التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأنبياء (04)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الذي يسأل عن الطبعات بالنسبة لكتب الدورة التي أعلن عنها كلها سوف تطبع إن شاء الله وتوزع، سوف تطبع وتوزع إن شاء الله تعالى، تطبع متونها وتوزع.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] يَعْنِي اتِّخَاذَ الدُّرُوعِ بِإِلَانَةِ الْحَدِيدِ لَهُ، وَاللَّبُوسُ عِنْدَ الْعَرَبِ السِّلَاحُ كُلُّهُ، دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا أَوْ سَيْفًا أَوْ رُمْحًا. قَالَ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ رُمْحًا:
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ |
| رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ |
نعم؛ لأنه يستعمل، والاستعمال لبس، ولبس كل شيءٍ بحسبه، الكتابة في القلم لبسٌ له، استعمال الكتاب والقراءة فيه والتعليق عليه لبس، وهكذا، ومن ذلك الجلوس على فراش والحصير لبس، ويقول أنس -رضي الله عنه وأرضاه-: فعمدت إلى حصيرٍ لنا قد أسود من طول ما لبس، فلبس كل شيءٍ بحسبه، والرمح يلبس، يعني يستعمل.
وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا |
| إما نعيمها وإما بوسها |
أصلها بالهمز بؤسها، لكنها سهلت.
وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا الدِّرْعَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ نَحْوَ الرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ.
الركوب هو المركوب، واللبوس هو الملبوس، والحلوب هي المحلوبة.
قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ دَاوُدُ. وَإِنَّمَا كَانَتْ صَفَائِح، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا.
يعني وضع فيه الحلق التي يشبك بعضها في بعض.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: {لِيحْصِنَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] لِيُحْرِزَكُمْ.
هذه قراءة نافع، والتي يعول عليها المؤلف، ذكرنا مرارًا الذين أدخلوا القرآن في التفسير، الأصل أن ما فيه آيات، التفسير ما في آيات، إنما يشير إلى أول الآية ويفرع عليها، لكنهم أدخلوا القرآن، وأدخلوا فيه طبعة الملك فاروق، هذا حرفها، وهذا رسمهما، لكنها تختلف عن القراءة التي اعتمد عليها المؤلف، على هذا الذي يريد أن يدخل ويتصرف مثل هذا التصرف أن يدخل القراءة التي عول عليها المؤلف؛ لئلا يوجد اختلاف بين الشرح والمشروح، مثل: الذين أدخلوا صحيح البخاري مع فتح الباري، الأصل أن الفتح ما فيه متن، فالطابعون تصرفوا، وليتهم يتصرفوا وضعوا متنًا يناسب الشرح، فكثيرًا ما يوجد اختلاف في القراءات بين ما يعتمده المؤلف وبين ما هو مثبت، كثيرًا ما يوجد قوله كذا في صحيح البخاري من كلام ابن حجر قوله كذا، ولا تجد في المتن الذي معك؛ لأنه ليس فيه رواية أبي ذر ابن حجر عمدته على رواية أبي ذر، وهكذا.
{مِنْ بَأْسِكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] أَيْ مِنْ حَرْبِكُمْ. وَقِيلَ: مِنَ السَّيْفِ وَالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ، أَيْ مِنْ آلَةِ بَأْسِكُمْ فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {مِنْ بَأْسِكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] مِنْ سِلَاحِكُمْ. وقال الضَّحَّاكُ: مِنْ حَرْبِ أَعْدَائِكُمْ. وَالْمَعْنَى واحد. وقرأ الحسن وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَرَوْحٌ: {لِتُحْصِنَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] بالتاء ردًّا على الصنعة.
ردًّا على الصنعة {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80].
بالتاء ردًّا على الصنعة. وَقِيلَ: عَلَى اللَّبُوسِ وَالْمَنَعَةِ الَّتِي هِيَ الدُّرُوعُ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَرُوَيْسٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: (لِنُحْصِنَكُمْ) بِالنُّونِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَعَلَّمْناهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80]، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، جَعَلُوا الْفِعْلَ لِلَّبُوسِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى لِيُحْصِنَكُمُ اللَّهُ. {فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:80] أَيْ على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل: (هل أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) بِأَنْ تُطِيعُوا رَسُولِي.
لو قيل بأنه استفهامٌ يراد منه الأمر بمعنى اشكروا كما في قوله –جل وعلا-: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [سورة المائدة:91] يعني انتهوا؛ ولذا جاء الجواب انتهينا انتهينا، وهنا ينبغي أن يكون الجواب شكرنا شكرنا.
الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي اتِّخَاذِ الصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ، وهو قَوْلُ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ ..
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ، لَا قَوْلُ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلضُّعَفَاءِ، فَالسَّبَبُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ.
لا شك أن إهدار الأسباب وعدم الأخذ بها، الأسباب المأمور بها، طعنٌ في العقل، لو قال الإنسان: إنه يخرج في حال البرد الشديد دون لباس، اللباس سبب {سَرابيلَ تَقيكُمُ الحَرَّ} [سورة النحل:81] يعني هو البرد يخرج يقول: إن كان قدر الله لي أن أموت من البرد مت وإلا فلا، نقول: لا يا أخي، السبب إنما جعله الله سببًا؛ ليتخذ، ويتقى به الشر، وليس بعاملٍ مؤثر بذاته كما يقول المعتزلة، إنما تأثيره بإرادة الله -جل وعلا- على أن تنتفي الموانع، على كل حال عدم اتخاذ الأسباب، عدم مزاولة الأسباب طعن في العقل، بينما الاعتماد عليها دون نظرٍ إلى مسببها طعنٌ في الشرع كما هو قول المعتزلة.
فَمَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَسَبَ مَنْ ذَكَرْنَا إِلَى الضَّعْفِ وَعَدَمِ الْمِنَّةِ.
بمن فيهم داود-عليه السلام- النبي-عليه الصلاة والسلام- دخل مكة وعلى رأسه المغفر، هذا سبب.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَكَانَ أَيْضًا يَصْنَعُ الْخُوصَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَنُوحٌ نَجَّارًا، وَلُقْمَانُ خَيَّاطًا، وَطَالُوتُ دَبَّاغًا. وَقِيلَ: سَقَّاءً، فَالصَّنْعَةُ يَكُفُّ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ الضَّرَرَ وَالْبَأْسَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ الضَّعِيفَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ». وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي [سُورَةِ الْفُرْقَانِ]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا آية، وفية كفاية، والحمد لله.
الحديث مخرج؟
طالب:..........
مضعف؟
طالب: .........
يعني ذكره الشوكاني إنه مضعف؛ ولهذا حكم عليه بالوضع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:81] أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً، أَيْ شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ. يُقَالُ مِنْهُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ أَيِ اشْتَدَّتْ فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ. وَفِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ: أَعْصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ. وَالْعَصْفُ التِّبْنُ فَسُمِّيَ بِهِ شِدَّةُ الريح؛ لِأَنَّهَا تَعْصِفهُ بِشِدَّةِ تَطَيُّرِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:81] بِرَفْعِ الْحَاءِ عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: وَلِسُلَيْمَانَ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
هذه جملة مستأنفة ليست معطوفة على ما تقدم.
