التعليق على تفسير القرطبي - سورة الصافات (04)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم.
بسم الله الرحيم الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-: "قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} أَيْ تَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِ لَمَّا غَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي [الْأَنْبِيَاءِ] بَيَانُهُ. فَ{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} تَمْلَئُونَهُ حَطَبًا فَتُضْرِمُونَهُ، ثُمَّ أَلْقُوهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَحِيمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَنَوْا حَائِطًا مِنْ حِجَارَةٍ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَمَلَئُوهُ نَارًا وَطَرَحُوهُ فِيهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: فَلَمَّا صَارَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْجَحِيمِ تَدُلُّ عَلَى الْكِنَايَةِ، أَيْ: فِي جَحِيمِهِ".
جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن إبراهيم يعني في قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم حينما أُلقي في النار، وقالها محمد حينما قال: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}[آل عمران:173]، وهذا منصوص عليه كما في آل عمران.
"وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْجَحِيمِ تَدُلُّ عَلَى الْكِنَايَةِ".
يعني على الضمير، يعني عوضًا عن الضمير.
"أَيْ: فِي جَحِيمِهِ".
في جحيمه يعني الذي جمع من أجله، فنسب إليه وأعيد الضمير إليه؛ لأنه جمع من أجله لا لغيره، نعم.
"أَيْ: فِي جَحِيمِهِ، أَيْ: فِي جَحِيمِ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ اسْمُهُ الْهَيْزَنُ رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ وَهُمُ التَّرْكُ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ لَهُ يَتَبَخْتَرُ فِيهَا فَخُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
هذا تقدم ذكره القرطبي في مواضع، وذكر في موضع معاياة، لغز يعني، قالوا: كافر لا تأكل الأرض جسده، لا تأكل الأرض جسده، الله –جل وعلا- حرَّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء، وكذلك الشهداء أحياء، من عداهم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، وهنا كافر لا تأكل الأرض جسده، هذا خسف به، ويتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، يعني لو أكلت الأرض جسده ما صار يتجلجل بها، نعم.
"{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} أَيْ بِإِبْرَاهِيمَ .وَالْكَيْدُ الْمَكْرُ، أَيِ: احْتَالُوا لِإِهْلَاكِهِ. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} الْمَقْهُورِينَ الْمَغْلُوبِينَ؛ إِذْ نَفَذَتْ حُجَّتُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهَا، وَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ مَكْرُهُمْ وَلَا كَيْدُهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى".
نعم؛ لأنها جُعلت عليه بردًا وسلامًا، يعني خُرقت له العادة؛ لمكانته من ربه –عليه السلام-، وعلى هذا فالذين يدخلون إلى النيران، ويمشون عليها، ولا تؤثر فيهم لا يخلون من أمرين: إما أن يكونوا من أهل الكرامات الذين تُخرق لهم العادات، أو هم من أهل الدجل والكذب، والاحتيال، والتمويه، والشعوذة.
طالب:..............
هيزن، نعم.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَة. وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَذَلِكَ حِينَ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ {قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أَيْ: مُهَاجِرٌ مِنْ بَلَدِ قَوْمِي وَمَوْلِدِي إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فِيمَا نَوَيْتُ إِلَى الصَّوَابِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ".
يعني جاء في العزلة أحاديث صحيحة «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ اَلْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتبع بِهاِ شعف اَلْجِبَالِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ اَلْفِتَنِ»، وجاء أيضًا في الخلطة ما جاء، والأحاديث محمولة على أن الهجرة تترجح إذا خاف الإنسان على دينه، بحيث يتأثر، ولا يؤثر في الناس، والخلطة في حق من يؤثر في الناس خير ولا يتأثر بشرورهم.
"قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ لُوطٍ وَسَارَةَ، إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ. وَقِيلَ: ذَاهِبٌ بِعَمَلِي وَعِبَادَتِي، وَقَلْبِي وَنِيَّتِي. فَعَلَى هَذَا ذَهَابُهُ بِالْعَمَلِ لَا بِالْبَدَنِ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي "الْكَهْف" مُسْتَوْفًى. وَعَلَى الْأَوَّلِ بِالْمُهَاجَرَةِ إِلَى الشَّامِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقِيلَ: خَرَجَ إِلَى حَرَّانَ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً. ثُمَّ قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِمَنْ فَارَقَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لَهُمْ. وَقِيلَ: قَالَهُ لِمَنْ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ تَرْغِيبًا. وَقِيلَ: قَالَ هَذَا قَبْلَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ. وَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَا قَضَاهُ عَلَيَّ رَبِّي. والثَّانِي: إِنِّي مَيِّتٌ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ: قَدْ ذَهَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَصَوَّرَ أَنَّهُ يَمُوتُ بِإِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ حَالِهَا فِي تَلَفِ مَا يُلْقَى فِيهَا، إِلَى أَنْ قِيلَ لَهَا: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} فَحِينَئِذٍ سَلِمَ إِبْرَاهِيمُ مِنْهَا.
