كتاب الإيمان (04)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: أنا شاب أرغب في الزواج، وأخشى أن يؤثّر ذلك في تحصيلي العلمي، فهل ذلك صحيح؟ وهل الزواج يؤثّر في طلب العلم؟
إذا حرص طالب العلم على الزوجة الصالحة، وأن تكون من طلبة العلم أو طالبات العلم فإن هذا لا شك أن له أثرًا في حياة طالب العلم، فتعينه على التحصيل، ويتعاونان معًا على البر والتقوى، وهذا شيءٌ مُجرَّب، لكن على أن يكون اهتمامه منصبًا على العلم والتعاون على ما يحقق الهدف الذي من أجله خُلِق، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، ولا يمنع ذلك من الاستمتاع بالمرأة؛ لأن هذا من مقاصد النكاح، فلا يكون هو الأصل، ويكون العلم فضلة، أو التعاون على تحقيق الهدف يكون أيضًا فضلة، إنما يكون الأصل هو تحقيق الهدف، ومما يستعان به على تحقيق الهدف أيضًا الاستمتاع والراحة والسكن النفسي، كل هذا يستعان به على التحقيق، لكن لا يكون هم الإنسان الاستمتاع ودواعيه وما يجر إليه، وأنهم، كما حصل لبعض طلاب العلم لما تزوج صار همه المتعة، وما يحقق هذه المتعة من مطالبها، صارت المرأة إذا طُلِب منها الشيء؛ لأن هناك فرقًا بين الرجل والمرأة في هذا الباب، فالرجل على ما يقول أهل الاختصاص يُقدِّم الحُب من أجل الاستمتاع، والمرأة بالعكس تُقدِّم الاستمتاع من أجل الحب، فهو يسعى لتحقيق الهدف بما تطلبه من متع الحياة الدنيا، وتجده هو وإياها في أسفار وطلعات وروحات وغيرها؛ من أجل أن يصل منها إلى ما يريد، هو إذا وجد المرأة الصالحة التي لها يد في طلب العلم فإنها لا شك أنها تعينه على أن لا ينهمكا في تحقيق ما يُراد ما يريده الرجل من امرأته، ويكون هو الهم؛ لأن هذا سوف ينسيهم ويجرهم إلى أشياء تشغلهم عن العلم، لكن ليكن حازمًا من أول الأمر، على تحقيق العبودية لله -جل وعلا- ومن أعظم الأبواب التي يُتوصل بها إلى تحقيق الهدف تحصيل العلم الشرعي.
هذا يقول: مرجئة الفقهاء يقولون: الناس في أصل الإيمان سواء، لكنهم يتفاوتون فيه، ومع ذلك يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، أليس التفاوت زيادة في الإيمان؟ أرجو الإيضاح.
في كلام ابن أبي العز في هذه المسألة في شرح كلام الطحاوي، يقول: قوله: والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صحّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأصله في أصل وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى. ما هو في أصل الإيمان، في ثمرته، التفاضل بينهم في ثمرته. والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى.
ثم قال الشارح: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافًا كثيرًا، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة- رحمهم الله- وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديقٌ بالجنان وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان. علّق المحقِّق وكأنه نقله من فتح الباري، قال: وهو قول المعتزلة أيضًا فإنهم قالوا: الإيمان هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله. الأول من الفتح.
هات. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته والسلف جعلوها شرطًا في كماله.
طالب:...
لا لا لا، المعتزلة واضح اشتراطهم العمل وتكفيرهم أو إخراجهم من الإيمان من ارتكب الكبيرة أو...
طالب:...
نعم.
طالب:...
نناقش هذه العبارة، لكن هو يقول: والفارق بينهم يعني المعتزلة وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله. يعني فيه توافق بين الشرطية والكمال، أو تنافر؟
طالب:...
لا، لو قلنا: كمال صحّ بدونه، لو قلنا: شرط كمال قلنا صحّ بدونه.
طالب:...
نعم، بدون عمل. يصحّ بدون عمل؟
طالب:...
نعم.
طالب:...
هذا كلامه. الشيخ- رحمة الله عليه- ما علّق على هذه الجُملة. الشيخ ابن باز، لحظة أعرف الكلام كله في المسألة، خلنا بالتدريج، الشيخ ابن باز- رحمة الله عليه- ما علّق على هذه الجملة، وسُئل عنها في مقابلة مع مجلة المشكاة، وقال: هذا الكلام ليس بصحيح، بل هو قول المرجئة، يقول هذا قول المرجئة. والصواب أن جنس العمل شرطٌ في الصحة كما قال شيخ الإسلام. يعني ما هو مفرداته، جنسه شرط في الصحة، لكن هل نقول: إن العمل شرط أم ركن؟ ماذا؟
طالب:...
