التعليق على تفسير القرطبي - سورة الكهف (05)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:
"قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:32-34].
هذا مثَل لمن يتعزّز بالدنيا، ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ{ [الكهف:28]، واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-. والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة "الصافات" في قوله: }قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين{[ص:357]، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما ماله في سبيل الله وطلب من أخيه شيئًا فقال ما قال، ذكره الثعلبي والقشيري.
وقيل: نزلت في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه، شبَّههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا، في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله - تعالى- في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخيِّر منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدًا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابًا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوّع، وبنى أيضًا مساجد، وفعل خيرًا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دوابّ وبقرًا فاستنتجها فنمت له نماءً مفرطًا، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى، وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جِنة".
في جَنة، يعني بستانًا.
"في جَنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته، رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحُجّاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين؟ فما صنعت بمالك؟ قال: اشتريت به من الله - تعالى- ما هو خير منه وأبقى. فقال: أئنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة، وما أراك إلا سفيهًا، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن المال".
الحال.
"وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني.
ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله -تعالى- في القرآن من الإحاطة بثمره، وذهابها أصلاً بما أرسل عليها من السماء من الحسبان.
وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب.
قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما، وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضًا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانًا قد اشترى أرضًا بألف دينار، وإني اشتريت منك أرضًا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانًا بنى دارًا بألف دينار، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانًا تزوج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار، وإني أشتري منك خدمًا ومتاعًا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه، فأتاه فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث؟ والله لا أعطيك شيئًا. ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنمًا. فقال صاحبه: والله لأعظنّه، فوعظه وذكَّره وخوَّفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على الحق، فقال له: يا أخي، إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابًا لمحسن أو عقابًا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقة سمكًا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء، فقال له: كيف ترى؟ أنا أكثر منك في الدنيا نصيبًا ومنزلة ونفرًا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقًّا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله - تعالى - جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا، وأراه منازل الكافر في جهنم، فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله - تعالى- توفَّى المؤمن، وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: }إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ{ .. الآية [الصافات:51،52]، فنادى منادٍ: يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم، فنزلت} وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا{ [الكهف:33]".
هذا المثل الذي ضربه الله –جل وعلا- من أعظم الأمثلة، وينطبق على صور كثيرة، وواقع في المتقدمين والمتأخرين أمثلة وشواهد له، إلى يومنا هذا وهو يقع، فهو مثل عام، يشمل كل من كانت هذه صفته، كل من كانت هذه صفته، وإن كان في الأصل مثلًا لرجلين، لكنه صالح لهما ولمن فعل فعلهما، والشركاء كثيرًا ما يحصل بينهم مثل هذه الأمور، تجد من أهل الخير والفضل من له شريك شحيح، له أخ شريك شحيح، فتجد هذا الخيِّر الفاضل يقصر في أمور الدنيا، يعني ليس طلبه للدنيا مثل طلب صاحبه، ومع ذلك هو ينفق ويبذل، فتثور ثائرة الأخ، يعني مع تقصيره في العمل ينفق، فيطلب فض الشركة، وهذه مسائل واقعة أكثر من مرة، فتنفض الشركة. لأناس معروفين، شخص من طلاب العلم له أخ عامي شريك، وطالب العلم هذا ينفق من هذا المال، ولا يعمل فيه بقدر عمل أخيه؛ لأنه غير متفرغ لأمور الدنيا، هذاك فرغ نفسه لأمور الدنيا، وصار يشتغل بالليل والنهار ويمسك، وهم شركاء، فيطلب الأخ العامّي الشريك الشحيح من أخيه أن تنفض الشركة، وقد حصل، فاقتسما المال، فطالب العلم ليس عنده من الوقت ما يصرِّف به هذه الأموال التي اقتسمها من أخيه، فجعلها عند أحد التجار مضاربة، على رأس الحول، من غير زيادة ولا نقصان، جاء الأخ الثاني إلى أخيه فقال له: يا أخي، أنا أموالي كلها ذهبت، ذهبت، ما رأيك أن نرد الشركة ونشتغل بالمال من جديد؟ حُسبت أموال الثاني فإذا هي أضعاف مضاعفة، وأموال الأخ الثاني ذهبت، ثم تبيَّن لهما أن نمو الأموال لما كانوا شركاء بسبب الرجل الصالح، به رُزق، ولذا لما انحلت الشركة ما الذي حصل؟ حصل أن تضاعفت أموال هذا الرجل الصالح، وذهبت أموال الآخر، فطلب منه أن يعيد الشركة، فأعاد الشركة، قال: عندك أو عند غيرك، يقول لأخيه، فرجعت التجارة من جديد.
وأخوان شريكان في الأموال وأموالهما في سنة من السنوات تمر، تمر كميات كبيرة جدًّا تكفي بلدًا، هما شركاء، سافر أحدهما، وأصابت الناس حاجة ومجاعة، فجاء الأخ هذا ووزَّع جميع التمر على المحتاجين، فلما جاء الأخ تصوَّر أنه مستغل هذا الظرف وحاجة الناس، وهذا التمر جاء من القيمة بأضعاف مضاعفة، فقال: أين البضاعة؟ قال: بعناها، قال: عسى جاءت بأرباح؟ قال: الحمد لله ال10% على كلام العوام، 10%، الحسنة بعشر أمثالها، ثم بيَّن له أنه أقرضها الله -جل وعلا-، وإن كنت تريد قيمة نصيبك فهو جاهز، هذه الفلوس موجودة، فطابت نفسه بذلك وقال: لست بأحق مني بالأجر. لأناس معروفين، وقصص يتحدث بها الناس إلى اليوم هذا، لا القصة الأولى ولا القصة الثانية، ولها نظائر.
