التعليق على تفسير القرطبي - سورة ص (03)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِيُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} الْخَصْمُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ".
وإن كان استُعمل استعمال الجمع، جمع خاصم كركب وصحب جمع راكب وصاحب، وأصله وزنته المصدر؛ لأن مصدر الثلاثي فَعْل.
فعل قياس مصدر المعدي |
من ذي ثلاثة ك"ردَّ ردًّا |
خصم يعني فَعْل، هذا أصله مصدر، واستعمل في الجمع جمع خاصم كركب وصحب.
ولذلك عاد الضمير جمعًا، تسوروا.
"قَالَ الشَّاعِرُ:
وَخَصْمٌ غِضَابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُ كَنَفْض |
الْبَرَاذِينِ الْعِرَابِ الْمَخَالِيَا |
قال النَّحَّاسُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هَاهُنَا مَلَكَانِ".
نعم والاثنان أقل الجمع، {إِذْ تَسَوَّرُوا} الاثنان أقل الجمع فعاد الضمير على الجمع، ثم قال: {إذ دخلوا} فهل نقول: إن الخصمين باعتبار أنهما فريقان ثُنِّيا، أو باعتبار أفرادهما جُمعا؟ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}[الحجرات:9]، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} هما طائفتان، وأعيد الضمير جمعًا؛ لأن كل طائفة أكثر من واحد، وإن كان الواحد يطلق عليه طائفة، وهو أقل الطائفة {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:2]، أقل الطائفة واحد، لكن هما جمع طائفتان؛ لأنه يمكن اقتتلوا عاد الضمير باعتبار أن كل طائفة أكثر من واحد، وهل نقول: {تَسَوَّرُوا} باعتبار أن كل خصم أكثر من واحد أو واحد؟ هما ملكان فقط بينهما خصومة، وفي هذا ابتلاء- لداود عليه السلام-.
"وَقِيلَ: {تَسَوَّرُوا}".
ولا يقال في هذه القصة أكثر مما قصه الله -جل وعلا-، ولا يقال فيها أكثر مما قصه الله -جل وعلا- مما فيه عبرة وعظة، وأما ما يدور على ألسنة المفسرين ويتناقلونه بينهم من أن داود -عليه السلام- طلب الفتنة، وجرى في خاطره أنه لا يمكن أن يفتتن؛ لقربه من الله، ولمنزلته منه، فأخبر أنه يفتن في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، فأغلق محرابه على نفسه، وصار يقرأ ويذكر ويصلي فوقعت بين يديه حمامة فتناولها ليأخذها لصبي عنده، فطارت إلى كوة في محرابه، فقام إليها يتناولها، فوقعت عينه على امرأة تغتسل، فأعجبه جمالها وهي عريانة، وإذا به يعرف زوجها وقد بعثه، أو لم يبعثه، ثم بعثه كما في بعض الروايات ليقاتل، وقال للقائد: اجعله في المقدمة؛ من أجل أن يقتل، فقُتل، فتزوجها من بعده، هكذا يتداول ويتناقل المفسرون، ولا شك أن هذه القصة باطلة، وذكر الرازي في إبطالها أكثر من عشرين وجهًا لإبطالها، أكثر من عشرين وجهًا، وكلها مأخوذة من الآيات التي فيها سياق ما قصت القصة من أجله، والمؤلف يشير إلى بعض الروايات، لكن القصة بجميع رواياتها باطلة، ولا يثبت فيها شيء يصح أكثر مما جاء في كتاب الله -جل وعلا-، ولذلك يقول الحافظ ابن كثير أنه يُكتفى بتلاوتها، مع وضوح معناها، ومحل الاعتبار منها ظاهر، دون أن يكون السبب هو ما حاكه القصاص وما ذكره وما نقله بعضهم عن بني إسرائيل.
"وَقِيلَ: {تَسَوَّرُوا}، وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ؛ حَمْلًا عَلَى الْخَصْمِ؛ إِذْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَمُضَارِعًا لَهُ، مِثْلَ الرَّكْبِ وَالصَّحْبِ. تَقْدِيرُهُ لِلِاثْنَيْنِ ذَوَا خَصْمٍ وَلِلْجَمَاعَةِ ذَوُو خَصْمٍ. وَمَعْنَى: تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ أَتَوْهُ مِنْ أَعْلَى سُورِهِ. يُقَالُ: تَسَوَّرَ الْحَائِطَ تَسَلَّقَهُ، وَالسُّورُ حَائِطُ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكَذَلِكَ السُّوَرُ جَمْعُ سُورَةٍ، مِثْلَ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ، وَهِيَ كُلُّ مَنْزِلَةٍ مِنَ الْبِنَاءِ. وَمِنْهُ سُورَةُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْأُخْرَى. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ بَيَانُ هَذَا. وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً |
تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ |
يُرِيدُ شَرَفًا وَمَنْزِلَةً.
فَأَمَّا السُّؤْرُ بِالْهَمْزِ فَهُوَ بَقِيَّةُ الطَّعَامِ فِي الْإِنَاءِ. قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالسُّؤْرُ الْوَلِيمَةُ بِالْفَارِسِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُؤْرًا فَحَيَّهَلًا بِكُمْ». وَالْمِحْرَابُ هُنَا الْغُرْفَةُ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ فِيهَا".
السؤر هو البقية بقية الطعام، مثل قول أهل العلم في الهرة: «وسؤرها طاهر» أي ما تبقيه مما تأكل منه وتشرب، فهو البقية.
"وَالْمِحْرَابُ هُنَا الْغُرْفَةُ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ فِيهَا. قَالَه يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ} جَاءَتْ إِذْ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ".
هذا تقدم الكلام فيه في سورة آل عمران، وفي سبأ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}[سبأ:13] تقدم الكلام فيه مرارًا.
وتقدم الكلام في مشروعية المحاريب في المساجد، وهل لها علاقة بمذابح اليهود، تقدم هذا كله عند المفسر رحمه الله.
"لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ: أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِمَعْنَى لَمَّا. وَقَوْلٌ آخَرُ: أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا تَبْيِينًا لِمَا قَبْلَهَا. قِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا إِنْسِيَّيْنِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: إِنَّهُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسِيَّيْنِ، بَعَثَهُمَا اللَّهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ. فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ الدُّخُولَ، فَتَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}".
منعهم الحرس؛ لأن داود -عليه السلام- مع النبوة كان ملكًا، وكان يُحرَس كما تقدم، حتى قيل إنه كان يحرسه أكثر من ثلاثين ألفًا، وذلك قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}[ص:20].
