التعليق على تفسير القرطبي - سورة النجم (01)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
سُورَةُ "وَالنَّجْمِ" مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ إِحْدَى وَسِتُّونَ آيَةً. مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} الْآيَةَ. وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ آيَةً. وَقِيلَ: إِنَّ السُّورَةَ كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ."
ذكرنا أن السبب في الخلاف في عد الآيات إنما هو اعتبار البسملة هل هي من السورة أو ليست منها؟ فالذي يقول احدى وستون آية يقول ليست منها، والذي يقول اثنتان وستون آية يقول البسملة آية منها، وكونها مكية هو الراجح المتعين لأن النبي عليه الصلاة والسلام قرأها بمكة، فسجد عليه الصلاة والسلام وسجد معه كل من حضر من المسلمين والمشركين كما في الصحيح.
"وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَعْلَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ لَهَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ»."
وهذا من أدلة الجمهور على قولهم بأن سجدات المفصل الثلاث كلها يشرع فيه السجود والمالكية عندهم المفصل لا سجود فيه بما فيها النجم الذي دليله في البخاري.
"«فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ؛ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا»."
ما منعه أن يهوي للسجود إلا الكبر، نسأل الله العافية.
"قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الرَّجُلُ يُقَالُ لَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فَلَمْ يَسْجُدْ». وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ "الْأَعْرَافِ" الْقَوْلُ فِي هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ."
يعني هذا أيضًا من أدلة الجمهور على أن السجود سنة وليس بواجب، كما يقول الحنفية وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول أن السجود واجب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام سجد وترك، وتركه لبيان الجواز وسجوده لبيان السنية، وما يقال في سبب سجود المشركين من قصة الغرانيق، وأن الشيطان ألقاها على لسانه عليه الصلاة والسلام فظن المشركون أنه قرب منهم جدًا فسجدوا تباعًا له، وهذا كلام كله لا يصح، وإن قال ابن حجر رحمه الله أن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلًا وكأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضًا في مواضع من كتبه يشير إلى أن لها أصل ولكن مناقضتها للعصمة لاسيما في التبليغ ظاهرة وعصمته في التبليغ قطعية، فلا يقبل ما عارضها ولو جاء من طرق متعددة وكلها ضعيفة بل باطلة. وقد مضى آخر الأعراف القول في هذا. سجدة الأعراف فيها أول سجدات القرآن وذكر فيها وفي تفسيرها كل ما يتعلق بسجود القرآن هناك لأن أول ما وضع يمر فيه السجود.
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} وَالثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ مَعَ الْفَجْرِ؛ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الثُّرَيَّا نَجْمًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعَدَدِ نُجُومًا؛ يُقَالُ: إِنَّهَا سَبْعَةُ أَنْجُمٍ، سِتَّةٌ مِنْهَا ظَاهِرَةٌ وَوَاحِدٌ خَفِيٌّ يَمْتَحِنُ النَّاسُ بِهِ أَبْصَارَهُمْ."
وجاء في الأحاديث الصحيحة تسميتها النجم، ونهى عن بيع الثمر حتى يطلع النجم، يراد ذلك الثريا، وعندها حينئذ يأمن الآفة والعاهة.
"وَفِي (الشِّفَا) لِلْقَاضِي عِيَاضٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نَجْمًا."
وغيره يرى سبعًا أيضًا أشد الناس بصرًا يرى سبعة. كثير من الناس لا يرى إلا ستة والسابع امتحنوا به الناس في قوة أبصارهم والنبي عليه الصلاة والسلام إن صح الخبر يرى أحد عشر، يعني كأن هي مجموعة من النجوم بعضها واضح وبعضها خفي، لا يراه إلا قلة من الناس لكن الخبر لا يسلم من النكارة. النبي عليه الصلاة والسلام كغيره وإن كان جاء في الصحيح ما يدل على أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهذا خاص بالصلاة وفي جميع أحواله عليه الصلاة والسلام المسألة خلافية بين أهل العلم. المقصود أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه عليه الصلاة والسلام، دل على أن له ميزة في هذا الوصف.
طالب:...........
"وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى: وَالْقُرْآنِ إِذَا نُزِّلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا..."
النجوم المقدار الذي ينزل من القرآن في وقت واحد، يقال له النجم؛ ومجموع ما نزل نجوم، والقرآن نزل منجمًا يعني مفرقًا.
"وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: يَعْنِي نُجُومَ السَّمَاءِ كُلَّهَا حِينَ تَغْرُبُ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ."
