التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحج (05)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المصنف -رحمه الله-: الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ:
يعنى المكملة عشرين فائدة، فعشرين مفعول به.
قَوْلُهُ تَعَالَى : {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [سورة الحج: 28 ] أَيْ ثُمَّ لِيَقْضُوا بَعْدَ نَحْرِ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ؛ كَالْحَلْقِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَإِزَالَةِ شَعَثٍ، وَنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَيْ لِيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: التَّفَثُ الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ؛ وَهَذَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: التَّفَثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذْهَابُ الشَّعَثِ. وَسَمِعْتُ الْأَزْهَرِيَّ يَقُولُ: التَّفَثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ."
يقول سمعت الأزهري يقول: التَّفَثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ؛ يعني أنه لفظ إسلامي لا يعرف عند العرب قبل الإسلام؛ لأن ما جاء به النص، فيؤخذ عن طريق ابن عباس وطريق المفسرين بالتلقي عن النبي –عليه الصلاة والسلام- هذا كلامه، لكن الذي يظهر أنها كلمة عربية.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ إِزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ. وَقِيلَ: التَّفَثُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا، رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
العطف على الذبح بثم يدل على بقية أعمال الحج بعد النحر، النحر يكون بعد الوقوف وبعد الرمي، يليه النحر ثم الحلق ثم بقية الأعمال، الطواف والسعي والمبيت والرمي في الأيام الأخيرة ثم طواف الوداع.
لأن العطف بثم على ما مضى بعد الذبح يكون لما بقي من أعمال الحج.
"قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْ صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً؛ لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَرِيبَةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيهَا شِعْرًا وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا؛ لَكِنِّي تَتَبَّعْتُ التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَالَ: إِنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا النِّكَاحَ. قَالَ: وَلَمْ يَجِئ فِيهِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ، وَالْإِبْطِ."
لا شك أن الشعر ديوان العرب حُفظت به لغة العرب، وكون هذه الكلمة لا توجد في أشعارهم يدل على أنها كلمة غريبة ونادرة الاستعمال ليست بواسعة الاستعمال، كثيرة الاستعمال بحيث توجد على ألسنتهم نثرًا وشعرًا، فدل على أنها قليلة؛ ولذا قال بعضهم إنها لا تعرف في ديوان العرب، ولا تعرف إلا عن طريق التفسير؛ كل هذا لأنها لم تسطر بالشعر، فدل على أن العلوم كلها ومنها العربية إنما تُحفظ بالشعر، ولذا اتجه أهل العلم إلى نظم العلوم؛ ليحفظوا هذه العلوم بالشعر؛ لأن النثر سريع التفلت، بينما الشعر إذا ضبط حفظه وإتقانه لا يتفلت مثل النثر، النثر سهل تفلته، أما الشعر فيثبت في الحافظة؛ ولذا حفظت لغة العرب بأشعارها؛ والدليل على ذلك أنهم لما لم يجدوا شاهدًا يدل على معنى هذه اللفظة نفى بعضهم أن تكون موجودة بلغة العرب؛ لأن لغتهم محفوظة بأشعارهم.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ:
من صاحب العين؟
طالب:............
نعم، هو الخليل بن أحمد.
"التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِير، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَار، وَالشَّارِبِ، وَالْإِبْطِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ، وَلَا أَرَاهُ أَخَذُوهُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ."
وهذا حقيقة يعد عيبًا في كتب اللغة؛ أن تأخذ معاني الألفاظ اللغوية من كلام العلماء المتشرعة علماء الشرع. لماذا؟ لأن الأصل في كتب اللغة أنها مراجع للغة، فإذا أردنا بيان كلمة وردت في الشرع، أردنا معناها من حيث اللغة ذهبنا إلى كتب اللغة، ثم كتب اللغة نجدها تأخذها من كلام المتشرعة ما استفدنا شيئًا، ولذا لا يُوصى بالرجوع إلى كتب المتأخرين من اللغويين وإنما يُوصى بكتب المتقدمين؛ لأن كتب المتأخرين تأثرت بالاصطلاحات الشرعية، فإذا أردنا معنى كلمة الخمر مثلًا ورجعنا إليها في الكتب المتقدمة التي مؤلفوها اعتمدوا التلقي عن العرب، وتجولوا بين قبائل العرب نجد المعنى الحقيقي، أما أن نأخذ من كتب المتأخرين التي تأثرت بالمذاهب.
نجد مثلًا الشافعي تأثر بمذهبه، فهو يعرف هذه اللغة هذه اللفظة من خلال مذهبه، وأنها لفظة عامة تتناول كل ما خامر العقل وغطاه، لكن لو رأينا شخصًا حنفيًّا ألف في اللغة من المتأخرين لوجدناه تأثر بمذهبه؛ فيجعل الخمر خاصًّا بما اعتصر من العنب فقط، فتكون هذه الكتب اللغوية تأثرت بالمذاهب الفقهية والمذاهب الأصلية، حتى بعضهم تأثر بالمذاهب الكلامية وهو في الأصل كتاب لغة، هذا خطأ؛ ولذلك طالب العلم عليه أن يرجع إلى الكتب المتقدمة، فكون صاحب العين الخليل يأخذ تعريف هذه الكلمة من أهل العلم، وأهل العلم وطلابهم إذا أرادوا تفسير هذه الكلمة رجعوا إلى العين، فيلزم عليه الدور، صاحب العين يأخذ من المتشرعة من علماء الشرع، وأهل الشرع يأخذون من العين؛ إذًا ما فعلنا شيئًا، فهذه مسألة يُنتبه لها.
