التعليق على تفسير القرطبي - سورة طه (08)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قوله تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} خِطَابُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ. {مِنْهَا} أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ قَالَ لِإِبْلِيس: { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} فَلَعَلَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ. { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ}ٌ تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَةِ ) أَيْ أَنْتَ عَدُوٌّ لِلْحَيَّةِ وَلِإِبْلِيسَ وَهُمَا عَدُوَّانِ لَكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {اهْبِطَا} لَيْسَ خِطَابًا لِآدَمَ وَحَوَّاءَ؛ لِأَنَّهُمَا مَا كَانَا مُتَعَادِيَيْنِ؛ وَتَضَمَّنَ هُبُوطُ آدَمَ هُبُوطَ حَوَّاءَ. { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَيْ رُشْدًا وَقَوْلًا حَقًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ).
هذا هو إبليس الشيطان الرجيم لآدم وذريته {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [سورة فاطر:6] فضمير الاثنين يعود إلى آدم وإبليس، وحواء تدخل تبعًا لآدم؛ لأنّ معصيتهما واحدة وهو المنهي وهي تبعٌ له، وأما بالنسبة لما جاء في الحية، وأنّ إبليس دخل الجنة بواسطتها، هذه من الأخبار التي تقدم ذكرها، وجلها مستمدٌ من الإسرائيليات، المقصود أنّ هذا هو الحاصل {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} يعني من الجنة، والخطاب لآدم وإبليس والعداوة بينهما معروفة.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} يَعْنِي الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ. { فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.
{اتَّبَعَ هُدَايَ} يعني الكتب الذي جاءت بها الرسل وسطر في الكتب المنزلة التي أنزلها الله - جلَّ وعلا -.
قَالَ ابْنُ عَبَّاس: ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلَّا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَتَلَا الْآيَةَ. وعنه مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أَيْ دِينِي، وَتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ. وَقِيلَ: عَمَّا أَنْزَلْتُ مِنَ الدَّلَائِلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الذِّكْرُ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ الذِّكْر.
لأنه بواسطته.
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ عَيْشًا ضَيِّقًا؛ يُقَالُ: مَنْزِلٌ ضَنْكٌ وَعَيْشٌ ضَنْكٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالمذكر والْمُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ؛ قَالَ عَنْتَرَةُ:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا |
| أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل |
وَقَالَ أَيْضًا :
إن المنية لو تمثل مثلت |
| مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل |
وَقُرِئَ ( ضَنْكَى ) عَلَى وَزْنِ فَعْلَى: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ وَالْقَنَاعَةَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَعَلَى قِسْمَتِهِ، فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ وَيَعِيشُ عَيْشًا رَافِغًا؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سورة النحل: 97]. وَالْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطْمَحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا، مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ الشُّحُّ، الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُعْرِضُ أَحَدٌ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إِلَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ، وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَكَانَ فِي عِيشَةٍ ضَنْكٍ.
نعم، يعني إذا جُعل الفقر بين العينين - نسأل الله السلامة والعافية -، ولو وُجدت الأموال، ولو وُجدت العروض، ولو وُجدت الأموال الطائلة فإنّ العيشة الضنك وشواهد الأحوال والوقائع تشهد بهذا، تجد الإنسان يجد الملايين ومع ذلك هو من أضيق الناس عيشًا ومن أشدهم شحًّا -نسأل الله السلامة والعافية-، يخشى من الفقر وعنده من الأموال الطائلة التي تكفيه وتكفي السابع من ولده، ومع ذلك يخشى هذا شبحٌ مخيفٌ أمامه، بينما من أقبل على الله، وأقبل على كتابه، وأقبل على دينه، وارتبط بالله، وتوثقت صلته بربه مثل هذا يعيش عيشةً مطمئنةً. { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سورة النحل : 97] ولو كان من أفقر الناس.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ :ضَنْكًا كَسْبًا حَرَامًا، وقال الْحَسَنُ: طَعَامُ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَذَابُ الْقَبْرِ؛ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ)؛ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يُضَيَّقُ عَلَى الْكَافِرِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَهُوَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ.
ولا مانع من أن تكون المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة؛ لأنّ اللفظ يشمل هذا كله.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قِيلَ: أَعْمَى فِي حَالٍ وَبَصِيرًا فِي حَالٍ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ (سُبْحَانَ) وَقِيلَ: أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: أَعْمَى عَنْ جِهَاتِ الْخَيْرِ، لَا يَهْتَدِي لِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: عَنِ الْحِيلَةِ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ، كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِيمَا لَا يَرَاهُ.