فتكون (أل) جنسية، وعلى القول الأول (أل) للعهد، النجم المعهود هو الثريا، وعلى القول الثاني: يعني نجوم السماء تكون أل للجنس.
"وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ قَالَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالنُّجُومِ إِذَا غَابَتْ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ ؛ كَقَوْلِ الرَّاعِي: فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ سَرِيعٌ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ..."
تعد النجم العامة المستفيض عندهم الذي يعد النجم يصاب بالثآليل، هذا الكلام ليس بصحيح، مستفيض عند العامة لكن لا أصل له.
"وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَحْسَنُ النَّجْمِ فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا وَالثُّرَيَّا فِي الْأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ" |
يعني أحسن النجوم.
"وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ النُّجُومُ إِذَا سَقَطَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ النَّجْمَ هَاهُنَا الزُّهْرَةُ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النُّجُومُ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ؛ وَسَبَبُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا كَثُرَ انْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ، فَذُعِرَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ مِنْهَا وَفَزِعُوا إِلَى كَاهِنٍ كَانَ لَهُمْ ضَرِيرًا، كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحَوَادِثِ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَقَالَ: انْظُرُوا الْبُرُوجَ الِاثْنَيْ عَشَرَ..."
العرب ذعروا لما كثر انقضاض الكواكب، شؤم من تغير الحال وأن يصيبهم ما شيء بسبب التغير. الإشكال أن المسلمين في كثير من أقطار الأرض لما وطنوا على مثل هذه الأمور، وقيل لهم أن هذه ظواهر طبيعية أمنوا والنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس خرج يجر ردائه يظن أنها الساعة وقال الحديث المشهور: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده» لكن هل الناس يخافون الآن؟ ما يخافون، ظواهر طبيعية تبدأ في كذا وبالدقيقة والثانية وتنجلي. صار الناس ما يخافون والله المستعان، هذا من موت القلوب.
طالب:.........
"فَقَالَ: انْظُرُوا الْبُرُوجَ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَإِنِ انْقَضَى مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ ذَهَابُ الدُّنْيَا، فَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ مِنْهَا شَيْءٌ فَسَيَحْدُثُ فِي الدُّنْيَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَشْعَرُوا ذَلِكَ؛ فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي اسْتَشْعَرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أَيْ ذَلِكَ النَّجْمُ الَّذِي هَوَى هُوَ لِهَذِهِ النُّبُوَّةِ الَّتِي حَدَثَتْ. وَقِيلَ: النَّجْمُ هُنَا هُوَ النَّبْتُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَهَوَى أَيْ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ."
والذي له ساق يقال له: شجر، ما لا ساق له من النبات يقال له: نجم، وما له ساق يقال له: شجر كما سيأتي في سورة الرحمن: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن:6] يعني ما له ساق وما لا ساق له.
"وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ..."
المعروف بالصادق وأبوه الباقر وجده علي بن الحسين زين العابدين، وكلهم أئمة هدى والخلل فيمن بعدهم.
"وَالنَّجْمُ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هَوَى: إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: لَآتِيَنَّ مُحَمَّدًا فَلَأُوذِيَنَّهُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هُوَ كَافِرٌ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، وَبِالَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى. ثُمَّ تَفَلَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنَتَهُ وَطَلَّقَهَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ» وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ حَاضِرًا فَوَجَمَ لَهَا وَقَالَ: مَا كَانَ أَغْنَاكَ يَا ابْنَ أَخِي عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلًا، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَاهِبٌ مِنَ الدَّيْرِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذِهِ أَرْضٌ مُسْبِعَةٌ."
تكثر فيها السباع.
"إِنَّ هَذِهِ أَرْضٌ مُسْبِعَةٌ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ لِأَصْحَابِهِ: أَغِيثُونَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ! فَإِنِّي أَخَافُ عَلَى ابْنِي مِنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ؛ فَجَمَعُوا جِمَالَهُمْ وَأَنَاخُوهَا حَوْلَهُمْ، وَأَحْدَقُوا بِعُتْبَةَ، فَجَاءَ الْأَسَدُ يَتَشَمَّمُ وُجُوهَهُمْ حَتَّى ضَرَبَ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ حَسَّانُ:
مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ." |
طالب:......
هو مستفيض عند أهل السير، مستفيض ويستدل به أهل العلم على أن الأسد يدخل في مسمى الكلب، فإذا نهي عن قتل أو أبيح قتل الخمس الفواسق ومنها الكلب العقور...قالوا السبع داخل لأنه كلب.
