الموقظة في علم مصطلح الحديث (03)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
قال المصنف- رحمه الله تعالى:
"وقول الترمذي هذا حديث حسن صحيح عليه إشكال بأن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين السَّمْتين لحديث واحد..."
السَّمْتين أو السِّمَتين؟
عفا الله عنك.
"ففي الجمع بين السِّمَتين لحديث واحد مجاذبة، وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدًا، وهو أن ذلك راجع إلى الإسناد، فيكون قد روي بإسناد حسن وبإسناد صحيح، وحينئذٍ لو قيل: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه لبطل هذا الجواب، وحقيقة ذلك أن لو كان كذلك أن يقال: حديث حسن وصحيح، فكيف العمل في حديث يقول فيه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فهذا يبطل قول من قال: أن يكون ذلك بإسنادين. ويسوغ أن يكون مراده بالحسن المعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو إقبال النفوس وإصغاء الأسماع إلى حسن متنه وجزالة لفظه وما فيه من الثواب والخير، فكثير من المتون النبوية بهذه المثابة.
قال شيخنا ابن وهب: فعلى هذا يلزم إطلاق الحسن على بعض الموضوعات، ولا قائل بهذا، ثم قال: فأقول: لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على حديث حسن، فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار لا من حيث حقيقته وذاته، ثم قال: فللرواة صفات تقتضي قبول الرواية، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان، فوجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلاً وعدم التهمة لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه من الإتقان والحفظ، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق، فصح أن يقال: حسن باعتبار الدنيا، صحيح باعتبار العليا، ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسنًا، فيلتزم ذلك، وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم قد يقولون فيما صح هذا حديث حسن.
قلت: فأعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن إسحاقٍ عن محمد.."
إسحاقَ.
"وابن إسحاقَ عن محمد بن إبراهيم التيمي وأمثال ذلك. وهو قسم متجاذَب بين الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح، ثم بعد ذلك أمثلة كثيرة يُتنازَع فيها بعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها كحديث الحارث بن عبد الله وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة وخصيف ودرَّاج أبي السمح وخلق سواهم."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لما ذكر المؤلف- رحمه الله تعالى- الصحيح والحسن، وبيَّن الصحيح، وذكر كلامًا طويلاً في الحسن، وذكر أنه على يأس أو إياس من تحديده بدقة، والأمر كذلك، ذكر "قول الترمذي: هذا حديث حسن صحيح"، وذكر أنه مشكِل، وعليه إشكال "قول الترمذي: هذا حديث حسن صحيح عليه إشكال بأن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين السِّمَتين لحديث واحد مجاذَبة" وجه الإشكال أنك إذا قلت: حديث حسن أثبتَّ أن هذا الحديث قاصر عن المرتبة العليا، وإذا قلت: صحيح أثبتَّ له الدرجة العليا التي هي الصحة، فأنت تثبت له الدرجة الدنيا، ثم تثبت له الدرجة العليا.