الذي يظهر أنّ العمى هنا ضد الإبصار، الأعمى غير مبصرٍ بدليل أنه قال: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} أي في الدنيا، فالذي يظهر أنّ العمى فقد البصر هذه عقوبةٌ -نسأل الله السلامة والعافية-. عمى عن آيات الله، فالجزاء من جنس العمل، كما أنّ من يأكل الربا يقوم يعني يُبعث كالذي يتخبطه الشيطان من المس مثل المجانين -نسأل الله السلامة والعافية-.
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} أَيْ بِأَيِّ ذَنْبٍ عَاقَبْتَنِي بِالْعَمَى. { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَكَأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عَنْ حُجَّتِي {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} أَيْ عَالِمًا بِحُجَّتِي؛ قال الْقُشَيْرِيّ: وَهُوَ بَعِيدٌ إِذْ مَا كَانَ لِلْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي الدُّنْيَا.
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أَيْ دَلَالَاتُنَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا. فَنَسِيتَهَا أَيْ تَرَكْتَهَا وَلَمْ تَنْظُرْ فِيهَا، وَأَعْرَضْتَ عَنْها. { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ تُتْرَكُ فِي الْعَذَابِ؛ يُرِيدُ جَهَنَّم.
يعني هكذا يُفسر ويُؤول النسيان هنا بالترك، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة:67] فنسيتها {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه:126] جزاء من جنس العمل، وأما النسيان الذي هو زهول وعزوب الأمر عن البال فلا يراد هنا، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [سورة مريم: 46].
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أَيْ وَكَمَا جَزَيْنَا مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَعَنِ النَّظَرِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ، وَالتَّفْكِيرِ فِيهَا، وَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْمَعْصِيَةِ. { وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا. { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ} أَيْ أَفْظَعُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَبْقَى أَيْ أَدْوَمُ وَأَثْبَتُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَنْقَضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ؛ أَيْ أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ خَبَرُ مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِذَا سَافَرُوا وَخَرَجُوا فِي التِّجَارَةِ طَلَبَ الْمَعِيشَةِ، فَيَرَوْنَ بِلَادَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ خَاوِيَةً؛ أَيْ أَفَلَا يَخَافُونَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَغَيْرُهُمَا: ( نَهْدِ لَهُمْ ) بِالنُّونِ وَهِيَ أَبْيَنُ. وَيَهْدِ بِالْيَاءِ مُشْكِلٌ لِأَجْلِ الْفَاعِلِ؛ فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: ( كَمْ ) الْفَاعِلُ.
يعني {كَمْ أَهْلَكْنَا} أهلكنا النون هذه نون الجمع تناسب (نَهْدِ) (أَفَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا).
وقال النَّحَّاس: وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ ( كَمِ ) اسْتِفْهَامٌ فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمُ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِنَا مَنْ أَهْلَكْنَا. وَحَقِيقَةُ يَهْدِ عَلَى الْهُدَى؛ فَالْفَاعِلُ هُوَ الْهُدَى تَقْدِيرُهُ أَفَلَمْ يَهْدِ الْهُدَى لَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أَهْلَكْنَا.
الهداية هنا المراد بها الدلالة، هو يستدل على قدرتنا عليهم بإهلاكنا من قبلهم من القرون؛ لذا جاء في آخر الآية {لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ} [سورة طه: 128] لكن ليسوا منهم فلم يهتدوا - نسأل الله السلامة والعافية -.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَاللِّزَامُ الْمُلَازَمَةُ؛ أَيْ لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا لَهُمْ. وَأُضْمِرَ اسْمُ كَان. { وَأَجَلٌ مُسَمًّى} قَالَ الزَّجَّاج: عَطْفٌ عَلَى كَلِمَةٍ. قَتَادَة: وَالْمُرَادُ الْقِيَامَةُ؛ وَقَالَهُ الْقُتَبِيُّ. وَقِيلَ تَأْخِيرُهُمْ إِلَى يَوْمِ بَدْر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، إِنَّهُ كَاهِنٌ، إِنَّهُ كَذَّابٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى لَا تَحْفِلْ بِهِمْ؛ فَإِنَّ لِعَذَابِهِمْ وَقْتًا مَضْرُوبًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّر. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لَيْسَ مَنْسُوخًا.
