بلوغ المرام - كتاب البيوع (21)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن ابن عمر وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لرجلٍ مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فتقدم في الحديث الذي قبله تحريم العود في الهبة، وأن العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود على قيئه، وعرفنا أن الجمهور على تحريم هذا الفعل الشنيع وهو العود في الهبة، والسياق يقتضي ذلك، وأن من أهل العلم من فهم منه أنه يجوز العود في الهبة، وأنه لا إثم فيه بدليل أن الكلب غير مكلف فعوده في قيئه غير محرم عليه، وكذلك العود في الهبة غير محرم؛ لأن التشبيه يقتضي المشاركة بين المشبه والمشبه به، لكن السياق صريح في ذمّ العود في الهبة، والتمثيل إنما هو للتنفير والتحذير، وقد نهينا من مشابهة الحيوانات فيما هو أقل من ذلك، نهينا من افتراش السبع، وانبساط الكلب، وتدبيح الحمار، وبروك البعير، والتفات الثعلب، والشموس كشموس الخيل، المقصود أننا نهينا عن مشابهة الحيوانات فيما هو دون ذلك، فكيف نشابههم فيما هو أشنع أعمالهم، وهو العود في القيء، فدل ذلك على تحريم العود في الهبة، يستثنى من ذلك ما يهبه الرجل لولده، يعود عليه بلا إشكال، وهذا مستثنى في الحديث الذي معنا، حديث ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال، عندك قالا؟
طالب: نعم.
غلط، القائل هو النبي -عليه الصلاة والسلام-، "قال: ((لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها))" يعني يعود في هبته، وإن كانت العطية في العرف عند أهل العلم هي ما يعطى دون مقابل في مرض الموت، في مرض الموت يسمى عطية، وفي حال الصحة يسمى هبة ويسمى هدية ((لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)) وذلكم أن المال مال الوالد ومال الولد كالشيء الواحد، فيجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده الذي تعب عليه ((أنت ومالك لأبيك)) فكيف فيما لم يتعب عليه ومصدره هو؟ يعني من باب أولى، كما أن الولد له شبهة في مال أبيه كما هو معلوم عند أهل العلم ومقرر، فاستثني الوالد فيما يعطي ولده، الحديث صحيح، مروي عند أحمد والأربعة وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومصحح عند الترمذي وابن حبان والحاكم، فالوالد له أن يعود فيما يهبه لولده، ويكون حينئذٍ مستثنى، مخصص للحديث السابق.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية، ويثيب عليها. رواه البخاري.
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: وهب رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة فأثابه عليها، فقال: ((رضيت؟)) قال: لا فزاده، قال: ((رضيت؟)) قال: لا، فزاده، فقال: ((رضيت؟)) قال: نعم. رواه أحمد وصححه ابن حبان.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية" قبول الهدية لا شك أنه من مكارم الأخلاق، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقبل الهدية، لكن ليس معنى هذا أن يستشرف الإنسان لكل يدٍ تمد ليرى ما فيها هل فيها شيء يهدى إليه، فالاستشراف ليس من شأن المسلم، ولا من شأن الكرام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أهدي إليه يقبل من غير استشراف بهذه الهدية، ومن غير أن تؤثر في نفسه الضعة، والنظر إلى أيدي الناس، ولذلكم كان -عليه الصلاة والسلام- يثيب عليها، فيثيب عليها أكثر منها، والهدية بنية الثواب هذه عند أهل العلم حكمها حكم البيع، وليست معنى الهدية التي تسل السخيمة، وتورث المحبة والمودة بين المتهادين، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هذه من عادته، ومن شمائله -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يرد الهدية؛ لأن مرد الهدية يورث في قلب المهدي شيئاً من الضيق؛ لأنه تذهب به الأوهام كل مذهب إذا ردت هديته بيده، ولذلكم لما جاء أبو جهيم بكسائه الذي أهداه للنبي -عليه الصلاة والسلام- قبله ما رده، ومع ذلكم هذا الكساء كان مخططاً ومعلماً فصلى فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- فشغله عن صلاته، نظر إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصلاة فلما سلم قال: ((أعطوا أبا جهيم هذا الكساء، وأتوني بأمبجانيته)) من أجل إيش؟ ألا ينكس قلبه، فيعرف أن الرد لسبب معين لا يرجع إلى ذاته، وإنما يرجع إلى المهدى، وكونه لا يليق به، فلو أهدي إلى الإنسان لا يليق به ولو كان ثميناً، أهدي إليه قلم ذهب مثلاً أو ساعة ذهب، فردها وقال: أعطني غيرها مما لا يحرم لبسه على الرجال، هذا لا شك أن فيه جبراً لخاطر المهدي، فرد الأعلى لا يقتضي رد الأدنى، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يثيب عليها أكثر منها، يثيب عليها ما هو خير منها كما جاء عند ابن أبي شيبة، وفي الحديث الذي يليه، وهذه معروفة عند أهل العلم بالهبة التي يرجى من ورائها الثواب في الدنيا لا في الآخرة، ولها أصل شرعي، الإنسان يقدم لمن هو أكبر منه قدراً، فيرجو ما عنده من ثواب، وهذه لا أجر فيها؛ لأن الأعمال بالنيات، فإذا قدم لأمير أو لكبير أو لوزير، أو لغني هدية، ويقصد من ذلك أن يثيبه عليها أعظم منها، وهذا معروف على مر التاريخ يهدى إلى الخلفاء والمهدي يتوقع أنهم يعطونه أكثر مما أعطاهم، والشعراء يهدون القصائد وأصحاب الأموال يهدون من أموالهم، كل هذا يرجون ثوابه، وعلى هذا الأجر على قدر النية.
"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: وهب رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة فأثابه عليها فقال: ((رضيت؟)) قال: لا" لأنه توقع أنها أعظم، يعني إذا أهدى إلى الخليفة قصيدة، ثم رد عليه بقصيدة ما استفاد، لكن إذا أهدى له القصيدة وأعطاه مبلغاً مجزياً من المال كالمعتاد هذا ما توقعه، وهو المرجو من مثل هذه الهدية "فأثابه عليها فقال: ((رضيت؟)) قال: لا، فزاده فقال: ((رضيت؟)) قال: لا، فزاده فقال: ((رضيت؟)) قال: نعم. رواه أحمد وصححه ابن حبان" وفي الترمذي بيّن في روايته أن العوض كان ست بكرات في مقابل ناقة، فأعطاه النبي -عليه الصلاة والسلام- أكثر مما أهداه، وهذا من كرمه -عليه الصلاة والسلام-، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فمثل هذا له أصل شرعي، لكن الأجر على قدر النية، ما يقر في قلب المهدي.
في هذا الحديث في بعض الروايات: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((قد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشيٍ أو ثقفي)) لأن هؤلاء الأعراب لا يرضون بالشيء اليسير إذا أعطوا، ولذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول له: ((رضيت؟)) يقول: لا، لا شك أن في هذا شيء من الجفاء، وهذا من شأن الأعراب لا من شأن أهل البلدان والمدن، ولذلك يذكر عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((لقد هممت –بعد هذه القصة- أن لا أقبل إلا من قرشيٍ أو ثقفي)) يعني ممن يقدره حق قدره -عليه الصلاة والسلام-، أما بعض الناس الذين يأتون من أجل الدنيا، وإن كانوا في الأصل مسلمين، لكن المسلمين يتفاوتون، منهم من جبل على الطمع، ومنهم من جبل على الكرم والسخاء سخاء النفس، المقصود أن مثل هذا هديته لا يثاب عليها.
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((العمرى لمن وهبت له)) متفق عليه.
ولمسلم: ((أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه)) وفي لفظ: إنما العمرى التي أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي ولك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها.
ولأبي داود والنسائي: ((لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((العمرى لمن وهبت له))".