فعلى الإنسان أن يكون همه الآخرة، لا يكون همه الدنيا، الدنيا تأتي تبعًا، على أن لا ينسى نصيبه من الدنيا، لا ينقطع ويتبتل، لا ينسى نصيبه من الدنيا، لكن يستغل الأنفاس فيما خلق من أجله، وهي العبادة، ثم بعد ذلك يأخذ من هذه الدنيا ما يعينه على تحقيق هذا الهدف، وهنا في المثل الذي ضربه الله –جل وعلا- لهذين الرجلين فيه من القصص ما سمعتم، ومنها ما صح، ومنها ما لم يصح، لكن معنى الآيات واضح، والتسمية، تسمية الرجلين أو تحقيق القصة نفسها لا يتعلق به كبير فائدة؛ لأن المثل واضح، وعلى طالب العلم أن يُعنى بهذه الأمثال ويستفيد من هذه الأمثال، ويعتبر من هذه الأمثال. الأمثال في الكتاب والسنة في غاية الأهمية، }وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43]، ليتأمل الإنسان في هذه الأمثال ويعتبر.
طالب: .........
}إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ{ [الصافات:51-52] ماذا فيه؟
طالب: .........
الاحتمال قائم، أنهما هما أو غيرهما.
المقصود أن تطبيق المثل في الموضعين، سواءٌ طبق على شخصين بأنفسهما أو يراد بهما ضرب المثل، والمقصود بهما العبرة والاتعاظ، فالأمر لا يختلف.
"بيَّن الله - تعالى- حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبيَّن حالهما في الآخرة في سورة الصافات في قول: }إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ{[الصافات:51-52]، إلى قوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}[الصافات:61].
قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس".
تِنِّيس.
" تِنِّيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين، فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيَّره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله -تعالى- في ليلة، وإياها عنى بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله - تعالى- لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرًا وإنذارًا. ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله أعلم ."
نعم سياق الآية يدل على أن هناك بالفعل رجلين، هذه حالهما، وهذا وصفهما.
"قوله تعالى: }وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ {[الكهف:32] أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة، ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به; ومنه: {حافين من حول العرش}. }وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32] أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع.
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} [الكهف:32] أي كل واحدة من الجنتين، آتت أكلها تامًّا، ولذلك لم يقل: آتتا ]ص:359[، واختلف في لفظ كلتا وكلا هل هو مفرد أو مثنى; فقال أهل البصرة: هو مفرد; لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير "كل" في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولي اسمًا ظاهرًا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين، وجاءني كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياءً في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كليهما، ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين، ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل، وكلت، وكلان، وكلتان. واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى واحده |
|
كلتاهما مقرونة بزائدة |
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياءً مع الاسم الظاهر، ولأن معنى "كلا" مخالف لمعنى "كل"؛ لأن "كلا" للإحاطة، و"كلا" يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة ، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع؛ ليدل على التثنية، كما أن قولهم: "نحن" اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:
كلا يومي أمامة يوم صد |
|
وإن لم نأتها إلا لماما |
فأخبر عن "كلا" بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله: آتت، ولو كان مثنى لقال: آتتا، ويوما، واختلف ."
أما "كلا" و"كلتا" في حالة إذا ما أضيفا إلى ظاهر، فإعرابهما لزوم حالة واحدة، وهي الألف في الموضعين، أما إذا أضيفتا إلى مضمر فإعرابهما إعراب المثنى، ومعناهما واضح، فالإعراب إعراب المثنى، لكن هل هما مثنى بالحقيقة أم ملحقان بالمثنى، هذا محل خلاف، إذا أعرب إعراب مثنى، هل هو لأنه مثنى، أو لكونه ملحق بالمثنى؟ فالخلاف هذا لا يترتب عليه أثر إلا من حيث الإخبار عنه، إذا قلنا: مثنى فلا بد من المطابقة، مطابقة الخبر للمبتدأ، وإذا قلنا: مفرد صار الإخبار عنه بمفرد، كما هنا، كما ذكر في الآية والبيت.
"واختلف أيضًا في ألف كلتا; فقال سيبويه: ألف "كلتا" للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء؛ لأن في التاء علم التأنيث، والألف في كلتا قد تصير ياءً مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاءً تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها: كلتوي، فلما قالوا: كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت: أخوي، ذكره الجوهري.
قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتت أكلهما; لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا".
من أجل المطابقة.
"وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لأن المعنى كل الجنتين. قال: وفي قراءة عبد الله:" كل الجنتين آتى أكله". والمعنى على هذا عند الفراءكل شيء من الجنتين آتى أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل، ومنه قوله – تعالى-: أكلها دائم، وقد تقدم. }وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا{ [الكهف:33]، أي لم تنقص.
قوله تعالى: }وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا{ [الكهف:33]، أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وكان له ثمر} قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق :(ثمر) بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] جمع ثمرة. قاله الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار; مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر، مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، مثل أعناق وعنق. والثمر أيضًا المال المثمر، يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو:" وكان له ثمر" بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين".
بضمهما.
"والباقون بضمهما في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في "الأنعام" نحو هذا مبينًا.
وذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرني عمران بن بكار قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال: حدثنا شعيب بن إسحاق قال: هارون قال: حدثني أبان عن ثعلب".
قال: أخبرنا هارون.
" قال: أخبرنا هارون قال: حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج".
أبان عن ثعلب أم أبان بن تغلب؟
ما اسمه؟
طالب: .......
مخرج عندك؟
طالب: لا.
عندنا: أبان عن ثعلب، لكن ما أدري.
طالب: .......
أبان بن تغلب؟
طالب: .......
أليس هو؟
طالب: .......
ماذا؟
طالب: .......
تراجع على كل حال. نعم.
"قال: لو سمعت أحدًا يقرأ: "وكان له ثُمر" لقطعت لسانه، فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا! ولا نعمة عين. فكان يقرأ: "ثمر" ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمارًا على ثمر، وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه، والله أعلم; لأن قوله: كلتا الجنتين آتت أكلها يدل على أن له ثمرًا" .
