًا آخَرَ، أَيْ أَلَمْ تَرَ بِعَيْنَيْ قَلْبِكَ. {يُزْجِي سَحابًا} أَيْ يَسُوقُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ. وَالرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ، وَالْبَقَرَةُ تُزْجِي وَلَدَهَا أَيْ تَسُوقُهُ. وَمِنْهُ زَجَا الْخَرَاجُ يَزْجُو زَجَاءً {مَمْدُودًا} إِذَا تَيَسَّرَتْ جِبَايَتُهُ".
الرؤية هذه أولها المؤلف -رحمه الله- على أنها قلبية، وليست بصرية؛ لأن هذا الفعل غير مرئي؛ لأن هذا الفعل حقيقته غير مرئي، فلا بد من أن تكون الرؤية قلبية، ولا مانع أن تكون علمية بمعنى: ألم تعلم؛ لأنه بلغك من النصوص ما يجعل علمك بهذه المسألة كالرؤية.
طالب: يقول المفسر: "وكرر تأكيدًا، كقوله: {يعلم السر والنجوى} قال في الحاشية: لا يوجد في القرآن آية هكذا، والذي في سورة التوبة: {يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [{78} سورة التوبة]، وفي طه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} .
وهذا لا شك أنه غلطة، على كل حال الأمثلة كثيرة في عطف الشيء على نفسه إذا اختلف المعنى، ما يلزم أن يكون هذه الآية على وجه الخصوص.
" وَقَالَ النَّابِغَةُ:
إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ... تُزْجِي الشِّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أَيْ يَجْمَعُهُ عِنْدَ انْتِشَائِهِ، لِيَقْوَى وَيَتَّصِلَ وَيَكْثُفَ. وَالْأَصْلُ فِي التَّأْلِيفِ الْهَمْزُ، تَقُولُ: تَأَلَّفَ. وقرئ: " يؤلف" بِالْوَاوِ تَخْفِيفًا."
السحاب قد يكون متقطعًا في أماكن، ثم بعد ذلك يؤلف بينه، يجمع بينه؛ ليكون أقوى.
"وَالسَّحَابُ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ معناه جمع، ولهذا قال:" يُنْشِئُ السَّحابَ" [الرعد: 12]. وبَيْنَ لَا يَقَعُ إِلَّا لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَكَيْفَ جَازَ بَيْنَهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ" بَيْنَهُ" هُنَا لِجَمَاعَةِ السَّحَابِ، كَمَا تَقُولُ: الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ، وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ عَلَى اللَّفْظِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ. وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّحَابُ وَاحِدًا، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ بَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِطَعٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قَالَ:
بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ".
التجويز الأخير يرجع مفاده إلى الأول، ما دام متفرقًا فيمكن أن تدخل بين أجزائه {بين}، ما تستطيع أن تقول: {زيد جلست بينه} لكن تقول: {جلست بين يديه} لأنه أكثر من جزء، أما بينه باعتباره شيئًا واحدًا لا يُجلس بينه، أما بين يديه فهذا ممكن؛ لأنهما اثنتان، والسحاب لو كان قطعة واحدة ما تستطيع أن تجلس بينه، لكن قطع متعددة تجلس بينها.
"فَأُوقِعَ بَيْنَ" عَلَى الدَّخُولِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَوَاضِعَ، وَكَمَا تَقُولُ: مَا زِلْتُ أَدُورُ بَيْنَ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْكُوفَةَ أماكن كثيرة، قاله الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ."
يعني بين أحيائها، وأحياؤها متعددة.
"وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يُرْوَى: بَيْنَ الدَّخُولِ وَحَوْمَلِ."
"{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا} أَيْ مُجْتَمِعًا، يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]. وَالرَّكْمُ جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا إِذَا جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ، وَالرُّكْمَةُ الطِّينُ الْمَجْمُوعُ، وَالرُّكَامُ: الرَّمَلُ الْمُتَرَاكِمُ، وَكَذَلِكَ السَّحَابُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَمُرْتَكَمُ الطَّرِيقِ -بِفَتْحِ الْكَافِ- جَادَّتُهُ. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} فِي" الْوَدْقَ" قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْبَرْقُ، قَالَهُ أَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَثَرْنَا عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ منها ... خروج الودق من خلل السحاب
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَطَرُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَمِنْهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَمْعُهُمَا وَدْقٌ وَسَحٌّ وَدِيمَةٌ ... وَسَكْبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ
يُقَالُ: وَدَقَتِ السَّحَابَةُ فَهِيَ وَادِقَةٌ. وَوَدَقَ الْمَطَرُ يَدِقُ وَدْقًا، أَيْ قَطَرَ. وَوَدَقْتُ إِلَيْهِ دَنَوْتُ مِنْهُ. وَفِي الْمَثَلِ: وَدَقَ الْعَيْرُ إِلَى الْمَاءِ، أَيْ دَنَا مِنْهُ. يُضْرَبُ لِمَنْ خَضَعَ لِلشَّيْءِ لِحِرْصِهِ عَلَيْهِ. والموضع مودق. وودقت به وَدْقًا اسْتَأْنَسْتُ بِهِ. وَيُقَالُ لِذَاتِ الْحَافِرِ إِذَا أَرَادَتِ الْفَحْلَ: وَدَقَتْ تَدِقُ وَدْقًا، وَأَوْدَقَتْ وَاسْتَوْدَقَتْ. وَأَتَانٌ وَدُوقٌ وَفَرَسٌ وَدُوقٌ، وَوَدِيقٌ أَيْضًا، وَبِهَا وِدَاقٌ".