وَفِي قَوْلِهِ: {سَيَهْدِينِ} عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا سَيَهْدِينِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا. والثَّانِي: إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدَ وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ جَعَلُوا يَجْمَعُونَ لَهُ الْحَطَبَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ تَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهَا وَتَقُولُ: أَذْهَبُ بِهِ إِلَى هَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَنَا، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ لِيُطْرَحَ فِي النَّارِ قَالَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}. فَلَمَّا طُرِحَ فِي النَّارِ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ اللَّهُ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} فَقَالَ أَبُو لُوطٍ وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِ: إِنَّ النَّارَ لَمْ تُحْرِقْهُ مِنْ أَجْلِ قَرَابَتِهِ مِنِّي. فَأَرْسَلَ اللَّهُ عُنُقًا مِنَ النَّارِ فَأَحْرَقَهُ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لَمَّا عَرَّفَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَلِّصُهُ دَعَا اللَّهَ لِيُعَضِّدَهُ بِوَلَدٍ يَأْنَسُ بِهِ فِي غُرْبَتِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ" الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: هَبْ لِي وَلَدًا صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ.
قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} أَيْ إِنَّهُ يَكُونُ حَلِيمًا فِي كِبَرِهِ، فَكَأَنَّهُ بُشِّرَ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَلَدِ; لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْبُشْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "هُودٍ". وَيَأْتِي أَيْضًا فِي "الذَّارِيَاتِ".
يعني الصغير لا يوصف بالحلم، ومادام وصف بوصف يختص بالكبار فدل أنه يعيش حتى يصير كبيرًا، {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لفظ يحتمل أن يكون ولدًا، أو صاحبًا، أو غلامًا ملك يمين يحتمل هذا كله، لكن الجواب {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} يدل على أن دعوته كانت للولد دون غيره، وإذا صح التقرير "فهب لي ولدًا يكون من الصالحين".
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الآيات.
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أَيْ فَوَهَبْنَا لَهُ الْغُلَامَ".
يعني الذي دعا به، فَوَهَبْنَا لَهُ الْغُلَامَ استجابة لدعوته -عليه الصلاة والسلام-.
"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، مُعِينًا على أعماله".
معينًا له على أعماله.
لأني عندي غير واضحة.
ماذا عندكم؟
طالب: .........
فيه كلام ممسوح.
طالب: .........
معينًا بدون له؟
طالب: .........
فيه كلام ممسوح هنا.
"معينًا لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أَيْ: شَبَّ وَأَدْرَكَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الِاحْتِلَامُ، وقال قَتَادَةُ: مَشَى مَعَ أَبِيهِ. الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ سَعْيُ الْعَقْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وقال ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ السَّعْيُ فِي الْعِبَادَةِ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: صَامَ وَصَلَّى، أَلَمْ تَسْمَعِ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ– يَقُولُ: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}[الإسراء:19] ، واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهِ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ".
والخلاف في هذه المسألة قديم في المراد بالذبيح هل هو إسماعيل، أو إسحاق؟ والذي رجَّحه المفسر وقبله الطبري وجمع من المفسرين أنه إسحاق، والذي اختاره الحافظ بن كثير، ورجحه، وأجزم بأنه المقطوع به، بأنه إسماعيل، ولكل من القولين أدلته.
"وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْأَشْيَاخِ الْكِرَامِ. فَقَال َعَبْدُ اللَّهِ: ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهمِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– قَالَ: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»".
هذا ما فيه دلالة، يعني الكرم لا يعني أنه هو الذبيح.
" وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِرٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ .وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَار ِوَقَتَادَةُ وَمَسْرُوقٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَعَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، كُلُّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ".
لا يستغرب أن يكون اليهود والنصارى على هذا، ويكون هذا من تحريفهم؛ حسدًا للعرب، وادعاءً أن يكون أبوهم هو الذبيح، إسحاق، ويحسدون العرب أن يكون جدهم إسماعيل هو الذبيح، وحرفوا ما هو أعظم من ذلك، حرفوا ما هو أعظم من ذلك مما يتعلق بالله –جل وعلا- فهم أهل تحريف {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}[النساء:46]، لكن نسبة هذا القول إلى هؤلاء الجمع من الصحابة، والتابعين أيضًا تجعل له حظًّا من النظر، وأدلته البشارة، ما بُشر به والمنصوص عليه هنا {وبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ}.
طالب: .........
نعم، هناك في الآية الأولى {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ}، يقولون: البشارة هي البشارة فالغلام الحليم الذي أُمر بذبحه هو المبشر به المنصوص على اسمه إسحاق، ولم يأتِ تصريح بأن المبشر به إسماعيل، مع أنه بُشر به بعد تمام القصة بُشر بإسحاق بعد تمام القصة والأمر بالذبح، فهذا ظاهر في أن البشارة الأولى ليست البشارة الثانية، البشارة الأولى بإسماعيل أُمر بذبحه، ثم بعد ذلك بُشر بإسحاق نبيًّا من الصالحين.
"وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّحَّاسُ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ فِي الْمَنَامِ، فَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ".