قد يقول قائل: الحجاج ما علاقته بمثل هذا الكلام؟ يقول: لو سمعت أحدًا يقرأ: وكان له ثُمر لقطعت لسانه، هذا من ظلمه وعدوانه الذي عُرف به، أو لاهتمامه وعنايته بالقرآن؟ له عناية بالقرآن لا توجد، قلَّ أن توجد عند غيره من أهل الولايات، حتى يقال: إنه هو الذي عشَّر القرآن وقسَّم القرآن وحزَّب القرآن، كان ورده القرآن اليومي ربع القرآن، كل يوم يقرأ ربع القرآن، يعني مع ما عرف عنه واشتهر من الظلم والبغي، نسأل الله أن يعفينا.
"قوله تعالى: }فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ{ [الكهف:34]، أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال : كلمته فما أحار إلي جوابًا، وما رجع إلى حويرًا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارًا; أي ما رد جوابًا. }أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد هاهنا الأتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه. قوله تعالى: }وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها، ويريه إياها. }وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}[الكهف:35] أي بكفره ، وهو جملة في موضع الحال".
أخذ بيد أخيه المؤمن؛ من أجل إغاظته؛ ليبين له أثر ما صنع، وما صنعه أخوه، لكن المؤمن لا يلتفت لهذا، ولا يغيظه مثل هذا أبدًا، الله المستعان.
"وهو جملة في موضع الحال . ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه} . قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا{ [الكهف:35] أنكر فناء الدار. }وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً { [الكهف:36] أي لا أحسب البعث كائنًا. } وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي{ [الكهف:36] أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه. لأجدن خيرًا منها منقلبًا، وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام: "منهما". وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة: (منها) على التوحيد، والتثنية أولى; لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.
قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:37]
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} [الكهف:37] يهوذا أو تمليخا، على الخلاف في اسمه. {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] وعظه وبيَّن له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. وسواك رجلاً أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرًا. لكنا هو الله ربي كذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية . وروي عن الكسائي، {لكن هو الله} بمعنى لكن الأمر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون: "لكنا" بإثبات الألف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره : لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من "أنا"؛ طلبًا للخفة؛ لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف "أنا" في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا، فألقيت حركة الهمزة على نون لكن، وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها، لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان، فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي :
لهنك من عبسية لوسيمة |
|
على هنوات كاذب من يقولها |
أراد: لله إنك".
لوسيمة.
" أراد: لله إنك لوسيمة، فأسقط إحدى اللامين من "لله" وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب |
|
وتقلينني لكن إياك لا أقلي |
أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم" لكنا هو الله ربي" وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الألف في "لكنا هو الله ربي" في الإدراج ]ص:362 [جيد; لأنه قد حذفت الألف من أنا، فجاءوا بها عوضًا. قال : وفي قراءة أبي: "لكن أنا هو الله ربي". وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب: "لكنا" في حال الوقف والوصل معًا بإثبات الألف. وقال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني |
|
حميدًا قد تذريت السناما |
وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوافي |
|
بعد المشيب كفى ذاك عارا |
ولا خلاف في إثباتها في الوقف.
{هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] هو ضمير القصة والشأن والأمر; كقوله: }فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ} [الأنبياء:97]، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف:38]، دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركًا بالله - تعالى- يعبد غيره .
فإذا هي، يعني فإذا القصة، يعني حاصل القصة شاخص دون أبصار الذين كفروا، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] يريد قل، من الشأن، قل الشأن أن الله –جل وعلا- أحد، فضمير هذا هو ضمير الشأن والقصة.
"ويحتمل أنه أراد لا أرى الغنى والفقر إلا منه، وأعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه، وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب - سبحانه وتعالى-، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه; فهو إشراك.
قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ }[الكهف:39] فيه مسألتان :
الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ }[الكهف:39] أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه؛ إذ قال: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] وما في موضع رفع ، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء: الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الأمر مشيئة الله -تعالى-. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ }[الكهف:39] أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله - تعالى - وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع" .
المقصود أن الإنسان إذا رأى شيئًا من ماله أو من مال غيره، يعني يذكر الله –جل وعلا- بهذا اللفظ؛ ليتذكر أن هذا من نعم الله –جل وعلا-، وأنه لا حول له ولا قوة لو لم يعنه الله –جل وعلا- على ذلك.
"الثانية: قال أشهب: قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب قال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبًا ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال لأبي هريرة: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة- أو قال كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله -عز وجل-: أسلم عبدي واستسلم»، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه «فقال: يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس، ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة-؟ قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله»، وعنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:«ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه، وأنزل الله - تعالى- عليه البركات .
خرج هذا؟ ما خرجه!
طالب: .........
لا لا، روي أنه من دخل منزله.
طالب: .........
وروي أنه من دخل منزله، فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله - تعالى- عليه البركات.
طالب: .........
على كل حال "لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة، هذا لا إشكال فيه صحيح ثابت، في الصحيح وغيره، ويبقى النظر في مسألة كيف كنز من كنوز الجنة إذا كان ترابًا، ما تراب الجنة؟ ترابها المسك والزعفران، المسك الأزفر، هذا التراب الذي على وجهها، فكيف بالكنز؟ كيف بالكنز؟
فمثل هذه الكلمات اليسيرة التي يغفل عنها كثير من الناس، على طالب العلم على وجه الخصوص أن يُعنى بها، هذه الأذكار التي لا تأخذ وقتًا، ولا تكلف، وليس فيها كثير تعب، وجاء الثواب العظيم المترتب عليها، ومع ذلك يغفل عنها كثير من الناس، "لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة، يعني يحصل عليه القائل، يحصل عليه القائل، كنز من كنوز الجنة، فإذا كانت ترابها زعفرانًا ومسكًا، فماذا يصير الباقي؟ هذا الذي تدوسه الأقدام، فكيف بالكنوز التي من شأنها أن تخفى عن الأنظار؛ لنفاستها؟
الله المستعان.
طالب: .........