لأنه أحيانًا يحصل خلل في التعريف سببه هذا، ترجع إلى المُغرب للمُطرزي تريد تعريف الخمر تضل، يحولك على مذهب الحنفية؛ لأنه حنفي، وأنت تريد أن تحكم بين المذاهب وتتحاكم إلى لغة العرب، فلابد أن يكون المؤلف متجردًا عن هذه المذاهب التي أثرت على أصحابها شاؤوا أم أبوا.
"وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَفِثَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ وَسَخُهُ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانَا."
القمل معروف الدويبة التي تكون في الشعر، والصُبيان هي بيض القمل.
"وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ. وَهَذِهِ صُورَةُ إِلْقَاءِ التَّفَثِ لُغَةً، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ الْحَاجُّ، أَوِ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ، وَتَطَهَّرَ، وَتَنَقَّى، وَلَبِسَ فَقَدْ أَزَالَ تَفَثَهُ، وأَوَفَّى نَذْرَهُ؛ وَالنَّذْرُ مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ وَالْتَزَمَهُ. قُلْتُ: مَا حَكَاهُ عَنْ قُطْرُبٍ وَذَكَرَ مِنَ الشِّعْرِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَذَكَرَ بَيْتًا آخَرَ فَقَالَ:
قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا لمن البيت؟ طالب:................. طيب. |
| إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيَّا" |
"وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَصْلُ التَّفَثِ فِي اللُّغَةِ الْوَسَخُ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ تَسْتَقْذِرُهُ: مَا أَتْفَثَكَ؛ أَيْ مَا أَوْسَخَكَ وَأَقْذَرَكَ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
سَاخينَ آبَاطَهُمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا" |
|
|
"سَاخِّينَ آبَاطَهُمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا |
| وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانَا" |
هو البيت الأول، لكنه برواية أخرى.
"الْمَاوَرْدِيُّ: قِيلَ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ مَا الْمَعْنَى فِي شَعَثِ الْمُحْرِمِ؟ قَالَ: لِيَشْهَدَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْعِنَايَةِ بِنَفْسِكَ فَيَعْلَمَ صِدْقَكَ فِي بَذْلِهَا لِطَاعَتِهِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، أُمِرُوا بِوَفَاءِ النَّذْرِ مُطْلَقًا إِلَّا مَا كَانَ مَعْصِيَةً؛ لِقَوْلِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»، وَقَوْلُهُ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ».
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [سورة الحج: 28 ]، الطَّوَافُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ."
بل من أركانه التي لا يصح الحج إلا بها.
"قَالَ الطَّبَرِيّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُون: لِلْحَجِّ ثَلَاثَةُ أَطْوَافٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: طَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ، وَهُوَ سَاقِطٌ عَنِ الْمُرَاهِقِ."
المراهق المراد به: الذي ضاق عليه الوقت.
"وَعَنِ الْمَكِّيِّ."
نعم؛ لأنه لم يقدم، المكيّ هو موجود في مكة، وهو للقادم تحية، وهذا لم يقدم من بلد من آفاق، إنما هو سنة في حق الآفاقيين.
"وَعَنِ الْمَكِّيِّ، وَعَنْ كُلِّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّة. قَالَ: وَالطَّوَافُ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ عَرَفَةَ."
الذي هو الركن.
"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [سورة الحج: 28] قَالَ: فَهَذَا هُوَ الطَّوَافُ الْمُفْتَرَضُ فِي كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُوَ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ الْحَاجُّ مِنْ إِحْرَامِهِ كُلِّهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ: مَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ."
يحل به الحاج بعد أن يرمي ويحلق وينحر، يطوف ثم يسعى ثم يحل من حجه الحل كله.
"وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ نَافِعٍ، وَأَشْهَبَ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ: الطَّوَافُ الْوَاجِبُ طَوَافُ الْقَادِمِ مَكَّةَ. وَقَالَ: مَنْ نَسِيَ الطَّوَافَ فِي حِينِ دُخُولِهِ مَكَّةَ أَوْ نَسِيَ شَوْطًا مِنْهُ، أَوْ نَسِيَ السَّعْيَ أَوْ شَوْطًا مِنْهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ النِّسَاءَ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَرْكَعَ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُهْدِي. وَإِنْ أَصَابَ النِّسَاءَ رَجَعَ، فَطَافَ وَسَعَى، ثُمَّ اعْتَمَرَ وَأَهْدَى. وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِيمَنْ نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ سَوَاءً. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الطَّوَافَانِ جَمِيعًا وَاجِبَانِ، وَالسَّعْيُ أَيْضًا."
إلزامه بالرجوع يدل على أنه ركن، وإلا يكفيه لو كان واجبًا مجرد وجوب لا ركنًا يكفيه أن يريق دمًا؛ لأنه ترك نسكًا، وعامة أهل العلم، جمهورهم، على أنه سنة لا يلزم بتركه شيء، يعنى طواف القدوم.
"وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ: أَنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ بَلَدِهِ فَيُفِيضُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَنَّهُ يَجْزِيهِ تَطَوُّعُهُ عَنِ الْوَاجِبِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ مِنْ الطَواف. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِي حَجِّهِ شَيْئًا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ قَدْ جَازَ وَقْتَهُ، فَإِنَّ تَطَوُّعَهُ ذَلِكَ يَصِيرُ لِلْوَاجِبِ لَا لِلتَّطَوُّعِ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ."
يعني لو بطل طواف الإفاضة عنده –عند الحاج- وصح طواف الوداع، عنده أن طواف الوداع يكون هو طواف الإفاضة، ولو لم ينوه، ثم يأتي بطواف الوداع، وإن كان قد فارق مكة يلزمه دم وحجه صحيح، من أهل العلم من يرى أن طواف الإفاضة لا يقع إلا بنية، فإذا بطل لزمه إعادته، ولا يكفي غيره، ولا يقوم مقامه غيره.
"فَإِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ يَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ فِي الْحَجِّ كَانَ الطَّوَافُ لِدُخُولِ مَكَّةَ أَحْرَى أَنْ يَنُوبَ عَنْ طَوَافِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ."
لا لا، أحرى أن ينوب عن طواف..
ماذا؟
تركت سطرًا.
"أَحْرَى أَنْ يَنُوبَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الطَّوَافِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ لِلْوَدَاعِ. وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ طَوَافَ الدُّخُولِ مَعَ السَّعْيِ يَنُوبُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِمَنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ مَعَ الْهَدْيِ، كَمَا يَنُوبُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ مَعَ السَّعْيِ لِمَنْ لَمْ يَطُفْ وَلَمْ يَسْعَ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ مَعَ الْهَدْيِ أَيْضًا عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَال: إِنَّمَا قِيلَ لِطَوَافِ الدُّخُولِ وَاجِبٌ وَلِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمَا يَنُوبُ عَنْ بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ مَنْ نَسِيَ أَحَدَهُمَا مِنْ بَلَدِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا."
فحكمهما واحد عندهم، طواف القدوم وطواف الإفاضة حكمهما واحد، وأما الجمهور فعرفنا أن طواف القدوم سنة، وطواف الإفاضة ركن، وطواف الوداع واجب، لكل واحد منها حكمه.
"ولِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَفْتَرِضْ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا بِقَوْلِهِ :{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [سورة الحج: 27]، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سورة الحج:28 ] وَالْوَاوُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا لَا تُوجِبُ رُتْبَةً إِلَّا بِتَوْقِيفٍ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَقَالَ: هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ دُونَ أَنْ تَطُوفَهُ، وَلَا يُرَخَّصُ إِلَّا فِي الْوَاجِبِ."
لأنه لو كان ركنًا لما رُخص فيه، لو كان ركنًا ما قبل الرخصة، الركن لابد من الإتيان به، ولو كان سنة لما احتاج إلى الترخص، لما احتاج إلى أن يُترخص فيه.
"الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي وَجْهِ صِفَةِ الْبَيْتِ بِالْعَتِيقِ؛ فَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: الْعَتِيقُ الْقَدِيمُ. يُقَالُ: سَيْفٌ عَتِيقٌ، وَقَدْ عَتُقَ أَيْ قَدُمَ؛ وَهَذَا قَوْلٌ يُعَضِّدُهُ النَّظَرُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ عَتِيقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ جَبَّارٌ بِالْهَوَانِ إِلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّار» قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ."
وعلى كل حال هو نص في الموضوع، ولا يبعد أن يكون يسمى عتيقًا؛ لأنه قديم؛ لأن العتيق هو القديم.
"وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلًا. فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ وَنَصْبَهُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى كَسَّرَهَا قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا أَعْتَقَهَا عَنْ كُفَّارِ الْجَبَابِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِأَنْفُسِهِمْ مُتَمَرِّدِينَ."
يعني الحجاج وإن حصل منه ما حصل إلا أنه مسلم، يتدين بتعظيم الكعبة، لكن لم يقصد الكعبة لذاتها، لم يقصد هدم الكعبة وإنما قصد قتال ابن الزبير، أما لو جاء شخص لا يتدين بدين الإسلام، ولا يرى تعظيم الكعبة ولا حرمتها مثل هذا لا يُسلط عليها.
طالب:............
القرامطة يتظاهرون بالإسلام، وإن كانوا كفارًا زنادقة ملاحدة وقتلوا المسلمين في جوف البيت، ودفنوههم في زمزم في أيام الحج يوم التروية، وأخذوا الحجر، ومكث عندهم سنين طويلة، المقصود أنه مثل هذا أنه عقوبة للمسلمين، المسلمون إذا حصل منهم تفريط في دينهم وإعراض عنه فلا بد أن يُردوا بمثل هذه القارعة؛ كما حصل للمسلين في بغداد أيام التتار وغيرها والمسلمين في الأندلس، فلا بد من قارعة تردهم إلى دينهم.
طالب:...................
أن يقول: حديث حسن صحيح، صحيح غريب.
طالب:.....................
على كل حال فيه المرسل، وفيه المرفوع، والمرفوع ما دام فيه كاتب الليث فيه ضعيف، لكن هل يتقوى بالمرسل أو يوهنه المرسل، يضعفه؟
"لِأَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِأَنْفُسِهِمْ مُتَمَرِّدِينَ، وَلِحُرْمَةِ الْبَيْتِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ، وَقَصَدُوا الْكَعْبَةَ بِالسُّوء فَعُصِمَتْ مِنْهُمْ وَلَمْ تَنَلْهَا أَيْدِيهِمْ، كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- صَرَفَهُمْ عَنْهَا قَسْرًا. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا حُرْمَتَهَا فَإِنَّهُمْ إِنْ كَفُّوا عَنْهَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْزِلَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي كَفِّ الْأَعْدَاءِ؛ فَقَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطَّائِفَةَ عَنِ الْكَفِّ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى الصَّرْفِ بِالْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ، وَجَعَلَ السَّاعَةَ مَوْعِدَهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: سُمِّيَ عَتِيقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ مَوْضِعُهُ قَطُّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: سُمِّيَ عَتِيقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- يُعْتِقُ فِيهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ عَتِيقًا؛ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْ غَرَقِ الطُّوفَانِ؛ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الْعَتِيقُ الْكَرِيمُ. وَالْعِتْقُ الْكَرَمُ. قَالَ طَرَفَةُ يَصِفُ أُذُنَ الْفَرَسِ:
مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِفُ الْعِتْقَ فِيهِمَا |
| كَسَامِعَتَيْ مَذْعُورَةٍ وَسْطَ رَبْرَبِ |
وَعِتْقُ الرَّقِيقِ: الْخُرُوجُ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ إِلَى كَرَمِ الْحُرِّيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَتِيقُ صِفَةَ مَدْحٍ تَقْتَضِي جَوْدَةَ الشَّيْءِ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ: حُمِلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ.. الْحَدِيثَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلنَّظَرِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَسُمِّيَ عَتِيقًا لِهَذَا؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ."