الأمر بالصبر عليهم يعني كغيرهم من الآيات التي تدل على مهادنة الكفار، عند جم من أهل العلم أنها منسوخةٌ بآية السيف، وبعضهم أنّ آية السيف نسخت أكثر من سبعين آية مهادنة الكفار والصبر عليهم.
وَقِيلَ: لَيْسَ مَنْسُوخًا؛ إِذْ لَمْ يُسْتَأْصَلِ الْكُفَّارُ بَعْدَ آيَةِ الْقِتَالِ، بَلْ بَقِيَ الْمُعْظَمُ مِنْهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صَلَاةِ الصُّبْحِ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صَلَاةِ الْعَصْرِ {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} الْعَتَمَةِ {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} الْمَغْرِبَ وَالظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي آخِرِ طَرَفِ النَّهَارِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلُ طَرَفِ النَّهَارِ الْآخِرِ؛ فَهِيَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ؛ وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: النَّهَارُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فَصَلَهُمَا الزَّوَالُ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ طَرَفَانِ؛ فَعِنْدَ الزَّوَالِ طَرَفَانِ؛ الْآخِرُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقِسْمِ الْآخِرِ، فَقَالَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ أَطْرَافًا عَلَى نَحْوِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا النَّظَرِ ابْنُ فَوْرَكٍ فِي الْمُشْكِلِ. وَقِيلَ: النَّهَارُ لِلْجِنْسِ فَلِكُلِّ يَوْمٍ طَرَفٌ، وَهُوَ إِلَى جَمْعٍ لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُل نَهَارٍ. وَ{آنَاءَ اللَّيْلِ} سَاعَاتُهُ، وَوَاحِدُ الْآنَاءِ إِنْيٌ وَإِنًى وَأَنًى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ؛ قَالَهُ الْحَسَن.
صلاة تطوع، صلاة التطوع قبل طلوع الشمس ما فيه تطوع ولا قبل غروبها، نعم، لا صلاة اللهم إلا أن يكون المراد بها انتظار الصلاة، أو يُحمل التسبيح على الذكر، على الذكر هو وقتٌ للذكر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بِفَتْحِ التَّاءِ؛ أَيْ لَعَلَّكَ تُثَابُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِمَا تَرْضَى بِهِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: ( تُرْضَى ) بِضَمِّ التَّاءِ؛ أَيْ لَعَلَّكَ تُعْطَى مَا يُرْضِيكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي ( الْحِجْرِ ) أَزْوَاجًا مَفْعُولٌ بِ ( مَتَّعْنَا ). وَ{زَهْرَةَ} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: {زَهْرَةَ} مَنْصُوبَةٌ بِمَعْنَى مَتَّعْنَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَهُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا زَهْرَةً؛ أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَهُوَ - جَعَلْنَا - أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا. وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ أَخَاكَ.
لأنّ الأصل أنّ الجار والمجرور قائمٌ مقام المفعول، فهو معمول الفعل، ومعمول الفعل الأصل فيه أنه منصوبٌ، فإذا جُر لفظه بحرف الجر أُتبع على المعنى، كما تقول: مررت به أخاك.
وَأَشَارَ الْفَرَّاءُ إِلَى نَصْبِهِ عَلَى الْحَالِ؛ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَتَّعْنَا قَالَ: كَمَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِهِ الْمِسْكِينَ، وَقَدَّرَهُ:
وهو إن كان مضافاً معرفة مثل المسكين معرفة، والحال لا يأتي معرفة، إنما يُؤول بنكرة.
وَقَدَّرَهُ : مَتَّعْنَاهُمْ بِهِ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ.
زهرة في الحياة ليكون نكرة، زهرةً في الحياة الدنيا وزينةً فيها؛ لئلا يقال: إنه مضاف، المضاف معرفة والحال لا يأتي معرفة، هو معرفٌ لفظاً ويُعتقد تنكيره، وحينئذٍ يُقطع عن الإضافة حكمًا.
وَقَدَّرَهُ: مَتَّعْنَاهُمْ بِهِ زَهْرَةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَةً فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِثْلَ {صُنْعَ اللَّهِ} [سورة النمل:88] وَ{وَعْدَ اللَّهِ} [سورة النساء: 122] وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَيُحْذَفَ التَّنْوِينُ لِسُكُونِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ مِنَ الْحَيَاةِ، كَمَا قُرِئَ: ( وَلَا اللَّيْلُ سَابِقٌ النَّهَارَ ) بِنَصْبِ النَّهَارِ بِسَابِقٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ التَّنْوِينِ؛ لِسُكُونِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ،
الأصل (سَابِقٌ النَّهَارَ) نصب النهار بسابق؛ لأنّ اسم الفاعل يعمل فعله، لكن يلزم من هذا تنوينه.