الكلام على العمل هل هو داخل الماهية أو خارج الماهية؟
طالب:...
مرّ علينا كلام ابن القيم الذي قرأناه في الدرس الماضي.
طالب:...
أين هو؟
ما هو؟
طالب:...
في أي كتاب؟
طالب:...
أين؟
طالب:...
المقصود أن ما نسبه ابن حجر للسلف، ونُقِل هنا من غير تحرير هذا كلام الشيخ- رحمة الله عليه-، قال: وما علقت؟ لماذا ما علقت على فتح الباري؟ لماذا لم يعلق الشيخ على فتح الباري؟ قال: التعليق من أربعين سنة، وهذه المسائل الدقائق التي تمرّ في الكتب المطولة الذي لا تُشرح شرحًا تحليلاً؛ لأن المطولات تُمَر إمرارًا، المتون تُشرح شرحًا تحليليًّا، وينظر في الألفاظ بدقة ومحترزات الألفاظ، فلا يفوت شيء، إلا على ما جُبل عليه البشر هذا شيء آخر، لكن ما يمكن أن تفوت عبارة أو جملة أو كلمة إلا مُحلَّلة، لكن الكتب التي هي مطولات هذه تُمَر إمرارًا، ولا يمكن أن ينتبه الإنسان لمثل هذه الدقائق إلا إذا أُثيرت، فكثُر الكلام فيها في الوقت المتأخر فانتبه الناس، وإلا كانوا يقرؤونها وتمشي، يقرؤونها وتمشي، في فتح الباري ما أحد يناقش مثل هذه العبارة، وماشية، لكن لما أثيرت وبُني عليها لوازم، ودخل كثيرٌ من الناس في مذهب المرجئة، وهو لا يشعر، وصاروا يرددون مثل هذا الكلام احتيج إلى تحرير المسائل، ولذلك ما تجد تعليقًا للشيخ ابن باز على هذه المسألة، بينما كلامه مع مجلة المشكاة هذا الذي قلته لكم.
طالب:...
لا لا، مثل هذا الكلام يؤتى به في مقابلة المعتزلة والخوارج.
طالب:...
معروف معروف، هم قالوا، انظر، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته.
طالب:...
والسلف جعلوها شرطًا في كماله. لكن ما فيه ما يبين أن جنس العمل شرط، شرط صحة، لا بد من التفصيل، جنس العمل، يعني ما فيه شك أن مفردات العمل لا سيما مثلاً الصلاة عند من يقول بكفر تاركها أنها شرط صحة، لكن بقية الأعمال التي لا يُكفَّر صاحبها من الشروط الواجبة من الكمال الواجب وبعضها من الكمال المستحب؛ لأنها متفاوتة، والمسألة تراها معضلة، يعني تصورها لا بد من انتباه، كلام شيخ الإسلام في كتاب الإيمان يحتاج إلى شيء من دقة الفهم، وإلا فكثير من الطلاب يقرؤون مرة ومرتين وما يخرج بنتيجة.
يقول: وهذا كله وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يُحكَم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود لصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته، وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص. وسنراه قريبًا، لكن انظر كلام ابن أبي العز هنا، لما ذكر القول الأول في المسألة وأنه تصديقٌ باللسان بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان ويقول: وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي، أصحابه من؟ الحنفية أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان. إقرار باللسان والتصديق بالجنان هذا أصل هذا الإيمان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركنٌ زائدٌ ليس بأصلي، الإقرار باللسان ركنٌ زائدٌ ليس بأصلي، يعني إنما يُطلَب لحقن الدم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وإلا فلو وقر الإيمان بقلبه، واعتقد اعتقادًا صحيحًا جازمًا ولم ينطق على هذا القول فإن إيمانه صحيح، لكن حقن الدم إنما يترتب على النطق. قال: وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي -رحمه الله-.