نعم يتلافون بذلك ما يستدل به أهل القول الثاني من أن الأمر بالذبح حصل بمكة ومحاولة الذبح حصلت بمكة، والفداء حصل بمكة، والذي بمكة هو إسماعيل وليس إسحاق، وليس إسحاق، قالوا: صار به مسيرة شهر في غداة واحدة، يعني إلى مكة، والله المستعان.
"حَتَّى أَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى، فَلَمَّا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ الذَّبْحَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ الْكَبْشَ فَذَبَحَهُ، وَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي رَوْحَةٍ وَاحِدَةٍ طُوِيَتْ لَهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْجِبَالُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي النَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ".
على كل حال هذه التقوية إنما هي مجرد ميل واسترواح وترجيح من المؤلف، وإلا فالمسألة مسألة فهم، إذ لا يوجد نص صحيح صريح يقطع مثل هذا الخلاف، اللهم إلا أنه فهم من النصوص، نصوص الكتاب والسنة كما عندنا معولهم على البشارة، والمبشر به واحد، يعني المبشر به المبهم، الغلام هو المبشر به المصرح به عند أهل هذا القول، وأهل القول الثاني يقولون: إن المبشر به أولًا {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، غير المنصوص على بشارته بإسحاق؛ لأن الإشارة بإسحاق بعد تمام الرؤيا وما تبعها من محاولة للتنفيذ، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[هود:71]، فكيف يبشر بولد يولد له ويؤمر بذبحه؟ قالوا: لا يمنع أنه يؤمر بذبحه بعد أن ولد له يعقوب، لكن إذا كان المراد إسحاق بعد ولادة يعقوب ما معنى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}؟ كلام لا قيمة له، بلغ السعي قبل ذلك بعقود، والله المستعان.
طالب:..........
قالوا: وهذا الكلام كله لكنه ليس بقطعي، لكن المرجح أم المسألة مسألة اجتهاد فالمرجح والذي يغلب على الظن أنه إسماعيل، وجاء في الخبر «أنا ابن الذبيحين»، يعني بذلك أباه عبد الله وجده إسماعيل.
"وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَمِمَّنْ قَالَ بذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَعَلْقَمَةُ. وَسُئِلَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ عَنِ الذَّبِيحِ فَأَنْشَدَ:
إِنَّ الذَّبِيحَ هُدِيَتْ إِسْمَاعِيلُ |
نَطَقَ الْكِتَابُ بِذَاكَ وَالتَّنْزِيلُ |
شَرَفٌ بِهِ خَصَّ الْإِلَهُ نَبِيَّنَا |
وَأَتَى بِهِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ |
إِنْ كُنْتَ أُمَّتَهُ فَلَا تُنْكِرْ لَهُ |
شَرَفًا بِهِ قَدْ خَصَّهُ التَّفْضِيلُ |
وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ"
أمته منصوب على نزع الخافض وإلا فالأصل من أمته.
"وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ، فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ! وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ وَالْمَنْحَرَ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ".
يعني لم يأتِ حديث صحيح صريح ينص على أن الذبيح إسماعيل أو إسحاق، ما جاء نص صريح في هذا يقطع العذر وإنما كلها فهوم.
طالب:........
قد يقال الابن للعم، يعني العم يقال له أب، ما يكون صريحًا في الدلالة يقطع العذر، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}[يوسف:38] ومنهم الأعمام.
"وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ مَعَ امْرَأَتِهِ سَارَةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ فَقَالَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أَنَّهُ دَعَا فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فَذَكَرَ أَنَّ الْفِدَاءَ فِي الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّمَا بُشِّرَ بِإِسْحَاقَ. لِأَنَّهُ قَالَ: {وبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ}".
لكن هذه البشارة بإسحاق على التعيين إنما جاءت بعد البشارة {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، نعم، وتوسط البشارتين الرؤيا ومحاولة التطبيق والفداء.
" وَقَالَ هُنَا: {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَاجَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ إِلَّا إِسْحَاقَ".
يعني التنصيص على إسحاق {وبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} والثاني مبهم فيحمل المبهم على المعين، هذه حجتهم، يعني ما جاء مبهمًا في موضع وجاء مفسرًا في موضع آخر يُحمل المبهم على المفسر، لكن إذا لم يمنع منه مانع؛ لأنه بُشر به، ثم أمر بذبحه، ثم حاول جاهدًا أن يذبح فلم يستطع حيل بينه وبين ذلك، ثم جاء الفداء، ثم بُشِّر بإسحاق، هذا هو ترتيب القصة.
"وَقَالَ هُنَا: {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَاجَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ إِلَّا إِسْحَاقَ.
احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ :بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالصَّبْرِ دُونَ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الأنبياء:85] وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَوَصَفَهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِه: { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا}، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[هود:71] فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ قَبْلَ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ؟ وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ تَعْلِيقَ قَرْنِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَلَوْ كَانَ إِسْحَاقُ لَكَانَ الذَّبْحُ يَقَعُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ كُلُّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ".