ليتذكر، ليتذكر، ما يلزم، وإنما يكتب الذكر الذي يخشى أن ينسى، ينساه الإنسان، ينبه به؛ لأن القرآن على وجه الخصوص كره كثير من أهل العلم تعليقه على الجدران، وكتابته على الحيطان، لأنه ما أنزل لهذا، لكن لو قدر أن إنسانًا عجز عن حفظ آية الكرسي مثلاً وعلقها؛ ليرددها كلما رآها ليحفظها فالمقصد حسن، لكن يبقى الأصل المنع.
طالب: .........
لا ما له علاقة، لهم أن يكتبوها؛ ليتذكروها مثل دعاء دخول المنزل وخروج المنزل ودخول المسجد والخروج منه، يكتبونها ليتذكروها.
"وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال: باسم الله، قال الملك: هديت، وإذا قال: ما شاء الله، قال الملك: كفيت، وإذا قال: لا قوة إلا بالله قال الملك: وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «من قال - يعني إذا خرج من بيته- باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان». هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضًا وزاد فيه. فقال له: هديت وكفيت ووقيت. وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال: باسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت، وإذا قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي». وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة-: يدخلني الضعفاء، من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة، يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة». وقال أنس بن مالك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى شيئًا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين».
وقد قال قوم: ما من أحد قال: ما شاء الله كان، فأصابه شيء إلا رضي به. وروي أن من قال أربعًا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، أمن من كيد الشيطان، ومن قال: وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] إن شرط، ترن مجزوم به، والجواب فعسى ربي، وأنا فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدًا للنون والياء".
هي من حيث المعنى توكيد، ضمير فصل الذي لا محل له من الإعراب يأتي لتأكيد الكلام، وهذا منه.
"وقرأ عيسى بن عمر: إن ترن أنا أقل منك بالرفع، يجعل أنا مبتدأ، "وأقل" خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء; إلا أن الياء حذفت؛ لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ، وهو الأصل؛ لأنها الاسم على الحقيقة. فعسى ربي بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:40] أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. ويرسل عليها أي على جنتك.
حسبانا أي مرامي من السماء، واحدها حسبانة; قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله - تعالى-: الشمس والقمر بحسبان. وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضًا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب .
الحسبان المحاسبة والحساب، الحسبان نتيجة المحاسبة والحساب، فمن حوسب أرسل عليه الحسبان نتيجة هذا الحساب، ومن نوقش عُذِّب، وهذا لما كفر استحق مثل هذا الدعاء، ووجد أثر هذا الدعاء على ما سيأتي، الله المستعان.
والحسبان أيضًا الحساب، قال الله - تعالى-: الشمس والقمر بحسبان. وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضًا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب.
{فتصبح صعيدًا زلقًا} يعني أرضًا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض، وزلقا تأكيد لوصف الصعيد، أي تزل عنها الأقدام لملاستها. يقال: مكان زلق (بالتحريك) أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضًا عجز الدابة. قال رؤبة:
كأنها حقباء بلقاء الزلق |
والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقًا حلقه، قاله الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر، قاله القشيري ".
هذا واضح أنه إذا لم يبق عليها نبات، صارت مزلقة، أما لو بقي فيها شيء من النبات فما صارت مزلقة؛ لأن النبات يمنع من إنزلاق القدم.
"{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} [الكهف:41] أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور، ونساء نُوّح".
نَوْحٌ، نَوْحٌ اسم مصدر، مثل ما يقال: "زَيْدٌ عَدْلٌ" هذا المصدر، ما صار عادلًا، فسمي باسم المصدر مبالغة، كأنه صار هو المصدر.
"ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع . قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحًا عليه |
|
مقلدة أعنَّتها صفونا" |
المصدر يلزم حالة واحدة، كما يقال: زيد جنب، وفلانة جنب، وزيدان جنب، والرجال جنب، والنساء جنب، يلزم حالة واحدة.
"وقال آخر:
هريقي من دموعهما سجاما |
|
ضباع وجاوبي نوحا قياما |
أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور، فحذف المضاف; مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] ذكره النحاس. وقال الكسائي:: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورًا وغؤورًا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغؤورًا، دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:
أغارت عينه أم لم تغارا |
وغارت الشمس تغور غيارًا، أي غربت. قال أبو ذؤيب :
هل الدهر إلا ليلة ونهارها |
|
وإلا طلوع الشمس ثم غيارها |
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:41] أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلًا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره".
يعني كما جاء في آخر سورة الملك {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]، يأتي به الله –جل وعلا-، ولذا ذكر أهل العلم أن شخصًا قال: تأتي به الفؤوس والمعاول، فغار ماء عينه؛ عقوبة له. إنما يأتي به الله –جل وعلا-، مما يجعل المسلم يتعين عليه أن يصدق اللجأ لله –جل وعلا- في مثل هذه الظروف والأحوال التي تشابه أيامنا هذه، ويلجأ المسلمون ويعجون إلى ربهم في طلب ما يعينهم على أمور دينهم ودنياهم، وإلا فالمياه الجوفية مهددة بالنفاد، والدراسات توحي بشيء من هذا، فكثر- ولله الحمد- امتثال السنة وصلاة الإستسقاء ولله الحمد وطلب المسلمين، وإن كان كثير منهم متلبس بالموانع، لكن الله –جل وعلا- لطيف بعباده، توالت الأمطار، وتتالت النعم، وحصل شيء من رد بعض ما خافه الناس، والناس بحاجة إلى مزيد من رجوعهم إلى الله –جل وعلا-، وإلا فالعقوبات وشؤم المعاصي والذنوب لن ينتهي، والسنة الإلهية ماضية، فمنع الزكاة له أثر كبير، ارتكاب المحرمات له أيضًا أثر عظيم، ما أُعلنت الفاحشة في قوم حلت بهم العقوبات، ما أكل الناس الربا إلا حل بهم ما حل من المثولات، والناس كثير منهم متورط ببعض هذه الأمور، فعلى الجميع التوبة الصادقة الناصحة، التوبة النصوح إلى الله –جل وعلا-، علّه أن يلطف بنا، والله المستعان.
"قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}[الكهف:43،42] اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع".
لأنه ينوب عن الفاعل، مما ينوب عن الفاعل الجار والمجرور.
"ومعنى أحيط بثمره أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله - تعالى- به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} [الكهف:42] أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما; لأن هذا يصدر من النادم".
ولات ساعة مندم. ما ينفعه، ما ينفعه إذا حل العذاب فلا بد أن يقع، إذا حل العذاب فلا بد أن يقع، إذا بدأت علاماته فلا بد من وقوعه، سنن إلهية لا تتغير ولا تتبدل، ولم يستثنَ من ذلك إلا قوم يونس، إلا قوم يونس فقط على ما تقدم، أما من عداهم إذا رتب العذاب على أمر من الأمور وعلى فعل من الأفعال التي ارتكبها الناس، فلا بد من وقوعه؛ لأن هذه سنن إلاهية، الله- جل وعلا- يمهل ويملي للظالم، لكن إذا أخذه لا يفلته، والله المستعان. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] الواقع محسوس وملموس، فتبدلت الحال كما هي العادة، العادة الإلهية، السنن، السنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، إلا إذا غير الناس أنفسهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا} [الرعد:11]، وقد ابتلي الناس سنين بالشدة والحاجة والفقر والعوز وما تنازلوا عن دينهم، لكن مع الأسف الشديد أنهم ابتلوا بالرخاء، وفتحت عليهم الدنيا فتنازلوا عن الأديان والأعراف وكل شيء، أستغفر الله العظيم إلا من رحم الله، والأرض -ولله الحمد- فيها خير وعلماء وعباد ودعاة وقضاة، والحمد لله موجود فيها الخير، لكن الكلام إذا كثر الخبث فهذا هو الأمر المخيف؛ لأنه في الحديث الصحيح «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث»، وأنتم ترون مما على وجه الأرض مما يدور في بلدان المسلمين كلها دون استثناء، والله المستعان.
"وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق; لأن هذا الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي في ملكه مال. ودل قوله: فأصبح، على أن هذا الإهلاك جرى بالليل، كقوله {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20،19] ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42] أي خالية قد سقط بعضها على بعض، مأخوذ من: خوت النجوم تخوى خيًّا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواءً أقوت، وكذلك إذا سقطت; ومنه قوله – تعالى-: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52]، ويقال: ساقطة، كما يقال: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42] أي ساقطة على سقوفها، فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوائح، مقابلة على بغيه. {ويقول يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي} [الكهف:42] أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حيث لا ينفعه الندم.
قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا}[الكهف:43] قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف:43] فئة اسم تكن وله الخبر. ينصرونه في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون ينصرونه الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى؛ لأنه قد تقدم له" .
لأن اسم كان الذي في الأصل مبتدأ نكرة يحتاج إلى وصف، وصف يعينه ويحدده، فجاءت الجملة لوصفه، ولو كان معرفة لكانت الجملة حالًا.
والوجه الأول عند سيبويه أولى؛ لأنه قد تقدم له. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله - عز وجل - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وقد أجاز سيبويه الآخر. وينصرونه على معنى فئة; لأن معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره، أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43] أي ممتنعًا.
فئة باعتبار لفظها مفرد، لكن باعتبار أفرادها جمع؛ لأن الفئة عبارة عمن يتحقق فيه الوصف وهو النصرة، والنصرة في الغالب لا تكون إلا من الجماعة.
"{وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43] أي ممتنعًا؛ قاله قتادة. وقيل: مستردًّا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في "آل عمران".
من فاء إذا رجع، من فاء إذا رجع؛ لأنه يفيء إلى هذه الفئة ويرجع إليهم ينتصر بهم.
"والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فيء مثل فيع; لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفئات، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد .
قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44] اختلف في العامل في قوله هنالك وهو ظرف; فقيل: العامل فيه ولم تكن له فئة ولا كان هنالك، أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب. وقيل: تم الكلام عند قوله: منتصرًا. والعامل في قوله هنالك: الولاية. وتقديره على التقديم والتأخير: { الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44] هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي: الحق بالرفع نعتًا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمز:ة الحق بالخفض نعتًا لله -عز وجل-، والتقدير: لله ذي الحق . قال الزجاج: ويجوز الحق بالنصب على المصدر والتوكيد; كما تقول: هذا لك حقًّا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: " الولاية" بكسر الواو، والباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة; كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]. {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا}، وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة، كقوله: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد; والملك في كل وقت لله، ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة ."
لأن الناس في الدنيا يصرحون ويتعارفون على أن هذا ملك فلان، وهذا ملك فلان، وهذا مالك البلد الفلاني، وهذا مالك للبستان الفلاني، هذا عرف بين الناس، لكن لمن الملك اليوم؟ هذه النهاية يوم القيامة، خلاص، لا يدعي أحد الملك يوم القيامة، وإن ادعوا في الدنيا، والله المستعان.
"وقال أبو عبيد : إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} [الكهف:44] أي الله خير ثوابًا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال، أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44] قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى عقبًا ساكنة القاف، والباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره .
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:45] أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين، مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. { كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} [الكهف:45] أي بالماء. نبات الأرض حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء; لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في "يونس" مبينًا. وقالت الحكماء: إنما شبه - تعالى- الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين; قال: «ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد؛ فإن القليل منها يكفي، والكثير منها يطغي»" .
مخرج هذا؟
طالب: ما خرجه.
"وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم-:«قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أتاه». فأصبح أي النبات هشيمًا، أي متكسرًا من اليبس متفتتًا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازًا؛ لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم; إذا كان سمحًا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد، ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
|
وكان سبب ذلك أن قريشًا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام، فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم; فسمي بذلك هاشمًا .
تذروه الرياح أي تفرِّقه، قاله أبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. قال ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف: " تُذريه الريح". قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله:" تذريه". يقال: ذرته الريح تذروه ذروًا وتذريه ذريًا وأذرته تذريه إذراءً إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه |
|
فيذرك من أخرى القطاة فتزلق |
قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]".