"أَيْ: عَلَوْا وَنَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ الْمِحْرَابِ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَدَّثَ نَفْسَهَ إِنِ ابْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ، فَخُذْ حِذْرَكَ. فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَمَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَما هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إِذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ، فَجَعَلَ يَدْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ فَطَارَ، فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَرِيّا بْنُ حَنَانَ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَمِيرِ الْغُزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمَلَةِ التَّابُوتِ، وَكَانَ حَمَلَةُ التَّابُوتِ إِمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُقْتَلُوا، فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ فَقُتِلَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُدُ، وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ وَشَبَّ، وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَا يَصِحُّ".
نعم؛ لأن هذا مناف للعصمة، الصالح من المسلمين لا يقع منه هذا، الصالح من أتباع داود لا يقع منه هذا، فكيف به؟
"قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ".
هذا السياق أمثل ما روي في ذلك؛ يعني أقوى، وإن كان ضعيفًا أو لا يصح، لكن ما يصح مراتب، وما لا يصح أيضًا مراتب.
"قُلْتُ: وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-»".
والقاعدة عند أهل العلم أن ما يتفرد به الحكيم أنه لا يصح، أن ما يتفرد به الحكيم الترمذي لا يصح.
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ-عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَهَمَّ بِهَا قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا، وَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ فَقَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ قَرِّبْ فُلَانًا وَسَمَّاهُ، قَالَ: فَقَرَّبَهُ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ، فَمَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ الَّذِي يُقَاتِلُهُ، فَقُدِّمَ فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ». وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: كَتَبَ إِلَى زَوْجِهَا وَذَلِكَ فِي حِصَارِ عَمَّانَ مَدِينَةِ بَلْقَاءَ أَنْ يَأْخُذُوا بِحَلْقَةِ الْبَابِ، وَفِيهِ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا امْتَحَنَ اللَّهُ دَاوُدَ بِالْخَطِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ تَمَنَّى يَوْمًا عَلَى رَبِّهِ مَنْزِلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ نَحْوُ مَا امْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ نَحْوُ مَا أَعْطَاهُمْ. وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَمَ الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَوْمٌ يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِيهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمٍ يَخْلُو فِيهِ بِنِسَائِهِ وَأَشْغَالِهِ. وَكَانَ يَجِدُ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنَّهُمُ ابْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ يُبْتَلَى بِهَا غَيْرُهُمْ فَصَبَرُوا عَلَيْهَا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِنُمْرُوذَ، وَبِالنَّارِ، وَبِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ بِالذَّبْحِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِالْحُزْنِ عَلَى يُوسُفَ وَذَهَابِ بَصَرِهِ، وَلَمْ تُبْتَلَ أَنْتَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَابْتَلِنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ، وَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنَّكَ مُبْتَلًى فِي شَهْرِ كَذَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ دَخَلَ مِحْرَابَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الزَّبُورَ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ مُثِّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ حَسَنٍ، فَوَقَفَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهَا فَيَدْفَعَهَا لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ، فَطَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَمْ تُؤَيِّسْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى وَقَعَتْ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا فَطَارَتْ، وَنَظَر دَاوُد يَرْتَفِعُ فِي إِثْرِهَا لِيَبْعَثَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْخُذُهَا، فَنَظَرَ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ عَلَى شَطِّ بِرْكَةٍ تَغْتَسِلُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً عَلَى سَطْحٍ لَهَا، فَرَأَى أَجْمَلَ النِّسَاءِ خَلْقًا، فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَفَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى بَدَنَهَا، فَزَادَهُ إِعْجَابًا بِهَا. وَكَانَ زَوْجُهَا أَوَرِيّا بْنُ حَنَانَ، فِي غَزْوَةٍ مَعَ أَيُّوبَ بْنِ صُورِيًّا ابْنِ أُخْتِ دَاوُدَ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَيُّوبَ أَنِ ابْعَثْ بِأُورِيّا إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، وَكَانَ مَنْ قُدِّمَ قِبَلَ التَّابُوتِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَرَاءَهُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَشْهَدُ. فَقَدَّمَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ أَوَرِيًّا سَيْفَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فِي زَمَانِ دَاوُدَ، وَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً وَكَبَّرَ كَبَّرَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَبَّرَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى الْعَرْشِ، فَتُكَبِّرَ مَلَائِكَةُ الْعَرْشِ بِتَكْبِيرِهِ.
قَالَ: وَكَانَ سُيُوفُ اللَّهِ ثَلَاثَةً، كَالِبَ بْنَ يُوفِنَا فِي زَمَنِ مُوسَى، وَأُورِيَّا فِي زَمَنِ دَاوُدَ، وَحَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَلَمَّا كَتَبَ أَيُّوبَ إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ عَلَى أُورِيَّا كَتَبَ دَاوُدُ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْهُ فِي بَعْثِ كَذَا وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ فِي الثَّالِثة شَهِيدًا. فَتَزَوَّجَ دَاوُدُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ حِينَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. فَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.
وَقِيلَ: سَبَبُ امْتِحَانِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ نَفْسَهُ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ يُطِيقُ قَطْعَ يَوْمٍ بِغَيْرِ مُقَارَفَةِ شَيْءٍ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ دَاوُدَ جَزَّأَ الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، جُزْءًا لِنِسَائِهِ، وَجُزْءًا لِلْعِبَادَةِ، وَجُزْءًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُذَاكِرُونَهُ وَيُذَاكِرهُمْ وَيُبَكُّونَهُ وَيُبَكِّيهِمْ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ. فَتَذَاكَرُوا هَلْ يَمُرُّ عَلَى الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا؟ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ أَنَّهُ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ عِبَادَتِهِ، وَأَمَرَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ عَلَى قِرَاءَةِ الزَّبُورِ، فَوَقَعَتْ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَهِيَ".
