التعليق على تفسير القرطبي - سورة يس (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والسامعين، برحمتك يا أرحم الرحمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[يس:13-19].
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}[يس:13]. خطاب للنَّبِي- صلى الله عليه وسلم-، أُمِرَ أن يضرب لقومه مثلاً بأصحاب القرية، هذه القرية هي "أَنْطَاكِية" في قول جميع المفسرين، فيما ذكر الماوردي. نُسِبَت إلى أهل أَنْطَبِيس، وهو اسم الذي بناها، ثم غُيرَ لما عُرِّب، ذكره السهيلي. ويقال فيها :"أَنْتَاكِية" بالتاء بدل الطاء. وكان بها فرعون؛ يقال له: أَنْطِيخَسْ بن أَنْطِيخَسْ يعبد الأصنام، ذكره المهدوي، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب، فأرسل الله إليه ثلاثة: وهم صادق، وصدوق، وشلوم هو الثالث. هذا قول الطبري. وقال غيره: شمعون ويوحنا. وحكى النقاش: سمعان، ويحيى، ولم يذكرا صادقًا ولا صدوقًا".
مثل هذه الأمور المسكوت عنها في القرآن، وتُتَلَقى من أهل الكتاب في الغالب يوجد فيها مثل هذا الخلاف الكبير في الأسماء، وفي البلد، وفي اسم الملك الكافر وأتباعه، توجد لأنها مسكوت عنها في القرآن، ولم يَرِد فيها شيءٌ من صحيح السنة، والغالب أنها تُتَلَقى من أهل الكتاب، وأهل الكتاب يختلفون فيما بين أيديهم اختلافًا كثيرًا؛ باعتبار التحريف الذي دخل كتبهم يختلفون، حتى قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: "ما اجتمع عشرة من النصارى لبحث مسألة، فَصَدَروا عن أحد عشر قولًا"، يعني أكثر من عدادهم، والسبب في ذلك التحريف الذي أدخلوه في كتبهم، كل واحد يحرف كتابه على ما يشاء، ويقول: هذا في كتابي ويستند إليه، ثُمَّ يأتي بقولٍ يخالف غيره فيه، وعلى كل حال مثل هذه التسميات المذكورة التي يذكرها المفسرون، سواءً كانت للبلد، أو للملك، أو لأسماء الثلاثة المرسلين، أو هم رسل من الله، أو رسل من المسيح -عليه السلام- اختلفوا في هذا اختلافًا كثيرًا، وهذه أمرٌ مسكوت عنه في كتابنا، ولو كان فيه فائدة للمكلفين لنص عليه في الكتاب، أو في صحيح السنة، لكنَّ المفسرين يذكرون كل ما يقفون عليه، وفي البداية، والنهاية للحافظ ابن كثير -رحمه الله-: في هذا الموضع شيءٌ كثير أكثر مما ذكره المؤلف هنا.
أحسن الله إليكم، "ويجوز أن يكون مثلاً، و{أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} مفعولين لـ "اضرب".
يكون المفعول الأول: {مَثَلًا}، {اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} المثل مضروب مفعول أول، و{أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} مفعول ثانٍ.
"أو {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} بدلًا من {مَثَلًا}، أي: {اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}، فحذف المضاف أُمِرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار".
لم يحذف المضاف، ما حذف المضاف، وإنما قطعَ عن الإضافة، الذي قدره، يقول: "أي: {اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}"، ما حذف شيئًا، وإنما قطعَ عن الإضافة، {اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} هذا قطع للإضافة، وإلا أركان الجملة كلها موجودة.
"أُمِرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل، قيل: رسل من الله؛ على الابتداء. وقيل: إن عيسى بعثهم إلى أَنْطَاكِية للدعاء إلى الله، وهو قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}[يس:14]. وأضاف الرب ذلك إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما بأمر الرب، وكان ذلك حين رُفِعَ عيسى إلى السماء. {فَكَذَّبُوهُمَا}. قيل: ضربوهما وسجنوهما {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}".
الضرب والسجن نتيجة للتكذيب، وليس هو التكذيب عينه.
"فقوينا وشددنا الرسالة {بِثَالِثٍ}. وقرأ أبو بكر عن عاصم: "فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ" بالتخفيف، وشدّد الباقون. قال الجوهري: "وقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} يخفف ويشدد، أي: قوينا وشددنا". قال الأصمعي: "أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمس:
أَجُدُّ إذا رَحَلَت تَعَزَزَ لحمها |
وإذا تُشَدُّ بِنَسْعِها لا تَنْبِسُ |
أي: لا تَرْغُو، فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[ص:23]. والتشديد بمعنى قويّنا وكثّرنا وفي القصة: "أن عيسى أرسل إليهم".
في قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أخذ من هذا بعضهم: أن العزيز في علوم الحديث هو مَرْوِي الثلاثة، لا مَرْوِي الاثنين؛ لأنه يقول: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، والتعزيز إنما يكون بالثالث، لكن المراد بالتعزيز هنا التقوية، والمراد به أيضًا في علوم الحديث التقوية، في علوم الحديث مجرد اصطلاح عند أهل العلم، والتقوية تكون بالثاني أيضًا، وتكون للاثنين بالثالث، وللثلاثة بالرابع، وللعشرة بالحادي عشر، وهكذا، فلا يقتضي هذا حصر العدد بما ذكر هنا، إنما التعزيز هو التقوية، سواءً كان بثالث، أو رابع، أو ثانٍ، فانتقاد أهل الحديث على جعلهم العزيز مَرْوِي الاثنين، وإنما ينبغي أن يكون مَرْوِي الثلاثة، ليس في محله.