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} [سورة الْأَنْبِيَاء:81] يَعْنِي الشَّامَ. يُرْوَى أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، ثُمَّ تَرُدُّهُ إِلَى الشَّامِ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ، وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ. وَكَانَ امْرَأً غَزَّاءً لَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ أَمَرَ بِخَشَبٍ فَمُدَّتْ وَرُفِعَ عَلَيْهَا الناس والدواب وآلة الحرب، ثم أمر الْعَاصِفَ فَأَقَلَّتْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ الرُّخَاءَ فَمَرَّتْ بِهِ شَهْرًا فِي رَوَاحِهِ وَشَهْرًا فِي غُدُوِّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} [ص:36]. وَالرُّخَاءُ اللَّيِّنَةُ.
{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:81] أَيْ بكل شي عَمِلْنَا عَالِمِينَ بِتَدْبِيرِهِ.
والآية على عمومها {لَا يَعْزُبُ} [سورة سبأ:3] عن علمه شيء -جل وعلا- ولا يقتصر ذلك على ما عمله، بل علمه محيطٌ بكل شيء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:82] أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَغُوصُونَ، يُرِيدُ تَحْتَ الْمَاءِ. أَيْ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الْجَوَاهِرَ مِنَ الْبَحْرِ. وَالْغَوْصُ النُّزُولُ تَحْتَ الْمَاءِ، وَقَدْ غَاصَ فِي الْمَاءِ، وَالْهَاجِمُ عَلَى الشَّيْءِ غَائِصٌ. وَالْغَوَّاصُ الَّذِي يَغُوصُ فِي الْبَحْرِ عَلَى اللُّؤْلُؤِ، وَفِعْلُهُ الْغِيَاصَةُ.
{وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:82] أَيْ سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْغَوْصِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِذَلِكَ الْمَحَارِيبُ وَالتَّمَاثِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مما يُسَخِّرُهُمْ فِيهِ. {وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:82] أَيْ لِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَافِظِينَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا أَعْمَالَهُمْ، أَوْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: {حافِظِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:82] مِنْ أَنْ يَهْرُبُوا أَوْ يَمْتَنِعُوا. أَوْ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ أَمْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَمَامَ وَالنَّوْرَةَ وَالطَّوَاحِينَ وَالْقَوَارِيرَ وَالصَّابُونَ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ.
{وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:82] يعني ظاهر اللفظ أن الله -جل وعلا- يحفظ هؤلاء؛ من أجل أن يؤدوا ما أسند إليهم، وإنما الأصل أن الشياطين إنما يطلقون على من مؤمني الجن أو كفارهم؟
طالب: الكفار.
على المردة، على المردة منهم، وحفظهم لا لذواتهم؛ وإنما من أجل أن يؤدوا ما أسند إليهم من خدمة سليمان -عليه السلام- واستعمالهم من خواصه -عليه السلام-، فلم يحصل لأحدٍ قبله ولا بعده {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} [سورة ص:35]، والنبي-عليه الصلاة والسلام- لما أراد أن يربط الجني ليشاهده صبيان المدينة تذكر دعوة سليمان -عليه السلام- فلم يفعل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ. {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] أَيْ نَالَنِي فِي بَدَنِي ضُرٌّ وَفِي مَالِي وَأَهْلِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَ أَيُّوبُ؛ لِأَنَّهُ آبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ.
طالب:..........
استعمال الجن من خواص سليمان -عليه السلام- لا يجوز لأحدٍ يستخدمهم ولو صلحت نيته وقصده على حد زعمه؛ لأنهم أناس غير موثوقين، ولا يدرى عن أحوالهم، مجاهيل، وجرت العادة بأنهم قد يخدمون في أول الأمر، ثم يستدرجون إلى أن يقع الإنسان في المحظور، مع ذلك سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وحماية جانب التوحيد أمر لابد منه؛ لأنهم في أول الأمر يخدمون من غير مقابل، لكنهم في النهاية لابد أن يقدم له شيء من الشرك والتنازل عن شيء من التوحيد؛ ولذا لابد من سد الذرائع الموصلة للشرك، وإن زعم بعض الناس أنهم يتوصلون به إلى الإخبار عن أمور المنكرات والسحر وغيره، المقتضى من مثل هذا لا يجوز بحال؛ لأنه من خواص سليمان.
طالب:..........
ما يدرى عنهم، ما يدرى مجاهيلهم قد يدعون ما ليس لهم.
وَرُوِيَ أَنَّ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ بَارًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ، يَكْفُلُ الْأَيْتَامَ وَالْأَرَامِلَ، وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَيُبَلِّغُ ابْنَ السَّبِيلِ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى جَبَّارٍ عَظِيمٍ فَخَاطَبُوهُ فِي أَمْرٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَلِينُ لَهُ فِي الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ زَرْعٍ كَانَ لَهُ، فَامْتَحَنَهُ اللَّهُ بِذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، وَبِالضُّرِّ فِي جِسْمِهِ. حَتَّى تَنَاثَرَ لَحْمُهُ وَتَدَوَّدَ جِسْمُهُ.
الأنبياء ينبغي أن يكون تعاملهم مع هذا الجبار على حد هذا الكلام إن صح، أن يكون تعامل نبي يريد هداية هذا الجبار بالدرجة الأولى لا يرد أن يحمي زرعه، وإن كان في الأصل أن مثل هذا يجوز أن يستعمل المدارة لا بأس بها، بخلاف المداهنة والتنازل عن شيءٍ من أمر الدين لا يجوز بحال، لكن المدارة وتليين القول ولين الجانب من أجل أمر الدنيا أمرٌ لا بأس به، إذا حقق مصلحةً من مصالح الدعوى لله -جل وعلا- فهذا لا شك أنه أكمل وأفضل، وأما الأنبياء فينبغي أن يخصوا تصرفاتهم فيما يخص دعوتهم وما بعثوا من أجله؛ ولذا عوتب أيوب -عليه السلام-.
حَتَّى تَنَاثَرَ لَحْمُهُ وَتَدَوَّدَ جِسْمُهُ، حَتَّى أَخْرَجَهُ أَهْلُ قَرْيَتِهِ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَخْدُمُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَكَثَ بِذَلِكَ تِسْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} [ص:42] فِيهِ شِفَاؤُكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَوَلَدَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي [ص] مَا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ مِنْ تَسْلِيطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
حشد المفسرون في هذه القصة من الإسرائيليات والأخبار الباطلة ما ذكروه، ويأتي بشيءٍ منها والرد عليها من قبل المؤلف -رحمه الله-؛ لأنه اشترط على نفسه أن لا يعول على إسرائيليات، بل لا يذكر الإسرائيليات إلا ما وافق شرعنا، مع أنه وقع شيءٌ من ذلك على ما تقدم.