وَتَكُونُ الْحَيَاةُ مَخْفُوضَةً عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا فِي قَوْلِه: { إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا زَهْرَةً أَيْ فِي حَالِ زَهْرَتِهَا. وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ زَهْرَةٌ بَدَلًا مِنْ مَا عَلَى الْمَوْضِعِ فِي قَوْلِهِ: { إِلَى مَا مَتَّعْنَا}؛ لِأَنَّ لِنَفْتِنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ( مَتَّعْنَا ) وَ {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يَعْنِي زِينَتَهَا بِالنَّبَاتِ. وَالزَّهْرَةُ بِالْفَتْحِ فِي الزَّايِ وَالْهَاءِ نَوْرُ النَّبَاتِ. وَالزُّهَرَةُ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَاءِ النَّجْمُ. وَبَنُو زُهْرَةَ بِسُكُونِ الْهَاءِ.
بهذا يكون النجم زُّهَرَة، بفتح الهاء.
وَالزُّهَرَةُ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَاءِ النَّجْمُ. وَبَنُو زُهْرَةَ بِسُكُونِ الْهَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عُزَيْزٍ.
ابن عزيز السجستاني صاحب ((غريب القرآن)).
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ ( زَهَرَةَ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ مِثْلَ نَهْرٍ وَنَهَرٍ. وَيُقَالُ: سِرَاجٌ زَاهِرٌ أَيْ لَهُ بَرِيقٌ. وَزَهْرُ الْأَشْجَارِ مَا يَرُوقُ مِنْ أَلْوَانِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْهَرَ اللَّوْنِ أَيْ نَيِّرَ اللَّوْنِ، يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَنِيرٍ: زَاهِرٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَلْوَانِ. { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أَيْ لِنَبْتَلِيَهُمْ. وَقِيلَ: لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ وَضَلَالًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَجْعَلْ يَا مُحَمَّدُ لِزَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزْنًا، فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا. { وَلَا تَمُدَّنَّ} أَبْلَغُ مِنْ لَا تَنْظُرَنَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَمُدُّ بَصَرَهُ، إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ حِرْصٌ مُقْتَرِنٌ، وَالَّذِي يَنْظُرُ قَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَهُ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: نَزَلَ ضَيْفٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَرْسَلَنِي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: «قُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ: نَزَلَ بِنَا ضَيْفٌ وَلَمْ يُلْفَ عِنْدَنَا بَعْضُ الَّذِي يُصْلِحُهُ؛ فَبِعْنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّقِيقِ، أَوْ أَسْلِفْنِي إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ» فَقَالَ : لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ أَسْلَفَنِي أَوْ بَاعَنِي لَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ اذْهَبْ بِدِرْعِي إِلَيْهِ»، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ تَعْزِيَةً لَهُ عَنِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ مَدَنِيَّةٌ فِي آخِرِ عُمُرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ؛ وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ مُتَنَاسِقَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْمُؤَجَّلِ، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالِاحْتِقَارِ لِشَأْنِهِمْ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا؛ إِذْ ذَلِكَ مُنْصَرِمٌ عَنْهُمْ صَائِرٌ إِلَى خِزْيٍ.
لا يلزم أن ترتبط هذه الآية بسببٍ معينٍ، إنما فيها النهي عن أن ينظر الإنسان إلى أمور الدنيا كأنه خُلق وأُوجد من أجل هدفٍ يختلف عن هذا هذا تحقيق العبودية لله - جلّ وعلا -، أما نظره إلى الدنيا فهو تابعٌ من أجل تحقيق هذا الهدف {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [ سورة القصص:77] الذي يعينك على تحقيق هذا الهدف وليست الدنيا بهدفٍ ولا مقصد لا للنّبي- عليه الصلاة والسلام- ولا أصحابه، الهدف تحقيق ما خُلق من أجله وما اكتُسب من أمور الدنيا الذي أُمر بعدم نسيانه أو نُهي عن نسيانه إنما هو من أجل القوام، قوام العيش الذي لا يتأدى به الهدف الأصلي إلا به.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مَرَّ بِإِبِلِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَدْ عَبِسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وأبعارها مِنَ السِّمَنِ فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ مَضَى.