هذا الهشيم الذي تذروه الرياح كان نافعًا، كان نباتًا تأكله البهائم، ويستفيد منه الناس، ثم لما انقطع عنه الماء تفردت به الشمس، فاصفر لونه وخف وزنه فذرته الرياح وذهبت به يمينًا وشمالاً فصار الناس يتبعون هذا الهشيم، وهذا مثل مطابق لكثير من الأمور، يذهب الأخيار فيبقى من دونهم فيتبعهم الناس فلا يجدون عندهم ما عند الأوائل، وقل مثل هذا فيمن ينفق في سبيل الله، وقل مثل هذا فيمن يتولى نفع الناس، كانت الأمة وما زالت والحمدلله في خير، لكن يبقى إذا مات الأخيار فشبههم شبه النبات الرصين الذي ينتفع به كل من تناوله، من الدواب وغيرها، ثم بعد ذلك إذا صار هشيمًا تذروه الرياح، مات الرعيل الأول، وبقي في الناس هذا الهشيم، ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوّح نبتها رعي الهشيم، وأنتم ترون الآن لما انقرض كثير من أهل العلم والعمل صار الناس يتتبعون أمثال هذا الهشيم، والله المستعان، فترونهم يسألون ويستفتون كل من رأوه يحسن الكلام، فضلاً عن كونه عنده شيء من العلم. وفي وسائل الإعلام الشيء الكثير من هذا وفي القنوات تسمعون أناسًا لا علم عندهم، ولا عمل أيضًا، ومع ذلك هم يُسألون ويتصدون لإفتاء الناس وتعليمهم، وهم ما عندهم شيء، فهم الهشيم، والله المستعان.
"قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45] من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه .
قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] ويجوز " زينتا " وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
يجوز "زينتا" تثنية على أن الخبر عن المتعاطفين، والإفراد على أنه زينة، خبر للمال وما عطف عليه، المال مفرد، وما عطف عليه يكون الخبر للأول، وما عطف عليه خبره، المال زينة الحياة الدنيا، والبنون كذلك.
"لأن في المال جمالاً ونفعًا، وفي البنين قوة ودفعًا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين; لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن".
لذلك أردف بالباقيات الصالحات، يعني المال والبنون زينة الحياة الدنيا، يعني من كان نظره في الدنيا هذه زينته، لكن من كان نظره الآخرة فعليه بالباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات جاءت بها النصوص سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، الأذكار.
"وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر - تعالى- أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال؛ لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء؛ لأنها اليوم معك وغدًا مع غيرك، ولا مع السلطان؛ لأنه اليوم لك وغدًا لغيرك. ويكفي في هذا قول الله – تعالى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] Kوقال الله – تعالى-: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] .
قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات؛ {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [الكهف:46] أي أفضل. {وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] أي أفضل أملاً من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا}. وقيل: خير في التحقيق مما يظنه".
أفعل التفضيل ليست على بابها، أفعل التفضيل ليست على بابها؛ لأنه ليست الدنيا المقصود بها اللحظة التي جعلت هدفًا ومقصدًا، وليست الدنيا التي جعلت ممرًّا ومعبرًا للآخرة، هي زاد من أراد الآخرة، هي خير على هذا الوجه؛ لأنها تكون من أمور الآخرة؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فإذا كانت الدنيا وسيلة إلى اكتساب الآخرة، مدحت من هذه الحيثية، وإلا فليس فيها خير، ويكون ما جاء في هذه الآية نظير قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا}، لو كانت أفعال التفضيل على بابها، لقلنا أن أصحاب النار أيضًا على خير، لكن أصحاب الجنة أكثر منهم خيرًا، لكن الواقع أن النار لا خير فيها ألبتة، فتكون أفعل التفضيل ليست على بابها.
"وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم. واختلف العلماء في الباقيات الصالحات، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضًا: إنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله; لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي- رضي الله عنه-: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله - تعالى- لأقوام. وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرَّجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله». صحَّحه أبو محمد عبد الحق- رحمه الله-".
قال: المسألة، قيل وما هي يا رسول الله؟ قال التكبير والتهليل..، هي موجودة في بعض النسخ دون بعض، وكأنها..
طالب: قيل المسألة، استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل..
قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: المسألة، قيل، وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح.. موجودة في نسخة محققة، مخرجة عندك؟
طالب: .......
نعم.
"وروى قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال: «إن المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن من الباقيات الصالحات». ذكره الثعلبي، وخرَّجه ابن ماجه بمعناه من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها» . وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال: إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة». قال: هذا حديث غريب، ولا نعرف للأعمش سماعًا من أنس، إلا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضًا".
الباقيات الصالحات التسبيح والتكبير والتحميد غراس الجنة، سبحان الله شجرة في الجنة، الحمد لله شجرة في الجنة، لا إله إلا الله شجرة في الجنة، الإنسان في أمور الدنيا يتعب على هذا الغراس، ويتعهده في كل يوم، وينتظر المدد المتطاولة، ينتظر الثمرة، وفي لحظة تقول: سبحان الله، في ثانية تقول الحمد لله، شجرة مضمونة، أو ما سمعت بأنها القيعان، فاغرس ما تشاء من الزمان الفاني، وغراسها التسبيح والتحميد والتهليل للرحمن، حرمان يا إخوان، هذه الأمور لا تكلف شيئًا، في أحاديث صحيحة ثبتت بها، لكن الله المستعان.
وخرج الترمذي أيضًا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «لقيت إبراهيم- عليه السلام- ليلة أسري بي فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»، قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه «فقلت : ما غراس الجنة؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله». وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر به وهو يغرس غرسًا فقال: يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟ قلت: غراسًا. قال: ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة» .
