التعليق على تفسير القرطبي - سورة يوسف (11)
"والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذًا للحكم بين متراضيين، وتوسطًا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.
الثالثة: ودلت الآية أيضًا على جواز أن يخطب الإنسان عملًا يكون له أهلًا".
{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55]، إن كان الإنسان يأنس من نفسه النفع في هذا المجال، هل له أن يطلب هذا العمل مباشرة ممن يملك توليته أو يدخل في عموم حديث عبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة»؟
"فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة»".
ما هو متفق عليه؟
الحديث في الصحيحين.
طالب: ..........
في الصحيحين، لكن عموم المغاربة والأندلس لهم عناية بمسلم أكثر من عنايتهم بالبخاري، وهذا ظاهر في هذا الكتاب.
"«لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها».
وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يستاك، فقال: «ما تقول يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس-». قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني علمًا في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: «لن -أو لا- نستعمل على عملنا من أراده» وذكر الحديث، خرجه مسلم أيضًا وغيره، فالجواب:
أولًا: أن يوسف -عليه السلام- إنما طلب الولاية؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح، ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف -عليه السلام-، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب؛ لقوله -عليه السلام- لعبد الرحمن: «لا تسأل الإمارة»، وأيضًا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك".
نعمت، نعمت المرضعة، لكن بئست الفاطمة، يدخل الإنسان وعنده شيء من الثقة بنفسه ثم ما يلبس أن يتغير، والله المستعان.
"وهذا معنى قوله -عليه السلام-: «وكل إليها» ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: «أعين عليها».
الثاني: أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»، ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]".
يعني ذكر الوصف المؤثر، ذكر الوصف المؤثر في العمل، وإلا كريم ابن كريم، وجميل مليح، كل هذا غير مؤثر، الوصف المؤثر في هذا العمل قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فينظر في كل عمل، ومن يناسبه من الأشخاص.
"فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال.
الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله -تعالى-: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32].
الرابع: أنه رأى ذلك فرضًا متعينًا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم. الرابعة: ودلت الآية أيضًا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل".
يعني عند الحاجة، عند الحاجة، ويكون من الإخبار لا على سبيل الترفع، عند الحاجة إذا هُضم أو اتُّهم بشيء؛ كما اتُّهم ابن عمر بأنه عيي وعاجز، فقال: كيف يكون عييًا ما في جوفه كتاب الله، فيخبر عما في نفسه مما يدفع عنه التهمة، و{لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148].
"قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله".
اللهم صل على محمدٍ.