يقول: ويُروى عن أبي حنيفة -رضي الله عنه-. علّق على هذا من عمدة القاري يقول: اختلفوا في الإقرار باللسان وهل هو ركن الإيمان أم شرط له في حق إجراء الأحكام، قال بعضهم: هو شرط لذلك. وذكرنا القصة التي حصلت لمن وقر الإيمان في قلبه من النصارى، وذهب هو وزميل له؛ ليعلن إسلامه على يد شيخ، فاعتذر الشيخ بأن الوقت قد ضاق، وأنه بقي ربع ساعة على صلاة الظهر، وقال: بعد الصلاة، خرجوا من عنده فإذا هناك إطلاق نار، فذهب ضحية قُتِل. ويسألون قلنا: ما دام ما أقر ولا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فمعاملته في الظاهر لا شك أنه يُعامل معاملة النصارى. قال بعضهم: هو شرط لذلك حتى إن من صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع ما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه.
طالب:...
قال النسفي..
طالب:...
وفرعون وإبليس. لكن هل اعتقادهم صحيح؟ على ضوء ما جاءت به الرسل أو هو مجرد معرفة بالله -جل وعلا-، وأنه موجود، لكنه لا يستحق العبادة عندهم؟ قد.
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
أبو طالب بالرسالة الخاصة.
طالب:...
بالرسالة الخاصة، أما أولئك بالربوبية العامة. قال النسفي: وهو المروي عن أبي حنيفة، وإليه ذهب الأشعري في أصحّ الروايتين، وهو قول أبي منصور الماتريدي، قال بعضهم: هو ركن، لكنه ليس بأصلي له كالتصديق، بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز. هذا من عمدة القاري.
قال: وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به، وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي أحد رؤوساء القدرية إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب. يعني فرق بين التصديق بالقلب ومجرد المعرفة بالقلب، وهذا القول أظهر فسادًا مما قبله. فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون- عليهما الصلاة والسلام- ولم يؤمنوا بهما. ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}[سورة الإسراء: 102]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[سورة النمل: 14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمنًا، فإنه قال:
ولقد علمتُ بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينًا
لولا الملامة أو حذار مسبةٍ لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمنًا كامل الإيمان، فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[سورة الحجر: 36]، و{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}[سورة الحجر: 39]، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[سورة ص: 80]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، ولا أحد أجهل منه بربه يعني الجهم. فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا فيكون كافرًا بشهادته على نفسه.
في فتح الباري في أول كتاب التوحيد ذكر عن الجهم جهلًا بالبدهيات التي يعرفها عوام المسلمين، فقد سُئل عن امرأة طُلِّقَت قبل الدخول فقال: تعتد أربعة أشهر وعشرًا. يعني مثل هؤلاء دخولهم في القضايا العلمية الدقيقة، نعم في القضايا العلمية الدقيقة، عند دخولهم في مثل هذه القضايا وهذا واقعهم، هل هو وعلى حد زعمهم أنه مما يقربهم إلى الله -جل وعلا-، وأنه بحثٌ عن الحق والعلم، وينصرون ما يرون الحق، هذا مقامهم، وهذا جهلهم، يعني تجد بعض الناس يكتب في قضايا الأمة العامة التي فيها النصوص والقواعد الشرعية، وتسأله عن مسائل الطهارة فما يعرفها، يعني ما أشبه الليلة بالبارحة.
هذا يبين أن النفوس فيها أشياء، ودخولهم في مثل هذه القضايا، يعني شخص لا يحسن صلاته، ولا يعرف ما جاء فيها من النصوص، ومع ذلك يدخل في مسائل علمية دقيقة، ولكنهم الذين يتتبعون المتشابه، الذين سمى الله فاحذروهم. وإلا فلو عُرِف شخص بعلم، وينصر ما يراه الحق، يلام إذا أخطأ؟ ما يلام، يعني فرقٌ بين أن يكتب في الحجاب الشيخ الألباني- رحمة الله عليه-، والذي نعتقده أنه ينصر ما يراه الحق، ومن أهل العلم، وله يد وباع في العلم، وبين من يكتب عن الحجاب ممن لا حظ له في العلم لا من قريب ولا من بعيد. فرق بين هذا وهذا.
فالجهم لما يدخل في هذه الأمور، وهو لا شك أنه يريد أن يصل إلى هدف. فيكون كافرًا بشهادته على نفسه، يقول: ولا أجهل ولا جهل أكبر من هذا، جهل الجهم، وبين هذه المذاهب وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود أعرضت عن ذكرها اختصارًا، وذكر هذه المذاهب أبو المعين النفسي في تبصرة الأدلة وغيرها، وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم- رحمهم الله- كما تقدَّم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه- رحمهم الله-، أو باللسان وحده كما تقدَّم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قال الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.