وليس معناه أن مثل هذه الأمور تترك، أنه ما يغرس الإنسان شجرًا، ولا يعمل في دنياه، ولا يبذل الأسباب، ليس المراد هذا، وإنما المراد أن يجمع بين هذا وهذا، ويكون الهدف ما يرضي الله –جل وعلا-، وتحقيق ما خلق من أجله، سواء عمل بأمور الدنيا أو في أمور الآخرة.
"وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات; لأن بها تقبل الأعمال وترفع، قاله الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات; يدل عليه أوائل الآية; قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] ثم قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابًا، وخير أملاً في الآخرة لمن أحسن إليهن، يدل عليه ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت علي امرأة مسكينة.. . الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:59]. وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لقد رأيت رجلاً من أمتي أُمر به إلى النار، فتعلق به بناته، وجعلن يصرخن ويقلن: رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا -فرحمه الله- بهن». وقال قتادة في قوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81] قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلامًا كلهم أنبياء .
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]، قال بعض النحويين: التقدير: والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو، وقيل: المعنى، واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال في آية أخرى وهي تمر مر السحاب. ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5،6]" .
كل هذا في القيامة، بعد قيام الساعة، تسير الجبال تمر مر السحاب، هذا في القيامة، يعني بعد قيام الساعة، أما قبل ذلك فهي راسية، {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:32].
"وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر" ويوم تسير" بتاء مضمومة وفتح الياء. و"الجبال" رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد:" ويوم تسير الجبال" بفتح التاء مخففًا من سار "الجبال" رفعًا. دليل قراءة أبي عمرو وإذا الجبال سيرت. ودليل قراءة ابن محيصن وتسير الجبال سيرًا. واختار أبو عبيد القراءة الأولى نسير بالنون؛ لقوله وحشرناهم. ومعنى "بارزة" ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان; أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها، فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير. وقيل: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] أي برز ما فيها من الكنوز والأموات".
يعني هي مبرزة، بارزة يعني مبرزة، لا يختفي ولا يستتر فيها أحد، في ذلك الوقت.
"كما قال: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4]، وقال: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] وهذا قول عطاء، {وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف:47] أي إلى الموقف. {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47] أي لم نترك، يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة:
غادرته متعفرًا أوصاله |
|
والقوم بين مجرح ومجدل |
أي تركته. والمغادرة الترك، ومنه الغدر; لأنه ترك الوفاء. وإنما سمي الغدير من الماء غديرًا لأن الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة؛ لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.
قوله تعالى : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} [الكهف:48] صفا نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا، لا أنهم صف واحد. وقيل جميعا; كقوله {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64] أي جميعا. وقيل قيامًا" .
صفا، لو كررت صفًّا صفًّا لكانوا صفوفًا، لكن صفًّا مرة واحدة ليكن الجميع صفًّا.
"وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله -تبارك وتعالى- ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسروا جوابًا، فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»". قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله".
التذكرة للمؤلف في أمور الآخرة، تحدث فيها عما يكون في آخر الزمان، وفي الآخرة كتاب نفيس جاء مستوعبًا لكثير مما كان في الباب، وهو جامع للحديث الصحيح والحسن والضعيف، لكنه من أنفع ما كُتب في الباب.
طالب: .........
هو قبله نعم، أشار إليه مرارًا وإن كان الجامع استوعب وقتًا طويلًا، يعني بعضه يمكن قبل التذكرة وبعضه بعد وقت طويل من تأليفه الجامع.
"{لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدًا وقيل: فرادى; دليله قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]. وقد تقدم. وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم.
{ بَلْ زَعَمْتُمْ} [الكهف:48] هذا خطاب لمنكري البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفي صحيح مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا قلت: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض». "غرلًا" أي غير مختونين. وقد تقدم في "الأنعام" بيانه ."
إذا ابتلي الإنسان بأمر أعظم مما هو فيه، نسي ما هو فيه، يعني في وقت السعة تجد الإنسان يقلب بصره يمينًا وشمالًا، لكن إذا ضاق عليه وقت أو ابتلي بأمر عظيم بداهية، أو سبع يريد أن يفترسه نسي ما حوله، ولو كانوا عراة ما حدّد ولا نظر إليهم، بينما في وقت الساعة بإمكانه أن يقلب بصره، كل إنسان مشغول بنفسه، الأمر أعظم من ذلك وأشد، يعني تصور شخصًا يقلب بصره فيما حرم الله عليه من خلال هذه القنوات، آمن في سربه، شبعان من نعم الله، مكتسٍ، ثم بعد ذلك يخر عليه السقف من فوقه، يسقط بجانبه شيء، قطعة من البيت يخشى عنه، يذهب كل شيء، وينسى كل ما حوله وأمامه، أو يقتحم بيته عدو، ينسى هذه المناظر التي يقلب بصره فيها، فلنتذكر هذا الموقف العظيم، ولنعمل له ما يليق به من عمل.
طالب: .........
كما بدأ، كما خُلق يعود كما خُلق، كل شيء قطع منه يعود إليه.
"قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الكهف:49] الكتاب اسم جنس، وفيه وجهان: أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل. الثاني: أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب؛ لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر، ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم- شك نعيم -عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بني أسد قال: قال عمر لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة; قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال- ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله –تعالى-: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب: ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته بادية للناس وهو يقرأ سيئاته؛ لكيلا يقول: كانت لي حسنات فلم تذكر، فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة، فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19،20]، ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوى عنقه، فذلك قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10]، فينظر في كتابه فإذا سيئاته بادية للناس وينظر في حسناته؛ لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه، ضجوا إلى الله -تعالى- من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، يعني ما كان من ذلك في معصية الله -عز وجل-، ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الصغيرة الضحك. قلت: فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال – تعالى-: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]. وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنا. وقد مضى في "النساء" بيان هذا.
قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء، وما اشتكى أحد ظلمًا، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى أحصاها عدها وأحاط بها، وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا.
{أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49] أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا. وقيل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ } [الكهف:49] أي لا يأخذ أحدًا بجرم أحد، ولا يأخذه بما لم يعمله، قاله الضحاك. وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه، ولا يزيد عاصيا في عقابه" .