عرفنا أن ما جاء في سياق هذه الآيات مما تقدم ذكره ومما لم يذكره؛ لأن المؤلف من منهجه كما بينه في أول كتابه أنه لا يذكر الإسرائيليات، لكنه ما تقيد بهذا المنهج، وإن كان كتابه من أنظف الكتب، وتفسيره من أنظف التفاسير من الإسرائيليات، وفي كتب التفسير مما نُسج حول هذه الآيات الشيء الكثير، وقلنا: إن أهل العلم أبطلوا هذه القصص، وأن هذا التصرف لا يليق بالمتدين من أتباع الأنبياء فكيف بالأنبياء؟ كيف ينظر إليها؟
نعم، الأولى معفو عنها، لكن الثانية نسأل الله العافية، ورتّب عليها ما رتب من بعض الرجل، وتمني قتله والسعي في قتله، ثم تزوج هذه المرأة، هذا كله باطل لا يليق بمقام الصالح من أتباع الأنبياء، فكيف بالأنبياء؟
قوله: كان يقرأ الزبور، وانكب على قراءة الزبور جاء في صحيح البخاري أنه كان يقرأ القرآن في مدة إسراج الخيل، كان يأمر بالخيل أن تُسرج فيقرأ القرآن ويختمه في هذه المدة، والعلماء يستدلون بهذا على جواز الإسراع والهدر والهذّ إذا تبيّنت الحروف على جواز ذلك من كون داود- عليه السلام- يقرأ القرآن في هذه المدة الوجيزة، وهذا بناءً على مذهبهم في أن القرآن والزبور والتوراة والإنجيل وجميع الكتب الإلهية شيء واحد لا تتغير، الزبور هو القرآن، إلا أن اللغة تختلف، والتوراة والإنجيل هي القرآن إلا أن اللغات تختلف، وأن الكلام واحد، وأن الله -جل وعلا- تكلم في الأزل ولا يتكلم، تكلم في الأزل فقط، وعندهم أنه قديم، ولا يتجدد، الذي عليه أهل السنة أنه وإن كان قديم النوع إلا أنه حادث الآحاد متجدد الآحاد، الله -جل وعلا- يتكلم متى شاء كيف يشاء، والقرآن غير الزبور والتوراة غير الإنجيل، لكل نبي ما يخصه مما ينزله الله -جل وعلا- عليه، والزبور قد يكون ما يعادل جزءًا من القرآن الذي بين أيدينا أو أكثر أو أقل، الله أعلم، لكنه ليس هو القرآن الذي بين أيدينا، وإن جاء بلفظ القرآن في الحديث الصحيح في البخاري، في البخاري أنه كان يقرأ القرآن، والمراد به قرآنه، والقرآن المراد به ما يُقرأ، المقروء، فالقرآن أنزل على محمد -عليه الصلاة والسلام-، ولم ينزل على داود، الذي في المصحف الذي بين الدفتين لم ينزل على غير محمد -عليه الصلاة والسلام-.
طالب:...
لا شك أن أهل الكتاب حرفوا، وغيروا، وبدلوا، يعني لا يجزم بهذا، كما يتداول الآن من الكتب الأخرى التوراة والإنجيل؛ يعني مع اليهود توراة، ومع النصارى أناجيل، لكن أخبر الله -جل وعلا- عنهم أنهم يحرفون الكلم، نسأل الله العافية.
"الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْتَصِبَ لِلنَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ".
ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، هذا إذا كان يكفيهم بعض يوم أو بعض الأيام، كما يكون في بعض الأوقات، بعض البلدان ليس عندهم مشاكل، يعني والناس إلى وقت قريب والقضاة لا يتفرغون، يكون القاضي واحدًا في البلد، ولا يخصص له وقتًا يجلس فيه للناس للخصومة، وقد يمر اليوم واليومان والثلاثة والأسبوع ما عرض عليه قضية، ويجلس يعلم الناس الخير، ثم يأتي الخصم فيقضي بينهم، ليس عليه ذلك في شيء محدد، إلا إذا استؤجر لذلك وأخذ في مقابل ذلك أجرًا من بيت المال فإن عليه أن يجلس، وأن يستوعب الدوام من أوله إلى آخره، عليه أن يستوعب الدوام من أوله إلى آخره، إلا إذا كان هناك عرف مُقَرّ من قبل ولي الأمر فهذا شيء مستثنى وإلا فالأصل أن ما يأخذه في مقابل الدوام المحدد من أوله إلى آخره، لأنه يسمع في المسألة الثانية أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، يقول: والله أنا ما يلزم الذهاب إلى مكان القضاء إلى المحكمة اليوم فيه فرصة أن أجلس. لا، ما فيه فرصة، القاضي كغيره مستأجر لفصل الخصومات بين الناس، وهو لا شك أنه من أشق الناس أعمالًا، ونعرف منهم من يعطي من نفسه أكثر مما يطيق أحيانًا، وهذا على حساب وقته، وعلى حساب ولده، وعلى حساب صحته، وعلى كل حال أجره لن يضيع إن شاء الله تعالى، لكن الإشكال في التقصير، لا يسمع مثلًا هذا الكلام أنه ليس على الحاكم أن ينصب نفسه للناس كل يوم، لا، بدءًا من الولي ولي الأمر السلطان الأعظم إلى آخر من يتولى، أو من يولى على أي ولاية للمسلمين عليه أن يؤدي ما عليه.
طالب:....
على كل حال إذا استأذن ممن فوقه ممن يملك الإذن فلا بأس.
طالب:...
على كل حال ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، جاء النهي عن القضاء حال الغضب، وحال ما يكدّر النفس مما لا يتيسر معه النظر في القضايا على الوجه الصحيح، لكن عليه أن يهيأ الأسباب قبل ذلك.
"وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ وَطْءَ نِسَائِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِالْعِبَادَةِ".
ليس له أن يترك وطء نسائه وحُدَ ذلك بالأربعة أشهر، التي هي مدة الإيلاء، وإن كان المقرر عند أهل العلم أنه ليس له أن يتركها حتى تحتاج إلى غيره، بدون تحديد.
"وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي "النِّسَاءِ". وَحَكَمَ كَعْبٌ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بِمَحْضَرِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. وَقَدْ قَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ اسْتُخْلِفَ: وَاللَّهِ لَأَعْدِلَنَّ بَيْنَكُمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهَذَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: كَانَ دَاوُدُ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، فَأُعْجِبَ بِعَمَلِهِ وَقَالَ: هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْمَلُ كَعَمَلِي. فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ: أَعُجِبْتَ بِعِبَادَتِكَ، وَالْعُجْبُ يَأْكُلُ الْعِبَادَةَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، فَإِنْ أُعْجِبْتَ ثَانِيَةً وَكَلْتُكَ إِلَى نَفْسِكَ. فقَالَ: يَا رَبِّ كِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَنَةً. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ".
هذا لا يمكن أن يقوله عاقل فضلًا عن متدين، لا يستطيع أن يقوم بأدنى شيء إذا وكل إليه إذا وكل إلى نفسه طرفة عين، فضلًا عن أن يوكل لنفسه سنة، مثل هذا التصور ومثل هذا الإعجاب نتيجته الخزلان. ومثل هذا لا يليق بأولياء الله فضلًا عن أنبيائه.