نأتي إلى ما جاء في السؤال قال: والاختلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السُّنَّة اختلافٌ صوري. والاختلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السُّنَّة اختلافٌ صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءًا من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، نزاعٌ لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى وإلا فقد نفى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقًا، ولا خلاف بين أهل السُّنَّة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقلب بالقول التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما؟ وهو القول وحده والعمل مغاير له، لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أُطلِق عليه ما كان مجازًا؟ هذا محل نزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدَّق بقلبه- وهذا الكلام نحتاجه؛ لأن النزاع في هذه المسألة ليس مع قوم مبتدعة مغرقين في الابتداع، بل من ناس محسوبين على أهل السُّنَّة، إمام من أئمة المسلمين يسميه المسلمون الإمام الأعظم، يعني حصل التشديد عليه في بداية نشأة البدع في كتب المتقدمين، لكن الآن أتباعه يمكن نصف الأمة، فلا بد مع التعامل معه بشيء مما يحفظ له مكانته مع بيان الحق ولا يجامل فيه ولا يمارى ولا يدارى.
وقد أجمعوا على أنه لو صدّق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أجمعوا حتى بمن في ذلك الحنفية، وقد أجمعوا على أنه لو صدّق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاصٍ لله ورسوله، مستحق الوعيد بخلاف الجهمية الغلاة أبدًا، الإيمان لا يضر معه معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، يعني بيننا التفريق بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السُّنَّة الذين اشترطوا العمل، جنس العمل لصحة الإيمان من وجه، والفرق بين هؤلاء المرجئة هذا النوع من المرجئة الذين هم مرجئة الفقهاء وبين المرجئة الغلاة من وجه. يشابهونهم من وجه، ويخالفونهم من وجه، يشابهون جمهور أهل السُّنَّة من وجه، ويخالفونهم من وجه.
هنا قال: وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاصٍ لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال لما كان الإيمان شيئًا واحدًا فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما-، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل- عليهما السلام-، وهذا غلو. يعني نظير من يسوي بين المبصرين، وبين التجار مثلاً، من يملك مليونًا غني أم فقير؟ غني، لكن الذي يملك مليارًا غني أم فقير؟ اتفقوا في أصل الغنى، لكن بينهم مفاوز، بينهم مفاوز، الذي يقرأ الكتب بالنظارة الكبيرة وكذا مبصر ليس بأعمى، لكن الذي يقرأ الحروف الدقيقة البعيدة هذا لا شك أنهم يشتركون في أصل الصفة، دعونا مما يقوله الأشعرية في مسألة الأسباب، وأنه يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس، هذا كلام لا نلتفت إليه؛ لأنه مخالف للعقل والنقل، وتعجب أن يقول مثل هذا الكلام أناس عندهم ذكاء، وعندهم شيء من الدقة والتحرير، يقول: يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس. أين؟ أقصى المشرق وأقصى المغرب، والبق صغار البعوض وهذا أعمى!
والله بالحرف قالوه، يعني ما هو بإلزام، في كتبهم موجود، بالحرف، يعني كلامهم هذا لا يدخل فيما نحن فيه، ما نقول والله هذا أعمى ودخل مع المبصرين لا، هذا لا شأن لنا به.
قال: بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكال- عليهما السلام-، وهذا غلوٌ منه، فإن الكفر هذا المثال الذي ذكره المؤلف الشارح، فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها. زجاجة يعني نظارة. هذا في القرن الثامن. يقول هذا الكلام في القرن الثامن عادي عندهم نظارات مثلًا أو كشافات يرون بها مثل الذي عند أهل المخطوطات، لكنه يقول: ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائدًا على العادة وآخر بضده.
ولهذا والله أعلم قال الشيخ -رحمه الله- يعني الطحاوي: وأهله في أصله سواء. يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى، كلام جميل، الآن تستطيع أن تقول: فلان عالم، وفلان عالم، وبينهما في العلم مثل ما بين السماء والـأرض، يعني تقول: شيخ الإسلام عالم، وتقول لفلان من الناس أما في وقته أو قبله أو بعده: عالم، ويقال عن فلان: إنه إمام، ويقال عن غيره: إنه إمام، وبينهما من التفاوت الشيء الكبير، لكنهم يشتركون في القدر المشترك من العلم، الآن علم شيخ الإسلام- رحمة الله عليه- الذي أظهره في كتبه، ورد به على الطوائف، سئل عنه الشيخ محمد رشيد رضا في فتاويه قال السائل: هل شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة، أو الأئمة الأربعة أعلم منه؟ إحراج أم ليس بإحراج؟ إحراج، فجاء بجوابٍ يرضي جميع الأطراف، قال: شيخ الإسلام تخرّج على كتب الأئمة الأربعة وكتب أصحابهم، فلهم الفضل عليه، ولإحاطته بما كتبه الأئمة الأربعة وكتبه أصحابهم فيفوقهم من هذه الحيثية. وإلا ما فيه أحد تقول لأحد من أتباع المذاهب: إن شيخ الإسلام أعلم من أبي حنيفة وأعلم من مالك أو أعلم من كذا...