الأتان عند العامة إذا أرادت الفحل هنا يقال: ودقت الأتان يعني كالفرس، يعني: أرادت الفحل الضراب، فعند العامة ماذا يسمونه؟ يا أبا عبد الله؟! الأتان إذا أرادت الفحل؟ لا تدري أيضًا، ما يقبل منك هذا هو ما فيه غيرك؟
طالب: صارف.
لا الصارف العنز أو الشاة، هذا في الغنم يقال: صارف، وفي البقر: معطي، وفي الإبل يقولون ماذا؟
طالب: معشر.
لا ما هي معشر، مجسر، مجسر، وفي الأتان؟
هنا جعلها من ذوات الحافر فهي كذلك، فحكمها حكم الفرس، لكن الاستعمال غير هذا، يعني وإن كان الاستعمال أحيانًا يكون خطأً، هم يقولون: طالب.
"وَالْوَدِيقَةُ: شِدَّةُ الْحَرِّ. وَخِلَال جَمْعُ خَلَلٍ، مِثْلُ الْجَبَلِ وَالْجِبَالِ، وَهِيَ فُرَجُهُ وَمَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقْرَةِ" أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، لَوْلَا السَّحَابُ حِينَ يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ."
لقوته، فإذا وجد شيئًا يرده يقلل من قوته، هذا على كلامه، وهذا شأن الذي ينزل من مكان بعيد مرتفع جدًّا لا شك أن وقعه على الأرض أشد مما لو نزل من مسافةٍ أقل.
"وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ والضحاك وأبو العالية:" مِنْ خِلالِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَتَقُولُ: كُنْتُ فِي خِلَالِ الْقَوْمِ، أَيْ وَسَطهُمْ."
"{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ} قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ، فَهُوَ يُنْزِلُ مِنْهَا بَرَدًا، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ يُنْزِلُ مِنْ جِبَالِ الْبَرَدِ بَرَدًا، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ: مِنْ جِبَالٍ بَرَدٍ، فَالْجِبَالُ عِنْدَهُ هِيَ الْبَرَدُ. وَ" بَرَدٍ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْمَعْنَى: مِنْ جِبَالٍ بَرَدٍ فِيهَا، بِتَنْوِينِ جِبَالٍ."
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ. وَ" مِنْ" صلة، وقيل: الْمَعْنَى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرَ جِبَالٍ، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ، فَـ" مِنْ" الْأُولَى لِلْغَايَةِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّ الْبَرَدَ بَعْضُ الْجِبَالِ، وَالثَّالِثَةُ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الْجِبَالِ مِنَ الْبَرَدِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ" مِنْ" فِي الْجِبَالِ وَ" بَرَدٍ" زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ} فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعم."
أما نزول الثلوج في هذه السنة بعضه أعظم من الجبال، كما يشاهد أعظم من الجبال، ومن الغرائب أنه في خبر من الأخبار، قالوا: إن شخصًا من الأردن استطاع أن يستخرج من جوف الأرض غازًا يدفئ به الكرة الأرضية، والخبر الذي يليه: وقد بلغت الثلوج في كذا، بلدٍ مجاور أربعة أمتار، هذا استطاع أن يخرج غازًا يدفئ الكرة الأرضية، والثلج بقربه، يعني أحيانًا تكون الدعوة مقرونة بما يكذبها، يستخرج غازًا من الأرض يدفئ به الكرة الأرضية، يعني لو يدفئ بيته كفى، والله المستعان.
ويجد من يصدق مثل هذا، تجد الآن الشمس يقولون: أكبر من الأرض بستة وأربعين مليار مرة، ويتناقله الإخوان وطلاب العلم في دروسهم ومحاضراتهم مثل المصدقين، طيب لو زاد مليارًا أو نقص، فمن الذي يصدق ومن الذي يكذب؟ هذه عظمة الرب -جل وعلا- ثبتت فيما جاء عنده فيما لا يعلم إلا من قبله، أما ما يقال لنا من قبل أي شخص مسلم أو كافر ملحد أو زنديق نأخذه بالتسليم هذا ليس بصحيح، وتفسير الجواهر مشحون من هذه الأرقام، وهذه الأصفار، كلها مأخوذة من كلام الأعداء؛ ليقرروا في يوم من الأيام أن الأرض أكبر من كذا أو أصغر من كذا، ثم يخلونا تبعًا لهم، يتحدثون في مسلماتنا ثم نصدقهم بعد ذلك؛ لأننا صدقناهم في غيرها، ثم كذبوا أنفسهم فتبعناهم، فما صار لنا رأي ولا استقلال ولا نظر، وإنما إمعات، إذا قالوا قلنا، وإذا نفوا نفينا.
"{فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ} فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة "وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" وَ"الرَّعْدِ" أَنَّ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثَلَاثًا عُوفِيَ مِمَّا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الرَّعْدِ. {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ} أَيْ ضَوْءُ ذَلِكَ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ".
أحال على المرفوع والظاهر أنه ضعيف! إنما هو عن الزبير؛ لأنه تقدم! تقدم في الرعد.
مضى في البقرة.
طالب: مكتوب حديث ملفق من حديثين.
نعم، أما قول: سبحان من يسبح الرعد بحمده فمن قول الزبير ما هو مرفوع، وعوفي؟ كذا؟
طالب: قال: فقد أخرج الطبري من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد قال: «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده»، وقيل: فيه راوٍ لم يسم.
معروف، مرفوع ضعيف، والثاني؟
ألم يقل: ملفق من حديثين؟
طالب: الحديث الثاني من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس يقول: هذا مجهول.