"قَالَ: فَشَهْرًا. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. قَالَ: فَيَوْمًا. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. قَالَ: يَا رَبِّ فَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَاعَةً. قَالَ: فَشَأْنُكَ بِهَا. فَوَكَّلَ الْأَحْرَاسَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَوَضَعَ الزَّبُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ وَقَعَ الطَّائِرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَرْأَةِ مَا كَانَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَالَ دَاوُدُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا رَبِّ مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَكَ فِيهِ صَائِمٌ، وَمَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَكَ فِيهَا قَائِمٌ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ مِنْكَ ذَلِكَ أَوْ مِنِّي؟ وَعِزَّتِي لَأَكِلَنَّكَ إِلَى نَفْسِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ اعْفُ عَنِّي. قَالَ: أَكِلُكَ إِلَى نَفْسِكَ سَنَةً. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَشَهْرًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَأُسْبُوعًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَيَوْمًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَسَاعَةً. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَلَحْظَةً. فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: وَمَا قَدْرُ لَحْظَةٍ. قَالَ: كِلْنِي إِلَى نَفْسِي لَحْظَةً. فَوَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ لَحْظَةً".
يعني يقبل لحظة، وهي شيء يسير تمر، وأنت ضابط لنفسك، قال الشيطان: وما قدر لحظة؟ يعني الأمر سهل ويسير، يهونها، وهذا الخبر أيضًا كسوابقه لا أصل له.
"قَالَ: كِلْنِي إِلَى نَفْسِي لَحْظَةً. فَوَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ لَحْظَةً. وَقِيلَ: لَهُ: هِيَ فِي يَوْمِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا. فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَعَلَهُ لِلْعِبَادَةِ، وَوَكَّلَ الْأَحْرَاسَ حَوْلَ مَكَانِهِ. قِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَخَلَا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَنَشَرَ الزَّبُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَاءَتِ الْحَمَامَةُ فَوَقَعَتْ لَهُ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي لَحْظَتِهِ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا كَانَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِ الْمَلَكَيْنِ بَعْدَ وِلَادَةِ سُلَيْمَانَ، وَضَرَبَا لَهُ الْمَثَلَ بِالنِّعَاجِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَثَلَ ذَكَرَ خَطِيئَتَهُ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً عَلَى مَا يَأْتِي.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} لِأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ لَيْلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ دُخُولِ الْخُصُومِ".
ونُسِج أيضًا حول هذا القصة، وأنه ندم ندمًا شديدًا، وسجد على ما سيأتي في: {خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24]، أربعين يومًا، ونبت الزرع من دموعه، واحترق هذا الزرع من أنفاسه المنبعثة من حرقة قلبه، في كلام لا يقبله لا العقل، ولا يصدقه نقل.
" وَقِيلَ: لِدُخُولِهِمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ وَلَمْ يَأْتُوهُ مِنَ الْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ مِحْرَابُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ إِلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ.
وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}؛ إِذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إِلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَإِذَا شَاهَدْتَ الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إِنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْتَ قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إِلَّا عُلْوِيٌّ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَدْ قِيلَ: كَانَ الْمُتَسَوِّرَانِ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَبٍ وَأُمٍّ. فَلَمَّا قَضَى دَاوُدُ بَيْنَهُمَا بِقَضِيَّةٍ، قَالَ لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فَهَلَّا قَضَيْتَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِكَ يَا دَاوُدُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ، نَبَّهَا دَاوُدَ عَلَى مَا فَعَلَ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمَلَكَانِ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ كَذِبٌ، وَالْمَلَائِكَةُ عَنْ مِثْلِهِ مُنَزَّهُونَ؟
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ تَقْدِيرٍ، فَكَأَنَّهُمَا قَالَا: قَدِّرْنَا كَأَنَّنَا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُمَا: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ إِيرَادُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّقْدِيرِ؛ لِيُنَبَّهَ دَاوُدُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
بهذا التخريج لا يبقى شيء اسمه كذب، كل من كذب قدر في نفسه مثل هذا التقدير، أنهما خصمان، أنهما كالخصمين، أو افترض أننا خصمان، أو ما أشبه ذلك، وعلى كل حال مثل هذا الأمر الصادر من الله -جل وعلا- لابتلاء من شاء من عباده يجب قبوله ولو لم يطابق الواقع بالنسبة لمن كلف به، يعني كما في حديث الثلاثة الأقرع والأبرص والأعمى؛ الأول جاءه ملك أقرع، والثاني جاءه ملك أبرص، والثالث جاءه ملك أعمى، ويستدل من يستدل بهذا على جواز التمثيل، وأنه وإن خالف الواقع إلا أن فيه من المصالح المترتبة عليه ما هو أعظم من مفسدة الكذب الذي هو مخالفة الواقع، هذا أولاً أمر شرعي من قبل الله -جل وعلا- مخالف لبعض النصوص التي جاءت في ذم الكذب والكاذبين، فيُقتَصر فيه على مورده، يعني يبقى تحريم الكذب، ويبقى أن هذه الصور مستثناة، وأنها من قِبل الله -جل وعلا- هو الذي ابتلى بها هؤلاء الثلاثة وهو الذي ابتلى داود -عليه السلام- بهذين الخصمين، فيكتفى من ذلك على مورده، ومنهم من يستروح إلى أنه إذا ترتب على ذلك مصلحة أعظم من المفسدة المترتبة على الكذب، وأن الكذب سلم من المفاسد المترتبة عليه فيكون مثل هذا الكذب الذي هو مخالفة الواقع مغتفرًا، والكذب يجوز في صور.
يجوز في صور مخالفة الواقع، ومن ذلك أهل العلم في المناظرات، المناظرات بين خصمين، وقد يكون الخصمان المتناظران غير عقلاء، ليسا من أهل الكلام، مناظرة بين علم التفسير، وعلم الحديث، يعني عقد مناظرة بمثل هذا فقال علم التفسير كذا في ذكر فضائل التفسير، وقال علم الحديث كذا في ذكر فضائل الحديث، وهكذا بقية العلوم، ومناظرات بين خصمين يختلفان في المذهب مثلًا بين شافعي وحنبلي، بين حنفي ومالكي وما في الحقيقة لا مناظر، ولا مناظرة، واحد الذي ينسج هذا الكلام كله.
مناظرة بين سني وقدري، مناظرة بين قدري وجبري، مناظرة بين كذا وكذا، يعني شفاء العليل لابن القيم فيه مناظرات.
أيضًا المقامات، المقامات حدث الحارث بن همام قال: مقامات الحريري، مقامات البديع، مقامات فلان، مقامات الزمخشري، مقامات السيوطي، ينسجونها ولا محدِث ولا محدَث، فلا واقع لهذه المناظرات، ولا واقع لهذه المقامات، وبعضهم يتسمح في مثل هذا، ويجيز التمثيل بناءً على أنه يترتب عليه مصالح، ويعالج قضايا، ومصالحه ظاهرة على ما يقولون، لكن هل حصل هذا من الصحابة، هل حصل مثل هذا من الصحابة؟ هل حصل من أحد من التابعين لهم بإحسان في القرون المفضلة. لا نعرف شيئًا من هذا، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وعلى كل حال على الإنسان لاسيما فيما يرجو ثوابه من الله أن يقتفي به أثر من سلف، الذين هم أهل أن يقتدى بهم. طالب:...