"وفي القصة: "أن عيسى -عليه السلام- أرسل إليهم رسولين فلقيا شيخًا يرعى غُنَيْمَات له، وهو حبيب النجار صاحب "يس" فدعوه إلى الله وقالا: نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله. فطالبهما بالمعجزة، فقالا: نحن نشفي المرضى، وكان له ابن مجنون، وقيل: مريضٌ على الفراش، فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحًا، فآمن الرجل بالله. وقيل: هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ففشا أمرهما، وشفيا كثيرًا من المرضى، فأرسل الملك إليهما -وكان يعبد الأصنام- يستخبرهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، فقال: وما آيتكما؟ قالا: نُبْرِئُ الأكمه والأبرص ونُبْرِئُ المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله وحده. فهمّ الملك بضربهما. وقال وهب: حبسهما الملك، وجلدهما مائة جلدة، فانتهى الخبر إلى عيسى -عليه السلام- فأرسل ثالثًا. قيل: شمعون الصفا، رأس الحواريين لنصرهما، فعاشر حاشية الملك حتى تمكَّن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك فَأَنِس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته، ثم قال يومًا للملك: بلغني أنك حبست رجلين دَعَوَاكَ إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما. فقال: إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما. قال: فلو أحضرتهما. فأمر بذلك، فقال لهما شمعون: ما برهانكما على ما تدعيان؟ فقالا: نُبْرِئُ الأكمه والأبرص. فجيء بغلام ممسوح العينين، موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما فانشق موضع البصر، فأخذا بندقتين طينًا فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فعجب الملك وقال: إن هاهنا غلامًا مات منذ سبعة أيام، ولم أدفنه حتى يجيء أبوه، فهل يحييه ربكما؟ فدعوا الله علانية، ودعاه شمعون سرًا، فقام الميت حيا فقال للناس: إني مت منذ سبعة أيام، فَوجِدتُّ مشركًا، فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذِّركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم فتحت أبواب السماء، فرأيت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه، حتى أحياني الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى روح الله وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله. فقالوا له: وهذا شمعون أيضًا معهم؟ فقال: نعم، وهو أفضلهم. فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم، فَأَثَّر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير، وكفر آخرون".
وحكى القشيري: "أن الملك آمن ولم يؤمن قومه. وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار".
وروي: "أن عيسى لمَّا أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا: يا نَبِي الله، إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم. فدعا الله لهم فناموا بمكانهم، فهبوا من نومتهم وقد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرض أَنْطَاكِية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم، فذلك قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة:253]، فقالوا جميعا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}[يس:14،15]، تأكلون الطعام، وتمشون في الأسواق".
القصة بطولها وإحياء الميت الذي مات منذ سبعة أيام، هذا مُتلقًّى عن بني إسرائيل، مما لا يُصَدق ولا يُكَذب، وهي محتملة، لكن إيمان الملك ينافيه أنه قتله، قتل مَنْ دعاه إلى ذلك، قتل الذي جاء من أقصى المدينة، فلو آمان ما قتله.
"{وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} يأمر به ولا من شيء ينهى عنه {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} في دعواكم الرسالة. فقالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}[يس:16]. وإن كذبتمونا".
يعني: في أول الأمر قبل التكذيب لا يحتاجون إلى تأكيد الكلام، فقالوا في أول الأمر: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}، ثُمَّ لم كذبوا احتاجوا إلى التأكيد فجاءوا باللام {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}.
"وإن كذبتمونا {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[يس:17] في أنَّ الله واحد. {قَالُوا} لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}[يس:18]. أي: تشاءمنا بكم. قال مقاتل: "حُبِسَ عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا: هذا بشؤمكم". ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين. {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} عن إنذارنا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} قال الفراء: "لنقتلنكم". قال: "وعامة ما في القرآن من الرجم معناه: القتل"، وقال قتادة".
المآل إلى القتل، الرجم قد يُودِي بالمرجوم إلى الموت، فيكون معناه القتل، كرجم الزاني المحصن، أو يكون يُقْتَصر على ما دون ذلك، بأن يرجم بالحجارة الصغيرة، ثُمَّ يترك، لكن من أهل العلم مَنْ رأى أن كل رجم في القرآن أنه قتل، وإن كان قتلًا بالرجم بالحجارة.
طالب: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46].
هذا قد يكون رجمًا بالكلام، كما جاء في تفسير هذه الآية بالكلام، ومنهم مَنْ يقول بالحجارة تهديد.
أحسن الله إليك.
"وقال قتادة: "هو على بابه من الرجم بالحجارة". وقيل: لنشتمنكم، وقد تقدم جميعه. {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: هو القتل. وقيل: هو التعذيب المؤلم. وقيل: هو التعذيب المؤلم قبل القتل؛ كالسلخ والقطع والصلب. فقالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}[يس:19]. أي: شؤمكم معكم، أي: حظكم من الخير والشر معكم، ولازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا، قال معناه الضحاك. وقال قتادة: "أعمالكم معكم". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "معناه: الأرزاق والأقدار تتبعكم". وقال الفراء {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}: "رزقكم وعملكم "، والمعنى واحد. وقرأ الحسن: {اطّيرَكُم} أي: اطّيرُكُم".