"وَأَصْلُ النَّجْمِ الطُّلُوعُ؛ يُقَالُ: نَجَمَ السِّنُّ وَنَجَمَ فُلَانٌ بِبِلَادِ كَذَا أَيْ خَرَجَ عَلَى السُّلْطَانِ."
ما يلزم من هذا أن يكون الخروج على السلطان إنما اشتهر أمره وذاع صيته.
"وَالْهُوِيُّ النُّزُولُ وَالسُّقُوطُ؛ يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا؛ قَالَ زُهَيْرٌ..."
والنزول: السقوط كما في الحديث الصحيح: «وكان لا يرفع يديه إذا هوى للسجود».
"قَالَ زُهَيْرٌ:
فَشَجَّ بِهَا الْأَمَاعِزَ وَهْيَ تَهْوِي هُوِيِّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ" |
لأن الرشاء بالكسر هو الحبل الذي يربط به الدلو لاستنباط الماء واستخراجه من البئر وأما الرُشاء جمع رشوة والرَشا ولد ماذا؟ ولد الغزال.
طالب:...............
"وَقَالَ آخَرُ:
بَيْنَمَا نَحْنُ بِالْبَلَاكِثِ فَالْقَاعِ سِرَاعًا وَالْعِيسُ تَهْوِي هُوِيَّا |
خَطَرَتْ خَطْرَةٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرَاكِ وَهْنًا فَمَا اسْتَطَعْتُ مُضِيَّا |
قال الْأَصْمَعِيُّ: هَوَى بِالْفَتْحِ يَهْوِي هُوِيًّا أَيْ سَقَطَ إِلَى أَسْفَلَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ انْهَوَى فِي السَّيْرِ إِذَا مَضَى فِيهِ، وَهَوَى وَانْهَوَى فِيهِ لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
وَكَمْ مَنْزِلٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي |
وَيُقَالَ فِي الْحُبِّ: هَوِيَ بِالْكَسْرِ يَهْوَى هَوًى؛ أَيْ أَحَبَّ..."
ومنه البيت المشهور الذي من شواهد شروح الألفية: أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ، لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ يعني أحببت.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ؛ أَيْ مَا ضَلَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَقِّ وَمَا حَادَ عَنْهُ. {وَمَا غَوَى} الْغَيُّ ضِدُّ الرُّشْدِ أَيْ مَا صَارَ غَاوِيًّا. وَقِيلَ: أَيْ مَا تَكَلَّمَ بِالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: أَيْ مَا خَابَ مِمَّا طَلَبَ وَالْغَيُّ: الْخَيْبَةُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا |
أَيْ مَنْ خَابَ فِي طَلَبِهِ لَامَهُ النَّاسُ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا بَعْدَ الْوَحْيِ."
مَنْ خَابَ فِي طَلَبِهِ لَامَهُ النَّاسُ؛ لأنهم يرون أنه قصر في بذل السبب الذي يحقق له طلبه.
"وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ أَحْوَالِهِ عَلَى التَّعْمِيمِ؛ أَيْ كَانَ أَبَدًا مُوَحِّدًا لِلَّهِ."
يعني قبل النبوة وبعدها.
"أَيْ كَانَ أَبَدًا مُوَحِّدًا لِلَّهِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي "الشُّورَى" عِنْدَ قَوْلِهِ: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} قَالَ قَتَادَةُ: وَمَا يَنْطِقُ بِالْقُرْآنِ عَنْ هَوَاهُ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} إليه. وَقِيلَ: عَنِ الْهَوَى أَيْ بِالْهَوَى؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ."
وهذا تخريج من يجوز الاجتهاد للنبي عليه الصلاة والسلام، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} هذا يعني القرآن وما عداه له أن يجتهد والذي يقول إن هذه من صيغ العموم وينطق مطلقًا بالقرآن وغيره {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} قال: السنة وحي، وهي وحي. ثبت فيمن ثبت كثيرًا أنه يسأل الأمر فينزل عليه ثم يجيب.
"قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أَيْ فَاسْأَلْ عَنْهُ. قال النَّحَّاسُ: قَوْلُ قَتَادَةَ أَوْلَى، وَتَكُونُ "عَنْ" عَلَى بَابِهَا، أَيْ مَا يَخْرُجُ نُطْقُهُ عَنْ رَأْيِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ بَعْدَهُ: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).
الثَّانِيَةُ : قَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي الْحَوَادِثِ. وَفِيهَا أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ كَالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ فِي الْعَمَلِ."