لكنها من المرجحات القوية على أن إسماعيل هو الذبيح.
"أَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ نَبِيًّا؟ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ".
يعني بعد الأمر بالذبح، وصبر على ما أُمر به ووفَّى وصدق في وعده بُشر بكونه نبيًّا.
"قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي. وَلَعَلَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ وُلِدَ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. وَيُقَالُ: لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ يَعْقُوبَ يُولَدُ مِنْ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ لَكَانَ الذَّبْحُ يَقَعُ".
ويقال: لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[هود:71] يعني من بعده، ولا يلزم أن يكون يعقوب ابن إسحاق، لكن النصوص القطعية دلت على هذا، دلت على هذا، نعم لفظ القرآن ليس بقطعي، لكن الدلائل الأخرى تدل على أنه ولد له.
"وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ لَكَانَ الذَّبْحُ يَقَعُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ. وَهَذَا مَذْهَبٌ ثَالِثٌ".
هذا توقف، هذا توقف إذا لم يترجح القول فإنه يُتوقف، ولكن الترجيح ظاهر في أن المراد به إسماعيل.
طالب:..........
نعم؟
طالب: .........
ماذا فيه؟
طالب:..........
هذا من الأدلة، لكن يقول: { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، لم يرد في القرآن أن يعقوب من ولد إسحاق.
طالب:.........
وهذا الذي أشرنا إليه سابقًا.
"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيم-عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَتِ الرُّسُلُ يَأْتِيهِمُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْقَاظًا وَرُقُودًا، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ. وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ تَنَامُ أَعْيُنُنَا وَلَا تَنَامُ قُلُوبُنَا»".
وجاء في شخصه –عليه الصلاة والسلام- عن نفسه أنه قال: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» ومع ذلك لما أراد الله –جل وعلا- لحكمة التشريع أن ينام عن صلاة الصبح، لا يقال: إنه ما نام قلبه، لو لم ينم قلبه لما فوت الصلاة عن وقتها.
"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ قْبَلَ أَنْ يُولَدَ لَهَ قَالَ: هُوَ إِذَنْ لِلَّهِ ذَبِيحٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي مَنَامِهِ: قَدْ نَذَرْتَ نَذْرًا فَفِ بِنَذْرِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى فِي لَيْلَةِ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوَّى فِي نَفْسِهِ أَيُّ فِكْرٍ، أَهَذَا الْحُلْمُ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقِيلَ لَهُ: الْوَعْدُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَسُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهُ قَالَ جِبْرِيلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ الذَّبِيحُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ولِلَّهِ الْحَمْدُ، فَبَقِيَ سُنَّةً".
يعني هذه سنة التكبير في ليلتي العيدين ويومهما الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
"فَبَقِيَ سُنَّةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الناسُ فِي وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ: فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ نَفْسَ الذَّبْحِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ، وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ، فَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ مَا تَحَقَّقَ الْفِدَاءُ".
يعني مسألة النسخ قبل التمكن من الفعل مسألة مقرَّة عند أهل العلم لاسيما أهل السنة خلافًا لمن يرى أنه من العبث أن يؤمر بشيء ثم يُنهى عنه قبل فعله، لكن امتحان المكلف يقع بمثل هذا، أن يؤمر بشيء، فإذا بذل الأسباب، وفعل المقدمات، وعرف صدق الامتثال ينسخ، إنما العبث في إذا قيل افعل ومباشرةً قيل: لا تفعل، من غير محاولة للتطبيق، ومن غير بذل للأسباب وفعل المقدمات هذا قد يكون فيه شيء من العبث؛ لأنه ليس فيه من فعل المكلف في شيء، لكن إذا امتثل المكلف وحاول، وبذل المقدمات والأسباب وعرف صدقه، يرفع عنه هذا التكليف كما هنا.
طالب:.........
لا لا ما يلزم، ما يلزم.
طالب: .........
كل هذا ما يدل عليه؛ لأنها كلها أخبار إسرائيلية وآثار ما يثبت بها مثل هذا.
"وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، أَيْ حَقَّقْتَ مَا نَبَّهْنَاكَ عَلَيْهِ، وَفَعَلْتَ مَا أَمْكَنَكَ ثُمَّ امْتَنَعْتَ لَمَّا مَنَعْنَاكَ. هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُنْسَخُ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَبَحْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: قَالَ إِسْحَاقُ لِإِبْرَاهِيمَ: لَا تَنْظُرْ إِلَيَّ فَتَرْحَمَنِي، وَلَكِنِ اجْعَلْ وَجْهِي إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ السِّكِّينَ، فَأَمَرَّهَا عَلَى حَلْقِهِ فَانْقَلَبَتْ. فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: انْقَلَبَتِ السِّكِّينُ، قَالَ: اطْعَنِّي بِهَا طَعْنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ، وَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا، وَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لَكِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ. وَلَوْ كَانَ قَدْ جَرَى ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ تَعْظِيمًا لِرُتْبَةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا-، وَكَانَ أَوْلَى بِاْلَبَيانِ مِنَ الْفِدَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ".