يقول المعلق: عَبِسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها، وذلك إنما يكون من الشحم.
فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ مَضَى لِقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلّ-: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ.
وكأنه أُعجب به، فإذا أُعجب الإنسان بشيءٍ من أمور الدنيا ينبغي أن يستحضر هذه الآية، وحينئذٍ تكون الدنيا عنده لا تزن جناح بعوضة.
لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ. ثُمَّ سَلَّاهُ فَقَالَ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَالدُّنْيَا تَفْنَى. وَقِيلَ: يَعْنِي بِهَذَا الرِّزْقِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْغَنَائِمِ.
رزق ربك يشمل ما يكون في الدنيا وفي الآخرة، وأما ما ذُكر من الغنائم فهي رزق النّبي -عليه الصلاة والسلام- بلا شك؛ لأنه جاء في الحديث: «وجُعل رزقي تحت ظل رمحي»، وهو أطيب المكاسب على الإطلاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَيَمْتَثِلَهَا مَعَهُمْ، وَيَصْطَبِرَ عَلَيْهَا وَيُلَازِمَهَا. وَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ؛ وَأَهْلُ بَيْتِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ.
دخول أهل بيته دخولٌ قطعي، دخول أمته لا سيما أتباعه مما يشمله اللفظ كالخلاف في الآل.
وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْهَبُ كُلَّ صَبَاحٍ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - فَيَقُولُ: «الصَّلَاةَ». وَيُرْوَى أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ السَّلَاطِينِ وَأَحْوَالِهِمْ بَادَرَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَدَخَلَهُ، وَهُوَ يَقْرَأُ {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: { وَأَبْقَى} ثُمَّ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ:
نعم، على الإنسان أن يقصر عينيه عن مثل هذه الأمور؛ لئلا يُفتتن بها، ويزدري نعمة الله عليه.
ثُمَّ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ: الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ؛ وَيُصَلِّي. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُوقِظُ أَهْلَ دَارِهِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَيُصَلِّي وَهُوَ يَتَمَثَّلُ بِالْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أَيْ لَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَإِيَّاهُم ، وَتَشْتَغِلَ عَنِ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ الرِّزْقِ، بَلْ نَحْنُ نَتَكَفَّلُ بِرِزْقِكَ وَإِيَّاهُمْ، فَكَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ.
جاء الأمر بالاستعانة بها مع الصبر.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [سورة الذاريات: 58:56]
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أَيِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى؛ يَعْنِي الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ. وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ التَّقْوَى عَاقِبَةٌ، وَلَكِنَّهَا مَذْمُومَةٌ فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يُرِيدُ كُفَّارَ مَكَّةَ؛ أَيْ لَوْلَا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. أَوْ بِآيَةٍ ظَاهِرَةٍ كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا. أَوْ هَلَّا يَأْتِينَا بِالْآيَاتِ الَّتِي نَقْتَرِحُهَا نَحْنُ كَمَا أَتَى الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِهِ .
قال الله تَعَالَى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}
هذه ردٌّ عليهم.
يُرِيدُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ آيَةٍ إِذْ أَخْبَرَ بِمَا فِيهَا.
أخبر بما فيها مع طول العهد مع بُعد العهد عنها، ولم يتصل له بها سندٌ - عليه الصلاة والسلام-، يعني ما تلقاها عن أحدٍ؛ فدلّ على استحضار هذه الأخبار من غير سندٍ أنه من قِبَل الله - جلَّ وعلا -، وهذه أعظم آية أن يخبر عن شيءٍ لم يسمعه ولم يره لا بد أن يخبره مخبرٌ ولا مخبر من البشر هنا، فلم يبق إلا الله - جلَّ وعلا -.