نعم.
طالب:...
المناظرات والمقامات علم تجاوز بمثل هذا باعتبار أن مصالحه عظيمة جدًّا، مصالح، يعني ابن القيم حينما ذكر المناظرات في شفاء العليل، وذكر مناظرة في بدائع الفوائد من قبل شافعي وحنبلي في مسألة طهارة المني، مناظرة طويلة فيها شيء من التفصيل، وفيها شيء من الوضوح، لكن أنا بالنسبة لي لا أميل إلى مثل هذا، بل يقتصر على إيضاح الحق ببيان دليله، وتعليله، والنظر في أقوال أهل العلم بأدلتها، والموازنة بينها، وكل قول ينسب إلى قائله الحقيقي، يعني لا يقول فلان، حتى لو وجدت دليلًا يصلح أن يستدل به شافعي، وما سبق أن استُدل به، ما تقول: دليل الشافعية كذا، تقول: مما يُستدل به لمذهب الشافعي كذا، وهكذا. لأنه لا داعي، الوضوح ومطابقة الواقع هو الأصل، ولا هناك حاجة ملحة داعية لمثل هذا وإلا فأهل العلم تبعًا لما ورد في ذلك جوَّزوا الكذب في مواطن، كما أنهم جوَّزوا الغيبة في مواطن، لكن يقتصر بها على موارد النصوص؛ لأن الأصل المنع وحسم المادة.
طالب:...
لكن ما فيه ما يمنع أن يقال: هذه المسألة مسألة كذا، ويصور المسألة بوضوح، ثم يقول: وقد اختُلف فيها على كذا، مطابقة للواقع أن المسألة هذه اختلف فيها مثلًا من المسائل، وما استدل به الفريق الأول الذين قالوا بالجواز كذا، والذين قالوا بالتحريم كذا، وهكذا.
طالب:...
ما فيه ما يمنع، لكن أهل العلم كلهم أطبقوا على أنهما ملكان جاءا لاختبار وابتلاء داود- عليه السلام-، وبعد مسألة أنه قيل: تسعة وتسعون نعجة قالوا: النعجة كُنّي بها عن المرأة، كُنّي بها عن المرأة، والملائكة معروف أنهم لا يتزوجون.
طالب:...
افتراض المسائل ما فيه بأس، أهل العلم افترضوا، لكن يبينون أن هذه المسألة مفترضة، يعني لو وقع كذا لكان كذا.
طالب:...
لا لا، الذي يصنعها ما يتصور هذا التشبه، ولا يخطر على باله.
طالب:...
على كل حال مخالفتها للواقع كذب، ويكفي هذا.
"الرَّابِعَةُ: إِنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ دَاوُدُ وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ فِي غَايَةِ الْمَكَانَةِ؟
قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ".
هذا الخوف هو الخوف الجبلي، والفزع الجبلي، هذا موجود في الناس كلهم، وإن كانوا يتفاوتون فيه، لكن أصله موجود، وما فيه واحد لا يخاف ولا يفزع بالكلية! ما فيه أحد.
"قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ. لَمْ يَأْمَنُوا الْقَتْلَ وَالْأَذِيَّةَ، وَمِنْهُمَا كَانَ يُخَافُ. أَلَا تَرَى إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- كَيْفَ قَالَا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} فَقَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَخَافَا}. وَقَالَتِ الرُّسُلُ لِلُوطٍ: {لَا تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} وَكَذَا قَالَ الْمَلَكَانِ هُنَا: لَا تَخَفْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ - مَثَلًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ وَلِأُورِيَّا، فَرَآهُمَا وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ؟ قَالَا: لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَجِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا.
الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمَا إِذْ قَدْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمَا، وَهَلَّا أَدَّبَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟
فَالْجَوَابُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَمْ نَعْلَمْ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمَ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ فِيهِ؟ فَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ، وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَسْجِدٍ، وَلَا إِذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ؛ إِذْ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. قُلْتُ: وَقَوْلٌ خَامِسٌ ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَنَا الْمُوَكَّلُونَ بِالْحِجَابِ، تَوَصَّلْنَا إِلَى الدُّخُولِ بِالتَّسَوُّرِ، وَخِفْنَا أَنْ يَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَيْنَنَا. فَقَبِلَ دَاوُدُ عُذْرَهُمْ، وَأَصْغَى إِلَى قَوْلِهِمْ".
يعني في قوله الرابع يحتمل أن يكون في المسجد، ولا إذن في المسجد لأحد؛ إذ لا حجر فيه على أحد، الأصل أن المساجد مفتوحة لمن يريد أن يتعبد فيها، وهكذا كانت من عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر الزمان، ثم لما وجد من يسيء استخدام المسجد وأثاث المسجد، والأموال التي احتوى عليها المسجد رُئي في أن المصلحة أن تغلق هذه المساجد، لكن لو جاء شخص قصده حسن، قصده حسن، وأمارات الصدق عليه ظاهرة، ووجد المسجد مغلقًا فهل له أن يتسور المسجد ويدخله من غير بابه، أو نقول: إن هذا يمنعه النظام المبني على المصلحة فلا يجوز له ذلك، وتبعًا لذلك هل للمسئول عن المسجد أن يمنع من البقاء في المسجد والمكث فيه تنفيذًا لهذه الأوامر، أو أن نقول: إن الأصل أن المسجد بني للعبادة، وشرع فيه عبادات محددة وعبادات غير محددة؟ يعني الصلوات تبدأ من الأذان إلى السلام مع الراتبة، لكن لو قال شخص: أنا أريد أن أجلس حتى تنتشر الشمس، وقال له المسئول عن المسجد: أنا مأمور بإغلاق المسجد، فهل له أن يخرجه بقوة النظام؟ وهل لذلك أن يمانع، ويمتنع عن الخروج، ولو حصل ما حصل؟
لا شك أن هذه مسألة مشكلة، الإنسان مشروع له أن يجلس في مصلاه حتى تنتشر الشمس ومشروع له أيضًا أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة، ولا شك أن هذه الأنظمة وهذه الأوامر التي صدرت بإغلاق المساجد في غير أوقات الصلاة لوحظ فيها مصالح شرعية مرعية؛ لأنه أُسيء استخدام المساجد وأثاث المساجد، وإن كان نادرًا، لكنه وجد، ووجد من يكتب على جدران المسجد كلمات كفرية، ووجد من يبول على المصاحف، ووجد من يسرق الأثاث، ولا شك أن هؤلاء كان، لهم أثر في صدور مثل هذه الأنظمة، والمجزوم المقطوع به أن هذه الأنظمة إنما صدرت بعد وقائع تقتضي مثل هذا الأمر، لكن الذي ليس له إلا التعبّد في هذه المساجد، هل يأثم إذا جلس وقيل له: اخرج ورفض؟ أو أنه متبع لشرع مقتفٍ لإرشادات وتوجيهات شرعية ولا يأثم بهذا؟ ثم بعد ذلك هل يأثم من يخرجه من المسجد، وقد امتثل أوامر شرعية؟
لا شك أن مثل هذه الأمور لا بد أن تُقدَّر بقدرها، فلا طرف يشتد ويحتد حتى تقع الخصومة بينه وبين الآخر، وعلى الطرف الثاني إذا رأى الأمارات والقرائن قرائن الصدق فيتركه على ما أمر به شرعًا؛ لأن الأمر هذا معلَّل بعلل، بعلل معقولة معروفة، فإذا انتفت هذه العلل بالنسبة لزيد من الناس معروف من جماعة المسجد القدامى ممن عُرف بصلاحه، ومع ذلك تحمل المسئولية، قال: أنا أجلس إلى تنتشر الشمس، وعليك أن تغلق الباب وأنا معي مفتاح، وعندما أخرج سأقفل. مثل هذا جلوسه ليس بمعصية، بل طاعة، وإجابته إلى طلبه ولاسيما وأن العلة التي من أجلها أمر بإغلاق المساجد منتفية، والأحكام تدور مع عللها لاسيما في مثل الأحكام المبنية على مصالح إذا تحققت المصلحة مع وجود تحقق الأمر الشرعي فهذا شيء لا بد من مراعاته وملاحظته.