لكن يبقى شيء لا بد من التنبه له، وأن أئمة السلف يختلف وضعهم، يعني من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن قرب منهم، ما يقاسون بكثرة الكلام، علمهم لا يقاس بكثرة الكلام، نعم تجد الواحد من أوساط المتعلمين الآن تجد له من من العلم المنشور والمسجل تجد له شيئًا كثيرًا جدًّا، بعضهم بلغت مؤلفاته وما زال طالب علم إلى حد المائة، تجد لمالك أو لأبي حنيفة أو لغيرهم حتى أحمد والشافعي لا تجد لهم مثل هذه المؤلفات، ما السبب؟ السبب أن علم السلف مختصرٌ جدًّا قليل مبارك، وعلم الخلف كثير، الشيء الذي يعبر عنه السلف بكلمة أو جملة، يكتب فيه الخلف مجلدًا، والمجلد فيه فوائد كثيرة جدًّا، لكن هات كتب المعاصرين التي يسمونها الفكرية، تجد كتابًا كبيرًا تلخصه بجملة، أو تقرؤه من أوله إلى آخره، وفي النهاية تقول: والله كتاب جيد، لكن ماذا مسكت؟ لا شيء.
الحافظ ابن رجب- رحمه الله- في فضل علم السلف على الخلف قال: ومن فضّل عالمًا على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة. السلف يعجبني أو لا يعجبني أو أكره كذا، لكن مبارك، الآن لو قارنت بين فتاوى الشيخ ابن باز- رحمة الله عليه- وفتاوى غيره من أهل العلم وتقرير الشيخ على المسائل العلمية وتقريرنا نحن وغيرنا، يعني أهل الاستطراد والتطويل، وكذا تجد كلام الشيخ جملة من عنده، مدعمة بدليل مثل الشمس، خلاص.
كثير من الطلاب يلوموننا يقولون: الشيخ ابن باز في الدرس الواحد يشرح ثلاثين، أربعين حديثًا، ونحن نجلس ثلاثين درسًا في حديث! نحن لسنا على الجادة، قلت: يا إخوان، فرق بين من يأتي إلى الشيخ يريد علم الشيخ، ما يريد غير هذا، يعني أن الشيخ قال له: حلال أو حرام، لكن الذي يأتي عندنا يريد علمنا؟ ما يريد علمنا، يريد نقولنا عن أهل العلم، فرق بين هذا وهذا.
الإنسان ما وصل منزلة ومرتبة بحيث يقتنع الناس بكلامه من غير استطراد وتطويل وتنظير واستدلال، ما أوصل الواحد إلى هذه المرتبة.
على كل حال نعود إلى ما قاله: ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ -رحمه الله-: وأهله في أصله سواء. يا إخوان، نحن ما يهمنا أن يطول الكلام، أو نأخذ دروسًا كثيرة في شرح باب بقدر ما يهمنا أن نفهم؛ لأن هذه المسألة من عُضَل المسائل وهذا الباب رأس مال، ما هو مكسب، أصل الأصول هذا، الذي هو الإيمان الذي لا يصح أي عمل بدونه، وأهله في أصله سواء يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، ذكرنا أنهم يتساوون في أصل العلم، وبينهم مفاوز، يتساوون في أصل الغنى، كل منهم يقال له: غني، لكن هذا عنده مليون، وهذا عنده مليار أو عشرة مليارات أو عشرون، هم في أصل الوصف سواء، يبقى التفاوت الكبير.