يعني المثال الموضِّح: إذا جاء الولد بالشهادة، ثم قلت له: ما تقديرك؟ يقول: جيد جدًّا ممتاز صحيح أو ما هو بصحيح؟ لماذا؟ لأن جيد جدًّا أنزل، والامتياز درجة أرفع، فلا يمكن أن يجمع بين النازل والعالي في آن واحد من جهة واحدة. لو تذهب إلى وكالة تريد شراء سيارة ويقولون لك: السيارة بمائة ألف نقدًا، وبمائة وعشرين ألفًا نسيئة، ثم تُسأل عن قيمة السيارة عند الوكالة الفلانية تقول: مائة، مائة وعشرين ألفًا، تثبت العدد الأدنى والأعلى معًا من غير أن تبيِّن انفكاك الجهة. نعم إذا انفكت الجهة فلا بأس، أما إثبات كمال ثم نفي بهذا الكمال، أو إثبات قصور ثم نفي بهذا القصور من جهة واحدة هذا لا شك أنه مشكِل، لا يمكن أن يخرج التقدير من جهة واحدة تقدير الطالب جيد جدًّا ممتاز، ما يمكن، لكن إذا انفكت الجهة ساغ ذلك، إذا قلت له: ما تقديرك؟ قال: جيد جدًّا ممتاز، قلت: كيف؟! قال: التقدير العام جيد جدًّا وفي التخصص ممتاز. هذا كلام صحيح أم غير صحيح؟
صحيح، إذا قال الترمذي: حسن صحيح إذا قيل لك: كم قيمة السيارة مثلاً؟ تقول: مائة ألف، مائة وعشرين ألفًا، كيف؟! تقول: نعم نقدًا مائة ألف، ونسيئة مائة وعشرين ألفًا، هذا الكلام صحيح؛ لأن الجهة انفكت، ما فيه تناقض، إذا قال الترمذي: حسن صحيح إذا قال الترمذي حسن صحيح أثبت القصور ثم نفى القصور يقول: عليه إشكال بأن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين السِّمَتين، العلامتين لحديث واحد مجاذبة، نعم مجاذبة، كل سِمَة وعلامة تحتاج أن تجر الحكم إليها، فأنت إما أن تقول: حسن فتقصر به عن درجة الصحيح، أو تقول: صحيح فترتقي به عن درجة الحسن.
يقول: "وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدًا، وهو أن ذلك.." إلى آخره، الأجوبة عن مثل هذا الإشكال وصلت إلى خمسة عشر قولاً لأهل العلم، لكن من أوضحها أنه إن كان مرويًّا بأكثر من إسناد ساغ إطلاق اللفظين عليه، فهو حسن باعتبار إسناد، صحيح باعتبار إسناد آخر. هذا الكلام صحيح، باعتبار إسناد حسن، لكنه باعتبار إسناد آخر صحيح، لكن يرِد على هذا أن الإسناد الحسن بمفرده إذا وُجِد له طريق آخر صحيح يستمر حسنًا أم يترقى إلى الصحيح؟ يترقى إلى الصحيح. منهم من يرى أن كلمة حسن صحيح مرتبة بين الحسن والصحيح، مرتبة بين الحسَن والصحيح، كيف؟
برزخ، يعني مثل ما إذا خلطت حامضًا مع حلو، الحامض تقول: حامض، الحلو بمفرده تقول: حلو، لكن إذا خلطتهما ماذا يصير؟ مز، لكن ماذا تقول أنت؟ تقول: حامض حلو، يعني حسن صحيح مثل حامض حلو، يعني اخلط الحكم من هذين الحكمين، فيخرج لك شيء متوسط بين الحكمين، كما يخرج لك طعم متوسط بين الحامض وبين الحلو، فهذا حكم متوسط، فعلى هذا يرجَّح عليه الحديث الذي يقال فيه: صحيح فقط، لكن يرِد على هذا أن الترمذي يعقِّب على الأحاديث التي هي في الدرجة العليا من الصحة بأنه حسن صحيح، فكيف يكون مثل هذا أنه أنزل من الصحيح وفوق الحسن، ولذا يقول: "وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدًا".
طيب إذا قلنا: إن الحديث مروي بإسنادين واحد حسن والثاني صحيح، فإذا قال الترمذي: "حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" هدم الذي قلناه، يعني ما جاء إلا من طريق واحد، فكيف يكون صحيحًا من طريق وحسنًا من طريق؟؟ يعني على الاعتبار الأول أن حق العبارة أن يقال: حسن وصحيح، حسن من طريق، وصحيح من طريق، وهذا ارتضاه ابن حجر وغيره، لكن عليه إيرادات منها أنه "إذا قيل: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه" كيف؟ لا نستطيع أن نقول: إنه ورد بإسنادين؛ لأنه يقول: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال بعضهم: إنه غاية ما هنالك أنه تردد في الحكم عليه، تردد في الحكم عليه، ما له إلا طريق واحد، ودرس هذا الإسناد وتردد هل يصل إلى درجة الصحيح، أو يقصر عنها إلى درجة الحسن أو هو متذبذب بينهما؟ فأعطاه حكمًا يجمع الأمرين، فحق العبارة أن يقال: حسن أو صحيح؛ لأنه متردد في الحكم عليه.