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِ أَيُّوبَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَثَبَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83].
بسبب المرض لم يستطع النهوض إلى الصلاة، وقد حببت إليه الصلاة كسائر الأنبياء، وجعلت قرة عينه كالنبي-عليه الصلاة والسلام-، لما أراد منها ما أراد عجز من المرض فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] الناس لا شك أن من همه الآخرة يتضرر بالصد عنها، ومن كان همه الدنيا يتضرر بالصد عنها، فإذا صُد عن الصلاة من تعلق قلبه بالمساجد ومُنع من دخولها، لا شك أن الضر يمسه.
إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ، لَا شَكْوَى لِبَلَائِهِ، رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا. الثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِالْعَجْزِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلصَّبْرِ.
أي هو مجرد إخبار، مجرد إخبار عن الواقع؛ ولذا إذا تكلم المريض مع زواره بمجرد ما فيه وأنه يؤلمه كذا لا بأس، وأنه لا ينافي الصبر، والنبي-عليه الصلاة والسلام-قال: «ورأساه» المقصود إن مثل هذا لمجرد الإخبار لا ينافي الصبر ومع قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] قال الله -جل وعلا- عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [سورة ص:44] فهذا لا ينافي الصبر.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لِيَكُونَ حُجَّةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ بَعْدَهُ فِي الْإِفْصَاحِ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ.
يعني هذا من أجل التشريع، لا لأنه قاله جزعًا؛ وإنما قاله من أجل التشريع، كما كان النبي-عليه الصلاة والسلام- يستغفر، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ليكون مشرعًا لأمته.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ إِلْزَامًا لَهُ فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّ فِي الضَّعْفِ عَنْ تَحَمُّلِ الْبَلَاءِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ انْقَطَعَ الْوَحْيُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَخَافَ هُجْرَانَ رَبِّهِ فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83]. وَهَذَا قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
السَّادِسُ: أَنَّ تَلَامِذَتَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ عَنْهُ لَمَّا أَفْضَتْ حَالُهُ إِلَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مَحَوْا مَا كَتَبُوا عَنْهُ، وَقَالُوا: مَا لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ، فَاشْتَكَى الضُّرَّ فِي ذَهَابِ الْوَحْيِ وَالدِّينِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. السَّابِعُ- أَنَّ دُودَةً سَقَطَتْ مِنْ لَحْمِهِ فَأَخَذَهَا وَرَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فعقرته فصاح {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدًّا مَعَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الدُّودَ كَانَ يَتَنَاوَلُ بَدَنَهُ فَصَبَرَ حَتَّى تَنَاوَلَتْ دُودَةٌ قَلْبَهُ وَأُخْرَى لِسَانَهُ، فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83]؛ لِاشْتِغَالِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ سَنَدٌ وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَى عَرِيضَةً. التَّاسِعُ: أَنَّهُ أَبْهَمَ عَلَيْهِ جِهَةَ أَخْذِ الْبَلَاءِ لَهُ هَلْ هُوَ تَأْدِيبٌ، أَوْ تَعْذِيبٌ، أَوْ تَخْصِيصٌ، أَوْ تَمْحِيصٌ، أَوْ ذُخْرٌ أَوْ طُهْرٌ، فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] أَيْ ضُرُّ الْإِشْكَالِ فِي جِهَةِ أَخْذِ الْبَلَاءِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا غُلُوٌّ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَقَالَ: أَقَمْتُ فِي النَّعِيمِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَأُقِيمُ فِي الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ، وَحِينَئِذٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مُمْكِنٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي إِقَامَتِهِ مُدَّةً خَبَرٌ، وَلَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ ضُرَّهُ قَوْلُ إِبْلِيسَ لِزَوْجِهِ اسْجُدِي لِي فَخَافَ ذَهَابَ الْإِيمَانِ عَنْهَا فَتَهْلِكَ وَيَبْقَى بِغَيْرِ كَافِلٍ. الثَّانِي عَشَرَ: لَمَّا ظَهَرَ بِهِ الْبَلَاءُ قَالَ قَوْمُهُ: قد أضربنا كَوْنُهُ مَعَنَا وَقَذَرُهُ فَلْيَخْرُجْ عَنَّا، فَأَخْرَجَتْهُ امْرَأَتُهُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا رَأَوْهُ وَتَطَيَّرُوا بِهِ وَتَشَاءَمُوا بِرُؤْيَتِهِ، فَقَالُوا: لِيُبْعَدْ بِحَيْثُ لَا نَرَاهُ. فَخَرَجَ إِلَى بُعْدٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَقُومُ عَلَيْهِ وَتَحْمِلُ قُوتَهُ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: إِنَّهَا تَتَنَاوَلُهُ وَتُخَالِطُنَا فَيَعُودُ بِسَبَبِهِ ضُرُّهُ إِلَيْنَا.
ينتقل المرض بواسطتها، بواسطة المرأة، إن كانوا تشاءموا منه خشوا من انتقال المرض منه إليهم، ثم لما نقل إلى مكانٍ بعيدٍ عنهم صارت تخدمه وتخالطهم، فخشوا من ذلك.
فَأَرَادُوا قَطْعَهَا عَنْهُ، فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83]. الثَّالِثَ عَشَرَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ فَأَتَيَاهُ فَقَامَا من بعيد لَا يَقْدِرَانِ أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا الْبَلَاءِ، فَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ شَبْعَانَ قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي"، "فَنَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي" وَهُمَا يَسْمَعَانِ فَخَرَّا سَاجِدَيْنَ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ مَعْنَى: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ؟ قَالَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ.
جاء الاستعاذة من شماتة الأعداء في الحديث الصحيح: «نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء».
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مُمْكِنٌ، فَإِنَّ الْكَلِيمَ قَدْ سَأَلَهُ أَخُوهُ الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ} [الأعراف:150]. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ ذَاتَ ذَوَائِبَ، فَعَرَفَتْ حِينَ مُنِعَتْ أَنْ تَتَصَرَّفَ لِأَحَدٍ بِسَبَبِهِ مَا تَعُودُ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَطَعَتْ ذَوَائِبَهَا وَاشْتَرَتْ بِهَا مِمَّنْ يَصِلُهَا قُوتًا، وَجَاءَتْ بِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِذَوَائِبِهَا فِي تَصَرُّفِهِ وَتَنَقُّلِهِ، فَلَمَّا عَدِمَهَا وَأَرَادَ الْحَرَكَةَ فِي تَنَقُّلِهِ فلَمْ يَقْدِرْ قَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83]. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا اشْتَرَتِ القوت بذوائبها جاءه إبليس فِي صِفَةِ رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَكَ بَغَتْ فَأُخِذَتْ وَحُلِقَ شَعْرُهَا. فَحَلَفَ أَيُّوبُ أَنْ يَجْلِدَهَا، فَكَانَتِ الْمِحْنَةُ عَلَى قَلْبِ الْمَرْأَةِ أَشَدَّ مِنَ الْمِحْنَةِ عَلَى قَلْبِ أَيُّوبَ.