لأن الأمر بالذبح والفداء كله إنما سيق لبيان مناقب إبراهيم مع ابنه الذبيح، ولو حصل شيء من هذا أن السكين تنقلب، أو غشّي بنحاس، أو كلما حزّ شيئًا التأم، فهذا لا شك أنه أبلغ في بيان المناقب.
طالب:.............
نعم؟
طالب:...........
ماذا؟
طالب:.........
على اختياره.
"وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَإِنْهَارُ الدَّمِ، وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّهُ أَضْجَعَهُ لِلذَّبْحِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَمَّا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِضْجَاعِ قِيلَ لَهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، وَهَذَا كُلُّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمَفْهُومِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْخَلِيلِ وَالذَّبِيحِ".
وليس فيه منقبة، ليس فيه منقبة للطرفين، إنما أُمر بإضجاعه، ما يكفي هذا، أي إنسان يمتثل بمثل هذا، أي إنسان حتى من غير المكلفين لو يؤمر بمثل هذا امتثل، ومجرد إضجاع من غير سكين من غير قطع من غير محاولة للقطع هذا ما يعجز عنه أحد، ما يعجز عنه أحد.
"وَلَا يُظَنُّ بِالْخَلِيلِ وَالذَّبِيحِ أَنْ يَفْهَمَا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمَا التَّوَهُّمُ. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْفِدَاءِ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ: "مَاذَا تُرِي" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ".
يعني من نفسك، ماذا تُري من نفسك ومن ابنك.
"مِنْ أُرِيَ يُرِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ فَانْظُرْ مَاذَا تُرِي مِنْ صَبْرِكَ وَجَزَعِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَاذَا تُشِيرُ، أَيْ مَا تُرِيَكَ نَفْسُكَ مِنَ الرَّأْيِ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ "تُرِي"، وَقَالَ: إِنَّمَا يَكُونَ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: أَرَيْتُ فُلَانًا الصَّوَابَ، وَأَرَيْتُهُ رُشْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. والْبَاقُونَ: "تَرَى" مُضَارِعُ رَأَيْتَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ: "تُرَى" غَيْرُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُؤَامَرَةِ فِي أَمْرِ اللَّهِ".
يعني ما رده إلى رأيه، ما قال: اجتهد {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ليس معناه أنه اختر يا أبتي التنفيذ، أو عدمه ورد ذلك إلى رأيه، فإنما هذه مبادرة بالامتثال، هذه مبادرة بالامتثال، لا ردًّا إلى رأيه.
"وَإِنَّمَا شَاوَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَوْ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ إِذَا رَأَى مِنَ ابْنِهِ طَاعَةً فِي أَمْرِ اللَّهِ فَ{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أَيْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فَحُذِفَ الْجَارُّ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، فَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ فَصَارَ تُؤْمَرُهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ، كَقَوْلِهِ: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] أَيِ اصْطَفَاهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَ(مَا) بِمَعْنَى الَّذِي {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: لَمَّا اسْتَثْنَى وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلصَّبْرِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي {يَا أَبَتِ} وَكَذَلِكَ فِي {يَا بُنَيَّ} فِي ( يُوسُفَ) وَغَيْرِهَا".
بعض أهل الإشارة يعني الذين يعانون التفسير الإشاري الذي لا يؤخذ من اللفظ، لا من منطوقه ولا من مفهومه، إنما على حسب أفهام من يعاني الرياضات العقلية من المتصوفة وغيرها من الباطنية، والتفسير الإشاري له مؤلفات، وأُلف فيه كتب، يفهمون من الآيات ما لا يدل عليه ظاهر اللفظ لا منطوقه ولا مفهومه، إنما يستدلون بأمور ومقدمات عندهم في علومهم التي يعتمدون فيها على الباطن لا على الشرع، ويفسرون النصوص، ويتأولون الواجبات والمحرمات على هذا التفسير، وعندهم الصلاة ليست الصلاة التي عندنا، والصيام ليس المراد به الصيام الذي عندنا، والحج كذلك، وسائر التكاليف، وبعض الناس أدخل هذا التفسير يعني كونه متصوفة، وغلاة، وباطنية ويفسرون، هذا ما فيه إشكال، هذا اتجاههم، وهذه طريقتهم، هذا لا إشكال فيه عندهم، لكن بعض من ينتسب إلى السنة ويعنى بهذا النوع من التفسير بعد أن ينقل أقوال المفسرين المتقدمين والمتأخرين يقول من باب الإشارة كذا مثل الألوسي، كل آية يذكر هذا التفسير الإشاري، ولسنا بحاجة إلى مثل هذا التفسير، فليته جرده عنه؛ لأنه قد يقضي على ما تقدم من التفسير المرفوع والموقوف على الصحابة والتابعين أو سلف هذه الأمة، لأنه قد ينقضه، ولا حاجة لنا به.
طالب:........
قصة سليمان، قال بعض أهل الإشارة: لما استثناه وفَّقه الله للصبر، هذا ليس خاص بأهل الإشارة، ليس خاصًا بهم، يعني نسبته إليهم يمكن لأنه وقف عليه في كلامهم، مع أنه يوجد في كلام غيرهم. طالب: .........