"{يَكادُ سَنا بَرْقِهِ} أَيْ ضَوْءُ ذَلِكَ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ {يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ وَضَوْئِهِ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس:
يضيء سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ ... أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ
فَالسَّنَا {مَقْصُورٌ} ضَوْءُ الْبَرْقِ. وَالسَّنَا أَيْضًا نَبْتٌ يُتَدَاوَى بِهِ. وَالسَّنَاءُ مِنَ الرِّفْعَةِ مَمْدُودٌ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: " سَنَاءُ" بِالْمَدِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ مِنْ شِدَّةِ الضَّوْءِ وَالصَّفَاءِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرَفِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: السَّنَا {مَقْصُورٌ} وَهُوَ اللَّمْعُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الشَّرَفِ والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الالماع. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: " سَنَاءُ بُرَقِهِ" قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَهُوَ جَمْعُ بُرْقَةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْبُرْقَةُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ، وَالْبَرْقَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: "يُذْهِبُ بِالْأَبْصَارِ" بضم الياء وكسر الهاء، من الإذهاب، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي" بِالْأَبْصارِ" صِلَةً زَائِدَةً ".
لأن الفعل يتعدى بدونها إذا دخلت عليه الهمزة، يُذهب أصلها: أذهب يُذهب؛ فإذا دخلت الهمزة على الفعل اللازم تعدى بنفسه، أما: ذهب الثلاثي فهذا لازم.
"الْبَاقُونَ" يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. وَالْبَرْقُ دَلِيلٌ عَلَى تَكَاثُفِ السَّحَابِ، وَبَشِيرٌ بِقُوَّةِ الْمَطَرِ، وَمُحَذِّرٌ مِنْ نُزُولِ الصَّوَاعِقِ. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} قِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا نَقْصُهُمَا وَزِيَادَتُهُمَا وَقِيلَ: هُوَ تَغْيِيرُ النَّهَارِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَكَذَا اللَّيْلُ مَرَّةً بِظُلْمَةِ السَّحَابِ وَمَرَّةً بِضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِمَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أَيْ فِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقَلُّبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَحْوَالِ الْمَطَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ".
هذه الأقوال في تقليب الليل والنهار، الأول: يقول: قيل تقليبها أن يأتي بأحدهما بعد الآخر؛ لأن الذي يقلَّب هل هو شيء واحد أو أكثر من شيء؟ إذا كان شيء واحد معناه أن الله -جل وعلا-يقلب الوقت، فيجعله أحيانًا نهارًا، ويجعله أحيانًا ليلًا استقام القول الأول، وأما إذا نظرنا إلى كل واحد بمفرده فكيف يكون تقليبه؟ تقليب الليل بمفرده، وتقليب النهار بمفرده؟ إذا قلنا: تقليب الوقت انتهى الإشكال، يأتي بالليل بعد النهار، والنهار بعد الليل هذا تقليب، أما إذا قلنا: إنه يقلب النهار على حده، ويقلب الليل على حده، فالتقليب إنما يكون بسبب أحيانًا الطول والقصر أو بالحر والبرد، بالظلمة شدتها وخفتها، المقصود أنه يتنزل كلامه الأول على أن المراد به تقليب الشيء الواحد وهو الوقت، وتقليبه يكون: ليل ثم بعده نهار، ثم بعده ليل ثم نهار وهكذا، وهذا تقليب؛ لأن التقليب التغيير، وإذا نظرنا إلى كل واحدٍ على حده فلا بد أن ننظر إلى أوصاف الليل على حده وأوصاف النهار على حده.
طالب: في قوله: {ألم تر} من قال في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا»: لا بد من الرؤية، ما يرد عليه بمثل هذه الآية يا شيخ؟
الرؤية عند أهل العلم تكون بصرية، وتكون علمية، وتكون قلبية، والرؤية إذا بلغك الخبر ممن تثق به فكأنك شاهدته، إذا بلغك الخبر بواسطة من تثق به فكأنه مشاهد، كما في قول الله -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [{1} سورة الفيل] ما رأى الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه ولد في تلك السنة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [{6} سورة الفجر]؟ هو رأى؟ لكن بلغه الخبر بطريقٍ قطعي فكأنه مشاهد، فالخبر المصحح أو المقطوع به بمنزلة المشاهد.
"{لَعِبْرَةً} أَي اعْتِبَارًا {لِأُولِي الْأَبْصارِ} أي لأهل البصائر من خلقي."
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ} قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ" بِالْإِضَافَةِ. الْبَاقُونَ: " خَلَقَ" عَلَى الْفِعْلِ. قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ صَحِيحَانِ. أَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِخَبَرَيْنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَصَحُّ مِنَ الْأُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" خَلَقَ" لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ خَالِقُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {الْخالِقُ الْبارِئُ} [الحشر: 24]. وَفِي الْخُصُوصِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} [الانعام: 1]، وَكَذَا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} [الأعراف: 189]."
الفرق بين خلق وخالق أن الفعل يدل على التجدد، بينما الاسم يدل على الثبوت والدوام، فلكل واحدٍ منهما معنى.
"فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ:" وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ". وَالدَّابَّةُ كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ، وَالْهَاءُ للمبالغة وقد تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ". {مِنْ ماءٍ} لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ؛ لِأَنَّا لَمْ نُشَاهِدْهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَاءٍ، بَلْ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَالْجِنَّ خلقوا مِنْ نَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ."
فعلى هذا يخرجون من هذا العموم، وإن دبوا على الأرض أحيانًا فهم يخرجون من هذا العموم؛ لأنهم لم يخلقوا من ماء.
"وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: "مِنْ ماءٍ" أَيْ مِنْ نُطْفَةٍ. قَالَ النَّقَّاشُ: أَرَادَ أَمْنِيَةَ الذُّكُورِ. وَقَالَ جُمْهُورُ النَّظَرَةِ".