يعني لقِدَمه.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج: 30-31] فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ: فَرْضُكُمْ ذَلِكَ، أَوِ الْوَاجِبُ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ: امْتَثِلُوا ذَلِكَ؛ وَنَحْوُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْبَلِيغَةِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعْيَا بِخُطَّتِهِ |
| وَسْطَ النَّدِيِّ إِذَا مَا قَائِلٌ نَطَقَا |
وَالْحُرُمَاتُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا هِيَ أَفْعَالُ الْحَجِّ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ :{ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْمَوَاضِعِ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَيَجْمَعُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: الْحُرُمَاتُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ."
يعني كل ما عظمه الله –سبحانه وتعالى- تعظيمه من تقوى القلوب، تعظيم كل ما جاء عن الله– جلَّ وعلا- فهو من تقوى القلوب.
" {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أَيِ التَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ التَّعْظِيمُ خَيْرٌ مِنْ خَيْرَاتِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِدَةٌ بِخَيْرٍ. "
لو كانت ليست للتفضيل؛ لأن التفضيل يقتضي أمرين يشتركان في وصف يفوق أحدهما الآخر فيه؛ فالتعظيم إذا قلنا إنه خير من غيره، خير من التهاون، قلنا إن التهاون فيه خير، ولكن مع ذلك فهو دون من التعظيم أقل من التعظيم في هذا الخير، لكن التهاون ليس فيه خير بالكلية فدل على أن خير هذه ليست على بابها؛ كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًّا} .
فأصحاب النار ليس عندهم خير بالكلية، ألبتة.
"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} أَنْ تَأْكُلُوهَا؛ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَأَخَوَاتُهَا. وَلِهَذَا اتِّصَالٌ بِأَمْرِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ فِي الْحَجِّ الذَّبْحَ، فَبَيَّنَ مَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَأَكْلُ لَحْمِهِ. وَقِيلَ :{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} غَيْرَ مَحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} الرِّجْسُ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ. الْوَثَنُ: التِّمْثَالُ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَنَحْوِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْصِبُهَا وَتَعْبُدُهَا. وَالنَّصَارَى تَنْصِبُ الصَّلِيبَ وَتَعْبُدُهُ وَتُعَظِّمُهُ فَهُوَ كَالتِّمْثَالِ أَيْضًا. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ –رضي الله عنه- أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «ألْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْكَ» أَيِ الصَّلِيبَ؛ وَأَصْلُهُ مِنْ وَثَنَ الشَّيْءَ أَيْ أَقَامَ فِي مَقَامِهِ. وَسُمِّيَ الصَّنَمُ وَثَنًا؛ لِأَنَّهُ يُنْصَبُ وَيُرْكَزُ فِي مَكَانٍ فَلَا يُبْرَحُ عَنْهُ. يُرِيدُ اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ.
وَسَمَّاهَا رِجْسًا؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَقِيلَ: وَصَفَهَا بِالرِّجْسِ، وَالرِّجْسُ النَّجَسُ فَهِيَ نَجِسَةٌ حُكْمًا. وَلَيْسَتِ النَّجَاسَةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، فَلَا تُزَالُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ كَمَا لَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ إِلَّا بِالْمَاءِ."
النجاسة هنا نجاسة حكمية، نجاسة معنوية، كما في قوله –جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[سورة التوبة:28] لا يعني أنها نجاسة حسية تلزم إزالتها بعد المباشرة؛ يعني لو سلمت على كافر ويدك مبتلة ويده مبتلة، هل يلزم أن تغسل يدك؟ في قول الجمهور: لا، وإن قال بعضهم إنه نجس بالفعل مثل النجاسات الأخرى لا بد من غسلها ويقول مثل هذا في قوله: {فَاجْتَنِبُواِ} [سورة الحج:30]، لكن الجمهور على أنها نجاسة معنوية لا تزول بالماء، وإنما تزول بالإيمان، ومثل هذا في النهي عن الصلاة في المقبرة؛ النهي عن الصلاة في المقبرة ليس لنجاستها الحسية، فهي طاهرة، لكن لنجاسة الشرك الذي تؤدي إليه العبادة في المقبرة المعنوية، ولذا بعضهم يرى أنها نجاسة حسية، فيفرق بين المقبرة المنبوشة والمقبرة غير المنبوشة؛ فيرى أن المقبرة المنبوشة نجسة نجاسة حسية؛ لأنها اختلطت بدماء الأموات وصليبهم، وأما غير المنبوشة فطاهرة، وبعضهم يرى أنها نجسة، لكن لو فُرش عليها فراش وبساط أو حصير يمكن الصلاة عليها؛ لأنها وُجد حائل بينها وبينه، لكن هذا كله ليس صحيح، النهي عنها لسد الذريعة الموصلة إلى الشرك، فنجاسته معنوية، وليست حسية.
طالب:...............