قُلْتُ: وَقَوْلٌ سَادِسَ عَشَرَ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ يَوْمًا أَيُّوبَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّ بَعْضَ إِخْوَانِهِ مِمَّنْ صَابَرَهُ وَلَازَمَهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَمْرُكَ وَذَكَرْتُهُ إِلَى أَخِيكَ وَصَاحِبِكَ، أَنَّهُ قَدِ ابْتَلَاكَ بِذَهَابِ الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمانية عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى بَلَغْتَ مَا تَرَى، أَلَا يَرْحَمُكَ فَيَكْشِفُ عَنْكَ! لَقَدْ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا مَا أَظُنُّ أَحَدًا بَلَغَهُ! فَقَالَ أَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: "مَا أَدْرِي مَا يَقُولَونِ.
ما أدري ما يقولان، قال: أيوب عليه السلام.
فَقَالَ أَيُّوبُ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-: "مَا أَدْرِي مَا يَقُولَانِ غَيْرَ أَنَّ رَبِّي-عَزَّ وَجَلَّ- يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَزَاعَمَانِ وَكُلٌّ يَحْلِفُ بِاللَّهِ- أَوْ عَلَى النَّفَرِ يَتَزَاعَمُونَ- فَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأُكَفِّرُ عَنْ أَيْمَانِهِمْ؛ إِرَادَةً أَلَّا يَأْثَمَ أَحَدٌ ذَكَرَهُ وَلَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِالْحَقِّ فَنَادَى رَبَّهُ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83].
وإِنَّمَا كَانَ دُعَاؤُهُ عَرْضًا عَرَضَهُ عَلَى اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُخْبِرُهُ بِالَّذِي بَلَغَهُ، صَابِرًا لِمَا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَوْلٌ سَابِعَ عَشَرَ: سَمِعْتُهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ أَنَّ دُودَةً سَقَطَتْ مِنْ جَسَدِهِ فَطَلَبَهَا لِيَرُدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فَقَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] لِمَا فَقَدَ مِنْ أَجْرِ أَلَمِ تِلْكَ الدُّودَةِ، وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ الْأَجْرُ مُوَفَّرًا إِلَى وَقْتِ الْعَافِيَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:83] جَزَعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً} [ص:44]، بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْهُ.
دل على إن مثل هذا الكلام لا ينافي الصبر، مثل هذا الكلام على جهة الإقرار لا ينافي الصبر النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر «أنه يوعك عليه السلام- كما يوعك الرجلان» قال ابن مسعود ذلك أن لك أجرين قال: «أجل» مجرد الإخبار إخبار الزائر لاسيما إن كان ممن يهمه الإخبار أو إخبار الطبيب مثلاً إذا كان يترتب عليه أثر في العلاج فلا بأس به.
طالب:..........
على كل حال الإسرائيليات كثرت في هذه القصة، وأورد منها المفسرون الشيء الكثير، الذي يقدح العصمة في الجملة، وينفر الأتباع من أنبيائهم، والأنبياء أكرم على الله -جل وعلا- من أن يصلوا إلى هذا الحد الذي ذكروه، وإن كان حصل لهم شيء من الابتلاء، «وأشد الناس بلاءً الأنبياء» وأيوب مضرب المثل في الصبر على ما ابتلي به.
وَالْجَزَعُ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الرِّضَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أستاذنا أبا القاسم ابن حَبِيبٍ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسًا غَاصًّا بِالْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَسَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ كَانَ شِكَايَةً وقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً} [ص:44] فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً، وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاءً، بَيَانُهُ {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:84]، وَالْإِجَابَةُ تَتَعَقَّبُ الدُّعَاءَ لَا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه.
وسئل الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ؛ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:84] قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ آتَيْنَاكَ أَهْلَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ شِئْتَ آتَيْنَاكَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْإِسْنَادُ عَنْهُمَا بِذَلِكَ صَحِيحٌ.
كأنه اختار تركهم في الجنة، فأوفي له بذلك وزيد عليه.
طالب:..........
ليس بشيء، إخبار، إخبار عائشة قالت: وارأساه قال: «وأنا وارأساه» صحيح.
طالب:..........
المقصود أن الإخبار لا ينافي الصبر، مجرد الإخبار لا ينافي الصبر، وليس بهذا شيء من التشكي ولا شكوى الخالق على المخلوق، وإن كان بعضهم يعد الأنين شكوى، لكن هذا قدرٌ زائد على الصبر المطلوب.
قُلْتُ: وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ أَهْلُ أَيُّوبَ قَدْ مَاتُوا إِلَّا امْرَأَتَهُ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفِ الْبَصَرِ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانَ بَنُوهُ قَدْ مَاتُوا فَأُحْيُوا لَهُ وَوُلِدَ لَهُ مِثْلُهُمْ معهم. وقاله قَتَادَةُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَاتَ أَوْلَادُهُ وَهُمْ سَبْعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ وَسَبْعَةٌ مِنَ الْإِنَاثِ فَلَمَّا عُوفِيَ نُشِرُوا لَهُ، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وضوعف له العدد، أوتي {أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:84]، لكن كونه سبعة وسبعة ثم أضيف إليهم، مثله هذا يحتاج إلى نقل.
قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ مَاتُوا ابْتِلَاءً قَبْلَ آجَالِهِمْ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ] فِي قِصَّةِ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243]. وَفِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ فَمَاتُوا ثُمَّ أُحْيُوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ آجَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ يَكُونُ الْمَعْنَى: {وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ} فِي الْآخِرَةِ {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:84] فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ رَكَضَ بِرِجْلِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَكْضَةً، فَظَهَرَتْ عَيْنُ مَاءٍ حَارٍّ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَنَفَضَهُ نَفْضَةً فَتَنَاثَرَتْ عَنْهُ الدِّيدَانُ، وَغَاصَ فِي الْمَاءِ غَوْصَةً فَنَبَتَ لَحْمُهُ وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ عَلَى قَدْرِ قَوَاعِدِ دَارِهِ فَأَمْطَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَشَبِعْتَ؟ فَقَالَ: ومن يَشْبَعُ مِنْ اللَّهِ فَضْلِ!
الحديث الصحيح أنه قال: «اللهم لا غنى بي عن بركتك» لما تتبع الجراد من ذهب قال: «اللهم لا غنى بي عن بركتك».
فَقَالَ: ومن يَشْبَعُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ!