قال: بل تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته بحيث إنه ربما وصل إلى حالٍ لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنبًا إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حُرست بالرجوم من كل سارق، ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله حرم على النار من قال: «لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى». لكن الذي قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى هل من علامة صدقه في ابتغاء وجه الله العمل بمقتضاها أم مجرد قولها؟ ما يمكن، يعني مثل ما يقال: يتذرع بعض الناس فيرتكب المنكرات، ويترك الواجبات ويقول: التقوى ها هنا، أين التقوى؟
تعرف التقوى حتى تقول: ها هنا؟ ما التقوى؟ فعل الواجبات وترك المحرمات، أنت تحيل إلى معدوم، ما دام تترك المحرمات، وتترك الواجبات فأنت أحلت إلى معدوم، يعني كما لو في يدك إناء فارغ وتقول: الماء ها هنا، ما فيه ماء؛ لأن هذه الدعوى مقرونة بما يكذبها، التقوى لها حقيقة، حقيقتها عند أهل العلم فعل الواجبات وترك المحرمات، هل حقق هذه؛ لأنه وجد عنده شيء من التقوى؟ ما دام يرتكب المحرمات، ويترك الواجبات، فكيف يقول: ها هنا؟ مثل ما قلنا الكوب فارغ وهو يقول: الماء ها هنا نفس الشيء.
طالب:...
وقوله: يعني عرف معنى قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله حرم على النار»، وعرف معنى قوله: «لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله» وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأوَّل بعضهم الدخول بالخلود ونحو ذلك، والشارع- صلوات الله عليه- لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها، وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، يقول: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كِفةٍ ويقابلها كِفة أم كُفة؟ كِفة بالكسر؟
طالب:...
طالب:...
على كل حال، هذا أخذ بالأقل، إجماع. يقولون: كل مستدير كِفة، وكل مستطيل كُفة، هذا يقال له: كُفة الثوب، بينما كِفة الميزان بالكسر.
يقول: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجلٍ منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها. ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار، وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت. وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان حين نزعت موقها وسقت الكلب من الركيَّة فغُفِر لها، وهكذا العقل أيضًا فإنه يقبل التفاضل وأهله في أصله سواء. يعني تجمع لك عشرة، كلهم عقلاء، لكن بينهم من التفاوت الشيء الكثير، يعني عقل فلان أرجح وأرزن من عقل فلان وهكذا.
طالب:...
نعم، وهل يدخلون النار دولة؛ لأنه زنى، ولأنه سرق يعني، ما قال: لا إله إلا الله؟ من رآهم النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث الإسراء ما قالوا: لا إله إلا الله؟ هم يعذبون على كفرهم أم على معاصيهم؟ على معاصيهم. ولذلك يقرر القرطبي في تفسيره في أول تفسير سورة هود أن الأمم السابقة إنما عُذِّبت عذابًا جماعيًّا على المعاصي لا على الشرك، فقوم لوط عُذِّبوا على ماذا؟ عذِّبوا على الشرك أم على اللواط؟ وهكذا قس عليها جميع الأمور. وذكر أمثلة. وهكذا العقل أيضًا فإنه يقبل التفاضل وأهله في أصله سواء، متساوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض. الآن الشارح حينما يقول مثل هذا الكلام يَقرُب جدًّا أو يُقرِّب مذهبه إلى مذهب أهل السُّنة، يقرِّبه جدًّا، ما بقي إلا أن يصرِّح نعم، والسبب في ذلك أن له عناية بكتب شيخ الإسلام وابن القيم، عناية فائقة وابن رجب، وأكثر ما فيه مأخوذ من كتب هؤلاء الثلاثة، لماذا لا يُصرِّح إذا نقل عنهم؟
طالب:...
نعم ظروف اقتضت ألا يُصرِّح بأسمائهم؛ لأنه وُجِد في زمن تُحرَق فيه كتبهم، تُحرَق فيه كتبهم، فأراد أن يستفيد منهم ويحفظ علمهم بهذه الطريقة، الرجل حنفي، ما يقال: والله تابع لابن تيمية وتابع لفلان أو، ما يتوقع أن حنفيًّا يتبع ابن تيمية، ولذلك حُفِظ هذا الكتاب، أيضًا الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على صحيح البخاري لابن عروة حفظ كتب شيخ الإسلام وابن القيم المطولات والمختصرات؛ لأنه وُجِد في زمن تُحرَق فيه وتُتلَف فيه كتب شيخ الإسلام وابن القيم، فعمد إلى حفظها في هذا الكتاب الكبير الذي يمكن أن يقع في ثلاثمائة مجلد لو طبع، والآن يُعمَل عليه، يُعمل، يقارب على النهاية الموجود منه، والموجود أكثر من النصف، قريب من الثلثين.