على كل حال تنجيسه قول أهل العلم بل جماهير أهل العلم على أنه نجس {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } [سورة المائدة:90]، والرجس: النجس كما جاء تفسيره في الحديث، ومنهم من يقول: إنها ليست بنجس؛ بدليل أن النبي– صلى الله عليه وسلم- أمر بإراقتها فأراقوها في سكك المدينة، ولو كانت نجسة ما لُوثت بها الطرق؛ للنهي عن البول في قارعة الطريق؛ لنجاسته، فلو كانت الخمر نجسة لما أُمر بإراقتها في سكك المدينة، وعلى كل حال الأدلة على التنجيس الحسي قد لا تنهض، والنجاسة المعنوية موجودة بلا شك.
طالب: والطيب يا شيخ؟
مثلها، الطيب المشتمل على مخدر كحول وشبهه من يقول بنجاسة الخمر يقول بنجاسته، والذي لا يرى نجاسة الخمر لا يرى نجاسته مثل هذا من باب أولى.
"الرَّابِعَةُ: ( مِنْ ) فِي قَوْلِه: {مِنَ الْأَوْثَانِ} قِيلَ: إِنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيَقَعُ نَهْيُهُ عَنْ رِجْسِ الْأَوْثَانِ فَقَطْ، وَيَبْقَى سَائِرُ الْأَرْجَاسِ نَهْيُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ فَكَأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّجْسِ عَامًّا، ثُمَّ عَيَّنَ لَهُمْ مَبْدَأَهُ الَّذِي مِنْهُ يَلْحَقُهُمْ؛ إِذْ عِبَادَةُ الْوَثَنِ جَامِعَةٌ لِكُلِّ فَسَادٍ وَرِجْسٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ( مِنْ ) لِلتَّبْعِيضِ قَلَبَ مَعْنَى الْآيَةِ وَأَفْسَدَهُ."
{الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، لو قلنا إنها تبعيضية لقلنا إن من الأوثان ما ليس برجس؛ لأن من الأوثان ما هو رجس، بعض الأوثان ليس برجس، وبعضها رجس، والصواب أنها بيانية.
"الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، وَالزُّورُ: الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ. وَسُمِّيَ زُورًا؛ لِأَنَّهُ أَمْيَلُ عَنِ الْحَقِّ؛ وَمِنْهُ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، وَمَدِينَةٌ زَوْرَاءُ؛ أَيْ مَائِلَةٌ. وَكُلُّ مَا عَدَا الْحَقَّ فَهُوَ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ وَزُورٌ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَة الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ» قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. يَعْنِي أَنَّهَا قَدْ جُمِعَتْ مَعَ عِبَادَةِ الْوَثَنِ فِي النَّهْيِ عَنْهَا.
على كل حال هي من السبع الموبقات، وشأنها عظيم، كبيرة من كبائر الذنوب اتفاقًا.
السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتِ الْوَعِيدَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إِذَا عَثَرَ عَلَى الشَّاهِدِ بِالزُّورِ أَنْ يُعَزِّرَهُ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِشَهَادَتِهِ أَحَدٌ. وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي شَهَادَتِهِ إِذَا تَابَ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الْمَشْهُورِ بِهَا الْمُبَرَّزِ فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِ حَالِهِ فِي التَّوْبَةِ؛ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ مِنَ الْقُرُبَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَشَمَّرَ فِي الْعِبَادَةِ وَازدَادَتْ حَالُهُ فِي التُّقَى قُبِلَ شَهَادَتُهُ."
يعني إذا كان عدلًا بين الناس مشهورًا بعدالته لا تُقبل شهادته؛ لأننا لم نطلع على ما يشهد على صحة توبته، وإن كان معروفًا بالتساهل وفعل المنكرات، فعل المحرمات، ترك الواجبات، ثم تاب من شهادة الزور فتغيرت حاله، ووجدنا ما يشهد على توبته، لكن هذا الكلام تفريق من غير فارق.
"وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَال: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»."
الإشراكَ؛ اسم إن مؤخر.
"«إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَقَوْلَ الزُّورِ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
السَّابِعَةُ: حُنَفَاءَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ مُسْتَقِيمِينَ أَوْ مُسْلِمِينَ مَائِلِينَ إِلَى الْحَقِّ."
أصل الحنف: الميل، ويقال لمن في رجله ميل يقال له: أحنف، لكن إذا كان فيها انقلاب كلي بمعني أنه يطأ على ظهر قدمه يقال له: أحرت، وهذا يقال له: أحنف إن كان مجرد ميل، فالحنف والحنيف المائل، وإبراهيم الحنيف مائل عن الشرك وأهله، والذي يميل عن الاستقامة يقال له: به حنف يعني ميل عن الاستقامة، والذي يميل عن الشرك وأهله يكون حنيفًا متبعًا لإبراهيم ومحمد –عليهم الصلاة والسلام-.
طالب: لماذا قال الصحابة: ليته سكت؟
لأنه شق عليهم كثرة التكرار، خشوا عليه المشقة من كثرة التكرار، أنت إذا رأيت شخصًا من أهل العلم وتُشفق عليه من كثرة عطائه تتمنى لو أنه تخلف عن هذا الدرس أو ما طول هذا الدرس، ليته سكت، إشفاقًا عليه، فهم أشفقوا على النبي –عليه الصلاة والسلام- من تكرارها خشية أن يشق عليه.
"وَلَفْظَةُ ( حُنَفَاءَ ) مِنَ الْأَضْدَادِ تَقَعُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَتَقَعُ عَلَى الْمَيْلِ. وَ( حُنَفَاءَ ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: حُنَفَاءَ حُجَّاجًا؛ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَا حُجَّةَ مَعَهُ.
الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا عَذَابًا؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ. ومعنى{ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أَيْ تَقْطَعُهُ بِمَخَالِبِهَا. وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ وَصُعُودِ الْمَلَائِكَةِ بِهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَا يُفْتَحُ لَهَا فَيُرْمَى بِهَا إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّذْكِرَةِ."
لكن هذه مُشبه بمن حصل له ذلك، ليس هو من حصل له ذلك، لكنه مُشبه بمن يحصل له ذلك فكأنما خر من السماء، وأما بالنسبة للكافر عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى السماء الدنيا فلا يفتح لها؛ فيرمى بها إلى الأرض، فيكون هو الذي خر من السماء، وليس كمن خر من السماء، فهو غيره؛ لأن التشبيه يقتضى المغايرة.
ومن تمام التشبيه قوله: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فهل أروح الكفار تخطفها الطير ليكون هو هو؟ لا.
"وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:11]، وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «فَسُحْقًا فَسُحْقًا»."
يعني بعدًا بعدًا، وهذا في حديث الحوض، حينما يزاد بعض أمته –عليه الصلاة والسلام- عن حوضه؛ لأنه بدلوا وحرفوا فيقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: «أصحابي أصحابي» فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: «سحقًا سحقًا» وهذا يبين خطورة الابتداع في الدين، وإحداث ما ليس منه، وإلصاق ما ليس منه به.
"قَوْلُهُ تَعَالَى :{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [سورة الحج: 32].
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قِيلَ: يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيِ اتَّبِعُوا ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } الشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ أَشْعَرَ بِهِ وَأَعْلَمَ؛ وَمِنْهُ شِعَارُ الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ؛ أَيْ عَلَامَتُهُمِ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا. وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْبَدَنَةِ وَهُوَ الطَّعْنُ فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ فَيَكُونَ عَلَامَةً، فَهِيَ تُسَمَّى شَعِيرَةً بِمَعْنَى الْمَشْعُورَةِ. فَشَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ لَا سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا تَسْمِينُ الْبُدْنِ وَالِاهْتِمَامُ بِأَمْرِهَا وَالْمُغَالَاةُ بِهَا."
على كل حال الشعائر هي الفرائض الظاهرة، فالجهاد شعيرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة، صلاة الجمعة شعيرة، صلاة العيد شعيرة، العبادات الظاهرة كلها شعائر، وأيضًا مواطن العبادة مشاعر وشعائر، وجميع ما جاء عن الله –جلَّ وعلا- مما يجب تعظيمه شعائر.
"وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا تَسْمِينُ الْبُدْنِ وَالِاهْتِمَامُ بِأَمْرِهَا وَالْمُغَالَاةُ بِهَا."
نعم، البدن شعيرة، والأضاحي شعيرة، من يعظم هذه الشعائر فتجود نفسه بشراء أغلاها هذا من تعظيم شعائر الله.
"قَالَه ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ شِرَاءِ الْبُدْنِ رُبَّمَا يُحْمَلُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ، فَإِذَا عَظَّمَهَا مَعَ حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِمَا دُونَهُ فَلَا يَظْهَرُ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا تَعْظِيمُ الشَّرْعِ، وَهُوَ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. والله أعلم."
لأن الواجب يأتي بما دون ذلك، فيكون القدر الزائد من الواجب من التعظيم.
"الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي {إِنَّهَا} عَائِدٌ عَلَى الْفِعْلَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْكَلَامُ، وَلَوْ قَالَ فَإِنَّهُ لَجَاز . وَقِيلَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّعَائِرِ؛ أَيْ فَإِنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَرَجَعَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى الشَّعَائِرِ."
يعني الضمير، يعني رجع الضمير إلى الشعائر، فالكناية عنده الضمير.
"الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قُرِئَ (الْقُلُوبُ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلَةٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَقْوَى، وَأَضَافَ التَّقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِي الْقَلْبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِه ."
مقرها هاهنا، وهو القلب والصدر الذي هو محل القلب، لكن لابد من برهان يدل على هذا الأمر الخفي؛ لأن التعامل بين المسلمين إنما يكون بالظهار، والأحكام عليهم إنما هي على ظواهرهم «فهلا شققت عن قلبه»؛ فمن ادّعى أنه متقي وظاهره مخالف لباطنه الذي يدعيه علمنا كذب دعواه، وإذا دلت العلامات الظاهرة على وجود التقوى الباطنة صدقناه؛ لأن بعض الناس يتذرع بمثل هذا الحديث ويفعل العظائم ويرتكب الجرائم ويترك الواجبات ويقول: التقوى هاهنا.
ما معنى التقوى هذه؟ التقوى لها ثمرة، التقوى تصحح الأعمال، وترتب ثمارها عليها، تجعل الصيام مقبولًا، تجعل الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، تجعل الآثار مترتبة على العبادات موجودة، فكيف تكون تقوى مع هذه المخالفة؟ الصيام إذا كان إنما شُرع لتقرير التقوى في القلب وهو عمل ظاهر، فالذي يثبت التقوى هو العمل الصالح في القلب، وهي التي يُستدل بها على وجودها، وأما ادّعاء التقوى من غير عمل صالح ظاهر يُرى ويُحكم به على الشخص من خلاله فلا تقوى حينئذ، كيف يكون تقيًّا من ارتكب المحرمات؟ كيف يكون تقيًّا من يترك الواجبات، والتقوى عند أهل العلم: فعل الأوامر واجتناب النواهي، هذه هي التقوى.
"الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى :{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يَعْنِي الْبُدْنَ مِنَ الرُّكُوبِ، وَالدَّرِّ، وَالنَّسْلِ، وَالصُّوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَبْعَثْهَا رَبُّهَا هَدْيًا، فَإِذَا بَعَثَهَا فَهُوَ الْأَصْلُ الْمُسَمَّى."
الأجل، الأجل المسمى. هو مذكور في الآية.
"فَإِذَا بَعَثَهَا فَهُوَ الْأَجلُ الْمُسَمَّى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
فَإِذَا صَارَتْ بُدْنًا هَدْيًا فَالْمَنَافِعُ فِيهَا أَيْضًا رُكُوبُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ."
يعني المنافع التي أشير إليها في الآية { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى أن تبلغ محلها وتذبح لكم فيها منافع، فله أن يركب عند الحاجة، النبي –عليه الصلاة والسلام- لما رأى رجلًا يسوق بدنة، قال: «اركبها «قال: هذه بدنة، قال: «اركبها». لكن تُركب بما لا يضرها ولا يؤثر عليها.
"فَإِذَا صَارَتْ بُدْنًا هَدْيًا فَالْمَنَافِعُ فِيهَا أَيْضًا رُكُوبُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَشُرْبُ لَبَنِهَا بَعْدَ رِيِّ فَصِيلِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: «اركبها » فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. فَقَالَ: «اركبها » قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: «اركبها وَيْلَكَ» فِي الثَّانِيَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا» وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَحْرُهَا، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
السَّادِسَةُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-:
«اركبها»."
لأنه أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
"وَمِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِرُكُوبِ الْبَدَنَةِ رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ، وَالْمُقَيَّدُ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ."
إذا كان معه بدنة مهداة وأخرى غير ليست مهداة وإنما هي لحمله وحمل متاعه، يقول: هذه ذاهبة ذاهبة أنا أخرجتها من مالي، فلماذا لا أستعملها وأوفر دابتي التي جئت بها تأتي بثمن أغلى، أو لتخدم مدة أكثر، أو لكي لا تتضر بالركوب؟ نقول: لا، مادام هذه أهديت فالأصل أنها خرجت من ملكك فلا تركبها إلا لحاجة، والرجل الذي أمره النبي -عليه الصلاة والسلام- بالركوب يظهر من حاله أنه يتضرر بالمشي، وأنه لا يُوجد عندها غيرها.
"ثُمَّ إِذَا رَكِبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ نَزَلَ، قَالَه إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي."
ماذا؟
"ثُمَّ إِذَا رَكِبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ نَزَلَ."
كيف ثم إذا ركب عند الحاجة نزل؟
متى ينزل؟
طالب:..............
نعم، لكن الآن لا يوجد ما يدل على ذلك، ثُمَّ إِذَا رَكِبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ نَزَلَ؛ قَالَه إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، ينزل عند الحاجة؟ فالظرف متعلق بركبها أم بنزل؟
هل يركب عند الحاجة أم ينزل عند الحاجة؟
طالب: ينزل عند الحاجة.
طيب ينزل متعلقة؟
يعني ثم إذا ركبها عند انقضاء الحاجة نزل، يعني بعد، الكلام فيه نقص، يعني عند انقضاء الحاجة ينزل بلا شك، هذا إذا ربطنا الركوب بالحاجة كما في حديث جابر، وإن عملنا بالإطلاق في حديث أبي هريرة قلنا إنه يركبها محتاجًا وغير محتاج، لكن تقييده بالحاجة لا شك أنه أولى؛ لأنه أخرجها من ملكه، وتقرب بها إلى الله –جلَّ علا- فإنها يوفرها، فإذا انقضت هذه الحاجة فإنه بمجرد انقضائها ينزل.
"وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ، وَحُجَّتُهُ إِبَاحَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ الرُّكُوبَ فَجَازَ لَهُ اسْتِصْحَابُهُ. وَقَوْلُهُ: إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَمَا حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَقَدْ جُهِدَ، فَقَالَ: «اركبها». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ نَقَصَهَا الرُّكُوبُ الْمُبَاحُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ."
يعني إذا كانت قيمتها قبل الركوب تساوي ألفًا، وبعد أن ركبها واستعملها تساوي تسع مائة، قال: تصدق بمائة؛ لأن الأصل أنه تبرع بها كاملة فيلزمه أرش النقص.
"السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى :{ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ الطَّوَافُ. فَقَوْلُه: (مَحِلُّهَا ) مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْمُحْرِمِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَار، وَالسَّعْيِ يَنْتَهِي إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُرَادٌ بِنَفْسِهِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَنْتَهِي إِلَى مَكَّة. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِلَى الْحَرَمِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الشَّعَائِرِ مَعَ عُمُومِهَا وَإِلْغَاءِ خُصُوصِيَّةِ ذِكْرِ الْبَيْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [سورةالحج:34]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الذَّبَائِحَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا أُمَّةٌ، وَالْأُمَّةُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ؛ أَيْ وَلِكُلِّ جَمَاعَةٍ مُؤْمِنَةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا. وَالْمَنْسَكُ الذَّبْحُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. يُقَالُ: نَسَكَ إِذَا ذَبَحَ يَنْسُكُ نَسْكًا. وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ،
نعم، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [سورة الأنعام:162].
وَجَمْعُهَا نُسُكٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [سورة البقرة:196]، وَالنُّسُكُ أَيْضًا الطَّاعَةُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَوْضِعِ النَّحْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَرَادَ مَكَانَ نَسْكٍ. وَيُقَالُ: مَنْسَكٌ وَمَنْسِكٌ، لُغَتَانِ، وَقُرِئَ بِهِمَا.
قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا بِكَسْرِ السِّينِ، الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ."
مفعل منسك، يطلق على مكان النُسك وزمان النُسك، المنسك هذه الصيغة تطلق على الزمان والمكان، مثل: المقام، المقام يطلق على مكانه وزمانه كما يطلق على ذاته، فالهدي منسك، ومكان نحره منسك، وزمان نحره منسك، نقول مثل هذه في هذه الصيغة.
إذا قلت: قمت مقام فلان، يعني في وقت قيامه أو في مكان قيامه أو نفس القيام الذي كان يقومه قمته أنت، بمعنى أن الصورة مطابقة لما يقومه فلان من غير زيادة ولا نقصان.
"وَقِيلَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ لِتَرْدَادِ النَّاسِ إِلَيْهَا مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَالسَّعْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قوله :{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أَيْ مَذْهَبًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ يُقَالُ: نَسَكَ نَسْكَ قَوْمِهِ إِذَا سَلَكَ مَذْهَبَهُمْ. وَقِيلَ: مَنْسَكًا عِيدًا؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ حَجًّا؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورةالحج:34] أَيْ: عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ. فَأَمَرَ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ بِذِكْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَازِقُ ذَلِكَ. ثُمَّ رَجَعَ اللَّفْظُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْأُمَمِ إِلَى إِخْبَارِ الْحَاضِرِينَ بِمَا مَعْنَاهُ: فَالْإِلَهُ وَاحِدٌ لِجَمِيعِكُمْ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الذَّبِيحَةِ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْلَصَ لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} مَعْنَاهُ لِحَقِّهِ وَلِوَجْهِهِ وَإِنْعَامِهِ آمِنُوا وَأَسْلِمُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِسْلَامَ؛ أَيْ لَهُ أَطِيعُوا وَانْقَادُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}."
الإسلام في الأصل الاستسلام والانقياد والإذعان والطاعة، ولا يتم الإسلام إلا بالاستسلام، وقدم الإسلامي إلا على قنطرة التسليم. فالذي ينازع ويخاصم وإذا تُلي عليه كتاب الله جادل ونازع وخاصم في دلالته، في ثبوته، إذا أُلقي إليه حديث يرد ما يقوله وما يبتدعه ثم رد على من يستدل عليه بالحديث الصحيح الصريح أو بالآية الصحيحة الصريحة، لا شك أن هذا غير مستسلم وإن ادّعى الإسلام، ودعواه ناقصة.
"الْمُخْبِتُ: الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخَبْتُ مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ؛ أَيْ بَشِّرْهُمْ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: الْمُخْبِتُونَ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ، وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: الْمُخْبِتُونَ الْمُطْمَئِنُّونَ بِأَمْرِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ -."
المطمئنون من المكان المطمئن ولو قيل: إنهم هم المتواضعون الخاضعون المتذللون لكان له وجه، ويدل عليه قوله -جلَّ وعلا- في معنى المخبتين: {الذين ذكر الله وجلت قلوبهم}.
"قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[سورةالأنفال:2].
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ وَحَذِرَتْ مُخَالَفَتَهُ. فَوَصَفَهُمْ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَصَفَهُمْ بِالصَّبْرِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِدَامَتِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ : {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} نزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ( الصَّلَاةِ ) بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو:( الصَّلَاةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ النُّونِ."
الأصل أنه إذا حُذفت النون إنما تحذف للإضافة، نونًا ماذا؟
نونًا تلي الإعراب أو تنوينًا |
| مما تضييف احذف كطور سينا |
فالنون لابد من حذفها، فإذا ثبتت النون نُصب ما بعدها ولم تكن ثم إضافة المقيمينَ الصلاةَ، فإذا حذفت النون دل على أن ما بعدها مضاف إليه، والمقيمِ مضاف والصلاة مضاف إليه، واقترن المضاف بال؛ لأن المضاف إليه مقترن بها، والإضافة ليست محضة معنوية وإنما هي لفظية.
ووصل أل بذا المضاف مغتفر |
| إن وُصلت بالثاني كالجعد الشعر |
ومثلهما عندنا، وهنا يقول: تُنصب الصلاة على أنها مفعول به مع حذف النون؛ لأنه تُوهم وجود النون، يريدون أن يمشوا القواعد قواعدهم على أي وجه يكون، فبدلًا من أن يكون مضاف إليه يكون منصوب، طيب حذف النون لماذا؟ قال تُوهمت النون موجودة، تُوهم وجود النون، مثل ما يقولون في إقامة وأصلها إقوامة تحركت الواو وتُوهم في ضم ما قبلها فقلبت ألف، هذا من أجل تمرير القواعد وإلا التوهم ما له قيمة.
"وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: )الصَّلَاةَ ) بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ النُّونِ، وَأَنَّ حَذْفَهَا لِلتَّخْفِيفِ لِطُولِ الِاسْمِ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
الْحَافِظُو عَوْرَةَ الْعَشِيرَةِ |
| لَا يَأْتِيهِمْ مِنْ وَراَئِنَا نُطَفُ |
الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[سورةالأنفال:2]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر:23]، هَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ؛ لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ، وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: إِنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمَ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ."
كأنما على رؤوسهم الطير، يخبتون يخشعون كأنما على رؤوسهم الطير.
"وَكَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[سورة المائدة:83]. فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ، وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ؛ فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا؛ وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. روي الصَّحِيحَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «سَلُونِي لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ. قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٍّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ (الْأَنْفَالِ)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ."
يعني أكثر من هذا البسط.
اللهم صلَّ على محمد.
"