فَقَالَ: ومن يَشْبَعُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: قَدْ أَثْنَيْتُ عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ قَبْلَ وُقُوعِكَ فِي الْبَلَاءِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْلَا أَنِّي وَضَعْتُ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْكَ صَبْرًا مَا صَبَرْتَ. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:84] أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا. وَقِيلَ: ابْتَلَيْنَاهُ لِيَعْظُمَ ثَوَابُهُ غَدًا. {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:84] أَيْ وَتَذْكِيرًا لِلْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا بَلَاءَ أَيُّوبَ وَصَبْرَهُ عَلَيْهِ وَمِحْنَتَهُ لَهُ وَهُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا نَحْوَ مَا فَعَلَ أَيُّوبَ، فَيَكُونُ هَذَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِدَامَةِ الْعِبَادَةِ، وَاحْتِمَالِ الضَّرَرِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ فِي الْبَلَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ مُدَّةُ الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ. وقال وَهْبٌ: ثَلَاثِينَ سَنَةً. وقال الْحَسَنُ: سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. قُلْتُ: وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَهُ ابن المبارك، وقد تقدم.
تحديد الزمن سواء سبعة أو أكثر أو أقل، لا يتعلق به حكم، ولا تترتب عليه فائدة تبين المعنى، أو يترتب عليها أو يتوقف عليها فهم للآية، الآية واضحة، ولله الحمد، وما جاء في قصته ظاهر في الآية وفي صحيح السنة، ولا داعي لمثل هذه الأمور التي لم يثبت فيها خبر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:85] وَهُوَ أَخْنُوخُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، {وَذَا الْكِفْلِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:85] أَيْ وَاذْكُرْهُمْ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْكِفْلِ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَاتَّبَعَ امْرَأَةً فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَاللَّهِ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، قَالَ: أَأَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ الْحَاجَةُ، قَالَ: اذْهَبِي فَهُوَ لَكِ، وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَوَجَدُوا مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ دَارِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْلِ».
وَخَرَّجَهُ أبو عيسى الترمذي أيضًا، ولفظه عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ- حتى عد سبع مرات- لم أحدث، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: «كَانَ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ، أَأَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ، فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْلِ» قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
الحديث مخرج في سنن الترمذي، والمؤلف نظرًا لقلة بضاعته في الحديث، يقدم ما جاء عن الترمذي الحكيم على ما جاء في الترمذي أبي عيسى، وهو أحد الكتب دواوين الإسلام المشهورة، وأما الحكيم الترمذي فهو معروفٌ بشيءٍ من المخالفة العقدية، وله قولٌ في الولاية قول ساقط مرذول، وكتابه النوادر فيه أخبار وفيه علوم وفيه حديث كثير من الأسانيد، لكن الأصل أن ما تفرد به ضعيف، وهو معدود من مظان الضعيف.
وَقِيلَ: إِنَّ الْيَسَعَ لَمَّا كَبِرَ قَالَ: لَوِ اسْتَخْلَفْتُ رَجُلًا على الناس حتى أَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُ. فَقَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِثَلَاثٍ: بِصِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَأَلَّا يَغْضَبَ وَهُوَ يَقْضِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعِيصَ: أَنَا، فَرَدَّهُ ثُمَّ قَالَ مِثْلَهَا مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ فَوَفَّى فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ، لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ، قاله أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، فَتَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُلٍ صَالِحٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَأَحْسَنَ اللَّهُ الثَّنَاءَ عليه». وقال كَعْبٌ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكٌ كَافِرٌ فَمَرَّ بِبِلَادِهِ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ حَتَّى أَعْرِضَ عَلَى هَذَا الْمَلِكِ الْإِسْلَامَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ
(إن) هذه نافية، والله ما خرجت (حتى) أي لن أخرج من هذه البلاد، حتى أعرض على ملكها الإسلام.
فَقَالَ: مَا جَزَائِي؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، وَوَصَفَهَا لَهُ، قَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا، فَأَسْلَمَ الْمَلِكُ وَتَخَلَّى عَنِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَدُفِنَ فَأَصْبَحُوا فَوَجَدُوا يَدَهُ خَارِجَةً مِنَ الْقَبْرِ وَفِيهَا رُقْعَةٌ خَضْرَاءُ مَكْتُوبٌ فِيهَا بِنُورٍ أَبْيَضَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، وَوَفَّى عَنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ، فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمُ الْإيْمَانَ، وَيَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِمَا تَكَفَّلَ بِهِ لِلْمَلِكِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ.
وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا عَفِيفًا يَتَكَفَّلُ بِشَأْنِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ أَوْ تُهْمَةٍ أَوْ مُطَالَبَةٍ فَيُنْجِيهِ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُ فِي سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ بِضِعْفِ عَمَلِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ نَبِيٌّ قَبْلَ إِلْيَاسَ. وَقِيلَ: هُوَ زَكَرِيَّا بِكَفَالَةِ مَرْيَمَ.
جمهور أهل العلم على أنه ليس بنبي- يعني ذا الكفل- وإن كان من أهل العلم من يرى أنه نبي؛ لأنه نسق على جمع من الأنبياء في مواطن.
{كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:85] أَيْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.
{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:86] أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:86].
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] أَيْ وَاذْكُرْ {وَذَا النُّونِ} وَهُوَ لَقَبٌ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى لِابْتِلَاعِ النُّونِ إِيَّاهُ. وَالنُّونُ الْحُوتُ. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ: دَسِّمُوا نُونَتَهُ كَيْ لَا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ. رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: النُّونَةُ النُّقْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَمَعْنَى دَسِّمُوا سَوِّدُوا.
الحفرة التي تكون في الصبي قبل نبات لحيته، فإذا سودت، المقصود أنه يغير شكله من أجل ما يكون في الجمال إلى حدٍ بحيث تسرع إليه العين.
{إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْقُتَبِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وقال النحاس: وربما أنكره هَذَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، كَمَا تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أَيْ مِنْ أَجْلِكَ. وَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا عُصِيَ.
نعم؛ لأن المفالعة الأصل فيها أن تكون بين طرفين، الأصل أن يكون غاضبًا لا {مُغاضِباً} [سورة الْأَنْبِيَاء:87]، لكن إذا حصل هذا منه بسبب مغاضبة قومه له، وغضب عليهم صارت مفاعلة.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَائِشَةَ: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» مِنْ هَذَا. وَبَالَغَ الْقُتَبِيُّ فِي نُصْرَةِ هَذَا الْقَوْلِ. وَفِي الْخَبَرِ فِي وَصْفِ يُونُسَ: إِنَّهُ كَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ فَلَمَّا حَمَلَ أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ تَفَسَّخَ تَحْتَهَا تَفَسُّخَ الرُّبَعِ تَحْتَ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ مُضِيَّ الْآبِقِ النَّادِّ. وَهَذِهِ الْمُغَاضَبَةُ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَلَمْ يَغْضَبْ عَلَى اللَّهِ وَلَكِنْ غَضِبَ لِلَّهِ إِذْ رَفَعَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَبَقَ مِنْ رَبِّهِ أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ.