وَقُرِئَ ( الصُّحْفِ ) بِالتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمُ} الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِمَا وَجَدُوهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْبِشَارَةِ. وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ إِهْلَاكُنَا الْأُمَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ حَالَ أُولَئِكَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَحَفْصٌ: ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ ) بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْبَيِّنَةِ. والْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ فَرَدُّوهُ إِلَى الْمَعْنَى، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِم. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قَالَ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. قَالَ النَّحَّاسُ: إِذَا نَوَّنْتَ ( بَيِّنَةٍ ) وَرَفَعْتَ جَعَلْتَ مَا بَدَلًا مِنْهَا، وَإِذَا نَصَبْتَهَا فَعَلَى الْحَالِ؛ وَالْمَعْنَى أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مُبَيَّنًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أَيْ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُزُولِ الْقُرْآنِ لَقَالُوا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} أَيْ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}، وَقُرِئَ ( نُذَلَّ وَنُخْزَى ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَوْلُودِ قَالَ: «يَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ ثُمَّ تَلَا {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} الْآيَةَ، وَيَقُولُ الْمَعْتُوهُ: رَبِّ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَعْقِلُ بِهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا، وَيَقُولُ الْمَوْلُودُ : رَبِّ لَمْ أُدْرِكِ الْعَمَلَ، فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ فَيَقُولُ لَهُمْ رِدُوهَا وَادْخُلُوهَا».
يعني يُمتحنون بهذه النار، يمتحنون المولود إن كان من أولاد الكفار، هو مسألة خلافية، أما أطفال المسلمين فهم في الجنة.
قَالَ: فَيَرِدُهَا أَوْ يَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَعِيدًا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ، وَيُمْسِكُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ شَقِيًّا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ رُسُلِي لَوْ أَتَتْكُم.
يعني عصوا من دون واسطة مع أنهم في حال الشهود، فكيف لو كانوا في حال المغيب– الغيب-؟! كان هذا من باب أولى.
وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلُهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ ( التَّذْكِرَةِ)، وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ. {فَنَتَّبِعَ} نُصِبَ بِجَوَابِ التَّخْصِيصِ. { آيَاتِكَ} يُرِيدُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} أَيْ فِي الْعَذَابِ {وَنَخْزَى} فِي جَهَنَّمَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} فِي الدُّنْيَا بِالْعَذَابِ {وَنَخْزَى} فِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِهَا.
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ}؛ أَيْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مُنْتَظِرٌ دَوَائِرَ الزَّمَانِ وَلِمَنْ يَكُونُ النَّصْرُ {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} يُرِيدُ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْهُدَى، وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ بِالنَّصْرِ مَنِ اهْتَدَى إِلَى دِينِ الْحَقِّ. وَقِيلَ: فَسَتَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنِ اهْتَدَى إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَفِي هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ خَتَمَ بِهِ السُّورَةَ. وَقُرِئَ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). قَالَ أَبُو رَافِعٍ: حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وكله على الاستقبال {فَسَتَعْلَمُونَ }، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إلا أنّ السين للاستقبال القريب، وسوف للبعيد.
و(مَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عِنْدَ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِثْلَ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [سورة البقرة:220]. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَمَنْ هَاهُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى: فَسَتَعْلَمُونَ أَصْحَابَ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟ قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرَّاءُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} مَنْ لَمْ يَضِلَّ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى {وَمَنِ اهْتَدَى} مَنْ ضَلَّ ثُمَّ اهْتَدَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعَاصِمُ الْجَحْدَرِيُّ: ( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السُّوَّى ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ عَلَى فُعْلَى بِغَيْرِ هَمْزَةٍ.
سُّوَّى على فُعْلَى.
( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السُّوَّى ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ عَلَى فُعْلَى بِغَيْرِ هَمْزَةٍ؛ وَتَأْنِيثُ الصِّرَاطِ شَاذٌّ قَلِيلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة:6] فَجَاءَ مُذَكَّرًا فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، وَقَدْ رَدَّ هَذَا أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: إِنْ كَانَ مِنَ السُّوءِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: السُّوءَى وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّوَاءِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: السِّيَّا بِكَسْرِ السِّينِ وَالْأَصْلُ السِّوْيَا.
السِّوْيَا هذا أصله.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : وَقُرِئَ ( السَّوَاءُ ) بِمَعْنَى الْوَسَطِ وَالْعَدْلِ، أَوِ الْمُسْتَوِي.
{فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} في وسطها [سورة الصافات:55]- نسأل الله السلامة والعافية -.
قال النَّحَّاسُ: وَجَوَازُ قِرَاءَةِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَالْجَحْدَرِيِّ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ ( السُّوءَى ) وَالسَّاكِنُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِينٍ، فَكَأَنَّهُ قَلَبَ الْهَمْزَةَ ضَمَّةً، فَأَبْدَلَ مِنْهَا وَاوًا كَمَا يُبْدَلُ مِنْهَا أَلِفٌ إِذَا انْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا. تَمَّتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
اللهم صلِّ على محمدٍ.
"