العُمرى بضم العين المهملة هي العطية مدة العمر بأن يقول المعطي: هي لك مدة عمرك، يعني شبه عارية عند المعمر من أعمرها مدة عمره، ومراد المعمر المعطي أن تعود إليه بعد وفاته، والرقبى كذلك، لكن الرقبى معلقة بموت أحدهما، إن مات المعمر رجعت إلى ورثته، وإن مات المعمر عادت إلى المعمر، فسميت رقبى لأن كل واحد منهم يترقب موت صاحبه، والعمرى الهدية مدة العمر فقط، يقول: ((العمرى لمن وهبت له)) هذا إذا قال: هي عمرى أو لك مدة عمرك، ولم يصرح برجوعها إليه بعد وفاته، فإذا قال: العمرى هي لك مدة عمرك فالعمرى لمن وهبت له، وإن كان اللفظ يفهم منه أنه علق هذه العطية بمدة عمره، لكنه لم يصرح برجوعها إليه، فهي لمن وهبت له، ولمسلمٍ: ((أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه من بعده)).
هذا إذا لم يصرح بعودها إليه، وإن كان اللفظ يفهم منه إرادة الرجوع، لكنه لم يصرح بالرجوع، "وفي لفظ: إنما العمرى التي أجازها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي لك ولعقبك" يعني إذا قال: هي لك ولعقبك من غير تحديد فمعناها أنها غير مؤقتة، وأنه لا ينوي الرجوع فيها، لكن إذا قال: هي لك مدة عمرك يفهم من اللفظ أنها تعود بعد وفاته، وهي لمن أعمرها كالمطلقة، أما إذا قال: هي لك ما عشت فقط فإنها ترجع إلى صاحبها.
"ولأبي داود والنسائي: ((لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته))" وذلكم لأن العطية المؤقتة المحددة بوقت لا شك أن هذا التحديد فيه نوع من الرجوع في الهبة، وهو إن كان لم يهب هبةً مطلقة إلا أنه إذا قال: هي لك مدة عمرك فهي لمن أعمرها، وإذا قال: هي رقبى لك بمعنى أنها متعلقة برقبتي أو رقبتك مدة وجودي أو وجودك، وكل منهما يترقب موت الآخر فهذه أيضاً لمن أرقبها، لكن إذا قال له وصرح له بأنك إذا مت تعود إليّ فهو على ما اشترط، والمسلمون على شروطهم، كما قال: فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها، نعم.
وعن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: حملت على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: ((لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم)) الحديث متفق عليه.
في هذا الحديث يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: حملت على فرسٍ في سبيل الله" يعني في الجهاد، شخص يريد الجهاد وليس عنده ما يحمل عليه، ليس عنده ما يركب، ليس عنده فرس فأعطاه عمر فرس فحمله على فرس بمعنى أنه أعطاه إياه ليجاهد عليه فأضاعه صاحبه بعد أن رجع من الجهاد، أو قبل أن يذهب إلى الجهاد أضاعه صاحبه، وأهمله الذي حمل عليه، فرأى عمر -رضي الله عنه- زهده في هذا الفرس فظن أنه بائعه برخص، والقرينة تدل على ذلك، لو كان في نظره أثيراً غالياً لاهتم به واعتنى به، لكنه أضاعه وأهمله فظن عمر فالقرينة التي تدل على ذلك أنه بائعه برخص، فبدلاً من أن يكون بخمسمائة درهم ظن عمر أنه يبيعه ولو بمائة درهم، لكن عمر -رضي الله تعالى عنه- قبل أن يتصرف وقبل أن يشتري وقبل أن يكلم هذا الشخص سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم لا يقدم على تصرف يشك فيه إلا بعد أن يسأل أهل العلم "فسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك فقال: ((لا تبتعه -يعني لا تشتره- ولو أعطاكه بدرهم)) الحديثَ" منصوب على إرادة أكمل الحديث "متفق عليه" بين الشيخين، فرواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث يدل على أن من أخرج شيئاً لله لا يجوز له الرجوع فيه، فشخص