الشؤم إنما هو بسبب المخالفة لأمر الله -جَلَّ وعلا- بسبب المعاصي، فالعاصي هو المشئوم، بفعله ما ينزل بسببه العقوبة، فهو في الحقيقة هو المشئوم الذي يعمل المعاصي، المعاصي لها شؤم؛ لأنها تورث من العقوبات مما تورث، وأما المطيع فليس فيه شؤم، ولذا قالوا: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} شؤمكم سببه أنتم، ومعلق بكم.
"{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} قال قتادة: "إن ذكرتم تطيرتم". وفيه تسعة أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة: "أَينْ ذُكِّرْتُمْ" بتخفيف الهمزة الثانية. وقرأ أهل الكوفة: "أإنْ" بتحقيق الهمزتين. والوجه الثالث: "أاإنْ ذُكِّرْتُمْ" بهمزتين بينهما ألف، أدخلت الألف؛ كراهة للجمع بين الهمزتين. والوجه الرابع: "أاإنْ" بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والقراءة الخامسة: "أاأنْ" بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف. والوجه السادس: "أأنْ" بهمزتين محققتين مفتوحتين. وحكى الفراء أن هذه القراءة قراءة أبي رُزين".
رَزِين.
"أبي رَزين.
قلت: وحكاه الثعلبي عن زِرِّ بن حبيش، وابن السَّمَيْقَع. وقرأ عيسى بن عمر، والحسن البصري: "قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ" بمعنى حيث. وقرأ يزيد بن القعقاع، والحسن، وطلحة: "ذُكِرْتُم" بالتخفيف، ذكر جميعه النحاس. وذكر المهدوي: عن طلحة بن مصرف، وعيسى الهمداني: "آنْ ذُكِّرْتُمْ" بالمد، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة. وقرأ الماجشون: "أَنْ ذُكِّرْتُمْ" بهمزة واحدة مفتوحة. فهذه تسع قراءات.
وقرأ ابن هرمز: "طَيْرُكُم مَعَكُمْ". "أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ" أي: لئن وعظتم، وهو كلام مستأنف، أي: وإن وعظتم تطيرتم. وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نَبِي دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} قال قتادة: "مسرفون في تطيركم". وقال يحيى بن سَلَّام: "مسرفون في كفركم". وقال ابن بحر: "السرف هاهنا الفساد، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون". وقيل: مسرفون مشركون، والإسراف مجاوزة الحد، والمشرك يجاوز الحد".
هم يتطيرون بالأنبياء؛ لأن بعد الدعوة إذا لم يستجيبوا فإنهم يُعاقَبون، وهذه السنة الإلهية، فهم يتطيرون بالمتسبب، مع أن المباشر أولى بالتطير، وهو ألصق بالفعل، نعم دعوتهم سبب لعذابهم، لكن المباشر السبب الأقرب هو المخالف؛ لأنهم لو استجابوا للرسل ما عُذبوا، لو لم يرسل إليهم رسول ما عُذبوا، أرسل إليهم رسول، وهذا سببٌ أول، الأسباب تنعقد: واحد، ثُمَّ الذي يليه، ثُمَّ إلى آخره إلى أن تَحِق الكلمة.
فإرسال الرسل هو السبب الأول بداية الأمر، ثُمَّ الذي يليه وهو السبب الحقيقي الذي يرتب عليه العذاب، السبب الأول: إرسال الرسل يحتمل الرحمة ويحتمل العذاب، فإن استجابوا رُحِمُوا، وإن لم يستجيبوا عُذِّبوا، السبب الذي به العذاب هو عدم استجابتهم للرسل، فهم يلقون بالتبعة واللائمَة على الرسل، يعني لو ما جاءهم رسول ما عُذِّبوا، جاءهم رسول خالفوا هذا الرسول عُذبوا؛ بسبب المخالفة لا بسبب الرسالة، بدليل: أنهم لو آمنوا بهذا الرسول ما عُذِّبوا.
"قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ، إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[يس:20-29].
قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}[يس:20]. هو حبيب بن مَرِي وكان نجارًا. وقيل: إسكافًا. وقيل: قصارًا. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومجاهد، ومقاتل: "هو حبيب بن إسرائيل النجار".
يعني القول الأكثر إنه كان نجارًا.
"وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل وغيرهما". ولم يؤمن بنَبِي أحد إلا بعد ظهوره. قال وهب: "وكان حبيب مجذومًا، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه، ويكشفون ضره فما استجابوا له".
لعلهم أي الأصنام يدعوهم سبعين سنة لعلهم يستجيبون له، فلم يستجيبوا.
" فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله، فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك. فقال: إن هذا لعجب! أَدْعُو هذه الآلهة سبعين سنة تُفَرِجُ عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئًا ولا تضر. فآمن، ودعوا ربهم فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس، فحينئذٍ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بكسبه، فأطعم عياله نصفًا، وتصدق بنصف، فلما هَمَّ قومه بقتل الرسل جاءهم، فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}" الآية.
في قولهم: ربنا على ما يشاء قدير، معروف التعليق بالمشيئة هنا فيه إشكال، والآيات كلها تدل على أنه على كل شيء قدير، من غير تعليق بالمشيئة؛ لأن مفهوم التعليق: أن الذي لا يشاؤه لا يقدر عليه، وهذا محل انتقاد عند جمع من أهل العلم، لكنه جاء في الحديث الصحيح في مسلم: في حديث آخر من يدخل الجنة فيتمنى، فيعطى ما يتمنى فيقول الله -جلَّ وعلا-: «فَإِنِّي عَلَى مَا أَشَاء قَادِر».