المقصود أنه يأتي إلى مسألة أشار إليها حديث، فيشرح الحديث باختصار أو مسألة في التوسل مثلاً يتكلم على الحديث باختصار، ثم يورد كتاب شيخ الإسلام قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، من ألفه من أول كلمة إلى آخر كلمة حتى إنه أدخل المطولات.
طالب:...
أين؟
طالب:...
ما أرى نسبة ظاهرة، لكن الكتب معروفة، وحتى لو نسب في كتاب كبير مثل هذا قد لا يوقف على الاسم؛ لأن الناس ما هم بقاعدين يقرؤون الكتاب كله، المقصود أن هناك طرقًا للترويج، لترويج الحق، بالحذف كما هنا، وأحيانًا يكون بالإثبات، تقف لك على كتاب، على عقيدة أهل السُّنة والجماعة ومن مجتمعٍ فيه مبتدعة بكثرة، فتفرح بمثل هذا الكتاب؛ لأنك لو أرسلت لهم من كتب شيخ الإسلام وابن القيم وأئمة الدعوة مصنفين ومنتهين تحرق فورًا، ما ينتظرون إلى أن يقرؤوا ما فيها، لكن تجد من قومهم ومن جلدتهم من يكتب في العقيدة الصحيحة تفرح بمثل هذا، وترسله إليهم، يستفيدون منه، ويؤثر فيهم الحق، أحيانًا يكون الترويج بالحذف كما هنا، وأحيانًا يكون بالإثبات، وأحيانًا يكون ترويجًا للحق، وأحيانًا يكون ترويجًا للباطل، أحيانًا يغتفر بعض الشيء؛ من أجل أن يروج الكتاب، إذا كان في مجتمع لا يروج إلا بذكر بعض المسائل أو بعض الأشخاص المقدمين عند هؤلاء، يعني يقول القائل- وهذا يكثر السؤال عنه- لماذا الشوكاني والصنعاني يذكرون الهادوية أكثر من الإمام أحمد؟
هم عاشوا في بيئة زيدية وجُلّ سكان اليمن في وقتهم هادوية، لو ما ذكروا الهادوية، هل تروج كتبهم؟ ما تروج، وهذه أمور مغتفرة، لكن الذي لا يغتفر بأي حالٍ من الأحوال مثل صنيع الفيروزآبادي صاحب القاموس، شرح البخاري وأراد أن يُروِّج الشرح بمقالة ابن عربي، وحدة الوجود؛ لأنها راجت في وقته في اليمن، فأراد أن يُروِّج الكتاب بهذه المقالة السيئة الكفرية، وحدة الوجود، فصار ينقل بالصفحات بالعشرات، بل المئات من كتاب الفتوحات والفصوص، يمكن أن يُروَّج لكتاب بمثل هذه الطريقة؟ ما يمكن، ولا يُقبَل مثل هذا بحال، ونجز منه عشرون مجلدة كبار في قسم العبادات فقط، ولو كمُل قالوا لعله يصير خمسين كبارًا. لكن هل يوجد منه نسخ أم لا؟ نسخة المؤلف أتت عليها الأرضة من أولها إلى آخرها ما بقي ولا ورقة، والحمد لله. ما بقي من الكتاب ولا ورقة، الفيروزآبادي صاحب القاموس له شهرة، يمكن أن يتوقع أن يحلل ألفاظًا لغوية، ويمكن أن يفيد في هذا الباب، لكن الحمد لله أنه تلف.
طالب:...
والله لا، الظاهر أنه فيه شوب تأثر، فيه شوب تأثر، ولذلك لو تنظر في شرح الطحاوية المطبوعة الآن مطبوعة ثلاثة وأربعة لغيره تجد فرقًا كبيرًا، يوجهون كلام الطحاوي إلى غير هذا، كلٌّ له تأثره، عندك الآن المفسرون حينما يتكلمون عن آية واحدة، تجد هذا له مشرب، وهذا له مشرب، وهذا يوجه على حسب ما فهم، وهذا سيّره مذهبه العقدي أو الفقهي شاء أم أبى، وذاك سيّره إلى جهة أخرى، فلا شك أن التأثر بالمذاهب سواء كانت أصلية أو فرعية وبالشيوخ وكذا غالب شاء الإنسان أو أبى، عقل ذلك أو لم يعقله.
يقول: وكذلك الإيجاب والتحريم فيكون إيجابٌ دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، إيجاب دون إيجاب، إيجاب الصلاة ما هو مثل إيجاب الجماعة في الصلاة، فرق بين هذا وهذا، وإيجاب غسل الجنابة ليس مثل إيجاب غسل الجمعة عند من يقول به، وستر العورة في الصلاة ليس مثل إيجاب ستر المنكب، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا.