يعني النظار، النظرة النظار، الطبري كثيرًا ما يقول، بل لا يقول إلا القراءة، ويريد بهم القراء، والصحيح بذلك عندنا كذا؛ لإجماع القراءة على كذا، ويريد بهم القراء، وهنا: النظرة يراد بهم النظار.
"أَرَادَ أَنَّ خِلْقَةَ كُلِّ حَيَوَانٍ فِيهَا مَاءٌ كَمَا خُلِقَ آدَمُ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلشَّيْخِ الَّذِي سَأَلَهُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {نَحْنُ مِنْ مَاءٍ}. الْحَدِيثَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُسْتَثْنَى الْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، بَلْ كُلُّ حَيَوَانٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ، وَخُلِقَ النَّارُ مِنَ الْمَاءِ، وَخُلِقَ الرِّيحُ مِنَ الْمَاءِ؛ إِذْ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَالَمِ الْمَاءُ، ثُمَّ خَلَقَ منه كل شيء.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ} الْمَشْيُ عَلَى الْبَطْنِ لِلْحَيَّاتِ وَالْحُوتِ، وَنَحْوِهِ. مِنَ الدُّودِ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى الرِّجْلَيْنِ لِلْإِنْسَانِ وَالطَّيْرِ إِذَا مَشَى. وَالْأَرْبَعُ لِسَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ" وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ"، فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ كَالسَّرَطَانِ وَالْخِشَاش."
لكن هل يوجد له أربع ويمشي على اثنتين، له أربع ومشيه على اثنتين؟
طالب: الكنغر.
الكنغر، لكن أنا ما وجدته في حياة الحيوان، ما وجدت اسمه هذا في حياة الحيوان، ما وجدته بهذا الاسم، هو له اسم ثانٍ؟ هو معروف الحيوان هذا له يدان قصيرتان ويمشي على رجلين.
طالب: ..........
الشيخ: ما اسمه؟
طالب: ...........
قفزه على الأربع، لكن هذا على رجلين فقط، من العجائب، لكن أحد يعرف اسمه؟ لأني ما وجدته في حياة الحيوان بهذا الاسم؟
طالب: ما أعرف، ذكره هو؟
لا ما ذكره، هو ذكر عن. . . . . . . . . أن طوله ستة أشبار، يعني إلى كم؟ إلى 150سم، يعني متر ونصف، الله المستعان، في بعض الحيوانات لا شك أنها تخفى علينا، والأسماء تختلف من بلدٍ إلى آخر.
طالب: .........
لا جعله مقياس الشبه، متردد بين الوزغ والضب.
طالب: .......
يعني شبهه، بين الوزغ والضب، من أجازه قال: هو مثل الضب، ومن منعه قال: مثل الوزغ.
"وَلَكِنَّهُ قُرْآنٌ لَمْ يُثْبِتْهُ إِجْمَاعٌ، لَكِنْ قَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّمَا اكْتَفَى فِي الْقَوْلِ بِذِكْرِ مَا يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ عَنْ ذِكْرِ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ إِنَّمَا اعْتِمَادُهُ عَلَى أَرْبَعٍ، وَهِيَ قِوَامُ مَشْيِهِ، وَكَثْرَةُ الْأَرْجُلِ فِي بَعْضِهِ زِيَادَةٌ فِي خِلْقَتِهِ، لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ فِي مَشْيِهِ إِلَى جَمِيعِهَا."
لأنه يستقيم على أربع سواء كان في وقوفه أو في مشيه، لكن إذا كان طويلًا وهذه الأربع قصيرة لا شك أنه يحتاج إلى شيءٍ يدعم هذه الأربع، تشاهدون السيارات غالبها على أربع كفرات، لكن بعضها لطولها تحتاج إلى داعم، يعني الزواحف هذه أم سبع وسبعين، وأم أربع وأربعين لها أرجل كثيرة، لكن لو كانت أربعًا فقط؟ تحتاج إلى ما يدعمها، فيكون هذا هو الغالب، وهذا شيء نادر.
"قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْجُلَ الْكَثِيرَةَ لَيْسَتْ بَاطِلًا، بَلْ هِيَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي تَنَقُّلِ الْحَيَوَانِ، وَهِيَ كُلُّهَا تَتَحَرَّكُ فِي تَصَرُّفِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ؛ إِذْ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ مِنْهَا مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، كَمَا وَقَعَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَ" دَابَّةٍ" تَشْمَلُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، فَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا اجْتَمَعَ مَعَ مَنْ لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ وَالْمُتَعَبِّدُ، وَلِذَلِكَ قَالَ" فَمِنْهُمْ". وَقَالَ:" مَنْ يَمْشِي" فَأَشَارَ بِالِاخْتِلَافِ إِلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ، أَيْ لَوْلَا أَنَّ لِلْجَمِيعِ صَانِعًا مُخْتَارًا لَمَا اخْتَلَفُوا، بَلْ كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ}. [الرعد: 4]. {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ} مِمَّا يُرِيدُ خَلْقَهُ {قَدِيرٌ}."
التقييد هذا لا قيمة له.
طالب: مما يريد خلقه؟
مما يريد خلقه، والقدرة مطلقة، لكن إذا كان المراد مجرد التصريح بما هو توضيح من غير إرادة للمفهوم فلا بأس، يعني جاء في حديث: <<آخر من يخرج من النار>> كما في صحيح مسلم <<فإني على ما أشاء قدير>> في صحيح مسلم، فإني على ما أشاء قدير، فهذه اللفظة فلا مفهوم لها؛ لأننا إذا قلنا إنه لا يقدر على الشيء الذي لا يريده أو لا يشاءه هذا مفهومها، أن الذي لا يشاءه ولا يريده لا يقدر عليه، هذا المعنى باطل، والقيد لا مفهوم له.