منهم من يقول: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، يعني عن هذا الصحابي، وإن عرف من وجوه عن غيره من الصحابة، بدليل أنه يقول: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم يقول: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان، يعدد من الصحابة، فدل على أنه يريد لا نعرفه إلا من هذا الوجه عن هذا الصحابي فلا يرِد الإشكال.
"وحقيقة ذلك أن لو كان كذلك أن يقال: حسن وصحيح" يعني باعتبار الطريقين، "فكيف العمل في حديث يقول فيه حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فهذا يبطل قول من قال: أن يكون ذلك بإسنادين" عرفنا أنه إذا قال: إلا من هذا الوجه، قد يريد به من هذا الوجه عن هذا الصحابي وإن عرف من وجوه متعددة عن غيره من الصحابة؛ لأنه يقول: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم يقول: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان يعني الصحابة.
يقول: "ويسوغ أن يكون مراده بالحُسْن أو بالحَسَن المعنى اللغوي لا الاصطلاحي" بأن تكون عباراته جميلة، صياغته قوية، اشتمل على فصاحة وبلاغة، أو تكون معانيه جيِّدة، تجذب السامع، فلفظه حسن وهو "يقول: ويسوغ أن يكون مراده بالحسن المعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو إقبال النفوس وإصغاء الأسماع إلى حسن متنه وجزالة لفظه وما فيه من الثواب والخير، فكثير من المتون النبوية بهذه المثابة"، كثير من الأحاديث الصحيحة بهذه المثابة، ألفاظ جزلة وبليغة وفصيحة، إذًا والحسنة أيضًا فيها كذلك فيها الجزل فيها الذي يحمل بشارة للمؤمن، بل في كلام شيخه "ابن وهب" وهو ابن دقيق العيد، ابن دقيق العيد وهو شيخ للحافظ الذهبي- رحم الله الجميع- وهو صاحب الاقتراح الذي لُب هذا الكتاب مأخوذ منه "فعلى هذا يلزَم إطلاق الحسن على بعض الموضوعات، ولا قائل بهذا" نعم الذين يضعون الأحاديث ويعتمدها القُصَّاص والوعاظ في الغالب أن ألفاظها جذابة، لماذا؟ لكي تجذب السامعين، يكون لديهم حضور في قصصهم ووعظهم، فهل يمكن أن يقال: إذا قال الترمذي حسن صحيح يريد به هذا المعنى مجرد لفظ لغوي، حسن لغوي جذاب، فيدخل في ذلك كل الأنواع؟ نعم من عانى الموضوعات وقصص القصاصين وما يورده الوعاظ يجد فيهم شيئًا من هذا "بعض الموضوعات، ولا قائل بهذا.
ثم قال ابن دقيق العيد: فأقول: لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على حديث حسن" عرفنا أن مراتب الأحاديث تبعًا للقوة والضعف صحيح، حسن، ضعيف، فالحسن كما قرروا في مرتبة بين الصحيح والحسن، إذًا الحسن قاصر عن الصحيح، ابن دقيق العيد يقول: لا، ليس الذي بين الحسن والصحيح من النسب التباين ليسا بمتباينين، وإنما هما متداخلان ،هما متداخلان، يعني الحسن يدخل في الصحيح، وعلى هذا اصطلاح بعض أهل العلم يؤلفون في الصحيح ويدخلون فيه أحاديث حسنة، فالحسن نوع من أنواع الصحيح، طيب هل يُسَلَّم لابن دقيق أن بينهما من النسب التداخل التام؟ يقول: "لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على حديث حسن، فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار لا من حيث حقيقته وذاته".