نعم بعد إنعقاد الأسباب رآوا العذاب، فأمنوا فنفعهم الإيمان وهذا خاصٌ بهم، هذا خاص بقوم يونس، إذا انعقدت الأسباب وحقت كلمة العذاب لا يرفع سُنة إلاهية إلا قوم يونس، قد وعدهم بأن يأتيهم العذاب في يومٍ معين، ثم جاءت مقدماته ورفع عنهم، وخشي أن يكذبوه، فحصل له ما حصل، ونظرًا لما وقع في حياته الدعوية وفي سيرته وما دون نه قد يتطاول عليه بعض الناس لا سيما في باب المفاضلة بينه وبين النبي-عليه الصلاة والسلام- قد يقع في قلب أحد أن يتنقصه لما حصل منه؛ ولذا جاء النهي عن تفضيل النبي-عليه الصلاة والسلام- عليه «لا تفضلوني على يونس» «لا تفضلوا بين الأنبياء» المراد بذلك التفضيل الذي يترتب عليه تنقص المفضول، وإلا فالأصل إن التفضيل ثابت بالقرآن {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [سورة البقرة:253].
فَإِنَّهُ كَانَ يتوعد قومه بنزول الْعَذَابِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ. وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَظَلَّهُمُ الْعَذَابُ فَتَضَرَّعُوا فَرُفِعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمْ يُونُسُ بِتَوْبَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَلَّا يَذْهَبَ إِلَّا بِإِذْنٍ مُحَدَّدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَسِيرِ إِلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ لِيَتَأَهَّبَ، فَأَعْجَلَهُ اللَّهُ حَتَّى سَأَلَ أَنْ يَأْخُذَ نَعْلًا لِيَلْبَسَهَا فَلَمْ يُنْظَرْ، وَقِيلَ لَهُ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ- فَخَرَجَ مغاضبا لربه، فهذا قول. وقول النَّحَّاسِ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ. أَيْ خَرَجَ مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، أَيْ غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِ.
ما ذكره أخيرًا لا يليق به.
وَقِيلَ: إِنَّهُ غَاضَبَ قَوْمَهُ حِينَ طَالَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَتَعَنُّتُهُمْ فَذَهَبَ فَارًّا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ ذَنْبُهُ خُرُوجَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ إذن من الله. روي معناه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَأَنَّ يُونُسَ كَانَ شَابًّا وَلَمْ يَحْمِلْ أَثْقَالَ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، لِأَنَّ قَوْمَهُ لَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَهُوَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ- كَفَرُوا بِهَذَا فَوَجَبَ أَنْ يُغَاضِبَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُغَاضِبَ مَنْ عَصَى اللَّهَ-عَزَّ وَجَلَّ- وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كَانَ عَلَى قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ شَعْيَا النَّبِيَّ وَالْمَلِكُ الَّذِي كَانَ فِي وَقْتِهِ اسْمُهُ حِزْقِيَا أَنْ يَبْعَثُوا يُونُسَ إِلَى مَلِكِ نِينَوَى، وَكَانَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَبَى الْكَثِيرَ مِنْهُمْ لِيُكَلِّمَهُ حَتَّى يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَالْأَمْرُ وَالسِّيَاسَةُ إِلَى مَلِكٍ قَدِ اخْتَارُوهُ فَيَعْمَلُ عَلَى وَحْيِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَكَانَ أَوْحَى اللَّهُ لَشَعْيَا: أَنْ قُلْ لِحِزْقِيَا الْمَلِكِ أَنْ يَخْتَارَ نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَبْعَثُهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى فَيَأْمُرَهُمْ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنِّي مُلْقٍ فِي قُلُوبِ مُلُوكِهِمْ وَجَبَابِرَتِهِمُ التَّخْلِيَةَ عَنْهُمْ. فَقَالَ يُونُسُ لَشَعْيَا: هَلْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لك؟ قال: لا. قال فها هنا أَنْبِيَاءُ أُمَنَاءُ أَقْوِيَاءُ. فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلنَّبِيِّ وَالْمَلِكِ وَقَوْمِهِ، فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا كَانَ، فَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوتِ لِتَرْكِهِ أَمْرَ شَعْيَا، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] وَالْمُلِيمُ مَنْ فَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِمَّا صَغِيرَةً أَوْ تَرْكَ الْأَوْلَى.
لأن الأنبياء معصمون من ارتكاب الكبائر اتفاقًا، والخلاف في الصغائر، ومنهم من يحمل ما وقع منهم على خلاف الأولى، وأنه بالنسبة لهم يلامون عليه بخلاف غيرهم.
وَقِيلَ: خَرَجَ وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ أَمَرَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْتِيَ نِينَوَى، لِيَدْعُوَ أَهْلَهَا بِأَمْرِ شَعْيَا فَأَنِفَ أَنْ يَكُونَ ذَهَابُهُ إِلَيْهِمْ بِأَمْرِ أَحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ، فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ، فَلَمَّا نَجَا مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَاهُمْ وَآمَنُوا بِهِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةَ كَانَتْ بَعْدَ إِرْسَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَبَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنِ الْقَوْمِ بَعْدَ مَا أَظَلَّهُمْ، فَإِنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الْعَذَابِ عنهم.
لأنه وعدهم بهذا وأخبرهم، فخشي أن يكون هذا خُلف من قبله.
قُلْتُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي {وَالصَّافَّاتِ} [سورة الصافات:1] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِهِ قَتْلُ مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ فَغَضِبَ، وَخَرَجَ فَارًّا عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فَسَكَنَتْ وَلَمْ تَجْرِ. فَقَالَ أَهْلُهَا: أَفِيكُمْ آبِقٌ؟ فَقَالَ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا كَانَ، وَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوتِ تَمْحِيصًا مِنَ الصَّغِيرَةِ كَمَا قَالَ فِي أهل أحد: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ} [آل عمران:152] إلى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141] فَمَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ مَغْفُورَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَجْرِي تَمْحِيصٌ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْمُعَاوَدَةِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: إِنَّهُ لَمْ يُغَاضِبْ رَبَّهُ وَلَا قَوْمَهُ، وَلَا الْمَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ. وَفَاعَلَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ.
فسافر قيل طارق النعل.
فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ آبِقًا. وَيُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ:
وَأَغْضَبُ أَنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدَارِمِ |
أَيْ آنَفُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ تِلْكَ الْمُغَاضَبَةَ وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لأبد أَنْ يُخَالِطَهَا الْغَضَبُ وَذَلِكَ الْغَضَبُ وَإِنْ دَقَّ عَلَى مَنْ كَانَ؟! وَأَنْتَ تَقُولُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَى رَبِّهِ وَلَا عَلَى قَوْمِهِ!