طالب: الآية: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [(29) سورة الشورى].
{إذا} ممكن تأويلها بمتي، متى شاء.
"{لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ موضع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ وَلَا إِخْلَاصٍ. {وَأَطَعْنا} أَيْ وَيَقُولُونَ، وَكَذَّبُوا. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}."
ولو قيل: إن الذي يقولون آمنا بالله وبالرسول الجميع –المؤمنون والمنافقون– ثم يثبت الله الذين آمنوا وأولئك يتولى فريق منهم.
" قوله تعالى: {إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[(29) سورة النور].
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ اسْمُهُ بِشْرٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ الْمُنَافِقُ مُبْطِلًا، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا، فَلْنُحَكِّمْ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ.
لعلمه أنه يأخذ الرشوة، فإذا أعطاه الرشوة حكم له، والنبي-عليه الصلاة والسلام- يحكم بالحق، وهو مبطل.
"قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُغِيرَةِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خُصُومَةٌ فِي مَاءٍ وَأَرْضٍ فَامْتَنَعَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُحَاكِمَ عَلِيًّا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: إِنَّهُ يُبْغِضُنِي، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ:" لِيَحْكُمَ" وَلَمْ يَقُلْ لِيَحْكُمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ إِعْظَامًا لِلَّهِ وَاسْتِفْتَاحَ كَلَامٍ."
وحكمه- عليه الصلاة والسلام-هو حكم الله، «إنما أقضي بينكم بكتاب الله» فصحّ الإفراد، {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [{62} سورة التوبة] يصح الإفراد؛ لأن حكم الله حكم الرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أَيْ طَائِعِينَ مُنْقَادِينَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَحْكُمُ بِالْحَقِّ. يُقَالُ: أَذْعَنَ فُلَانٌ لِحُكْمِ فُلَانٍ يُذْعِنُ إذعانًا. وقال النقاش:" مُذْعِنِينَ" خاضعين، ومجاهد: مُسْرِعِينَ. الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مُقِرِّينَ. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شَكٌّ وَرَيْبٌ. {أَمِ ارْتابُوا} أَمْ حَدَثَ لَهُمْ شَكٌّ فِي نُبُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ.
{أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أَيْ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ وَالظُّلْمِ، وَأُتِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي التَّوْبِيخِ وَأَبْلَغُ في الذم، كقوله جَرِيرٍ فِي الْمَدْحِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
{بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أَيِ الْمُعَانِدُونَ الْكَافِرُونَ، لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ: الْقَضَاءُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْلِمِ وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إِلَيْهِمَا. فَإِنْ جَاءَا قَاضِيَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْمَائِدَةِ".
الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ بِأَقْبَحِ الذَّمِّ فَقَالَ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الحاكم أن يحيب، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ، أَوْ عَدَاوَةً بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَسْنَدَ الزَّهْرَاوِيُّ عن الحسن بن أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ دَعَاهُ خَصْمُهُ إِلَى الحاكم مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ وَلَا حَقَّ لَهُ». ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا. قَالَ ابن العربي: هذا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: «فَهُوَ ظَالِمٌ» فَكَلَامٌ صَحِيحٌ."
يعني صحيح المعنى، وإن لم يصح نسبة، معناه صحيح ظالم.
طالب: رفع دعوى إلى حقوق الإنسان؟
إذا كان القاضي فيها غير مسلم، المرفوع إليه غير مسلم فهو من التحاكم إلى الطاغوت، وإن كان القاضي فيها مسلم، ويطلب الحق منه، وهو أهل للقضاء والفصل بين الناس فلا مانع إذا كان يحكم بشرع الله.
طالب: لها الأنظمة يا شيخ؟
على كل حال، الله المستعان، الخلل موجود، الله يرضى عنا.
طالب: المعاهد هو الذمي؟
الذمي هو الذي يدفع الجزية، والمعاهد هو الذي يدخل بالعهد والإيمان والميثاق يبرمه مع ولي الأمر، هذا معاهد، وأما الذمي فهو الذي يدفع الجزية من يهوديٍ أو نصراني.
"قَوْلُهُ «فَلَا حَقَّ لَهُ» فَلَا يَصِحُّ".
لأن مثل هذا لا يبطل الحق، مثل هذا لا يبطل الحق.
ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، فلا يتكلف اعتباره.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ بِطَاعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَ، أَيْ هَذَا قَوْلُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ لَوْ كانوا مؤمنين لكانوا يَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. فَالْقَوْلُ نُصِبَ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَاسْمُهَا فِي قَوْلِهِ:" أَنْ يَقُولُوا" نَحْوَ: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} [آل عمران: 147]. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]."
يعني كان هذه إنما قول المؤمنين هذا الأصل و{كان} صلة، وأنه لا يلزم قولهم في الماضي دون الحاضر والمستقبل، وإنما قولهم في كل وقت وفي كل زمان وفي كل مكان، والشاهد يدل عليه في أوقاتٍ متأخرة يوجد من يقول هذا، وهذا كثير قبل انفتاح الدنيا، حتى وجد منذ عهدٍ قريب من يطلبه خصمه إلى القضاء، فيقولون له: أنت تعرف القضية اعرضها على القاضي، والذي يقوله هو الحق، وينتهي الإشكال ما يحتاج نحضر كلنا، وبالفعل يذهب الخصم إلى القاضي، ويعرض عليه القضية، فيقول القاضي: الحق لصاحبك، ويذهب يخبره بما حصل، وأما الآن فيجلبون المسائل بكل ما أوتوا من قوة وحيل ومحامين وفجور في الخصومة، وكذب وحيل، كل هذا من أجل حطام الدنيا الذي تكالبوا عليه فأنساهم ذكر الله، وصار بعضهم يتردد، طبعًا أنا لا أريد المحكمة أنا أريد الحقوق، المسألة حقوقية ما نحتاج إلى محكمة، يترددون في هذا، فصار في كثير منهم من أوصاف المنافقين ما صار.
" وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ: " لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ" غَيْرُ مُسَمًّى الْفَاعِلُ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " إِنَّمَا كَانَ قول" بالرفع."
يعني ما كان الناس إلى عهد قريب يستسيغون كلمة: قانون، فضلًا عن أن تكون موجودة في بلادهم في غير المحاكمات، يعني مستشار قانوني في مؤسسة كذا، في مصلحة كذا، كان هذا الأمر عظيم جدًّا، يعني ما يطاق سماعه، فكيف يتحاكم المسلم إلى القانون، إلى ما وضعه البشر ويتركون حكم الله؟!
طالب: تعلمه يا شيخ في المدارس؟
تعلمه من أجل إبطاله لا بأس، أما تعلمه من أجل الحكم به فهذا محادة لله ورسوله.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمر به حكم. {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} قَرَأَ حَفْصٌ:" وَيَتَّقْهِ" بِإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى نِيَّةِ الْجَزْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَهُ... وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِي
وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ؛ لِأَنَّ جَزْمَهُ بِحَذْفِ آخِرِهِ. وَأَسْكَنَ الْهَاءَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ. وَاخْتَلَسَ الْكَسْرَةَ يَعْقُوبُ وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَالْبُسْتِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ. وَأَشْبَعَ كَسْرَةَ الْهَاءِ الْبَاقُونَ. {فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} ذَكَرَ أَسْلَمُ أَنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ دَهَاقِينِ الرُّومِ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ. قَالَ: هَلْ لِهَذَا سَبَبٌ! قَالَ: نَعَمْ! إِنِّي قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ وَالزَّبُورَ وَالْإِنْجِيلَ وَكَثِيرًا مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَمِعْتُ أَسِيرًا يَقْرَأُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ جَمَعَ فِيهَا كُلَّ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَأَسْلَمْتُ: قَالَ: مَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ" فِي الْفَرَائِضِ" وَرَسُولَهُ" فِي السُّنَنِ" وَيَخْشَ اللَّهَ" فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ" وَيَتَّقْهِ" فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ:" فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ" وَالْفَائِزُ مَنْ نَجَا مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُوتِيتُ جوامع الكلم»"
معزو؟
طالب: قال: هو أسلم العدوي مولى عمر، وهو ثقة، لكن الإسناد إليه لم أقف عليه، والظاهر أنه مصنوع، فهو خبر غريب عجيب، والمرفوع منه تقدم مرارًا، وهو صحيح.
غيره؟ نفس الكلام!؟
هذه القضايا وهذه الحوادث تحدث على مر العصور، كونه يأتي شخص يسلم بسبب أو بدون سبب، قد يذكر من الأسباب ما جعله يسلم، كاليهودي الذي نسخ التوراة والإنجيل والقرآن وحرف فيها، فقبلت منه التوراة والإنجيل وعمل بها ورد عليه القرآن، دل على أن الكتاب محفوظ، كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [{9} سورة الحجر] فأسلم بسبب ذلك.
ومنهم من يسلم بسبب التشريع الإسلامي وما فيه من حكمة ظاهرة، أمريكي أسلم -وهو غسال- فسئل عن السبب فقال: السبب في ذلك أن الثياب تختلف، ثياب المسلمين طاهرة ونظيفة وثياب غيرهم من النصارى واليهود والمشركين لا تطاق رائحتها؛ لأنهم لا يستنجون، وهندي أسلم فقيل له، قال: إن المسلمين إذا مات فيهم الميت حفروا له ودفنوه، نظفوه وستروه ودفنوه –وهو هندي– قال: إذا مات فينا الميت نحرقه، ولو كان من أعز الناس علينا، حصل له قصة، جاء بأمه على عادتهم ليحرقها فجمع لها حطبًا عظيمًا فأوقده عليها، فأكلت الكفن فقط، وبقيت الأم عارية بين الناس، ثم بعد ذلك لأنها توصي بهذا مذهبهم ودينهم، فجمع لها حطب مرة ثانية فأحرقها، ثم جاء ليعلن إسلامه، وعرف أن دينهم باطل.
والقصص في هذا كثيرة جدًّا ما يمكن أن يحاط بها وهي متجددة، تكاد تكون يومية، ولله الحمد، وهذا من عظمة هذا الدين وبقائه ناصعًا نقيًا إلى قيام الساعة.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ كَرَاهَتَهُمْ لِحُكْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَتَوْهُ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا لَخَرَجْنَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ لَجَاهَدْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيْ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَكَ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَيُطِيعُونَ."
يعني فيما سيأتي.
"{جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} أَيْ طَاقَةَ مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَقَدْ أَجْهَدَ فِي الْيَمِينِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" بَيَانُ هَذَا، وَجَهْدَ " مَنْصُوبٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: إِقْسَامًا بَلِيغًا، {قُلْ لَا تُقْسِمُوا} وَتَمَّ الْكَلَامُ، {طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ.