فإذا قال شخص لعبده أو لزوجته: إن أخذتِ من فلان ألفًا من أبيكِ أو من أخيكِ فأنتِ طالق، هل تطلق؟ هي تطلق إذا أخذت ألفًا، لكن هل تطلق إذا أخذت خمسمائة أو ألفين؟ طيب الخمسمائة داخلة في الألف، الألفان متضمنة للألف وزيادة تطلق أو ما تطلق؟ هو إن أخذت من أبيكِ ألف ريـال فأنتِ طالق، قالها مرة، فأخذت خمسمائة، الآن فيه تداخل بين الخمسمائة والألف مثل دخول الحسن في الصحيح مرة ثانية قال: إن أخذت ألفًا فأنت طالق، فأخذت ألفين، هل أخذت ألفًا أم ما أخذت؟ يعني أخذت ألفًا وزيادة؛ لأنها داخلة في الألفين بلا شك، والذي معنا من هذا النوع أم ليس منه؟
طيب لو قال: إن قبلتِ من أهلك طعامًا فأنت طالق، فلما جاءت من أهلها إذا معها إناء فيه طعام، انتهت، تحقق الشرط، لكن أخذت من أهلها مبلغًا من المال فمرت على المطعم واشترت طعامًا فماذا صار؟ تطلق أو ما تطلق؟ الآن بين الدراهم والطعام تباين أم تداخل؟ تباين؛ لأنها ما أخذت طعامًا؛ لأن هذا المبلغ الذي أخذته احتمال أن تشتري به طعامًا، واحتمال أن تشتري أثاثًا، احتمال أن تتصدق به، غير منصوص عليه، ولا داخل في المنصوص، ابن دقيق العيد يريد أن يقرر أن بينهما التداخل، فكل صحيح حسن، ولا عكس، يعني الشخص الذي بلغ الخمسين يصدق عليه أنه بلغ الأربعين أو لا يصدق عليه؟ بلغ أربعين وزيادة، فإذا حلف ألا يكلِّم ابن أربعين، فكلَّم ابن خمسين نقول: كلمت ابن أربعين وزيادة، أم نقول: الأيمان مردها على الأعراف، وأنت ونيتك؟
نعود لنقرر ما بين الحسن والصحيح من النِّسَب، منهم من يقول: هما متباينان، فالحسن حقيقة لا علاقة للصحيح به، والصحيح حقيقة مستقلة لا علاقة للحسن بها، يعني كالنسبة بين الاسم والفعل والحرف، اعتبر الصحيح مثل الاسم، والحسن مثل الفعل، والضعيف مثل الحرف، لا تداخل بينهما ألبتة، لكن هل نقول: إن الصحيح والحسن والضعيف مثل الشيخ والكهل والشاب بينهم تداخل؟ بينهم تداخل من وجه لا شك؛ لأن الحسن إذا وجد ضعيف مع ضعيف ارتقى إلى الحسن، الشاب وجد معه مجموع سنوات ارتقى إلى الكهولة، والكهل إذا وجد معه أيضًا مجموعة من السنوات فارتقى إلى الشيخوخة، الآن الحسن هو أصله ضعيف، ثم وجد معه طرق فارتقى إلى..، الضعيف ارتقى بالطرق إلى الحسن، الصحيح هو أصله حسن ارتقى بمجموع الطرق إلى الصحيح، لا شك أن بينهما ارتباطًا وبينهما تباينًا، متى يكون هذا الارتباط والتداخل؟ ومتى يكون التباين؟
يكون الارتباط في الصحيح لغيره مع الحسن لذاته هنا متداخلان، الصحيح لغيره مع الحسن لذاته متداخلان؛ لأن الصحيح لغيره هو عبارة عن مجموعة من الحسن لذاته، فالحسن لذاته فرد من أفراد الصحيح لغيره، فبينهما تداخل، لكن ما الذي بين الصحيح لذاته والحسن لغيره من التداخل؟ ما فيه، تباين، تباين، لا يمكن أن يصل الحسن لغيره إلى درجة الصحيح على اعتبار أن الضعيف لا يرقى إلى درجة واحدة، وهو المعمول به عند الجمهور، فإذا وجدت حديثًا ضعيفًا ضعفه ليس بشديد، منجبر، ثم وجدت له شاهدًا صحيحًا، هل تقول: ارتقى هذا الضعيف إلى الحسن، أو ارتقى إلى الصحيح؟ عندهم ما يرتقى إلا درجة واحدة، إذًا إلى الحسن، ومنهم من يقول: لا، مادام الشاهد صحيحًا، إذًا الضعيف صحيح، لاسيما إذا كان الشاهد في الصحيح في البخاري أو مسلم، لا يوجد ما يمنع من هذا.