أما في وجوب العمل بالسنة هذا لا خلاف فيه بين من اعتد بقوله من المسلمين وأما بالنسبة لكونها كلها توقيفية من عند الله جل وعلا كالقرآن فهذا محل خلاف: منهم من يقول الأمر كذلك، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ومنهم من يقول له أن يجتهد عليه الصلاة والسلام بدليل أنه اجتهد ثم عوتب فلو كان اجتهاده ناشئًا عن وحي ما حصل العتاب.
"وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ فِي ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ السَّجِسْتَانِيُّ: إِنْ شِئْتَ أَبْدَلْتَ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) مِنْ (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ) قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ "إِنْ" الْخَفِيفَةَ لَا تَكُونُ مُبْدَلَةٌ مِنْ "مَا"؛ الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا..."
وإن كان معناها النفي إن إذا وقع بعدها إلا فهي بمعنى ما. يعني ما هو إلا وحي يوحى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن به يعني عيسى.
"الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّكَ لَا تَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قُمْتُ إِنْ أَنَا لَقَاعِدٌ."
إذا جئت بإن لابد أن تأتي بإلا. إن أنا إلا قاعد.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ سَائِرِ الْمُفَسِّرِينَ؛ سِوَى الْحَسَنِ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ."
ولا شك أن الأمر كله لله، ومن عند الله بواسطة جبريل عليه السلام.
"وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُو مِرَّةٍ} عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ ذُو قُوَّةٍ وَالْقُوَّةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَأَصْلُهُ مِنْ شِدَّةِ فَتْلِ الْحَبْلِ، كَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ بِهِ الْفَتْلُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى غَايَةٍ يَصْعُبُ مَعَهَا الْحَلُّ. ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَوَى يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ أَيِ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْفَرَّاءُ: فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى أَيِ: اسْتَوَى جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ بِ "هُوَ". وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الْعَطْفَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَظْهَرُوا كِنَايَةَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ."
لابد أن يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. إذا كان المعطوف عليه ضمير رفع متصل فصلوا بينه وبين ما عقب عليه، سواء كان بالضمير المنفصل أو بغيره.
طالب:...........
ما ينفي الاستواء لكنه يؤوله.
"فَيَقُولُونَ: اسْتَوَى هُوَ وَفُلَانٌ؛ وَقَلَّمَا يَقُولُونَ اسْتَوَى وَفُلَانٌ."
هذا يرد نادرًا في النظم العطف على ضمير الرفع المتصل بدون الفاصل. قال ابن مالك رحمه الله:
وإنْ على ضميرِ رَفْـعٍ مُتَّصِـلْ عَطَفْتَ فافْصِلْ بالضميرِ الْمُنْفَصِلْ
أو فاصلٍ ما وبـلا فَصْـلٍ يَـرِدْ في النظْمِ فاشيًا وضَعْفَهُ اعْتَقِـدْ
"وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودَهُ وَلَا يَسْتَوِي وَالْخِرْوَعُ الْمُتَقَصِّفُ |
أَيْ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَالْخِرْوَعُ؛ وَنَظِيرُ هَذَا: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا) وَالْمَعْنَى أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا."
هنا لا يحتاج إلى ضمير لأن الفصل حصل: كنا ترابًا، فافصل بالضمير المنفصل أو فاصل ما. هنا حصل الفاصل، فلا يلزم الضمير المنفصل.
"وَمَعْنَى الْآيَةِ: اسْتَوَى جِبْرِيلُ هُوَ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. وَأَجَازَ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ..."
ما قال استوى فاستوى هو وهو، الآن ما فصل بين المعطوف والمعطوف عليه، الضمير المنفصل لكن لم يفصل هنا لألا يتكرر الضمير وإلا فالأصل على هذا الكلام أن يقال فاستوى هو وهو.
"وَأَجَازَ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الزَّجَّاجُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ."
ولذا قال: في النظْمِ فاشيًا وضَعْفَهُ اعْتَقِـدْ.
"وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَهُوَ أَجْوَدُ. وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَوِي جِبْرِيلُ فَمَعْنَى ذُو مِرَّةٍ فِي وَصْفِهِ: ذُو مَنْطِقٍ حَسَنٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو خَلْقٍ طَوِيلٍ حَسَنٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ذُو صِحَّةِ جِسْمٍ وَسَلَامَةٍ مِنَ الْآفَاتِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»."
يعني قوة وقدرة على الكسب.
"وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كُنْتُ فِيهِمْ أَبَدًا ذَا حِيلَةٍ مُحْكَمَ الْمِرَّةِ مَأْمُونَ الْعُقَدِ |
وَقَدْ قِيلَ: ذُو مِرَّةٍ ذُو قُوَّةٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اقْتَلَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَحَمَلَهَا عَلَى جَنَاحِهِ حَتَّى رَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نَبْحَ كِلَابِهِمْ وَصِيَاحَ دِيَكَتِهِمْ ثُمَّ قَلَبَهَا. وَكَانَ مِنْ شِدَّتِهِ..."
ما أضعف الخلق! وما أهونهم على الله جل وعلا إذا خالفوا أمره، والله المستعان.
طالب:........
حرام عليه أن يأخذ وحرام على المعطي أن يعطيه إذا عرف حاله، لأنها لا تجوز له.
"وَكَانَ مِنْ شِدَّتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ أَبْصَرَ إِبْلِيسَ يُكَلِّمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامَ عَلَى بَعْضِ عُقَابٍ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَنَفَحَهُ بِجَنَاحِهِ نَفْحَةً أَلْقَاهُ بِأَقْصَى جَبَلٍ فِي الْهِنْدِ. وَكَانَ مِنْ شِدَّتِهِ: صَيْحَتُهُ بِثَمُودَ فِي عَدَدِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَأَصْبَحُوا جَاثِمِينَ خَامِدِينَ. وَكَانَ مِنْ شِدَّتِهِ هُبُوطُهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَصُعُودُهُ إِلَيْهَا فِي أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ جَزْلِ الرَّأْيِ حَصِيفِ الْعَقْلِ: ذُو مِرَّةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَاكُمُ ذَا مِرَّةٍ عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ |
وَكَانَ مِنْ جَزَالَةِ رَأْيِهِ وَحَصَافَةِ عَقْلِهِ أَنَّ اللَّهَ ائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمِرَّةُ إِحْدَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ. وَالْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ أَيْضًا."
الطبائع الأربع في باب الطب. هناك طبائع أربع منها: المرة وهي الخروج عن حد الاعتدال في هضم الطعام بالآثار المترتبة على ذلك، وإذا خرج شيء من الطعام عن طريق الفم من غير قصد يقال: هذا رجل فيه مرة.
"وَالْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ أَيْضًا."
في كتاب مؤلف صغير قديم اسمه: الدرة في أحكام الجرة والمرة، يعني أحكام ما يخرج من جوف الحيوان الذي يجتر، ومن جوف الآدمي في حال المرة.
"وَالْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ أَيْضًا. وَرَجُلٌ مَرِيرٌ أَيْ قَوِيٌّ ذُو مِرَّةٍ. قَالَ:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ" |
في بعض ألفاظ البيت:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ وفي أثوابه أَسَدٌ هصورُ |
"وَقَالَ لَقِيطٌ:
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ مُرُّ الْعَزِيمَةِ لَا رَتًّا وَلَا ضَرَعَا |
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ذُو مِرَّةٍ ذُو قُوَّةٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نَدْبَةَ:
إِنِّي امْرُؤٌ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَبْقِنِي فِيمَا يَنُوبُ مِنَ الْخُطُوبِ صَلِيبُ |
فَالْقُوَّةُ تَكُونُ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ. فَاسْتَوَى يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ أَيِ: ارْتَفَعَ وَعَلَا إِلَى مَكَانٍ فِي السَّمَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: {فَاسْتَوَى} أَيْ قَامَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ كَمَا كَانَ يَأْتِي إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..."
من أجل التأنيس من أجل تأنيسهم وإلا لو جاء على صورته باستمرار، لا يحصل لهم الأنس يخافون من طبائعهم البشرة ما زالت بالكلية.
"فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ الَّتِي جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَأَرَاهُ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ؛ فَأَمَّا فِي الْأَرْضِ فَفِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَاءٍ، فَطَلَعَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَسَدَّ الْأَرْضَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَخَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. فَنَزَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ؛ فَلَمَّا أَفَاقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَحَدًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا نَشَرْتُ جَنَاحَيْنِ مِنْ أَجْنِحَتِي وَإِنَّ لِي سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ سَعَةُ كُلِّ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَظِيمٌ فَقَالَ: وَمَا أَنَا فِي جَنْبِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَّا يَسِيرًا، وَلَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْرَ جَمِيعِ أَجْنِحَتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَضَاءَلُ أَحْيَانًا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ بِقَدْرِ الْوَصَعِ. يَعْنِي الْعُصْفُورَ الصَّغِيرَ؛ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وَأَمَّا فِي السَّمَاءِ فَعِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى..."