أعطى زميله كتاب يستفيد منه ثم بعد ذلك هذا المهدى لم يستعمل الكتاب حق الاستعمال وأضاعه، وجعله في مكانٍ يدل على عدم اكتراثه به معرض للشمس، معرض للأمطار والسيول، وكل ما دخل زميله رأى هذا الكتاب في هذا المكان الذي هو مظنة لتلفه، فقال: بعنيه، فبدلاً من أن تكون قيمته مائة ريال يمكن يبيعه بعشرة، احتمال يبيعه برخص؛ لأنه لو كان أثيراً عنده معظماً لديه لجعله في مكانه اللائق به، واستفاد منه حق الإفادة، لكن لما كان ما يستفيد منه وضعه في هذا المكان الذي يدل على أنه زاهد فيه، لا شك أنه يبيعه برخص، مثل هذه الصورة التي معنا فمن ترك شيئاً لله، وبذله لله لا يجوز الرجوع فيه ولا بالشراء، فهذا الفرس لو أعطاه إياه بدرهم لا يجوز له أن يشتريه، لكن لو كان عمر -رضي الله تعالى عنه- أراد أن يشتري هذا الفرس ليعطيه آخر يجاهد عليه في سبيل الله، أو أراد المهدي للكتاب أن يخلص هذا الكتاب من الشخص الذي لا يستفيد منه، ويدفعه إلى آخر يستفيد منه يلام وإلا ما يلام؟ هل مثل هذا رجوع في الهبة فيما أخرجه لله؟ لا، هذه هبة ثانية، وإخراج لله مرة ثانية، فمثل هذا لا يدخل في المنع، وإن كان من أهل التحري من يرى أنه لا يبيعه ولو..، لا يبتاعه ولو تلف، ولو أدى ذلك إلى تلفه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم)) لكن من عرف المقاصد الشرعية وعمومات الشريعة يدل على أن المراد أنه لا تبتعه لتفيد منه بنفسك، أما إذا تدفعه إلى شخص يستفيد منه أكثر مما يستفيد منه المعطى الأول، وتشتريه بقيمته فإنك مثاب مرة أخرى على ثوابك الأول، وكذلك لو اشتراه بأكثر من قيمته، وجده يحرج عليه في السوق من يشتري الفرس؟ الفرس يستحق خمسمائة فسامه بعضهم بمائة، مائتين، ثلاثمائة، فقال: أنا أشتريه بستمائة، هل هذا من الرجوع والعود فيما وهبه لله -جل وعلا-؟ لأن العلة المنصوصة الرخص، وهذا الرخص الذي هو القدر بين قيمته الحقيقية، وبين ما يباع به من رخص هذا رجوع، يعني إذا كان يستحق خمسمائة فاشتراه بثلاثمائة نقول: إنه رجع من الفرس بمقدار مائتين، لكن إذا اشتراه بستمائة رجع في شيء؟ يعني مفهوم المخالفة في هذا الحديث أنه لو اشتراه بأكثر مما يستحق فإنه ليس برجوع.
"فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص" فمفهومه أنه إذا باعه بزيادة على ما يستحقه أنه لا يدخل في النص "فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: ((لا تبتعه -يعني لا تشتريه- وإن أعطاكه بدرهم)) الحديث، متفق عليه" وهذا يحصل كثير بين الإخوان، يهدي أحدهما للآخر هدية كتاب أو شيء يستفيد منه، ويستعين به على طلب العلم، ثم بعد ذلك يرى أنه ليس بحاجة له، ويستدل بذلك بقرائن، إما لإهماله أو لكونه عنده تبين أن عنده نسخة أخرى، قيل له: وراك ما تحضر درس البلوغ قال: والله ما عندي كتاب، ثم بعد ذلك أهداه كتاب فصار يحضر، ثم بعد ذلك وقف أو أهدي نسخة أخرى، أو أعطي من جهةٍ خيرية نسخة أخرى هي أفضل من هذه النسخة فاستغنى عن هذه النسخة، هذه النسخة لا بد أن يستفاد منها، ولا تعطل ولا تهمل، فتدفع إلى من يستفيد منها، وإذا لم يرض ببذلها فما الحكم؟ إن الكتاب أعطيه على سبيل الهدية أو على سبيل الوقف، إن كان على جهة الوقف فحينئذٍ تعطلت منافعه فينقل إلى جهة أخرى، وإن كان على سبيل الهدية يشار إليه أن يدفعه إلى جهةٍ أخرى، أو يبيعه إلى من يستفيد منه.
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تهادوا تحابوا)) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى بإسنادٍ حسن.
وعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة)) رواه البزار بإسنادٍ ضعيف.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تهادوا تحابوا))" هذه مفاعلة في الفعلين مقتضاها أن تكون بين طرفين، فمقتضى اللفظ في الأصل أن تكون الهدية من الطرفين، كل واحد منهما يهدي للآخر لتحصل النتيجة، يحصل، يترتب على ذلك جواب الطلب، الطلب: تهادوا، فإذا حصلت الهدية من واحد إلى آخر حصلت المحبة من المهدى إليه للمهدي، وإذا حصل العكس ترتب عليه ذلك أيضاً، فمقتضى الصيغة أن كل واحدٍ منهما يهدي للآخر، يهدي زيد لعمرو وعمرو لزيد، فيحصل النتيجة أن عمراً يحب زيداً، وزيد يحب عمراً، هذا الأصل في الصيغة، لكن لو لم يحصل من الطرفين، حصل من طرف واحد، يتم الامتثال وإلا ما يتم؟ قلنا: إن الأصل مهاداة، محابة في الله، يعني مفاعلة تكون بين طرفين، فإذا لم توجد إلا من طرفٍ واحد زيد أهدى لعمرو وعمرو لم يهدِ لزيد! يعني زيد بذل السبب في إيجاد الجواب، جواب الطلب الذي هو المحبة، وقصر عمر في المهاداة فلم يحصل منه ذلك وكل إنسانٍ مطالب بمثل هذا، الأمر يتجه إلى كل مسلم، وكل على حسب قدرته واستطاعته، فإذا فعله شخص امتثل الأمر، وأجر عليه وإذا تركه آخر فإنه لا علاقة له به يثبت الأجر لمن فعل، والأمر عند أهل العلم للاستحباب، الأمر للاستحباب.
هذه الهدية التي تقدم للمهدى لا شك أنها سبب في تقوية الصلة، وفي حصول المودة، ولن تدخلوا الجنة حتى تحابوا ((ألا أخبركم بشيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)) فهذه أقل الأحوال أن تبذل السلام على من لقيت سواءً عرفته أو لم تعرفه، فتكون محبوباً بين العباد، إذا زاد الأمر وبذلت مع السلام هدية لزيد من الناس فإن مودتك تقر في قلبه، والحديث الذي سيأتي أن هذه الهدية ولو كانت يسيرة فإنها تنفع، ولا يجوز ازدراؤها ولا احتقارها، فلو أهدى شخص لآخر مسواك فتقبل هذه الهدية، كما كان هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يقبل الهدية ويشكره عليها، ولا منّة له عليه سواء كان قريباً أو بعيداً، وواحد من الكبار من أهل العلم الكبار قابله شخص فأهدى إليه مسواك، لكنه مائل، وقد قدّم لهذه الهدية بمقدمات عدة مرات كل ما لقيه عندي لك هدية، لقيه من الغد عندي لك هدية، عندي لك هدية، كم مرة يقول له عندي لك هدية! فلما لقيه في يوم من الأيام أعطاه المسواك، فإذا به مائل، فجعل في نفسه وش هذه الهدية التي وعدني بها مراراً؟ وذكرني بها مراراً، عندي لك هدية، يا فلان عندي لك هدية، فلما قال في نفسه، زور في نفسه هذا الكلام عاد إلى نفسه مرةً أخرى فقال: على كل حال هو محسن، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ دعا له، ثم عاد إلى نفسه مرةً ثانية يقرعها ويلومها، الله -جل وعلا- أحسن علينا، وأنعم علينا بنعم عظيمة، ووهبنا المنح الجزيلة، ونعم لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك نعبده على وجهٍ قد يرضيه أحياناً، وقد لا يرضيه أحياناً، فعباداتنا مثل هذا المسواك فيها عوج، بعض المواقف تؤثر في الإنسان وهي يسيرة، لكن مع التفكر مع التأمل مع التدبر، وإلا إيش المانع أنه لما أعطاه المسواك الأعوج الذي وعده به مراراً أنه يرميه عليه! ويقول له: ما تستحي تقدم هذا المسواك المائل الأعوج بعد وعود، وبالفعل المهدى إليه شخص كبير ما هو بإنسان عادي يعني من أهل العلم الكبار، لكنه عادت عليه هذه الهدية بالنفع العظيم، يعني حاسب نفسه بالفعل، يقول: هذا محسن، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ جزاك الله خيراً انتهى الإشكال، ثم عاد إلى نفسه يلومها وأي إحسانٍ وأي منةٍ أعظم من مال الله في عنق المسلم من منة أن خلقه، وأوجده، ورزقه، وهداه للإسلام