نعود إلى كلام ابن دقيق العيد، ولعله اتضح، ثم قال: أقول: لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، يعني قد يحكم عليه بأنه حسن وقد بلغ درجة الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على حديث حسن لاسيما عند من شهر هذه الكلمة، وهو الترمذي، يعني إذا قال: هذا حديث حسن تختلف حقيقته عما يقول فيه: حسن صحيح ويكون تعريفه الذي مرَّ بالأمس.
وقال الترمذي ما سلم |
|
من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم |
بكذب ولم يكن فردًا ورد |
|
........................ |
هذا تعريفه فيما يقول فيه حسن فقط، أما ما يقول فيه: حسن صحيح، فلا تطبقه على هذا التعريف حقيقة تختلف عن الحسن الذي يطلق عليه اللفظ بمفرده، فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار، لا من حيث حقيقته وذاته.
ثم قال: "فللرواة صفات تقتضي قبول الرواية، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان، فوجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلاً وعدم التهمة لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه من الإتقان والحفظ" يعني لو وجدت هل يمكن أن تصف مالكًا بأنه صدوق ثقة ثبت إمام حافظ جبل نجم السنن؟ هل يمكن بأن تصفه بأنه صدوق؟ يقول: يمكن، ما المانع؟! هو متصف بهذه الصفة، بل يستحق المبالغة، وصدوق مبالغة، وأنت بالغت في وصفه بالصدق يجوز وراوي الصدوق حسن أو حديث الصدوق حسن، فيجوز أن تنزل به من منزلته إلى أدنى من ذلك، لكن هل من النصيحة أن يعطى الإنسان أقل من منزلته؟ وهل هذا امتثال لأن ينزل الناس منازلهم كما أمر بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- «أنزلوا الناس منازلهم»؟ وعائشة تقول: أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، هو يقول: ما فيه ما يمنع أنك تصف فلانًا الحافظ الضابط الثقة بأنه صدوق، لكن إذا كان وصفك له يترتب عليه اختلاف في الحكم؛ لأنك إذا قلت: صدوق جاء من يحكم عليه بأن حديثه حسن، فإذا كان حديثه حسنًا ووصف من هو أدنى منه مرتبة بأنه ثقة يلزم عليه ترجيح رواية المفضول على رواية الفاضل، فإذا كان حكمك يترتب عليه خلل في الحكم على الأحاديث أو في التوفيق بينها والترجيح بينها لا شك أنك لا يجوز أن تنزِّل الضابط الحافظ عن منزلته.