أَشْكَلَ هذا الحديث مع إطلاق الآية، الطبري أيضًا في تفسيره، في تفسير سورة الملك قال: "فَإِنَّ الله عَلَى مَا يشَاء قَدِير"، وكلام الطبري ككلام غيره من أهل العلم، يؤخذ منه ويُرَد، لكن الإشكال في الحديث في صحيح مسلم.
وأجيب عنه بأن ما في الحديث في الماضي، يعني مما شاءه الله فعلًا، فلا يقترن به تعليق القدرة، شاءه وقَدَّرَه وحصل، لكن تعليق القدرة بالمشيئة مستقبلًا، هذا هو الممنوع، ويبقى أن الإطلاق من غير تقيد بالمشيئة هو الأصل، وهو الصحيح، وأما التقييد بالمشيئة الذي يقتضي أن الذي لا يشاؤه لا يقدر عليه فهذا ليس بصحيح.
طالب:.....
ما فيه حديث، لا ليس مذمومًا، هذا «إِنَّ أَفْضَل مَا أَكَلْتُم مِنْ كَسْبِكُم، وَكَانَ داود يَأْكُل مِنْ كَسْبِ يَده»، الأنبياء كلهم امتهنوا المهن، «ما مِنْ نَبِي إلا وَرَعَى الْغَنَم»، فيهم الحداد، وفيهم النجار، وفيهم، وفيهم، لكن أهل الكبر من عموم الناس هم الذين يزدرون من يمتهن هذه المهن. نعم المهن متفاوتة، وأهل العلم يختلفون في أفضل المكاسب، فمنهم مَنْ قال: الصناعة؛ لأنها مهنة داود -عليه السلام-، ومنهم مَنْ قال: الزراعة؛ لما جاء في فضل الزرع وما يُأْكَلُ منه بقصدٍ أو بغير بقصدٍ، وابن القيم -رحمه الله، في زاد المعاد- رجَّح أن الغنائم هي أفضل المكاسب «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي».
وعلى كل حال المهن المباحة لا إشكال فيها، وإن تداول الناس ازدراء بعض المهن: كالدباغة -مثلًا- والحياكة، وكون الإنسان يشتغل إسكافًا، يعني: يصلح الأحذية والخفاف، وما أشبه ذلك، هذه المهن عندهم وضيعة، أو جزار، وهذه إذا لم تؤدِّ إلى مكروه أو محرم فإنها مهن طيبة، كسبها طيب.
نعم جاء في "كسب الحجام أنه خبيث"، لكنه ليس بمحرم؛ لأن النَّبِيَّ -عليه الصلاة والسلام- أعطى الحجام أجرته، ولو كان حرمًا لما أعطاه، لكنه دني، ليس بمهنة شريفة، مهنة وضيعة، الحجامة لما فيها من مباشرة الدم وما أشبهه من النجاسة، ولذا قال: «أَطْعِمْه نَاضِحَك»، وإلا فالمهنة مباحة، وكسبها ليس بمحرم، وإن كان خبيثًا، يعني خبيث دون الجيد، كما في قوله -جلَّ وعلا-: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة:267]، يعني: لو كان عندك تمر طيب وتمر دونه، يعني مأكول وطيب، لكنه دون الأول، الثاني الدون يسمى تبعًا لِمَا دلت عليه الآية خبيثًا، فينبغي أن تنفق مما تحب، ولا تيمم هذا الخبيث الدنيء الأردأ فتنفق منه.
يعني: لو كان عندك تمر أجود الأنواع، وتمر متوسط، وفئة ثالثة، هذه الفئة الثالثة مأكولة لدى جميع الناس، ما فيها إشكال، يعني مقبولة، هل نقول: تصدق بها، ما تحتاجها أنت، أو ارمها؟ يوجد مَنْ يحتاجها وينتفع بها ولا تضره بحال من الأحوال، هل يتصدق بها أو يرميها في قوله -جلَّ وعلا-: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} يعني: الأقل، هذا توجيه وإرشاد لأن ينفق مما يحب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92].
مع الأسف أنه يوجد مَنْ يُطْعِم الناس ويُطْعِمُه شيئًا ضارًّا، يعني: تمر رديء، فيه ضرر لآكِلِه، اطلعنا على هذا في الحرمين وغيرهما، يأتون بتمر ليس بمقبول إطلاقًا، ولا يصلح ولا للحيوان، ومع ذلك يتقرب به إلى الله -جلَّ وعلا-، ولعل المتقرب الأصلي اتكل على غيره فقال له: اشتر تمرًا، وفَطِّر الناس به، والثاني: -الوكيل- لا يُحْسِن، هذا المظنون، وإلا تقديم مثل هذا للناس هذا أردأ الردي وليس بمقبول بالكلية، ورأيته تنبعث منه روائح قبيحة، ومنظره أيضًا قبيح، والناس أو الفئات أو البيئات، التي ليست من أهل التمر ما يعرفون مثل هذا، يحسبون هذا طيبًا، والله المستعان.