طالب:...
لا، واضح حتى عندنا، إيجاب الصلوات الخمس، مثل إيجاب الجماعة لهذه الصلوات أو مثل إيجاب صلاة العيد عند من يقول بها؟ لا، فرق كبير. وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب، وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل فمعلومٌ أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصّل مما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. الشيخ عبد الرزاق عفيفي- رحمة الله عليه- لما درّس الطحاوية وثّق هذه النقول، وأرجعها إلى كتب شيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب، أظن موجودة التوثيقات في مقدّمة طبعة المكتب الإسلامي، أنا بعيد العهد جدًّا، لكن هذا الذي أذكره.
قال: وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دلّ على ضعف الملزوم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس المخبَر كالمعايِن» ليس الخبر كالمعاينة، ليس المُخبَر كالمعايِن، وموسى لما أُخبِر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، من الذي أخبره؟ الله -جل وعلا-، لم يُلقِ الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر فإنه لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه كما قال إبراهيم الخليل- صلوات الله عليه-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[سورة البقرة: 260]، ولذا جاء في الحديث الصحيح في البخاري وغيره: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»، «نحن أحق بالشك من إبراهيم»، صحإبراهيم ما شك، لكن ليس المخبَر كالمعايَن.
الثابت بالبرهان القطعي عند أهل العلم يستوي مع المشاهَد المرئي، هذا من حيث التنظير، أما من حيث الحقيقة والواقع فلا، إذا نظرنا إلى القضايا التي بلغت النبي -صلى الله عليه وسلم- بطرقٍ قطعية بأخبار متواترة ولم يشاهدها، جاء التعبير عنها بالقرآن بالرؤية، قصة الفيل ما شهدها النبي -عليه الصلاة والسلام- وإنما بلغته بطريقٍ لا يحتمل النقيض، ولا تردد فيه ولا شك، ثم جاء قول الله -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[سورة الفيل: 1]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[سورة الفجر: 6]، ويبقى أنه هناك كما قال المؤلف هناك فرق بين المخبَر أو الخبر والمعاينة، ولذا يقسّمون اليقين إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. فعلم اليقين إذا بلغ بطريقٍ لا يحتمل النقيض جاءك من يقول لك: إن الكمأة موجودة في السوق، ثم جاء ثانٍ وثالث ورابع وعاشر، تجزم وتحلف على أنها موجودة، لكن إذا رأيت الكمأة بنفسك هذا عين اليقين، وهذا أقوى، لكن إذا أكلت منها فهذا حق اليقين، مثل العسل، يقولون جاء العسل، فيه عسل كثير في السوق وكذا، تصدق، ما تتردد في التصديق؛ لأن العدد كافٍ لبلوغ الدرجة اليقينية القطعية، لكن إذا ذهبت ورأيته عين اليقين، لكن إذا أخذت منه بأصبعك أو ملعقة أو شيئًا وأكلت خلاص، هل تتردد فيه؟ ما يمكن، هنا يقول: فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، لكن هل يسمى العلم الذي لا يُعمَل به يسمى علمًا؟
في ميزان الشرع لا، ليس بعلم، ما يحمله الفساق ليس بعلم، وإنما العلم ما نفع، يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}[سورة النساء: 17] بجهالة، يعملون السوء بجهالة، ثبت أن الذي يعمل السوء جاهل، ولو عرف الحكم بدليله، جاهل، وإلا لزم على ذلك أن الذي يعرف الحكم مع دليله أنه ما له توبة؛ لأن التوبة حُصِرت فيمن يعمل السوء بجهالة، والإجماع قائم على أن التوبة تصحّ ممن يعرف الحكم، فدلّ على أن الذي عمل السوء جاهل، ولو عرف الحكم؛ ليدخل في قبول التوبة؛ لأن هذا محل إجماع، تقبل توبته إذا عرف تحريم الخمر وشرب تقبل توبته بالإجماع. فدلّ على أن الذي يعمل السوء بجهالة ولو عرف الحكم بدليله، فالذي يحمله الفساق مما يسمى علمًا هو في الحقيقة ليس بعلم، ليس بعلم، «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله»، الحديث مختلف في تصحيحه لكن المعروف عن الإمام أحمد أنه يثبته.
نكتفي بهذا. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طالب:...
على كل حال سيأتي إن شاء الله ما يوضح هذا. صحصح
"