مثال موجود مر ويمر على كثير من الناس، من غير توقف ولا اعتبار ولا اتعاظ، مثال صغير حقيقي، إذا علقت النتائج في المدارس والجامعات وغيره، تجد كل الطلبة مشفقين، الرديء خائف من الرسوب، والجيد خائف من نزول المعدل، ثم إذا نظروا في الإجمال ذهبوا إلى التفاصيل ووجدوا جميع درجاتهم موجودة في كشف، هذا مثال حقيقي الذي رصده بشر يخطئون ويصيبون، ومع ذلك الناس بهم ملزمون، فكيف بمثل هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، حتى قال أهل العلم المسألة خلاف في الأعمال والأقوال التي هي من قبيل المباح التي لا حساب عليها، لا جزاء ولا عقاب، عموم الآية يشملها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، جميع ما يعمله الإنسان وجميع ما يلفظ به، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل شيء مدون، كل شيء موجود؛ من أجل أن لا يكون للناس حجة، أنا والله ما فعلت هذا، أنا ما قلت، كل شيء مدون بوقته، أنت في وقت كذا فعلت كذا، في يوم كذا فعلت كذا، ثم يشفق على نفسه فإذا وجد أن هذه السيئات بالتوبة النصوح بدلت حسنات، فيقول: يا ربي لا، أنا عملت كذا وكذا يظهر أشياء، مع أن هذا الكتاب لم يغادر شيئًا مما عمله الإنسان لا صغيرة ولا كبيرة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه، وأن لا يودع هذا الكتاب إلا ما يسرّه غدًا، وإن كان قد أودعه فيما مضى فيما يسوء، يمحو أثر هذا بالتوبة النصوح، لتبدل سيئاته حسنات.
"قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ]ص:375[".
طالب: .........
الشيء المباح عند عامة أهل العلم لا مؤاخذة عليه، والشيء اليسير من المزاح ومن العبث اليسير كل هذا له أصل في الشرع، والدين ولله الحمد فيه فسحة، لكن يخشى الإنسان من الموبقات، يخشى من محقرات الذنوب أيضًا التي تجتمع عليه فتهلكه، وإذا وقع عليه شيء من ذلك يبادر بالتوبة والاستغفار، أما الأمور اليسيرة المباحة التي لا تعوقه عن تحصيل مصالح دينه ولا دنياه، مثل هذه في الدين ولله الحمد فسحة، لكن لا شك أن الحمل على العزيمة هو اللائق بالحريص المريد نجاته.
طالب: .........
هذا مبالغة في كونك أكثرت، مبالغة في كونه أكثر، لينتبه لنفسه.
"قدم في (البقرة) هذا مستوفى. قال أبو جعفر النحاس: وفي هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ففي هذا قولان: أحدهما: وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمته عن جوع . والقول الآخر: وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه".
إذا ضمن الفسق المعنى الخروج، فسق عن أمر ربه، يعني خرج عن أمر ربه، والفسق في الأصل هو الخروج، قال: فسقت الرطبة من قشرها، يعني خرجت، والفاسق سُمِّي فاسقًا لخروجه عن طاعة الله –جل وعلا- وانتهاكه لمعاصيه.
"{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50] وقف -عز وجل- الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو، أي أعداء، فهو اسم جنس. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50] أي بئس عبادة الشيطان بدلاً عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلًا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه، فقال الشعبي: سألني رجل فقال: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} [الكهف:50] فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت: نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات، فهذا أصل ذريته. وقيل : إن الله - تعالى- خلق له في فخذه اليمنى ذكرًا وفي اليسرى فرجًا، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانًا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله -تعالى- أخبر أن لإبليس أتباعًا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل الصحيح" .
يوجد أخبار يتداولها من يعنى بالنقل عن ها الكتاب، وإلا فلا أصل لها، الله –جل وعلا- أخبرنا أن له ذرية، أخبر أن له ذرية، والله أعلم بكيفية حصول هذه الذرية.
"قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:«لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرخ». وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله أعلم.
قال ابن عطية: وقوله: وذريته ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر، ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدًا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. ثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنا. ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلاً. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه، زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان- عليه السلام-. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان.
وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، والقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال: وقال الداراني: إن لإبليس شيطانًا يقال له: المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية ."
يستدرجه، يستدرجه حتى يخبر عما عمله في الخفية، ليقل أجره، الإنسان إذا عمل في الخفاء عظم أجره؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، إذا تحدث به نقص أجره، إذا تحدث به ثانية كذلك.
"قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانًا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانًا يسمى الولهان.
قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح، وأما أن له أتباعًا وأعوانًا وجنودًا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادًا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته». وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن مبارك قال: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول: من أضل مسلمًا ألبسته التاج؟ قال: فيقول له القائل: لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق، قال: يوشك أن يبر. قال: ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت، قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت، قال: ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت.
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: « إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه أو قال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت». وقد تقدم. وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانًا يقال له: البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام، فإذا استحكم منهم الجوع، وأضر بأدمغتهم، يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت، فيظنون أنهم قد وصلوا، وأن ذلك من الله، وليس كما ظنوا" .
يخيل لهؤلاء الذين يواصلون الصيام يصومون الأيام، حتى إن بعضهم ذكر عنه أنه يواصل صيام أربعين يومًا، ذكر حافظ الذهبي قصصًا كثيرة في ذلك الباب، ثم يتراءى له شيء من الأنوار أو شيء من الأشباح، فيظن أن هذا من عند الله –جل وعلا-، وهو في الحقيقة جنون وهلوسة سببه شدة الجوع، يرى الأمور على غير حقائقها، فيخيل إليه أنه وصل بهذا الصيام بهذا الانقطاع، وهو أمر مبتدع في الدين، وترتب عليه هلاك النفس، ولا يأتي الشرع بمثل هذا، والله أعلم.
وصلّى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.