التي هي أعظم النعم، ثم بعد ذلك يعبد على طريقةٍ أحياناً لا ترضيه، فيها ميل، فيها عوج، فلو أن كل إنسانٍ حاسب نفسه بهذه الطريقة ما وقع منا كثير من التصرفات التي نتصرفها، نكبر تكبيرة الإحرام فلا نشعر إلا والإمام يسلم، ونقرأ القرآن ونبدأ بسورة ولا نشعر إلا ونحن في السورة التي بعد التي تليها، وشخص وهو من الأخيار قال: أجلس اليوم بعد صلاة الصبح، في المسجد بعد الصلاة إلى أن تنتشر الشمس وعزم على هذا، يقول: لما صليت الصبح يعني بعد ربع ساعة ما شعرت إلا وأنا في بيتي جالس مسوي القهوة ويتقهوى، شاب على الدلة ويتقهوى، هذا الذي عزم على الجلوس بعد صلاة الصبح، سببه إيش؟ القلوب شاردة، فلو أن الإنسان وقف مع نفسه وقفة محاسبة ما صارت الأعمال بهذه الطريقة تؤدى على وجه لا يرضي الله -جل وعلا-، القلوب لا شك أنها تحتاج إلى تعاهد، والنيات شرود، لا بد أن تتعاهد؛ ليكون العمل نافعاً عند الله -جل وعلا-، فبقدر ما تستحضر من صلاتك يكون ثوابك، فمن الناس من يخرج من صلاته بنصفها، يعني بنصف أجرها، ومنهم من يخرج منها بربع الأجر، ومنهم بالثلث، ومنهم بالعشر، ومنهم من يخرج بلا أجر؛ لأنه ما عقل من صلاته شيء وليس له من صلاته إلا ما عقل، وهذا حال كثير من الناس، يعني إذا وجد من هو ساجد يقول: آمين، يرفع صوته بها هذا قرأ الفاتحة وانتهى، ما بقي إلا آمين، وهو ساجد، هل هذا يعقل من صلاته شيء لا سيما في حال السجود الذي هو أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؟ والله المستعان.
لا شك أن الهدية تورث المحبة؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
"((تهادوا تحابوا)) رواه البخاري في الأدب المفرد" كتاب للإمام البخاري معروف ومشهور ومطبوع ومتداول، والوصف بكونه مفرد لئلا يتلبس بالأدب الموجود في الصحيح؛ لأن صحيح البخاري فيه كتاب الأدب، فقولهم: الأدب المفرد؛ ليخرج الأدب الموجود في صحيحه، وبينهما تشابه كبير بين الأدب المفرد والأدب الذي في صحيحه إلا أن شرطه في الأدب المفرد أخف بكثير من شرطه في الصحيح، فيدخل فيه بعض الأحاديث الحسنة التي تقصر عن شرطه، وبعض الأحاديث الضعيفة، وهذا الحديث قال الحافظ عنه: "وأبو يعلى بإسنادٍ حسن" إسناده حسن، وقد ينزل عن الحسن قليلاً إلا أنه له شواهد ترقيه إلى مرتبة الحسن، ومن شواهده: حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تهادوا)) يعني كل واحد يهدي للثاني ((تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة)) السخيمة: هي الحقد والبغضاء التي في القلوب، وهذه داء من أدواء القلوب تعالج بمثل هذا، تعالج بالإحسان إلى من في قلبه مثل هذا الحقد، فقد يكون بين الإنسان وبين أخيه وبين قريبه وبين جاره وبين زميله في العمل، بين صديقه يكون بينهم شيء سوء التفاهم يورث شيء من الحقد والبغضاء والتنافر، مثل هذا يزال بالهدية، ((تهادوا فإن الهدية تسل)) يعني تسحب السخيمة التي هي الحقد في القلوب "رواه البزار بإسنادٍ ضعيف" لكنه يشهد له الحديث الذي قبله فيرتقيان معاً إلى درجة الحسن لغيره، نعم.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) متفق عليه.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا نساء المسلمات))" ما نوع الإضافة هنا؟ نساء المسلمات؟ من إضافة؟ الموصوف إلى صفته، يا نساء المسلمات، وما دام المنادى مضاف فهو إيش؟ منصوب، ونساء مضاف والمسلمات مضاف إليه ((لا تحقرن)) يعني لا تزدري الجارة لجارتها الهدية اليسيرة ((لا تحقرن جارة لجارتها -الهدية اليسيرة ولو بلغت إلى- فرسن شاة)) الفرسن بالنسبة للبعير بمنزلة الحافر للفرس، وقد يستعار الفرسن للشاة كما هنا، وإلا فالأصل في إطلاقه أنه للبعير، لكنه ربما استعير للشاة كما قال أهل اللغة.