نعم.
طالب:........
كل هذا لا أصل، لا قيمة له، هذا لا قيمة له،
طالب:........
هم يريدونه من الإعجاز العلمي، لكن ليس بصحيح.
طالب:........
ماذا فيه؟
طالب:........
النصر، هذا فهمه من فعل النبي –عليه الصلاة والسلام- فهمه من فعله –عليه الصلاة والسلام- أنه لزم الاستغفار، وأن هذا إيذان له بدنو أجله، هذا فهمه من حال النبي –عليه الصلاة والسلام- دلته القرائن على ذلك.
"الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أَيِ انْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٌّ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- (فَلَمَّا سَلَّمَا) أَيْ: فَوَّضَا أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَسْلَمَا وَقَالَ قَتَادَةُ".
نعم أصل الإسلام هو الاستسلام، هو الاستسلام.
"وَقَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَسْلَمَ الْآخَرُ ابْنَهُ. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قَالَ قَتَادَةُ: كَبَّهُ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَجَوَابُ {لَمَّا} مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيرَهُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} فَدَيْنَاهُ بِكَبْشٍ".
تلَّه يعني جرَّه بقوة، مسارعة والمبادرة بالتنفيذ من غير تراخٍ ولا كسل ولا تردد، وفرق كما يقول أهل العلم بمن أُمر بذبح ابنه فتله للجبين، شخص أُمر بذبح ابنه البكر، وليس له غيره، وحيده وبكره، وقد ولد له وله من العمر ستة وثمانون سنة بعد طول عمر ومع ذلك تله للجبين، وأمة بأكملها أمرت بذبح بقرة {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}[البقرة:71]، يعني بعد تردد ومناقشة ومحاورة ومداولة ولعل وعسى، وفي النهاية أمة كاملة ما جادت نفسها إلا بعد التي والُّتي بذبح بقرة، والله المستعان، فعلى المسلم لاسيما طالب العلم ألا يتراخي وألا يتردد في امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
" وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ {نَادَيْنَاهُ} وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا} [يوسف:15] أَيْ: أَوْحَيْنَا. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ}[الأنبياء:96] أَيِ: اقْتَرَبَ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ} [الزمر:71] أَيْ: قَالَ لَهُمْ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى |
أَيِ: انْتَحَى، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا
حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ بُطُونُكُمْ |
وَرَأَيْتُمْ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا |
وَقَلَبْتُمُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ لَنَا |
إِنَّ اللَّئِيمَ الْفَاجِرُ الْخِبُّ |
أَرَادَ قَلَبْتُمْ. قال النَّحَّاسُ: وَالْوَاوُ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُزَادَ. وَفِي الْخَبَرِ: إِنَّ الذَّبِيحَ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَرَادَ ذَبْحَهُ: يَا أَبَتِ اشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لَا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ ثِيَابَكَ لِئَلَّا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي؛ لِيَكُونَ الْمَوْتُ أَهْوَنَ عَلَيَّ، وَاقْذِفْنِي لِلْوَجْهِ؛ لِئَلَّا تَنْظُرَ إِلَى وَجْهِي فَتَرْحَمَنِي، وَلِئَلَّا أَنْظُرَ إِلَى الشَّفْرَةِ فَأَجْزَعَ، وَإِذَا أَتَيْتَ إِلَى أُمِّي فَأَقْرِئْهَا مِنِّي السَّلَامَ. فَلَمَّا جَرَّ إِبْرَاهِيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- السِّكِّينَ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمْ تَعْمَلِ السِّكِّينُ شَيْئًا، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ عَلَى جَبِينِهِ وَحَزَّ فِي قَفَاهُ فَلَمْ تَعْمَلِ السِّكِّينُ شَيْئًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ كَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فَنُودِيَ {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِكَبْشٍ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَمَّا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَتَهَيَّأَ لِلْعَمَلِ، هَذَا بِهَيْئَةِ الذَّبْحِ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ".
الذابح، ماذا عندكم؟
طالب:.....
تهيّئ للعمل، اعتقد الوجوب وتهيئ للعمل هذا بهيئة الذبح، وذا بصورة المذبوح، أعطيا محلًّا للذبح فداءً للذي يقابل المذبوح اسم مفعول يقابله اسم الفاعل الذبح، هذا الذي يظهر.
"أُعْطِيَا مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرُّ سِكِّينٍ. وَعَلَى هَذَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أَيْ: صَرَعَهُ، كَمَا تَقُولُ: كَبَّهُ لِوَجْهِه. قال الْهَرَوِيُّ: وَالتَّلُّ الدَّفْعُ وَالصَّرْعُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاء- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «وَتَرَكُوكَ لِمَتَلِّكَ» أَيْ: لِمَصْرَعِكَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَجَاءَ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ فَتَلَّهَا» أَيْ: أَنَاخَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيَتْ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَتُلَّتْ فِي يَدِي» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ: فَأُلْقِيَتْ فِي يَدِي، يُقَالُ: تَلَلْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَلْقَيْتَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: فَصُبَّتْ فِي يَدِي، وَالتَّلُّ الصَّبُّ، يُقَالُ: تَلَّ يَتُلُّ إِذَا صَبَّ، وَتَلَّ يَتِلُّ بِالْكَسْرِ إِذَا سَقَطَ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ، فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَدِهِ» يُرِيدُ جَعَلَهُ فِي يَدِهِ".