على كل حال أصل المادة موجود الذي هو الغضب موجود، والمفاعلة الأصل فيها أن تكون بين طرفين، وتقدم في كلام المؤلف أنها بينه وبين قومه، يعني صدر منهم ما يقتضي غضبه وعلى قول الأخير إنها من طرفٍ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] قيل: معناه استزله إِبْلِيسُ وَوَقَعَ فِي ظَنِّهِ إِمْكَانُ أَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَالثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ.
الشك في القدرة الإلهية لا شك أنه عظيم، وهنا يقول: معناه استزله إبليس فوقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله بمعاقبته، والرجل من بني إسرائيل المسرف على نفسه شك بالقدرة، وأمر أهله أن يحرقوه، ثم يذروه في البحر في يوم شديد الريح؛ لأنه شك في قدرة الله علي جمعه، ومع ذلك لما كان السبب هو الطغيان الخشية منه واستيلائها على عقله عذر، لكن مثل يونس لابد من النظر في معنى الظن {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] إيش معنى الظن؟ الظن لا شك أنه مادةٌ ليست على مرتبةٌ واحدة وإنما هي متفاوتة، بدأً من أن يكون من أكذب الحديث، إلى أن يصل إلى درجة الجزم والاعتقاد {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [سورة البقرة:46] فلابد من النظر في أصل مادة الظن، من يتصور في نبي أنه يشك في قدرة الله عليه، إلا لأمرٍ استولى على عقله وغطاه، كما فعل في الرجل من بني إسرائيل، وعلى كل حال الكلام يبينه المؤلف إن شاء الله تعالى.
وذكر الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أَيْ يُضَيِّقُ. وَقَوْلُهُ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]. قُلْتُ: وَهَذَا الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ.
أي الكلام الأول الذي رده استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته (ألا يقدر عليه) أي لا يضيق عليه، لكن هل يكون هذا باستزلال الشيطان؟ أما أنه يستدرجه ويستزله حتى يظن أنه لا يضيق عليه، لنركب كلام الحسن المنقول عنه و سعيد إن صح على المعنى الأخير، قول وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن، استزله إبليس فوقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبته، واضح أنه ليس من باب التضييق، وإنما هو القدرة المعروفة القدرة الإلهية، لكنه لا شك أنه قول مرغوبٌ عنه فلابد من تأويل (الظن) أو تأويل (لن نقدر) {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] فظن أن لا نضيق عليه فنادى في الظلمات، الإنسان لما يكون في الظلمات في جوف الحوت في البحر في الليل مثلاً ظلمات بعضها فوق بعض، إيش الذي يغلب على ظنه؟ أنه ضيق عليه، ضيقت عليه حياته في هذا، ويونس–عليه السلام- غلب على ظنه بل جزم أنه لن يضيق عليه؛ لقوة صلته بالله-جل وعلا- وقوة ارتباطه به، وعلى هذا يكون المعنى صحيح.
وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى، أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ. مَأْخُوذٌ مِنَ القدر وهو الحكم دُونَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى ثَعْلَبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلّ-: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] هُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنَ الْقُدْرَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، بِمَعْنَى قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ.
طالب:..........
هو معروف، معروف شهرته بثعلب أكثر من شهرته بكنيته واسمه.
طالب: ما السبب يا شيخ؟
لأدنى سبب، مثل ما لقب غندر للمشاغبة قيل له: غندر، يمكن لو عنده شيء من الحيل الشرعية، شيء من الخفة خفة التصرف وسرعته، وما يمنع أن يكون هذا مع أنه إمامٌ ثقة، من ثقات اللغويين.
وَأَنْشَدَ ثعْلبٌ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ اللِّوَى بِرَوَاجِعَ |
| لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلَمُ النَّضْرُ |
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى |
| تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعْ وَلَكَ الشُّكْرُ |
يَعْنِي مَا تَقْدِرُهُ وَتَقْضِي بِهِ يَقَعُ. وَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ الْعُلَمَاءُ.
طالب:..........
تأتي يقدر بمعنى يُقدر إلا على حمل على معنى التقدير وهوالقضاء، ليأتي البيت على المعنى الأخير الذي ذكره، فيمشي يقدر؛ من أجل أن يكسر البيت ويكون معنى يقدر يُقدر {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] أي نُقدر عليه، ويكون التخفيف والتشديد واحدًا.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقدِّرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّقْدِيرِ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ: {أَنْ لَنْ يُقدّرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] بِضَمِّ الْيَاءِ مُشَدَّدًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: (يُقْدَرُ عَلَيْهِ) بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87]. الْبَاقُونَ {نَقْدِرَ} بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَكُلُّهُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ.
قُلْتُ: وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ تَأَوَّلَهُمَا الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ «فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ» الْحَدِيثَ، فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي محاسبتي وجزاني عَلَى ذُنُوبِي لَيَكُونَنَّ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْرَقَ بِإِفْرَاطِ خَوْفِهِ.
وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي: أَيْ لَئِنْ كَانَ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ ذِي جُرْمٍ عَلَى جُرْمِهِ لَيُعَذِّبَنِّي اللَّهُ عَلَى إِجْرَامِي وَذُنُوبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ غَيْرِي. وَحَدِيثُهُ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ. وَالرَّجُلُ كَانَ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ «لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا إِلَّا التَّوْحِيدَ».
لأن الشرك لا يغفر.
طالب:..........
في الصحيح.
وَقَدْ قَالَ حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ. وَالْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر:28]. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] الِاسْتِفْهَامُ وَتَقْدِيرُهُ: أَفَظَنَّ، فَحَذَفَ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ إِيجَازًا، وَهُوَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ. وَحَكَى الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قرأ: (أفظن) بالألف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمْعِ الظُّلُمَاتِ مَا الْمُرَادُ بِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ الْحُوتِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ قَالَ: لَمَّا ابْتَلَعَ الْحُوتُ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ: ظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ {أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: ظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ حُوتٍ الْتَقَمَ الْحُوتَ الْأَوَّلَ. وَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ بِالظُّلُمَاتِ عَنْ جَوْفِ الْحُوتِ الأول فقط، كما قال: {في غيابات الجب} [يوسف:10] وَفِي كُلِّ جِهَاتِهِ ظُلْمَةٌ فَجَمْعُهَا سَائِغٌ.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالظُّلُمَاتِ عَنْ ظُلْمَةِ الْخَطِيئَةِ، وَظُلْمَةِ الشِّدَّةِ، وَظُلْمَةِ الْوَحْدَةِ. وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْحُوتِ: "لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَةً فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامَكَ" وَرُوِيَ: أَنَّ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَجَدَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ حِينَ سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا: الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ الْعَبْدِيُّ حدثنا إسحاق ابن إِدْرِيسَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا الْتَقَمَ الْحُوتُ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَطَوَّلَ رِجْلَيْهِ فَإِذَا هُوَ لَمْ يَمُتْ فَقَامَ إِلَى عَادَتِهِ يُصَلِّي فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: "وَاتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذْهُ أَحَدٌ".