"وَأَمَّا فِي السَّمَاءِ فَعِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّ مَعْنَى "فَاسْتَوَى" أَيِ: اسْتَوَى الْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ. وَفِيهِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي صَدْرِ جِبْرِيلَ حِينَ نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: فِي صَدْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ أَنَّ مَعْنَى "فَاسْتَوَى" فَاعْتَدَلَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: فَاعْتَدَلَ فِي قُوَّتِهِ، الثَّانِي: فِي رِسَالَتِهِ؛ ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، قُلْتُ: وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ ذُو مِرَّةٍ، وَعَلَى الثَّانِي شَدِيدُ الْقُوَى. وَقَوْلٌ خَامِسٌ أَنَّ مَعْنَاهُ فَارْتَفَعَ."
لأنه من معاني الاستواء في اللغة ارتفع وصعد وعلا.
"وَقَوْلٌ خَامِسٌ أَنَّ مَعْنَاهُ فَارْتَفَعَ. وَفِيهِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَفَعَ إِلَى مَكَانِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا، الثَّانِي: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَفَعَ بِالْمِعْرَاجِ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ فَاسْتَوَى يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَيِ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي "الْأَعْرَافِ ".
يعني في الموضع الأول من المواضع السبعة التي ذكر فيها الاستواء.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى فَاسْتَوَى عَالِيًا، أَيِ: اسْتَوَى جِبْرِيلُ عَالِيًا عَلَى صُورَتِهِ وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرَاهُ عَلَيْهَا حَتَّى سَأَلَهُ إِيَّاهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْأُفُقُ نَاحِيَةُ السَّمَاءِ وَجَمْعُهُ آفَاقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَأْتِي مِنْهُ الشَّمْسُ. وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ الشَّمْسُ. وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَيُقَالُ: أُفْقٌ وَأُفُقٌ مِثْلُ عُسْرٌ وَعُسُرٌ. وَقَدْ مَضَى فِي "حم السَّجْدَةِ". وَفَرَسٌ أُفُقٌ بِالضَّمِّ أَيْ رَائِعٌ وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
أُرَجِّلُ لِمَّتِي وَأَجُرُّ ذَيْلِي وَتَحْمِلُ شِكَّتِي أُفُقٌ كُمَيْتُ |
وَقِيلَ: وَهُوَ أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى يَعْنِي لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَوَى هُوَ وَفُلَانُ، وَلَا يُقَالُ اسْتَوَى وَفُلَانُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ."
يعني على ما تقدم.
"وَالصَّحِيحُ اسْتَوَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجِبْرِيلُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَاسْتَوَى فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ فَمَلَأَ الْأُفُقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أَيْ دَنَا جِبْرِيلُ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ فَتَدَلَّى فَنَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ. الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا رَأَى، وَهَالَهُ ذَلِكَ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ حِينَ قَرُبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} يَعْنِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ وَكَانَ جِبْرِيلُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى."
يعني مقدار المسافة بينهما مقدار قوسين.
"قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَدَلَّى."
وصفة الدنو والقرب لله جل وعلا ثابتة بالنصوص الصحيحة.
"وَرَوَى نَحْوَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: دَنَا مِنْهُ أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ. وَأَصْلُ التَّدَلِّي..."
الإتيان والمجيء أيضًا من الصفات الثابتة لله -جل وعلا- وأهل التأويل يؤولون الإتيان إتيان أمره ومنه ما هنا.
"وَأَصْلُ التَّدَلِّي النُّزُولُ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَقْرُبَ مِنْهُ فَوُضِعَ مَوْضِعَ الْقُرْبِ؛ قَالَ لَبِيَدٌ:
فَتَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ قَافِلًا وَعَلَى الْأَرْضِ غَيَابَاتُ الطَّفَلِ |
وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي فَتَدَلَّى بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَنَا."
لأن الدنو سببه التدلي فكيف يقدم عليه؟ الكلمات إذا كان معناها واحد يجوز تقديم بعضها على بعض، فالدنو والتدلي بمعنى واحد، سواء قدمت {دَنَا فَتَدَلَّى} أو عكست كله صحيح، هذا لا يتأثر. في مناسبة بتفسير سورة النجم بتفسير سابق قلنا إن هذا لا يختلف به المعنى كما لو قيل: احزم رباط الأمان، أو اربط حزام الأمان، ما تفرق لأن الكلمتين معناهما واحد سواء قدمت الأولى، أو الثانية.
"وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَقُلْتَ: فَدَنَا فَقَرُبَ وَقَرُبَ فَدَنَا، وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْإِسَاءَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ تَدَلَّى فَدَنَا؛ لِأَنَّ التَّدَلِّيَ سَبَبُ الدُّنُوِّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ثُمَّ تَدَلَّى جِبْرِيلُ أَيْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَدَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ فَدَنَا مِنْ رَبِّهِ. وَسَيَأْتِي. وَمَنْ قَالَ: الْمَعْنَى فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى قَدْ يَقُولُ: ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ دُنُوَّ كَرَامَةٍ فَتَدَلَّى أَيْ هَوَى لِلسُّجُودِ. وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ عَلَى هَذَا تَدَلَّى أَيْ تَدَلَّلَ ؛ كَقَوْلِكَ تَظَنَّى بِمَعْنَى تَظَنَّنَ، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فِي صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ."
المناسب لهذا المقام الخضوع التواضع لله جل وعلا.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أَيْ (كَانَ) مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ أَوْ مِنْ جِبْرِيلَ (قَابَ قَوْسَيْنِ) أَيْ قَدْرَ قَوْسَيْنِ عَرَبِيَّتَيْنِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْفَرَّاءُ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} قُلْتُ: تَقْدِيرُهُ: فَكَانَ مِقْدَارُ مَسَافَةِ قُرْبِهِ مِثْلَ قَابِ قَوْسَيْنِ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ إِصْبَعَا أَيْ ذَا مِقْدَارِ مَسَافَةِ إِصْبَعٍ أَوْ أَدْنَى أَيْ عَلَى تَقْدِيرِكُمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ يَزِيدُونَ). وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَقُولُ بَيْنَهُمَا قَابُ قَوْسٍ، وَقِيبُ قَوْسٍ وَقَادُ قَوْسٍ، وَقِيدُ قَوْسٍ؛ أَيْ قَدْرُ قَوْسٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ " قَادَ" وَقُرِئَ "قِيدَ" وَ" قَدْرَ". ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْقَابُ مَا بَيْنَ الْمَقْبَضِ وَالسِّيَةِ. وَلِكُلِّ قَوْسٍ قَابَان. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَابَ قَوْسَيْنِ} أَرَادَ قَابَيْ قَوْسٍ فَقَلَبَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَوْضِعُ قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَالْقِدُّ السَّوْطُ."
تفسير القاب بالقدر، قاب قوسين يعني قدر قوسين، قاب قوس يعني قدر قوس من الجنة فالقوس عند العرب لا يختلف طولًا عندهم على حد واحد، ولذلك يعني يمثلون بشدة القرب لأنه لا يختلف من قوس إلى آخر.
"وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ بِالْقَوْسِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ فِي الْقَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ أَوْ إِلَى اللَّهِ فَلَيْسَ بِدُنُوِّ مَكَانٍ وَلَا قُرْبِ مَدًى، وَإِنَّمَا دُنُوُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ إِبَانَةُ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وَتَشْرِيفُ رُتْبَتِهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَمُشَاهَدَةُ أَسْرَارِ غَيْبِهِ وَقُدْرَتِهِ."
هذا فرار من إثبات القرب الذي يوصف به الرب جل وعلا وصف به نفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. هذا فرار من إثباته على طريقة المؤولة، وإلا فالقرب والدنو كلها ثابتة لله جل وعلا، على ما يليق بجلاله وعظمته. لسنا بحاجة إلى هذا الكلام.
طالب:............
"وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مَبَرَّةٌ وَتَأْنِيسٌ وَبَسْطٌ وَإِكْرَامٌ. وَيُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ: نُزُولُ إِجْمَالٍ وَقَبُولٍ وَإِحْسَانٍ."
وهذا أيضًا تأويل للنزول الإلهي الذي ثبت به هذا النص القطعي المتواتر أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في آخر كل ليلة في الثلث الأخير الحديث معروف.
"قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْلُهُ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى جِبْرِيلَ كَانَ عِبَارَةً عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَلُطْفِ الْمَحَلِّ، وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِبَارَةً عَنْ إِجَابَةِ الرَّغْبَةِ، وَقَضَاءِ الْمَطَالِبِ، وَإِظْهَارِ التَّحَفِّي، وَإِنَافَةِ الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ؛ وَيُتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» قُرْبٌ بِالْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَإِتْيَانٌ بِالْإِحْسَانِ وَتَعْجِيلُ الْمَأْمُولِ."