واللفظ يوحي بأن هذا الجعل وهذا الوضع فيه شيء من القوة، وليس بوضع عادي، من العدول عن اللفظ الخفيف إلى مثل هذا اللفظ الذي يوحي بشيء من القوة، والشدة، كأن النبي –عليه الصلاة والسلام- ودّ أن يؤثر الأشياخ على الصبي هذه أمنيته، ولذا جاء قوله: كبر كبر، فلما لم يرضَ بذلك دفعه إليه بقوة، هذا مشاهد، يعني إذا كان الإنسان يعطي مع شيء من التردد فإنه يضع الشيء بقوة لا يضعه برفق وسهولة، هذا الشيء مجرب ومشاهد، فإيثار الكبير هذا مرغوب في الشراب، وإن كان الحق للصغير لأنه على الجهة اليمنى، لكن النبي –عليه الصلاة والسلام- يرغب أن يؤثر الكبير، لذا قال: كبر كبر، أراد عبد الرحمن بن سعد فقال النبي –عليه الصلاة والسلام-: كبر كبر، مع أن القتيل أخوه.
"وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْوَلَدِ بِالْمَحَبَّةِ، فَلَمْ يَرْضَ حَبِيبُهُ مَحَبَّةً مُشْتَرَكَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ اذْبَحْ وَلَدَكَ فِي مَرْضَاتِي، فَشَمَّرَ وَأَخَذَ السِّكِّينَ وَأَضْجَعَ وَلَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْهُ مِنِّي فِي مَرْضَاتِكَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَبْحَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ تَرُدَّ قَلْبَكَ إِلَيْنَا، فَلَمَّا رَدَدْتَ قَلْبَكَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْنَا رَدَدْنَا وَلَدَكَ إِلَيْكَ، وَقَالَ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ: لَمَّا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ وَلَدِهِ فِي مَنَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْدَ هَذَا آلَ إِبْرَاهِيمَ لَا أَفْتِنُ مِنْهُمْ أَحَدًا أَبَدًا. فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ".
لأن هذه فرصة الشيطان، هذه فرصة بالنسبة للشيطان لا تعوض، يعني رجل يذبح ولده مع تمام المشقة، قد يكون بغير علم أمه فذهب ليخبر الأم، ما رأيك الأب ذهب بابنه ليذبحه؟ لعلها تعترض، أو ترده، أو تتصرف، ثم ذهب إلى الولد، ثم ذهب إلى الأب، ومع ذلك رجع مفلسًا.
"فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، ثُمَّ أَتَى أُمَّ الْغُلَامِ وَقَالَ: أَتَدْرِينَ أَيْنَ يَذْهَبُ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَذْهَبُ بِهِ لِيَذْبَحَهُ. قَالَتْ: كَلَّا هُوَ أَرْأَفُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَتْ: فَإِنْ كَانَ رَبُّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ.
ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِكَ لِيَذْبَحَكَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَلْيَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ. ثُمَّ جَاءَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَاءَكَ فِي مَنَامِكَ فَأَمَرَكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ. فَعَرَفَهُ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِأَمْرِ رَبِّي. فَلَمْ يُصِبِ الْمَلْعُونُ مِنْهُمْ شَيْئًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُخْرَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ مَضَى إِبْرَاهِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَرَادَ ذَبْحَهُ فِيهِ، فَقِيلَ: بِمَكَّةَ فِي الْمَقَامِ. وَقِيلَ: فِي الْمَنْحَرِ بِمِنًى عِنْدَ الْجِمَارِ الَّتِي رَمَى بِهَا إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ ذَبَحَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِأَصْلِ ثَبِيرٍ بِمِنًى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ذَبَحَهُ بِالشَّامِ وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مِيلَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ تَعْلِيقُ قَرْنِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ".
يعني هذه قرينة، وليست بقطعية، يعني لا يمنع من نقل رأس الكبش من الشام إلى مكة، هي ليست قطعية.
"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ يَبُسَ. أَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ بِالشَّامِ: لَعَلَّ الرَّأْسَ حُمِلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أَيِ النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ، يُقَالُ: أَبْلَاهُ اللَّهُ إِبْلَاءً وَبَلَاءً إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ بَلَاهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو |
فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ جَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الثَّانِي مِنْ بَلَاهُ يَبْلُوهُ إِذَا اخْتَبَرَهُ، وَلَا يُقَالُ مِنَ الِاخْتِبَارِ إِلَّا بَلَاهُ يَبْلُوهُ، وَلَا يُقَالُ مِنَ الِابْتِلَاءِ يَبْلُوهُ. وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الِاخْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هَذَا مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ فِي أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ، قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاءِ الْمَكْرُوهِ.
السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذِّبْحُ اسْمُ الْمَذْبُوحِ وَجَمْعُهُ ذُبُوحٌ، كَالطِّحْنِ اسْمُ الْمَطْحُونِ. وَالذَّبْحُ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ".
كما أن الطَحن بالفتح مصدر.
"(عَظِيمٍ) أَيْ: عَظِيمُ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُرِدْ عَظِيمَ الْجُثَّةِ. وَإِنَّمَا عَظُمَ قَدْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ، أَوْ لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: عَظِيمٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ لِلْكَبِيرِ وَلِلشَّرِيفِ. وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهُ هَاهُنَا لِلشَّرِيفِ، أَوِ الْمُتَقَبَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ هَابِيلُ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ يَرْعَى حَتَّى فَدَى اللَّهُ بِهِ إِسْمَاعِيلَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ كَبْشٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا".
الذي يظهر من صنيع المفسر أنه قبل تفسير هذه المواضع كان الراجح عنده عمره كله إسماعيل، ولما نظر في هذه الآيات وترجح عنده إسحاق جزم بأنه هو الصحيح وهو الراجح، ولذلك يرجع إلى ما كان ترجح عنده سابقًا ونشأ عليه طول حياته، ولذا تجدون العلماء وإن ترجح لهم بعض الأقوال في وقت من الأوقات إلا أنهم أحيانًا يعودون إلى ما ألفوه من الأقوال القديمة التي تلقوها في أول الطلب، ولا شك أن الذي يصادف القلب خاليًا من الأقوال هو الذي يتمكن، وإن ترجح فيما بعد غيره جده لا بد أن يذكره ويجري على فلتات لسانه كما هنا مرارًا يقول ذبح إسماعيل وفُدي إسماعيل ويكون الراجح إسحاق.
فالذي يجري أن المفسر جرى على عادة المسلمين، عموم المسلمين أن الذبيح إسماعيل، لكن لما نظر في هذه الآيات في ظرفها وأحوالها، وفسر هذا الموضع قال: إسحاق، ولذلك يعود إلى ما كان ترجح له أو ما كان القول المحرر عنده أنه إسماعيل، قد يكون القول الأول متلقى من باب التقليد وليس عن بحث، لكنه راسخ في النفس ولو كان تقليدًا، يذهب إلى إسحاق ثم يعود إلى إسماعيل، يذهب إلى إسحاق وهو الراجح ثم يرجع إلى إسماعيل في ثنايا كلامه الذي لا ينتبه له، وهذا مر بنا أكثر من مرة.
" وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ، فَذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ فِدَاءً عَنِ ابْنِه".
وهذا يحصل إذا كان الترجيح بمرجح لا يقوى على أن يكون القول المرجح مقطوع به، يعني تبقى المسألة عنده غير ثابتة، فتجده يرجح ويجزم بقول في موضع، ثم بعد ذلك يعتري هذا القول ما يعتريه في مواضع أخرى، أما إذا كان الترجيح مقطوعًا به بالأدلة الصحيحة الصريحة القاطعة، فهذا قد ينسيه القول الأول، أما إذا كان ترجيحه للقول الذي ذهب إليه أخيرًا يعني بالنسبة لأن المسألة راجح ومرجوح تحتاج إلى نسبة من المائة، تجد الراجح عنده ستين بالمائة، والمرجوح أربعين، يعني المرجوح ليس بباطل من كل وجه؛ لأنه قد يعرض لهذا المرجوح في يوم من الأيام ما يجعله راجحًا، ولهذه تغير اجتهاد العلماء من وقت لآخر، فتجده يفتي في هذه المسألة، ثم بعد ذلك يتبين له رجحان غير ما أفتى به، ثم تجده أيضًا يعود إلى القول الأول في حالٍ، أو ظرف معين، أو هذا حينما يكون الترجيح هو مجرد ميل، واسترواح بالمرجح الذي لا يقوى، ولا ينهض على أن يكون الراجح مقطوعًا به.
طالب:...... نقل عن ابن عباس والحسن......
نعم، ابن كثير يقول: النقل الصحيح عن ابن عباس أنه إسماعيل، كذلك ابن عمر وغيره كل من نُقل عنه أنه إسحاق نُقل عنه إسماعيل.
" وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. فَلَمَّا رَآهُ إِبْرَاهِيمُ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ وَأَعْتَقَ ابْنَهُ. وَقَالَ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: قَدْ قِيلَ إِنَّهُ فُدِيَ بِوَعْلٍ، وَالْوَعْلُ: التَّيْسُ الْجَبَلِيُّ. وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهُ فُدِيَ بِكَبْشٍ".
نقف على الأضحية الكلام فيها مترابط وطويل.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
طالب:...........
نعم؟
طالب: .........
لا ما يلزم، لأنه ما يلزم من الكثرة الرجحان، لا يلزم من الكثرة الرجحان.
طالب:............
لا هو نظريًّا ما ...
لكن في التطبيق قد ...