طالب: هل يقاس على الصنعات الرديئة بعض أقسام الطب؟
والله ما فيه شك أن بعض الأقسام الطبية؛ مزاولة النجاسات، والاطلاع على العورات، يعني بقدر ما هي ضرورة هذه نافعة، ويتجه الأمر بها، لكن القدر الزائد على ذلك لا شك أنه امتهان، وتجد أحيانًا في الصُحُف إعلانًا "بشرة سارة بقدوم البروفيسور: فلان أخصائي التحليل"، أخصائي تحليل! ماذا يزاول هذا؟! هذا يزاول النجاسة، هذا مثل مَنْ يشتغل بالصرف الصحي، لا فرق، إلا أنها الموضة، يعني: طبيب، والناس يَشْرَئِبُّون لمثل هذا، وكسبه ودخله جيد عندهم، يعني: يكسب الأموال الطائلة، وهذا المقياس عند الناس مع الأسف، والله هذه المهن رديئة، وإن تعارف الناس تبعًا لتغير المقاييس عندهم، المقاييس تغيَّرت.
يعني لو يأتي طالب علم من أنبل طلاب العلم إلا أنه لا دخل له، متفرغ للعلم، ويخطب من زيد أو عبيد، يقول: والله ما يصح ذلك، هذا عالة، ويأتي طبيب أخصائي تحليل، هذه الموضة، يعني على ما قالوا، ودخله جيد، وهذا الذي يزوج ويحرص عليه، كل هذا سببه اختلال الموازين والمقاييس عند الناس، لما كان الهم الدنيا جعلوا المقياس على الدنيا، ولما كان الهم على الدين، المقياس يتعلق به إذا يَعْرِف قدر الدنيا.
سعيد بن المسيب لما خُطِبَت ابنته من قِبَل ابن الخليفة، وابن الخليفة أفضل من الخليفة؛ لأنه شاب ويدرك ما يريد، والخليفة كبير سن ومشغول في الغالب، يعني في عرف الناس ابن الخليفة هو غاية عموم الناس، فالواسطة السفير الذي جاء يُقَدِم الطلب قال يا سعيد: أتتك الدنيا بحذافيرها، قال سعيد: "إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، فما ترى يقص لي من هذا الجناح؟ فزوَّجها طالبًا من طلابه لا يملك شيئًا، والله المستعان.
"وقال قتادة: "كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: أتطلبون على ما جئتم به أجرًا؟ قالوا: لا، ما أجرنا إلا على الله". قال أبو العالية: "فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}[يس:20،21]". أي: لو كانوا متهمين لطلبوا منكم المال {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فاهتدوا بهم".
أما مَنْ يطلب الأجر على عمله الذي يُتَقَرب به فهذا يظن به أنه إنما فعل ما فعل للأجر، كمن يعلِّم الناس بأجر، أو يرقي الناس بأجر، أو ما أشبه ذلك، هذا يُظَنَّ به أنه مستفيد من وراء هذه المهنة، لكن الذي لا يطلب أجرًا على ذلك فلا شك أنه أقرب إلى الإخلاص، وإن كان ليس محضًا في الإخلاص؛ لأنه قد لا يطلب الأجر المادي، قد يطلب أجرًا معنويًّا، قد يطلب ليقال، وإذا كان الإنسان يقدم نفسه في الجهاد ليقال: جريء، ويقال: شجاع، فليكن فيمن يرقي الناس بدون أجر، من يرقي الناس ليقال: شفى الله على يده فلان وفلان، ولو لم يطلب أجر؛ لأن هذا ليس محضًا في الدلالة على الإخلاص، بعض الناس يستدل بهذا يقول: والله هذا ما يَقْتَض شيء هذا شيء مخلص، لو همه الدنيا لطلب أجرة، ما يلزم لأن المدح والثناء بين الناس والذكر؛ هذا له شأن كبير في نفوس كثير من الناس، وهو من أعظم ما يفسد القلوب، نسأل الله العافية.
"قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:22]. قال قتادة: "قال له قومه: أنت على دينهم؟! فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي: خلقني. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا احتجاج منه عليهم". وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبَعَث إليهم؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر، فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكرًا، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرًا.
قوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}[يس:23]. يعني أصنامًا. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} يعني ما أصابه من السقم. {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} يخلصوني مما أنا فيه من البلاء، قوله تعالى: {إِنِّي إِذًا}[يس:24]. يعني: إن فعلت ذلك {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: خسران ظاهر.
قوله تعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}[يس:25]. قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم". ومعنى {فَاسْمَعُونِ} أي: فاشهدوا، أي: كونوا شهودي بالإيمان. وقال كعب، ووهب: "إنما قال ذلك لقومه: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الذي كفرتم به". وقيل: إنه لما قال لقومه: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}[يس:20،21] رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدونا، فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} فوثبوا عليه فقتلوه. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وألقي في بئر، وهي الرس، وهم أصحاب الرس". وفي رواية: "أنهم قتلوا الرسل الثلاثة". وقال السدي: "رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ قومي، حتى قتلوه". وقال الكلبي: "حفروا حفرة وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردمًا". وقال الحسن: "حرقوه حرقًا، وعلقوه من سور المدينة، وقبره في سور أنطاكية"، حكاه الثعلبي.
وقال القشيري: "وقال الحسن: لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، فإذا أعَاد الله الجنة أُدْخِلَها". وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها".
قوله: "هلاك الجنة"، كأنه يرى أن الجنة تفنى عند قيام الساعة ثُمَّ تعود إذا أريدت للجزاء، لأنه يقول: "لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة"، والمقرر عند أهل العلم أن الجنة والنار من الثمانية التي لا تفنى:
ثمانية حكم البقاء يَعُمُّها |
من الخلق والباقون في حَيْزِ العَدَم |
هي العرش والكرسي ونارٌ وجنةٌ |
وعَجْبٌ وأرواحٌ كَذَا اللوح والقلم |
فإذا قامت القيامة ومات الناس أجمعون، يعني عند قيام الساعة تكون الجنة باقية، الجنة والنار، ويكون هذا مما استثني من قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:26].
"فذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}[يس:26]. فلما شاهدها: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي}. أي: بغفران ربي لي، فـ "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر. وقيل: بمعنى الذي، والعائد من الصلة محذوف".
العائد محذوف، والأصل بالذي غفره لي، هذا العائد حذف.
"ويجوز أن تكون استفهامًا فيه معنى التعجب، كأنه قال: ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي، قاله الفراء. واعترضه الكسائي فقال: "لو صح هذا لقال: "بم" من غير ألف".
نعم؛ لأن "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر تحذف ألفها: بِمَ، عَمَّ، عَلَمَ، إلى آخره. هذا الأصل والكثير الغالب، وقد تُذْكَر وقد تُثْبَت، جاء في النصوص إثباتها، لكنه قليل بالنسبة لحذفها.
"وقال الفراء: "يجوز أن يقال: {بِمَا} بالألف وهو استفهام، وأنشد فيه أبياتًا. وقال الزمخشري: "بم غفر لي" بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزًا، يقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت". وقال المهدوي: "وإثبات الألف في الاستفهام قليل". فيوقف على هذا على {يَعْلَمُونَ}. وقال جماعة: معنى {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة; لأن دخولها يستحق بعد البعث. قلت: والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ}. قال قتادة: "أدخله الله الجنة وهو فيها حتى يرزق".
حي.
" وهو حيٌ يرزق"، أراد قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169] على ما تقدم في سورة [آل عمران] بيانه. والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}[يس:26]. مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس:27]. وقرئ: {مِنَ الْمُكَرَّمِين} وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله".
هذا هو الظاهر؛ لأن الأول لا فائدة منه، يتمنى أن يطلعوا على حاله من غير أن يؤثر ذلك فيهم هذا ما له قيمة، ولذلك المفسرون -كما جاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما- يُطْبِقُون على أنه "نصح قومه حيًّا وميتًا"، فهو تمنى ذلك ليؤمنوا.
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نصح قومه حيًّا وميتًا". رفعه القشيري فقال: "وفي الخبر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: «إِنَّه نَصَحَ لَهُم فِي حَيَاتِه وَبِعدَ مَوتِه»".
لكن لا يصح رفعه، انظر المُخَرِّج.
طالب: "قال: ضعيف جدًّا ذكره الزمخشري في كشافه، فقال الحافظ في تخريجه: أخرجه ابن مردويه من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وله قصة".
وقال ابن أبي ليلى: "سُبَّاقِ الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصديقون"، ذكره الزمخشري مرفوعًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
ماذا قال عنه؟
طالب: "قال: أخرجه الطبراني -كما في المجمع- من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال الهيثمي: فيه حسين بن الحسن الأشقر، وثَّقه ابن حبان، وضعفه الجمهور. أهـ. وقال ابن كثير في [تفسيره/3/570]: "وهذا حديث منكر، لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر، وهو شيعي متروك".
"وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام؟! فلما قتل حبيب غضب الله له، وعجَّل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28]. أي: ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نَبِي بعد قتله، قاله قتادة، ومجاهد، والحسن. قال الحسن: "الجند: الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء". وقيل: الجند: العساكر، أي: لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر، بل أُهْلِكُهُم بصيحة واحدة. قال معناه ابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره.
فقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} تصغير لأمرهم، أي: أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل، أو من بعد رفعه إلى السماء. وقيل: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} على من كان قبلهم".
يعني: هؤلاء لا يستحقون إنزال الملائكة، أو إنزال جُنْد من السماء من الملائكة، أو من غيرهم لمقاتلتهم، إنما هي صيحة واحدة قضت عليهم، بخلاف ما حصل في بدر والخندق بالنسبة له- عليه الصلاة والسلام- من إنزال الجنود وإرسال الريح، وما أشبه ذلك؛ لمكانته -عليه الصلاة والسلام- وإلا فخصومه لا يستحقون مثل هذا.
"وقال الزمخشري: "فإن قلت: فلمَ أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}[الأحزاب:9]. وقال: {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ}[آل عمران:124]. {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران:125]؟
قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبرئيل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضَّل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل، فضلًا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يولِّه أحدًا، فمن ذلك أنه أنزل له جنودًا من السماء، وكأنه أشار بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا}. {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهِّل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك".
قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}[يس:29]. قراءة العامة: {وَاحِدَةً} بالنصب على تقدير: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة، والأعرج: {صَيْحَةٌ} بالرفع هنا، وفي قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:53]. جعلوا "الكون" بمعنى الوقوع والحدوث".
تكون "كان" على هذا تامة، وليست ناقصة.
"فكأنه قال: ما وقعت عليهم إلا صيحةٌ واحدة. وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين؛ بسبب التأنيث، فهو ضعيف، كما تكون: ما قامت إلا هند، ضعيفًا، من حيث كان المعنى: ما قام أحد إلا هند. قال أبو حاتم: "فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: {إن كان إلا صيحة}".
يعني إن كان شيءٌ إلا صيحة.