يعني لا تقسموا، قل لا تقسموا، إنما الكلام إذا لم يصدقه العمل فلا قيمة له، يعني هل وجد منكم طاعة معروفة؟ هم يقسمون، . . . . . . . . . دل عملكم على صدق قولكم، لا تقسموا الإنسان ليس بحاجة لا سيما الذي يصدق قوله عمله، أما الذي يدعي الدعاوى فهو الذي يحتاج إلى الأيمان ليصدق، أما إذا كانت أعماله موافقةً لأقواله، فما يحتاج إلى أن يقسم، الناس كلهم يصدقونه.
"وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى قَدْ عَرَفْتُ طَاعَتَكُمْ وَهِيَ الْكَذِبُ وَالتَّكْذِيبُ، أَيِ الْمَعْرُوفُ مِنْكُمُ الْكَذِبُ دُونَ الْإِخْلَاصِ. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بِإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَيْ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ" وَعَلَيْكُمْ" وَلَمْ يَقُلْ: وَعَلَيْهِمْ. {فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أَيْ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}".
ولو قال: {وعليهم} لقلنا: {فإن تولوا} ماضٍ، وليس بمضارع ولا نحتاج إلى تقدير تاء، لكن لما قال: {وعليكم} ما قال: {وعليهم} عرفنا أنه مضارع وليس بماضٍ.
"{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} جَعَلَ الِاهْتِدَاءَ مَقْرُونًا بِطَاعَتِهِ. {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} أي التبليغ {الْمُبِينُ}."
وهذه الجملة الشرطية شاهدها الواقع، أن كل مطيع يهديه الله -جل وعلا- إلى الحق والصواب، كل مطيع يعان على الهداية في أقواله وفي أفعاله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [{69} سورة العنكبوت].
"{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} [سورة النور: 55].
نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-شَكَا جَهْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتَهُمْ، فَنَزَلَتِ الآية. وقال أبو العالية: مكث رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ عشر سنين بعد ما أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ». وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
ليس عليه حديدة – يعني من آلات السلاح-، الحديث مخرج؟
طالب: قال: مرسل ذكره الواحدي عن الربيع عن أبي العالية من دون إسناد، وهو مرسل.....
المقصود أنه وقع ما جاء في الخبر، وأمن الناس على أديانهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، وعلى مرّ العصور ينتابهم الأمن -وهو الغالب-، ثم ينتابهم الخوف؛ لمخالفتهم أوامر الله وشرعه، ينتابهم شيء من الخوف، ويبتلون به حتى يرجعوا إلى دينهم، والله المستعان.
"وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَوَضَعُوا السِّلَاحَ وَأَمِنُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِأَنَّ الله -عز وجل- أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ. قَالَ الضَّحَّاكُ فِي كِتَابِ النقاش: هذه الآية تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ». وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَاخْتَارَهُ.
وخلافة الأربعة مدتها ثلاثون سنة.
"وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتَهُمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ نَجَزَ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ، فَفِيمَنْ يَكُونُ إِذًا؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ. -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. وحكى هذا القول القشيري عن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا». قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرًا، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتًّا. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».
"وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا فِي اسْتِخْلَافِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ هُوَ أَنْ يُمَلِّكَهُمُ الْبِلَادَ وَيَجْعَلَهُمْ أَهْلَهَا، كَالَّذِي جَرَى فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قُلْنَا لَهُمْ هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالِهِ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ لِلْخِلَافَةِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إِلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِرَاضًا وَانْفِصَالًا مَعْنَاهُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ، فَأَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَقُتِلَا غِيلَةً، وَعَلِيٌّ قَدْ نُوزِعَ فِي الْخِلَافَةِ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَوْتِ بِأَيِ وَجْهٍ كَانَ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ، إِنَّمَا شَرْطُهُ مُلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَا كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بِمَكَّةَ".
يعني بمعنى أن تكون الدولة للمسلمين، وإن وجد فيها بعض ما ينكد ويخالف هذا الأمن من وجه لأسبابه التي رتّب عليها؛ لأن النصر مشروط {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [{7} سورة محمد] والأمن مشروط {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [{55} سورة النور]، فإذا وجد الشرك في بلد اختل هذا الأمن بقدر وجوده، وإذا ضعف التوحيد في بلد ضعف الأمن بقدر ضعفه، فلا بد من تحقق الشرط ليترتب عليه المشروط.
ومعروف أنه في زمن علي -رضي الله تعالى عنه- وجد شيء من الغلو به، ووجد من طوائف الغلاة الذي غلوا به وألهوه من دون الله، فلا بد أن يختل الأمن بسبب هذا، لا بد من أن يختل الأمن بسبب مثل هذا {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، فمتى حقق التوحيد، وانتفى الشرك حصل الأمن، وإذا اختل شيء من هذا اختل الأمن بقدره {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [{82} سورة الأنعام]، والمراد بذلك الشرك. نسأل الله العافية.
طالب: خلافة الحسن؟
ستة أشهر؟ تكمل الثلاثين.
طالب: الأمن هنا المراد به الأمن على النفس أم العرض أم الدين أم ماذا؟
الأمن من جميع وجوهه، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ} لم يخلطوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن يعني التام، من كل وجه.
"ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أنهم كانوا مقهورين فصاروا فاهرين، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَصَارُوا طَالِبِينَ، فَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ".
قُلْتُ: هَذِهِ الْحَالُ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- حَتَّى يُخَصُّوا بِهَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ، بَلْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ بَلْ وَغَيْرُهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى إِغْزَاءِ قُرَيْشٍ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا وَخَاصَّةً الْخَنْدَقَ، حَتَّى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِهِمْ فقال: {إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا"} [الأحزاب: 11 -10]. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَدَّ الْكَافِرِينَ لَمْ يَنَالُوا خيرًا، وأمن الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ:" {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}" يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْجَبَابِرَةَ بِمِصْرَ، وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فَقَالَ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا} [الأعراف: 137]. وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ مُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَّنَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ، فَصَحَّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ؛ إِذِ التَّخْصِيصُ لَا يَكُونُ إلا بخبر ممن يجب له التَّسْلِيمُ، وَمِنَ الْأَصْلِ الْمَعْلُومِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ."