ما في أحدٍ صلى في بطن حوت غيره إن صح الخبر عن ابن أبي الدنيا، تخريجه ما خرجه؟
طالب:..........
عوف بن أبي جميلة الأعرابي معروف ثقة.
طالب:..........
الله المستعان.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» الْمَعْنَى فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ وَأَنَا فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَهَذَا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى لَيْسَ فِي جِهَةٍ.
هذا الكلام ليس بالصحيح لا من أبي المعالي ولا من المفسر الذي أقره الله -جل وعلا- في جهة العلو، وأدلة العلو قطعية من الكتاب والسنة {أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [سورة الملك:17] المقصود أنه في جهة العلو، وكونه ليس بجهة هذا ليس بصحيح.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي [الْبَقَرَةِ] وَ [الْأَعْرَافِ]. {أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] يُرِيدُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مُدَاوَمَةِ قَوْمِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبُوا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَمْحِيصًا.
لأن من مقتضى النبوة العصمة، ومن مقتضى العصمة أن لا يصدر ما يستحق أن يعاقب عليه، وإنما يصدر خلافه الأولى والمكروه الذي ليس فيه عقاب في الأصل، لكنه تمحيص.
وَقَدْ يُؤَدَّبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ كَالصِّبْيَانِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: مِنَ الظَّالِمِينَ فِي دُعَائِي عَلَى قَوْمِي بِالْعَذَابِ. وَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يُؤَاخَذْ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ فِي مَعْنَاهُ: نَزَّهَ رَبَّهُ عَنِ الظُّلْمِ وَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِرَافًا وَاسْتِحْقَاقًا. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} [الأعراف:23] إِذْ كَانَا السَّبَبَ فِي وَضْعِهِمَا أَنْفُسَهُمَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ.
الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «دُعَاءُ ذِي النُّونِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ {أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لَمْ يَدْعُ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شيء قَطُّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَرَوَاهُ سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي الْخَبَرِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرَطَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ كَمَا أَجَابَهُ وَيُنْجِيَهُ كَمَا أَنْجَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:88] وَلَيْسَ هَاهُنَا صَرِيحُ دُعَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:87] فَاعْتَرَفَ بِالظُّلْمِ فَكَانَ تَلْوِيحًا.
تلويح بالعفو عن هذا الظلم والمغفرة، وهذه دعاء.
طالب:..........
التعريض أكمل من الطلب المباشر من باب العلم بالحال، من باب علم الله -جل وعلا- بحاله وهذا يكفي عن السؤال، لا شك أن هذا أليق بهم.
طالب:..........
على كل حال بحسب ما يقر في قلب العبد من تعظيم الله -جل وعلا- وشدة الرغبة إليه جاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:88] أَيْ نُخَلِّصُهُمْ مِنْ هَمِّهِمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِهِمْ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143، 144] وَهَذَا حِفْظٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعَبْدِهِ يونس رعى له حق تعبده، وحفظ ذمام مَا سَلَفَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: صَحِبَ ذُو النُّونِ الْحُوتَ أَيَّامًا قَلَائِلَ فَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُ: ذُو النُّونِ، فَمَا ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَهُ سَبْعِينَ سَنَةً يَبْطُلُ هَذَا عِنْدَهُ! لَا يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ. {مِنَ الْغَمِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:88] أَيْ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:88] قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِنُونَيْنِ مِنْ أَنْجَى يُنْجِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (نُجِّيَ) بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِضْمَارِ الْمَصْدَرِ أَيْ وَكَذَلِكَ نُجِّيَ النَّجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقُولُ: ضُرِبَ زَيْدًا بِمَعْنَى ضرب الضرب زيدًا وأنشد:
وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ |
| لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا |
أَرَادَ لَسُبَّ السَّبُّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ.
قفيرة هذه أم الفرذدق لو ولدت جرو كلب كان كل الكلاب تسب بسبب هذا الجرو.
وَسَكَنَتْ يَاؤُهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ بَقِيَ وَرَضِيَ فَلَا يُحَرِّكُ الْيَاءَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: {وَذَرُوا ما بقي من الربا} [البقرة:278] اسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِ يَاءٍ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ. وَأَنْشَدَ:
خَمَّرَ الشيب لمتي تحميرا |
| وَحَدَا بِي إِلَى الْقُبُورِ الْبَعِيرَا |
لَيْتَ شِعْرِي إِذَا الْقِيَامَةُ قَامَتْ |
| وَدُعِي بِالْحِسَابِ أَيْنَ الْمَصِيرَا |
سَكَّنَ الْيَاءَ فِي دُعِيَ اسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهَا وَقَبْلَهَا كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وحدا المشيب الْبَعِيرَ، لَيْتَ شِعْرِي الْمَصِيرُ أَيْنَ هُوَ. هَذَا تَأْوِيلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٍ فِي تَصْوِيبِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَخَطَّأَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ وَقَالُوا: هُوَ لَحْنٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَبَ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ. كَمَا يُقَالُ: كُرِّمَ الصَّالِحُونَ. وَلَا يَجُوزُ ضُرِبَ زَيْدًا بِمَعْنَى ضُرِبَ الضَّرْبُ زَيْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فيه؛ إِذْ كَانَ ضَرْبٌ يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِأَبِي عُبَيْدٍ قَوْلٌ آخَرُ- وَقَالَهُ الْقُتَبِيُّ-، وَهُوَ أَنَّهُ أَدْغَمَ النُّونَ فِي الْجِيمِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ؛ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنْ مَخْرَجِ الْجِيمِ فَلَا تُدْغَمُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ} [سورة النمل:89] (مَجَّاءَ بِالْحَسَنَةِ).
تدغم النون بالجيم على حد زعمهم؛ وهذا لا يقول به أحد؛ لبعد المخرجين.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا أَحْسَنَ مِنْ شيء سَمِعْتُهُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ. قَالَ: الْأَصْلُ {نُنْجِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:88] فَحُذِفَ إِحْدَى النُّونَيْنِ؛ لِاجْتِمَاعِهِمَا كَمَا تُحْذَفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا نَحْوَ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وَالْأَصْلُ تَتَفَرَّقُوا. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: (وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ نَجَّى اللَّهُ المؤمنين، وهي حسنة.
هذا له ولغيره كل من دعا بهذا الدعاء هو دعاء وإن كان مجرد خبر عن الحال وتمجيدًا لله-جل وعلا-: «إنها دعوة أخي ذي النون» إنها دعوة؛ لأنها متضمنة مجرد إفراد الحال الفائدة منه لما يأتي شخص ويقول لك: أنا فقير، ما معنى هذا؟ معناه يسأل، فإذا فعل إنه من الظالمين.
"