"قال النحاس: "لا يمتنع شيء من هذا، يقال: ما جاءتني إلا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك". والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق، قال: "المعنى إن كانت عليهم صيحة؛ إلا صيحة واحدة"، وقدَّره غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. و "كان" بمعنى وقع: كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن الأسود ويقال: إنه في حرف عبد الله -رضي الله عنه كذلك: {إِنَ كَانَت إِلا زَقْيَةً وَاحِدَة}". وهذا مخالف للمصحف. وأيضًا فإن اللغة المعروفة: "زَقَا يَزْقُو" إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزَّوَاقِي، فكان يجب على هذا أن يكون زَقْوَة. ذكره النحاس.
قلت: وقال الجوهري: "الزَّقْو والزَّقْيُ مصدر، وقد زَقَا الصدى يَزْقُو زَقَاءً: أي: صاح، وكل صائح زَاقٍ، والزَّقْيَة الصيحة".
قلت: وعلى هذا يقال: زَقْوةٌ وزَقْيَةٌ لغتان، فالقراءة صحيحة، لا اعتراض عليها. والله أعلم".
يعني من حيث التصريف لا اعتراض عليها، لكن من حيث تواتر اللفظة، ومخالفتها لما في مصحف عثمان -رضي الله عنه- لا تجوز القراءة بها.
"{فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي: ميتون هامدون، تشبيهًا بالرماد الخامد. وقال قتادة: "هلكى". والمعنى واحد.
قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:30-32].
قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}[يس:30]. منصوب؛ لأنه نداء نكرة. ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين".
هنا في هذا الموضع في تفسير: الشيخ السعدي المطبوع في مجلد واحد، بعض الطبعات فقال الله تعالى: "متحسراً"، وهذا كلام ليس بصحيح؛ لأن الطبعة الأولى فيها: "مُتَرَحِّمًا" التي طُبعت في وقت الشيخ في عصره، الطبعة السلفية الأولى "مُتَرَحِّمًا"، وهكذا جاء في كثير من الطبعات، لكنه جاء في بعضها: "متحسرًا".
والتفسير موجود.
انظر واحدًا من الإخوان.
طالب: .....
موجود بالخلف، هناك.
"وفي حرف أُبَيّ -رضي الله عنه-: {يَا حَسْرَةَ العِبَادِ} على الإضافة. وحقيقة الحسرة في اللغة: أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرًا. وزعم الفراء أن الاختيار النصب، وأنه لو رُفِعت النكرة الموصولة بالصلة كان صوابًا. واستشهد بأشياء، منها: أنه سُمِعَ من العرب: يا مهتم بأمرنا لا تهتم. وأنشد:
يا دار غيَّرها البلى تغييرًا |
النكرة: لا تخلو إما أن تكون مقصودة، أو غير مقصودة، فإن كانت مقصودة صار حكمها حكم المعرفة، وإن كانت غير مقصودة كقول الأعمى: يا رجلًا خذ بيد، هو ما يقصد شخصًا بعينه، لكن هو واقف في الشارع، ويريد مَنْ يأخذ بيده، فإنه حينئذ: يُنصب المنادى منونًا.
طالب: .....
نعم.
ماذا يقول؟
طالب: قال الشيخ -السعدي-: "قال اللّه: متوجعًا للعباد.
نعم، "متوجعًا".
طالب: أي: ما أعظم شقاءهم، وأطول عناءهم".
صوابها: "مترحمًا".
"قال النحاس: "وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره؛ لأنه يرفع النكرة المحضة، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طوله، ويحذف التنوين متوسطًا".
وبحذف.
عندك وبحذف أو يحذف؟
طالب: .....
ويحذف؟
كل الطبعات هكذا؟
طالب: .....
في بعضها: بحذف، لكن نسقها يرفع ويرفع الثانية ويحذف، هذه أولى، نعم.
"ويحذف التنوين متوسطًا، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك". فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه؛ لأن تقدير: "يا مهتم بأمرنا لا تهتم" على التقديم والتأخير، والمعنى: "يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا". وتقدير البيت: يا أيتها الدار، ثم حوَّل المخاطبة، أي: يا هؤلاء غيَّر هذه الدار البلى، كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}[يونس:22]. فـ {حَسْرَةً} منصوب على النداء، كما تقول: يا رجلًا أقبل. ومعنى النداء: هذا موضع حضور الحسرة.
وقال الطبري: "المعنى: يا حسرة من العباد على أنفسهم، وتندمًا وتلهفًا في استهزائهم برسل الله -عليهم السلام-". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} أي: يا ويلًا على العباد". وعنه أيضًا: "حل هؤلاء محل من يتحسر عليهم".
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} على لسان مَنْ؟ مَنْ القائل: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} مَنْ الذي يتحسر عليهم، مَنْ الذي يتوجع عليهم، مَنْ الذي يترحم عليهم؟ في كلام الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره: يدل على أنه يريد أن الله -جلَّ وعلا- هو الذي يترحم عليهم، المفسرون يختلفون، فمنهم مَنْ يقول: إن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة هو الذي يتحسر عليهم، كما سيأتي في كلام المؤلف.
"وروى الربيع، عن أنس، عن أبي العالية أن {الْعِبَاد} هاهنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد}، فتحسروا على قتلهم، وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان، وقاله مجاهد. وقال الضحاك: "إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل". وقيل: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وَثَبَ القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: "يا حسرة على هؤلاء"، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا. وقيل: هذا من قول القوم، قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة، على اختلاف الروايات: "يا حسرة على هؤلاء الرسل، وعلى هذا الرجل"، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان. وتم الكلام على هذا".