لكن قد يقع للإنسان إحراجات في بلد، أو في مسجد لا يُعرَف به، يعني زائر أو مسافر أو كذا، وأراد أن يجلس فالمسئول عن المسجد عنده أمر أن يغلق المسجد، وأخرجه.
يعني مما يُذكر من الطرائف أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان مسافرًا فصلى في مسجد، فجاء المسئول عن المسجد، يريد أن يغلقه، الإمام أحمد مسافر، وجلس للذكر، ثم بعد ذلك اضطجع، فأخرجه، وحصل بينهم كلام حتى أنه جرَّه بقوة، وأخرجه من المسجد، وأراد أن ينام عند باب المسجد، فأبعده عن باب المسجد، سحبه إلى جوار محل خباز، هذه القصة ذُكرت في كتب الأدب، سحبه إلى جوار المخبز، لماذا؟
لأن هذا الذي أخرجه من رأى هذا الرجل الغريب وقد أخرج بقوة لا شك أنه سوف يعتب على هذا المسئول عن المسجد، وقد يدعو عليه، وقد يظن هذا المسئول أنه بمجرد ذهابه يتسور المسجد فأبعده عن المسجد؛ ليبرأ من العهدة عهدة ما وكل إليه، فالخباز يخبز وهو يخبز يذكر الله، إذا ألوى بيده قال: سبحان الله، إذا أدخل الخبز قال: الحمد لله، وإذا أخرجها قال: لا إله إلا الله وهكذا، فالإمام أحمد أراد أن يتتبع هذا الخباز وطريقته وقال: ما الذي دعاك إلى هذا؟ قال: الذكر وما ورد في الحث عليه وكذا وكذا، وقال: هل رأيت أثره؟ قال: رأيت أثره، أنا ما دعوت بدعوة إلا استُجِيب لي، إلا أنني دعوت الله -جل وعلا- أن أرى الإمام أحمد بن حنبل وما استُجيبت إلى الآن، قال الإمام أحمد: سُحِب لك برجله على وجهه؛ حتى تراه، هذه دعوتك استُجيبت. والله أعلم بصدق هذه القصة.
على كل حال مثل هذه القصص يذكرونها في كتب الأدب، ولا يُطلب لها سند مثل هذه، لأنها لا يترتب عليها حكم شرعي.
المقصود الذي نحن بصدده مسائل المساجد، المساجد لا شك أن فيها محتويات منها بطائل الأموال، يعني فيها مكيفات، وقد حصل أن اعتدى من اعتدى على المسجد، وسرق المكيفات، وسرق الأجهزة الصوتية وغيرها،
المقصود أن هذه الأوامر صدرت لمصلحة، ولا شك أنه يوجد الصادق ويوجد الكاذب، يعني إذا ادّعى أنه صادق، أو ظهرت عليه أمارات الصدق وقرائن الصدق فهذا لا يمنع من أن يُمكَّن أن يبقى في المسجد، والذي يُمكِّنه ما يأثم بمخالفته هذا الأمر؛ لأن ما صنعه هو الأصل، والعلة التي من أجلها وجد هذا الأمر منتفية، أما إذا خاف الإنسان، وعليه مسئولية، وإذا سُرِق شيء فهو ضامن له، فمثل هذا مأمور، لا يعدو أن يمثل ما أمر به، والله المستعان.
طالب:...
على كل حال قول الله -جل وعلا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، هذا معصية، هذا معصية، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
طالب: هل له أن يستدلّ بها؟
نعم له أن يستدل.
طالب:...
نعم.
طالب:...
هذا أدب، والأدب شرعي، لكن الكلام على ألا يكون هوى، إذا كانت تُوخي فيه المصلحة فهذا أدب، والتعزير شرعي، إذا رأى المعلم أن هذا يستحق هذا التعزير فلا إشكال.
طالب:...
أحيانًا يكون الملحظ اقتصاديًّا، الملحظ اقتصادي، يعني لو نام الناس في المساجد تعطلت الفنادق، وتعطّل كذا والسياحة وكذا، هذا موجود في بعض البلدان، هذا ليس بشرع.
طالب:..
فرق بين أن يتخذ المسجد للنوم مثلًا، وبين أن يتخذه للذكر، ومباشرة أعمال شرعية، من اتخذه للذكر لا يُمنع منه ويدخل دخول أولي في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، ولا طاعة له حينئذٍ، لكن أما بالنسبة للنوم فعليه أن يطيع؛ لأن النوم مباح، لا يزيد على أن يكون مباحًا النوم في المسجد، ومثل هذا للولي أن يمنع منه. من المباح، أما المشروع فلا.
طالب: يعني في مسألة الجلوس إلى انتشار الشمس.
لا، هذا شرعي، هذا ليس له أن يمنعه، ليس له أن يمنعه ما لم يلاحظ مصلحة راجحة.
طالب: لكن المسئول إذا لم يطبق يعني يأتيه ضرر قد يكون..
على كل حال إذا كان يمنع من أمر شرعي يترك هذا العمل، يترك هذا العمل.
طالب:...
مباح مباح، ما عليهم شيء، هذا قصد شرعي ما فيه إشكال، ينام في المسجد، وعلي -رضي الله عنه- لما تخاصم مع فاطمة نام في المسجد، وأيقظه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقره على ذلك. ينام في المسجد ما فيه شيء، ومن مقتضيات الاعتكاف النوم في المسجد.