كما أنه لا يجوز لك أن تحكم على حديث صحيح بأنه حسن؛ لأنك إذا حكمت عليه بأنه حسن ثم عُوْرِض بحديث صحيح رجح عليه، وهو في الحقيقة صحيح، فهذا ينقض كلام ابن دقيق العيد "فإذا وجدت الدرجة العليا لم ينافِ وجود ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق" طيب مالك، ابن دقيق العيد يريد أن يقول مثل ما يقال الآن في القبول، المقبول من يحصل على ثمانين بالمائة يُعلَن القبول لجهة من الجهات؛ دراسة، وظيفة، من حصل على ثمانين بالمائة، يجي من ملفه معه وحاصل على تسعين بالمائة، يحق له أن يقدم أم ما يحق له؟ يحق له من باب أولى، لكن قد يكون من حدد الثمانين في وقت من الأوقات له غرض وهدف من هذه النسبة، يقول: أنا والله ما أريد من عنده امتياز؛ لأنه يكون مغرورًا ويشغلنا ويتنكف وله مطالب، ويمكن ما يداوم الدوام المضبوط، ويمكن أن يلوح له في يوم من الأيام وظيفة أفضل ويتركنا، خلنا على الثمانين، صحيح أم لا؟
إذًا الثمانين قد تكون هدفًا لبعض الناس الأقل هدفًا، وأنت إذا أنزلت العدل الضابط الحافظ إلى درجة أقل لا شك أنك تعرضه لترجيح خبر غيره على خبره، فصح أن يقول: حسن باعتبار الدنيا، صحيح باعتبار العليا، ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسنًا يقول: فيلتزم ما فيه مانع فيُلتزَم ذلك، "فصح أن يقال: حسن باعتبار الدنيا، صحيح باعتبار العليا. ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسنًا فيُلتزَم ذلك، وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم قد يقولون فيما صح: هذا حديث حسن" نعم قد يقولون: هذا حديث حسن، لكن الذي لا يعرف اصطلاحات القوم، ولا ينزِّل مواقع استعمال القوم للألفاظ على الاصطلاحات النظرية لا شك أنه يضيع، من لا يعرف مواقع استعمال الأئمة أحيانًا عندما يقولون: الحديث حسن، طيب قد يقول هذا الإمام الذي أطلق على الحديث الصحيح حسنًا، ثم يأتي إلى قول بعضهم: ألا تقبل رواية فلان وهو حسن الأحاديث قال من حسنها: فررت، يريد أن يضرب هذا بهذا، والحديث المحكوم عليه بأنه حسن في أعلى الدرجات هذا إذا أُمن اللبس، يجوز مثل هذا إذا أُمن اللبس، تقول لحديث صحيح: حسن، لكن ما تقول لحديث حسن: صحيح، لا، إلا عند من لا يفرق بين الحسن والصحيح فيرِد هذا على كلام المؤلف.
"قلت: فأعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" هاتان السلسلتان اختلف العلماء في المروي بهما؛ فبهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، أولاً الاختلاف في الاحتجاج به معروف هل يحتج به أو لا يحتج، وسبب الخلاف ومنشؤه الخلاف في ذاته، هل بلغ منزلة من يقبل خبره أو لم يبلغ؟ هذا محل خلاف، والأكثر على أن حديثه من قبيل الحسن، مثله "عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" وسبب الخلاف فيه خلاف قوي "عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" الخلاف في عود الضمير في جده عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، هل يرد مثل هذا الخلاف في بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؟ الاختلاف في عود الضمير؟
لا يرد، لماذا؟
لأنه من ثلاثة لا رابع لهم، بهز بن حكيم بن معاوية، حيدة هذا ما يدخل؛ لأنه ليس بمسلم، فالرواية عن بهز عن أبيه حكيم عن جده حيدة، لكن إذا جئنا للسلسلة الأخرى عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فالضمير في الجد هل يعود إلى جد عمرو؟ جده يعود إلى عمرو فجده محمد، إذا كان جده محمدًا عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده محمد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل أم ما يقبل؟
ما يقبل، لماذا؟ لأن محمدًا تابعي، وليس بصحابي، إذا قلنا: إن الجد يعود إلى شعيب الضمير يعود إلى شعيب وجده عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابي، فإذا كان الخبر عن عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده عبد الله بن عمرو، وجاء التصريح بذلك في مواضع عند أحمد والنسائي وغيرهما عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، جاء التصريح بذلك.