يعني حتى يرد المخصص تمسك بالعموم حتى يرد المخصص.
"وَجَاءَ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ خَوْفِهِمْ بِالْأَمْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَالَ أَصْحَابُهُ: أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ»".
تقدم قريبًا.
"وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَالْآيَةُ مُعْجِزَةُ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَكُونُ فَكَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي أَرْضَ مَكَّةَ".
يعني المعهودة، الأرض المعهودة.
"لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فَوُعِدُوا كَمَا وُعِدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، قَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاشُ. الثَّانِي: بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا». وَاللَّامُ فِي" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ" جَوَابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ؛ لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ، مَجَازُهَا: قَالَ اللَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَاللَّهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَجْعَلَهُمْ مُلُوكُهَا وَسُكَّانَهَا. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَهْلَكَ الْجَبَابِرَةَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:" كَمَا اسْتَخْلَفَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ؛ لِقَوْلِهِ:" وَعَدَ". وَقَوْلِهِ:" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ". وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ:" استخلف" بضم التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُول.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا" [المائدة: 3] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرَوَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ المقداد ابن الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، أَمَّا بِعِزِّهِمْ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا بِذُلِّهِمْ فَيَدِينُونَ بِهَا» ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا."
مخرج؟
طالب: قال: صحيح أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث المقداد، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، والصواب أنه على شرط مسلم، وفي الباب من حديث تميم الداري-رضي الله عنه- لأحمد والحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي، وهو كما قال، وصححه الألباني وصححه محققي الرسالة.
من هم؟
طالب: محققو الرسالة.
طالب: .........
ما فيه شك الأمن وإن أمِن أمْن البهائم وسلمت نفسه وروحه وماله وعرضه، لكن أين الأمن التام المطلق الذي يتدين الإنسان كما يشاء، ويقول ما يشاء، إذا كان مرضيًا لله -جل وعلا-، فعلى كل حال كل شيءٍ بقدره.
"{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ أَبْدَلَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ بَدَّلَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا في القرآن، قال الله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. وقال: {وَإِذا بَدَّلْنا} آيَةً" [النحل: 101] وَنَحْوَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: قَرَأَ عَاصِمٌ والأعمش:" وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ" مشددة، وهذا غلط عن عَاصِمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ غَلَطًا أَشَدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ سَائِرِ النَّاسِ التَّخْفِيفَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَنَّ بَيْنَ التَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ فَرْقًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ: بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ، وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُهُ وَجَعَلْتُ غَيْرَهُ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ، كَمَا تَقُولُ: أَبْدِلْ لِي هَذَا الدِّرْهَمَ، أَيْ أَزِلْهُ وَأَعْطِنِي غَيْرَهُ. وَتَقُولُ: قَدْ بَدَّلْتَ بَعْدَنَا، أَيْ غَيَّرْتَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" النِّسَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَذَكَرْنَا فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ" الدَّلِيلَ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ بَدَّلَ مَعْنَاهُ إِزَالَةُ العين، فتأمله هناك وقرئ:" {عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا}" [القلم: 32] مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا {يَعْبُدُونَنِي} هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
{لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أحدها: لا يعبدون إلهًا غيري، حكاه النقاش. الثاني: لا يراءون بعبادتي أحدًا. الثالث: لا يخافون غيري، قاله ابن عباس.
الرابع: لَا يُحِبُّونَ غَيْرِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ".
معناه أنهم لا يعبدون أحدًا غير الله -جل وعلا- لا عبادةً تامة، ولا يصرفون له شيئًا من حقوق الرب -جل وعلا-.
"{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} أَيْ بِهَذِهِ النِّعَمِ. وَالْمُرَادُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} الكافر بالله فاسق بعد هذا الانعام وقبله."
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [{56} سورة النور] تقدم فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدًا.
"قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَعْدٌ بِالنُّصْرَةِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: " تَحْسَبَنَّ" بِالتَّاءِ خِطَابًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ:" يَحْسَبَنَّ" بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ مُعْجِزِينَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحُسْبَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ مُحَمَّدٌ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ".
حتى على القراءة الأولى، لا تحسبن يا محمد الذين كفروا.
"فَ"الَّذِينَ" مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَ"مُعْجِزِينَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ {الَّذِينَ كَفَرُوا} فَاعِلٌ" أَنْفُسَهُمْ" مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَهُوَ مَحْذُوفٌ مُرَادٌ" مُعْجِزِينَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ لَحْنٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِيَحْسَبَنَّ. وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ ضَعِيفٌ، وَأَجَازَهُ عَلَى ضَعْفِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْذَفُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بن سُلَيْمَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: يَكُونُ" الَّذِينَ كَفَرُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قَالَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وأبو على، إلا أن الْفَاعِلَ هُنَاكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي هذا القول الكافر. و{مُعْجِزِينَ} مَعْنَاهُ فَائِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ولبئس المصير} أي المرجع.
"لا شك أن الخطاب في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ} للنبي -عليه الصلاة والسلام- وفي حكمه كل من يتأتى، ومن يمكن أن يوجه إليه هذا الخطاب، وكل أحدٍ لا يحسب أن الكافرين معجزين –نسأل الله العافية-.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد.
"