لسنا بحاجة إلى ها التأويلى الذي يتضمن الفرار مما أثبته الله لنفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، إنما هذه النصوص تمر كما جاء على طريقة السلف، يؤمن بها ولا يتعرض لتأويلها وكيفيتها.
"وَقَدْ قِيلَ: ثُمَّ دَنَا جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهِ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَقْرَبَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ اللَّهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ»."
طالب:.......
الخبر ضعيف.
"وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ: قَابَ قَوْسَيْنِ وَأَدْنَى. وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ أَيْ بَلْ أَدْنَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَابُ صَدْرُ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ."
بمعنى بل كما في قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} يعني بل يزيدون.
"الْقَابُ صَدْرُ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ حَيْثُ يُشَدُّ عَلَيْهِ السَّيْرُ الَّذِي يَتَنَكَّبُهُ صَاحِبُهُ..."
يعني يتقلده.
"وَلِكُلِّ قَوْسٍ قَابٌ وَاحِدٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَرُبَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقُرْبِ قَابِ قَوْسَيْنِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ...."
أبو إسحاق الهمداني المعروف بالسبيعي.
"{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أَيْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ، وَالْقَوْسُ الذِّرَاعُ يُقَاسُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ."
يقال لها قوس وقاس لأنه يقاس بها.
"وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ. وَقِيلَ: هِيَ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أَرَادَ قَوْسًا وَاحِدًا؛ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرَّتَيْنِ قَطَعْتُهُ بِالسَّمْتِ لَا بِالسَّمْتَيْنِ |
أَرَادَ مَهْمَهًا وَاحِدًا."
بدليل أنه عطف الضمير مفرد قطعته يعني عاد الضمير عليهما مفردًا فدل على أنه يريد الواحد.
"وَالْقَوْسُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ فَمَنْ أَنَّثَ قَالَ فِي تَصْغِيرِهَا قُوَيْسَةٌ وَمَنْ ذَكَّرَ قَالَ قُوَيْسٌ؛ وَفِي الْمَثَلِ: هُوَ مِنْ خَيْرِ قُوَيْسٍ سَهْمًا. وَالْجَمْعُ قِسِيٌّ قُسِيٌّ وَأَقْوَاسٌ وَقِيَاسٌ؛ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
وَوَتَّرَ الْأَسَاوِرُ الْقِيَاسَا وَالْقَوْسُ أَيْضًا بَقِيَّةُ التَّمْرِ |
فِي الْجُلَّةِ أَيِ: الْوِعَاءِ. وَالْقَوْسُ بُرْجٌ فِي السَّمَاءِ. فَأَمَّا "الْقُوسُ" بِالضَّمِّ فَصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ جَرِيرٌ وَذَكَرَ امْرَأَةً:
لَاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا الْمِسْحَيْنِ فِي الْقُوسِ."
يعني الراهب في صومعته.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَحْيِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ وَمِنْهُ: الْوَحَاءُ الْوَحَاءُ. وَالْمَعْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَوْحَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ؛ قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ. قَالَ قَتَادَةُ..."
ليكون كل فعل مسندا إلى شيء يختص به. عندك: أوحى وأوحى، التكرار لا شك أنه يدل على التفخيم والتعظيم، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} هذا إذا قلنا أن المسند إليه واحد، أما إذا غير بين المسند في الفعل الأول، وبين المسند إليه في الفعل الثاني فلما ذكر قال: والمعنى أوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه يكون المسند إليه في أوحى الأولى جبريل، وما أوحى الثانية المسند إليه الفاعل هو الله جل وعلا.
"قَالَ قَتَادَةُ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ وَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْوَحْيُ هَلْ هُوَ مُبْهَمٌ؟ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ نَحْنُ وَتُعُبِّدْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَوْ هُوَ مَعْلُومٌ مُفَسَّرٌ؟"
الآن هو مبهم ما فسر يعني مفعول به لم يذكر، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} في هذا المقام هل جاء بيان في موضع آخر؟ أو استمر إبهامه؟ قولان لأهل العلم لكن الذي يظهر ما زال مبهمًا.
"قَوْلَانِ؛ وَبِالثَّانِي قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ! أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ! أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ! {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. وَقِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ حَرَامٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا يَا مُحَمَّدُ، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ."
هذا يحتاج إلى نص بين مفسر يقطع العذر وإلا فيبقى على الإبهام فلا يضر؟ ما يضر.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"