لكن تبقى مشكلة ثانية، وهي أنه هل سمع شعيب من جده عبد الله بن عمرو؟ محل خلاف بين أهل العلم، ولوجود مثل هذه الخلافات نزلت مرتبة ما يروى بهذا الإسناد إلى مرتبة الحسن، فعندنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده حسن، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح السند إلى عمرو حسن، طيب أيهما أقوى بهز بن حكيم عندك تعارض عندك حديثان متعارضان، يروى من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أو يروى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؟
الذهبي- رحمه الله- قدم بهزًا الآن وكثير من أهل العلم يقدمون عمرو بن شعيب، طيب مما يقوى به بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن البخاري أخرج تعليقًا بهذا الإسناد، أخرج في صحيحه تعليقًا لا في الأصول التي يعتمد عليها، ويرجَّح عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بأن البخاري صحح حديثًا روي من هذا الطريق وقال: حديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي أصح حديث في الباب، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في التكبير في صلاة العيد فهل نقول: إن تخريج البخاري لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولو كان معلَّقًا أقوى من تصحيحه خارج الصحيح لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أو العكس؟ هذا الذي أوجد الخلاف بين السلسلتين، وعلى كل حال ما يروى بهما حسن.
"ومحمد بن عمرو" بن علقمة بن وقاص "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" محمد بن عمرو في حفظه شيء، وأنزلوا حديثه من الصحيح إلى الحسن لهذا الشيء أو هذا الخدش في حفظه، ولذا يقول الحافظ العراقي- رحمه الله- تعالى في الصحيح لغيره:
والحسن المعروف بالعدالة |
|
......................... |
والحسن المعروف بالعدالة |
|
والصدق راويه إذا أتى له |
طرق أخرى نحوها من الطرق |
|
صححته كمتن لولا أن أشق |
إذ تابعوا محمد بن عمرو |
|
............................ |
هذا الذي معنا.
............................ |
|
عليه فارتقى الصحيح يجري |
استحق الصحة متى؟ لما توبع، إذا لم يتابَع بقي في مرتبة الحسن "ابن إسحاق" فيه كلام طويل جدًّا لأهل العلم، وفيه بحوث، بل فيه مصنفات، يعني كُتب عن ابن إسحاق عشرات الصفحات "وابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي وأمثال ذلك" وهو مدلس وتدليسه شديد، لكن إذا صرَّح بالتحديث فجمع من أهل العلم منهم الذهبي على أن خبره في مرتبة الحسن، وهو قسم متجاذب بين الصحة والحسن يقول: هذه الطرق التي ساقها لا يُجزَم بأنها صحيحة حسنة لماذا؟ لأنه وجد من يضعفها "وهو قسم متجاذَب بين الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق"؛ لأن الخلاف بين تصحيح وتحسين وتضعيف، فالقول الوسط أن يقال: حسنة.
"فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح ثم بعد ذلك" يأتي بعد هذه الطرق طرق دونها؛ لأن الرواة على طبقات ومراتب ومنازل دون المراتب السابقة التي شرحت بالأمس، مراتب صحيح، وهذه مراتب حسن دونها مراتب، "ثم بعد ذلك أمثلة كثيرة يُتنازَع فيها، وبعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها كحديث الحارث بن عبد الله" الأعور المعروف، معروف بتشيعه كالحارث بن عبد الله المعروف بالأعور يروي عن علي- رضي الله عنه-.
"وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة وخصيف ودراج أبي السمح" وغيرهم ممن ضُعِّف "وخلق سواهم" جمع غفير من الرواة ضعفهم أهل العلم لا يصلون إلى درجة الحسن، وإن كان التجاذب عند أهل العلم بين أن تضعف أخبارهم وبين أن يقصر بها عن الصحة ولا تصل إلى درجة الصحيح بل الحسن.
وعلى كل حال مثل هذه الأمور يصعب الحكم على كل راوٍ بأن جميع ما رواه مردود، اللهم إلا أن هذا مبني على غلبة الظن، والرواة لهم منازل، ولهم مراتب، وأخبارهم أيضًا متفاوتة حتى الراوي الضعيف تتفاوت أخباره ومروياته من شيخ إلى شيخ، فقد يضبط عن شيخه فلان، ولا يضبط عن فلان، قد يضبط في أول عمره، ولا يضبط في آخره، قد يضبط عن أهل البلد الفلاني، ولا يضبط عن أهل البلد الفلاني، هناك أمور تحتاج إلى مزيد من العناية والبحث والوقت لا يستوعبها.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.