لكن يَرِد على هذا أنه قد يقال: إن هذا التحسر ندم، والندم توبة، فلمَ لم تُقبل توبتهم؟ يقال: إنه إذا نزل العذاب، نزلت مقدماته، فما تنفع التوبة، كما جاء في سورة [يونس] ما استثني في ذلك إلا قوم يونس {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:98] إذا انعقدت الأسباب، وحَقَّت العقوبة، ورُئِيَت مقدماتها فلا ينفع الندم، ولا تنفع التوبة.
طالب: طيب السياق هنا قبل {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}[يس:29] .....
يعني رجَّح أي الاحتمالات؟
طالب: .....
مَنْ القائل: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد}؟
طالب: .....
مَنْ القائل: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد}؟ هذا احتمال وارد الذكر مَنْ يكون؟ أما كونه من قول هؤلاء الكفار الذين قتلوا الرسل، فَيُبْعِده قول: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد مَا يَأْتِيهِمْ} ما قال: "ما يأتينا يا حسرة على العباد الذين قتلناهم"، الثلاثة مع الذي جاء من أقصى المدينة يكونوا أربعة {مَا يَأْتِيهِمْ} لو كان من كلامهم لقالوا: "ما يأتينا من رسول إلا كنا به نستهزئ" هذا الموعد.
"وتم الكلام على هذا. ثُمَّ ابتدأ فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ}. وقرأ ابن هرمز، ومسلم بن جندب، وعكرمة: {يَا حَسْرَه عَلَى الْعِبَاد} بسكون الهاء، للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس، إذ كان موضع وعظ وتنبيه، والعرب تفعل ذلك في مثله، وإن لم يكن موضعا للوقف. ومن ذلك ما روي عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يُقَطِعُ قراءته حرفًا حرفًا، حرصًا على البيان والإفهام. ويجوز أن يكون: {عَلَى الْعِبَاد} متعلقا بالحسرة، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف لا بالحسرة، فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء، ثم قال: {عَلَى الْعِبَاد} أي: أتحسر على العباد. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، والضحاك وغيرهما: {يَا حَسْرَةَ الْعِبَاد} مضاف بحذف {عَلَى}. وهو خلاف المصحف. وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل، فيكون {الْعِبَاد} فاعلين، كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا، فهو كقولك: يا قِيَامَ زَيْدٍ. ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، فيكون {الْعِبَاد} مفعولين، فكأن العباد يتحسر عليهم من يشفق لهم. وقراءة من قرأ: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} مقوية لهذا المعنى.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}[يس:31]. قال سيبويه: "أن بدل من {كَمْ}، ومعنى: {كَمْ} هاهنا الخبر، فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام".
الخبر يراد به التكثير أيضًا، وليس المراد به الاستفهام هنا.
"والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء: "{كَمْ} في موضع نصب من وجهين: أحدهما: بـ {يَرَوْا} واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه-: {ألَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا}. والوجه الآخر: أن يكون {كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا}. قال النحاس: "القول الأول محال; لأن {كَمْ} لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها استفهام".
لأن لها الصدارة.
"ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله. وكذا حكمها إذا كانت خبرًا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا، فجعل: {أَنَّهُمْ} بدلًا من {كَمْ}. وقد رَدَّ ذلك محمد بن يزيد".
المبرد أبو العباس.
"أشد رَدَّ، وقال: "{كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} و {أَنَّهُمْ} في موضع نصب".
بفعل محذوف يفسره المذكور.
"والمعنى عنده بأنهم أي: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون بالاستئصال. قال: والدليل على هذا أنها في قراءة عبد الله -رضي الله عنه-: {مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}. وقرأ الحسن: {إِنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بكسر الهمزة على الاستئناف. وهذه الآية: رَدُّ على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت".
وهؤلاء هم الرافضة الذين يزعمون أن المنتظر يرجع، وأن عليًّا -رضي الله عنه- يرجع، عندهم القول بالرجعة عقيدة، نسأل الله العافية.
"قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:32]. يريد يوم القيامة للجزاء. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا} بتشديد {لَمَّا}. وخفف الباقون. فـ "إن" مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء، وما بعده الخبر. وبطل عملها حين تغير لفظها".
إذا خففت "إن وأخواتها يقل عملها"، وخفت "إن" فَقَلَ العمل، {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}[طه:63].
"ولزمت اللام في الخبر فرقًا بينها وبين "إن" التي بمعنى ما. "وما" عند أبي عبيدة زائدة. والتقدير عنده: وإن كل لجميع. قال الفراء: "ومن شدد جعل {لَمَّا} بمعنى: "إلا" و "إِنْ" بمعنى: "ما"، أي: ما كل إلا لجميع، كقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}[المؤمنون:25]".
"إنْ" بهذا الضابط تأتي مخففة من الثقيلة أصلها "إنَّ" وإلا تكلم عليها في مطلع كلامه على هذه الآية، تأتي بهذا اللفظ "إنْ" ويراد بها النفي، والفرق بين الأولى والثانية: أن الأولى: تُرْدَف بلام التوكيد؛ لأنها بمنزلة المشددة مُؤكِدة، والثانية: تُرْدَف بالاستثناء {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}[النساء:159].
"كقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}[المؤمنون:25]. وحكى سيبويه في قوله: سألتك بالله لما فعلت. وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. وقد مضى هذا المعنى في [هود:111]. وفي حرف أُبَيّ -رضي الله عنه-: {وَإنْ مِنْهُمْ إِلا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُون}".
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.