طالب:...
على كل حال مثل هذا الأمر منوط بهم، ولي الأمر وكل الأمر إليهم، لكن لا يجوز لهم أن يخالفوا ما شرعه الله -جل وعلا-.
طالب:...
والله هذا على حسب ما خُص له من قِبَل ولي الأمر؛ لأن هذه ولاية يمكن أن يجتمع له أكثر من أمر وممكن أن يقال له: ليس لك إلا الصلاة.
طالب: وضع حراسة على المسجد أفضل من إغلاقه. الحارس يظل في المسجد.
على كل حال المصالح والمفاسد المترتبة المسائل موكولة ومنوطة بمن ولّاه الله -جل وعلا- هذه الجهات، وعليهم أن يسعوا فيما يصلح أحوال الناس، وعليهم أيضًا حفظ ما وُكل إليهم حفظه. نعم.
"السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَصْمَانِ} إِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: خَصْمَانِ وَقَبْلَ هَذَا: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ؟ فَقِيلَ: لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ، قَالَ الْخَلِيلُ: كَمَا تَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا إِذَا كُنْتُمَا اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَمْعٌ لما كَانَ خَبَرًا، فَلَمَّا انْقَضَى الْخَبَرُ وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ، خَبَّرَ الِاثْنَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَقَالَا خَصْمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نَحْنُ خَصْمَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَوْلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَقُولُ: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَلَوْ كَانَ بَغَى بَعْضُهُمَا عَلَى بَعْضٍ، لَجَازَ".
يعني لجاز في غير القرآن.
"قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَانَا مَلَكَيْنِ، وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ وَلَا بَاغِيَيْنِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا كَذِبٌ، وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِمَا مَا تَقُولُ: إِنْ أَتَاكَ خَصْمَانِ قَالَا: بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: أَيْ: نَحْنُ فَرِيقَانِ مِنَ الْخُصُومِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخُصُومَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جَمْعٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ خُصُومَةٌ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَحَضَرُوا الْخُصُومَاتِ، وَلَكِنِ ابْتَدَأَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، فَعَرَفَ دَاوُدُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ الْقِصَّةَ. وَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخُصُومَاتِ الْأُخَرَ.
وَالْبَغْيُ التَّعَدِّي وَالْخُرُوجُ عَنِ الْوَاجِبِ. يُقَالُ: بَغَى الْجُرْحُ إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَتَرَامَى إِلَى مَا يَفْحُشُ، وَمِنْهُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ الْفَاحِشَةُ.
السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} أَيْ لَا تَجُرْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ: شَطَطْتُ عَلَيْهِ وَأَشْطَطْتُ أَيْ: جُرْتُ. وَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: (إِنَّكَ لَشَاطِّيَّ) أَيْ: جَائِرٌ عَلَيَّ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَمِلْ. وقال الْأَخْفَشُ: لَا تُسْرِفْ. وَقِيلَ: لَا تُفْرِطْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبُعْدُ، مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ أَيْ: بَعُدَتْ، شَطَّتِ الدَّارُ تَشِطُّ وَتَشُطُّ شَطًّا وَشُطُوطًا بَعُدَتْ. وَأَشَطَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَيْ: جَارَ، وَأَشَطَّ فِي السَّوْمِ وَاشْتَطَّ أَيْ: أَبْعَدَ، وَأَشَطُّوا فِي طَلَبِي أَيْ: أَمْعَنُوا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ» أَيْ: لَا نُقْصَانَ وَلَا زِيَادَةَ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أَيْ جَوْرًا مِنَ الْقَوْلِ وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أَيْ أَرْشِدْنَا إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ".
وَأَشَطَّ فِي السَّوْمِ وَاشْتَطَّ أَيْ: أَبْعَدَ، المراد به هنا؟
طالب:...
أو الرعي، نعم اشتط في السوم يعني أبعد في مرعاه، ومنه السائمة أي الراعية.
"الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أَيْ قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ أُورِيَّا إِنَّ هَذَا أَخِي أَيْ: عَلَى دِينِي، وَأَشَارَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَخِي أَيْ: صَاحِبِي. لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: "تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً" بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ".
يعني الصحيح من هذا الإسناد إليه، الصحيح من هذا الإسناد إليه، وإن كانت من حيث الثبوت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- شاذة.
"قَالَ النَّحَّاسُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاةِ؛ لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمَعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحِجْرَةِ وَالنَّاقَةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ:
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هُنَّهْ |
رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ |
وَنَعْجَتِي خَمْسًا تُوَفِّيهِنَّهْ |
أَلَا فَتًى سَمْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ |
طَيُّ النَّقَا فِي الْجُوعِ يَطْوِيهُنَّهْ |
وَيْلَ الرَّغِيفِ وَيْلَهُ مِنْهُنَّهْ |
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
يَا شَاةَ مَا قَنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ |
حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ |
فَبَعَثْتُ جَارِيَتِي فَقُلْتُ لَهَا اذْهَبِي |
فَتَجَسَّسِي أَخْبَارَهَا لِي وَاعْلَمِي |
قَالَتْ رَأَيْتُ مِنَ الْأَعَادِي غِرَّةً |
وَالشَّاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ |
فَكَأَنَّمَا الْتَفَتَتْ بِجِيدِ جِدَايَةٍ |
رَشَأٍ مِنَ الْغِزْلَانِ حُرٍّ أَرْثَمِ |
وَقَالَ آخَرُ:
فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ |
فَأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبِهَا وَطِحَالَهَا |
وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّعْرِيضِ، حَيْثُ كَنَّى بِالنِّعَاجِ عَنِ النِّسَاءِ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا مِنَ الْمَلَكَيْنِ تَعْرِيضٌ وَتَنْبِيهٌ، كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَا كَانَ ضَرْبٌ وَلَا نِعَاجٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ خَصْمَانِ هَذِهِ حَالُنَا.
وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى: يَقُولُ: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ كَذَا، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟
قُلْتُ: وَقَدْ تَأَوَّلَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ الَّذِي خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَغَيْرُهُ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» عَلَى نَحْوِ هَذَا، قَالَ الْمُزَنِيُّ: يَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَابَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَعْلَمَهُمْ بِالْحُكْمِ أَنَّ هَذَا يَكُونُ إِذَا ادَّعَى صَاحِبُ فِرَاشٍ وَصَاحِبُ زِنًى، لَا أَنَّهُ قَبِلَ عَلَى عُتْبَةَ قَوْلَ أَخِيهِ سَعْدٍ، وَلَا عَلَى زَمْعَةَ قَوْلَ ابْنِهِ: إِنَّهُ وَلَدُ زِنًى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ".
لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أجاب بقاعدة عامة: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وتطبيقًا لهذه القاعدة بالنسبة لهذه للقضية المعروضة، قال: «هو لك يا عبد بن زمعة». يعني هو أخ لك تطبيقًا لهذه القاعدة، بغض النظر عن كونك حكمت على زمعة أنه زنى أو لم يزني، المقصود أنه مادام ولد على فراشه فهو له.
"وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَالْمَلَائِكَةِ".
ولذا جاء في قصة العسيف، ما أخذ قول العسيف، بالنسبة للمرأة، ما أخذ به وأجرى الحد عليها، حتى ما حكم عليه بحد القذف أنه قذفها بالزنى، وإنما قال: «اغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، وعلى هذا لا يؤخذ قول الزاني بأنه زنى بفلانة، وعلانة أنه يعمل به، وأنه لا بد من زانٍ وجود مزنيٍّ بها، وأنه لا بد من وجود الحمل من وقوع الوطء، نعم في قول عمر -رضي الله عنه-: «كان الحبل أو الاعتراف» فالحبل دليل، ولكن ليس بدليل قطعي، ليس بدليل قطعي، قد يكون وطء شبهة مثلًا، فلا يوجب الحد إلا إذا تبين بما لا شك فيه ولا شبهة أنه من الزنا. قد تكون مكرهة.
طالب:...
لا، ما يحدّه، ما يحدّه حتى تطالب؛ لأنه حق آدمي.
"إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا: لَا تَخَفْ خَصْمَانِ وَلَمْ يَكُونُوا خَصْمَيْنِ، وَلَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلَكِنَّهُمْ كَلَّمُوهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ؛ لِيَعْرِفَ بِهَا مَا أَرَادُوا تَعْرِيفَهُ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَكَمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُؤْنِسُنِي عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ عِنْدِي صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
ولم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث، يعني هذا استنباط منه، وهو يقول: إن هذا الاستنباط صحيح، لكني ما وقفت على كلام أحد من أهل العلم يدل على هذا.
"التَّاسِعَةُ: قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ هَذَا أَخِي كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى" وَ "كَانَ" هُنَا مِثْلَ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. فَأَمَّا قَوْلُهُ: "أُنْثَى"".
يعني ليس في زمان الماضي كان، وذهب، وانتهى، كما في قوله جل وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} كان في الماضي وفي الحال وفي الاستقبال.
"فَأَمَّا قَوْلُهُ: " أُنْثَى " فَهُوَ تَأْكِيدٌ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ رَجُلٌ ذَكَرٌ وَهُوَ تَأْكِيدٌ".
كما يقال: فابن لبون ذكر، وبنت لبون أنثى.
"وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ يُقَالُ هَذِهِ مِائَةُ نَعْجَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الذُّكُورِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: أُنْثَى؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا ذَكَرَ فِيهَا. وَفِي التَّفْسِيرِ: لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ، وَإِنْ كُنَّ إِمَاءً فَذَلِكَ شَرْعُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْعَدَدُ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ ضَرْبُ مَثَلٍ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ جِئْتَنِي مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ أَقْضِ حَاجَتَكَ، أَيْ: مِرَارًا كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا، الْمَعْنَى: هَذَا غَنِيٌّ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَأَنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهَا.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي شَرْعِنَا. الثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ أَمْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، وَهَذَا نَصٌّ".
نعم هذا نص على أنه في شريعة سليمان -عليه السلام-، أنه له أن يتزوج هذا العدد، وإن جاء شرعنا بخلافه.
"الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أَيِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ: أَكْفِلْنِيهَا أَيِ انْزِلْ لِي عَنْهَا حَتَّى أَكْفُلَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا. وَعَنْهُ: تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا. وَقَالَه ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ضُمَّهَا إِلَيَّ حَتَّى أَكْفَلهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: اجْعَلْهَا كِفْلِي وَنَصِيبِي.
{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أَيْ غَلَبَنِي. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي. يُقَالُ: عَزَّهُ يَعُزُّهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَزًّا غَلَبَهُ. وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ".
يعني كما يقال من جاد ساد، من عز بز، غلب سلب، من جاد ساد، يعني من الجود صاحب الجود له سيادة.
"وَالِاسْمُ الْعِزَّةُ وَهِيَ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ |
تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ" |
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}[يس:14]، يعني قوينا وشددنا، وتطلق العزة ويراد بها القلة، هذا عزيز يعني قليل. نعم.
"وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: " وَعَازَنِي فِي الْخِطَابِ " أَيْ: غَالَبَنِي".
يعني مغالبة معازة، كل واحد غلب الثاني، لكن الظاهر أن الغالب هو الذي ضم الثاني إلى التسع والتسعين، والثاني مغلوب.
"مِنَ الْمُعَازَّةِ وَهِيَ الْمُغَالَبَةُ، عَازَّهُ أَيْ: غَالَبَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ. وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ".
ولا شك أن البيان من أسباب الغلبة، كما في الحديث الصحيح: «إنما أنا بشر، أقضي على نحو ما أسمع»، ربما يكون أحدهما ألحن بحجته من الآخر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وتبعًا له القضاة يحكمون على ما يسمعون، فإذا كان أحدهما ألحن، وأبين، وأفصح من صاحبه فقد يحكم له، وكذلك إذا كان له سلطان، هو الذي يغلب الناس بسلطانه، بقوته، بسيفه، مثل هذا يغلب. نعم.
"كَانَ بِبِلَادِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ: سَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمْتُهُ فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ لِلْحَاجَةِ غَصْبٌ لَهَا".
نعم؛ لأن الإنسان يتنازل عن طيب أو غصب أو، وإذا تدخل السلطان ولا صاحب الجاه في قضاء بعض الحاجات، سوف تدرك هذه الحاجة.
"فَقُلْتُ: أَمَّا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا. فَعَجِبْتُ مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ وَفِطْنَتِهِ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ".
اللهم صل وسلم على محمد.
هذا يسأل يقول: هل لصلاة الجمعة سنة قبلية وبعدية؟
ثبت عن الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا لا يزالون يصلون قبل صلاة الجمعة حتى يدخل الإمام، وأما البعدية فقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يصلي في المسجد أربع ركعات، وفي بيته ركعتين.
هل في يوم الجمعة وقت نهي؟
فعلهم أنهم لا يزالون يصلون حتى يدخل الإمام يدل على أنه لا قوت نهي، وقد جاء في الخبر ما يدل على أن النار لا تسجر يوم الجمعة.
قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات»، هل اختلاف العلماء في الأمور المالية بالجواز وعدمه يعد المختلف فيه شبهة؟
القول الذي يورث الشبهة هو القول المعتبر الذي له ما يدل عليه، وإذا وجد في النفس تردد من شيء فهو شبهة. والله أعلم.