لو أن امرأة أهدت لجارتها هذا الفرسن ثم قبلته هذه الجارة، وأفادت منه إن كانت بحاجته أو دفعته إلى غيرها، وانتفع به من يدفع إليه، وهذا لا شك أنه يسير، لكن مع ذلك هو بدون مقابل، وفي هذا الحديث الحث على الهدية، ولو كانت يسيرة، بعض الناس يأنف ويستنكف أن يهدي الشيء اليسير، وجاء ذمّ من يقصد الشيء الرديء ويبقي الطيب له {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [(267) سورة البقرة] لكن في الحديث الحث على الهدية، وليس معنى هذا أن الإنسان يذبح البعير الذي هو زنته خمسمائة كيلو، ويدخره بكامله، ويهدي إلى جاره، هذا يهدي له خف، وهذا يهدي له خف، وهذا رئة وهذا مدري إيش!؟ لا، ليس معنى هذا إنما هو في حال القلة، يعني في حال كون المهدي قليل ذات اليد، فيهدي ما يناسبه، لا يتكلف أمر لا يطيقه، ويقبل من مثل الفقير يقبل منه الشيء اليسير، لكن لو أن شخصاً عرف بالغنى والثراء، وصار يوزع على الفقراء والمساكين مثل هذا، لا شك أن هذا داخل في قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [(267) سورة البقرة] يعني تأخذونه على شيءٍ من الإغماض والمجاملة، لكن إذا كان المهدي قليل ذات اليد فقير يقبل منه مثل هذا، وهذا فيه مبالغة وإلا فكثير من الناس لا يستعمل هذا الفرسن، في حديث التخلف عن صلاة الجماعة قال: ((والذي نفسي بيده لو أن أحدهم -يعني المتخلفين عن صلاة العشاء- لو أن أحدهم يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) يعني لو أنه إذا جاء لصلاة العشاء وجد شيئاً يأكله ما تأخر، لو وجد عرقاً سميناً، عظم عليه لحم، أو مرماتين حسنتين يقول العلماء -وهذا موجود في أكثر الشروح-: هو ما بين ظلفي الشاة، يعني وصفه بكونه حسن، وهو ما بين الظلفين مناسب وإلا غير مناسب؟ على كلامهم؟ هو لا شك أن هذا غير مناسب، لا سيما أن كثير من الناس ما يأكل الكوارع، وإن كان عاد إذا طبخ بطريقة معينة يوجد من يأكلها، فالظاهر أن هذا تصحيف، وأن المراد بالمرماتين الحسنتين ما بين ضلعي الشاة، هذا لا شك أنه حسن، يعني ما بين الأضلاع من اللحم جيد، ويمكن أن يوصف بالحسن، أما بين الظلفين وش يوصف بالحسن؟ فلا شك أن مثل هذا شيء يسير وقليل، ويقبل من بعض الناس دون بعض، وعلى هذا المهدى إليه لا يستنكف من مثل هذا الأمر، في قصة شخص أصيب بجائحة وخسر خسائر مرهقة، ملايين، فكلم واحد من التجار فقال له: صل العصر معي وأرضيك -إن شاء الله-، صلى معه العصر بعد أن شرح له القصة، ودعاه إلى تناول القهوة عنده، وبعد ذلك أحضر له كيساً مملوءاً ومربوطاً، يعني كيس كبير جداً، ومربوط مملوء بالدراهم، فقال له: استعن به على قضاء دينك، هذا توقع أنه يكفي للدين، فلما ذهب إلى بيته وجده من فئة الريال، وعدها فإذا هي ثلاثة آلاف، هو توقع المسألة يعني بيكفيه -إن شاء الله-، يعني مثل هذا التصرف ثلاثة آلاف ريال لو مباشرة أطلع ثلاثة آلاف وأعطاه إياه مقبولة، لكن صل معي العصر وأرضيك ويجيب هالكيس الكبير المربوط من فوق، يعني تصرف فيه ما فيه، حقيقة منتقد، وإن كان المبلغ لا بأس يعني، لكن لو هو من الأصل أخبره بالخبر وقال: يا ولدي هذه ثلاثة آلاف وانتهى الإشكال، فعلام يدل هذا التصرف؟ هذا الشخص المدين ذهب يتحدث به في كل مكان، هل هو مخالف للحديث: ((لا تحقرن جارة لجارتها))؟ هذا الحديث ما هو مرده إلى أن المبلغ ثلاثة آلاف يسيرة، أو ما تصلح أن تدفع من مثل هذا الرجل، لكن التصرف، ولا شك أن مثل هذا التصرف والنتيجة هذه ينبئ وينم عن شيء في النفس، وقد يتأول لهذا الشخص أنه وضع في هذا الكيس مبلغ كبير جداً ورآه أحد في البيت وغير الفئات من خمسمائة أو من مائة إلى ريالات ممكن هذا، هذا محتمل، لكن يبقى أن مثل هذا التصرف من فئة ريال وتربط بكيس، ومبلغ طيب، والله المستعان.
فهل مثل الحديث عن هذا الشخص يدخل في الحديث الذي معنا ((لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة))؟ نقول: ليس مرد الكلام في هذا الرجل أن المبلغ ثلاثة آلاف، إنما الطريقة التي قدّم بها هذا المبلغ تقتضي الكلام فيه، ولا شك أن المسألة يعتريها ما يعتريها من الشكوك والظنون والأوهام والنفس تسرح في مثل هذا كل مسرح، لكن الكلام فيه وتعيينه باسمه لا شك أنها غيبة محرمة، لكن يطرح مثل هذا التصرف في مثل هذا الموضع، فهل هذا من احتقار الهدية أو العطية؟ إنما التصرف الذي احتف بهذه الهدية يجر إلى مثل هذا الكلام، لو أن طالب علم طلب من آخر قال: أنا أريد أحضر الدروس، وليس عندي كتب فذهب إلى المستعمل واشترى له كتب، كتب ممزقة، كتب تحتاج إلى ترميم، تحتاج إلى تجليد فهل يعاب بهذا؟ هنا لا يعاب، لا سيما إذا كان ليس عنده من المال ما يشتري به شيء جديد أو يشق عليه شراء الجديد ولا شك أن هذا من التعاون، لكن أحياناً يكون الترميم والتجليد أكثر من قيمة الكتاب، فلو أعطاه القيمة، وقال: اشتر به الكتب، استعن بها على شراء بعض الكتب، أما أن يشتري له كتاب بعشرة ويهديه إليه ويحتاج إلى تجليد بثلاثين، وهو يباع جديد نظيف بمثل هذه القيمة، لا شك أن مثل هذا يعدل عنه، نعم.
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من وهب هبةً فهو أحقّ بها ما لم يثب عليها)) رواه الحاكم وصححه والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من وهب هبةً فهو أحقّ بها))" يعني له أن يعود فيها ما لم يثب عليها، يعني ما لم يدفع له مقابل، وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه مخالف لما تقدم العائد في هبته كالكلب، يقول: من وهب هبة فهو أحق بها، يعني أنه له أن يعود فيها، ما لم يثب عليها، يعني ما لم يعط عوضاً عنها، وهذا إذا حمل على نيّة الهبة التي يقصد منها الثواب فقد يتجه، لكنه لا يصح رفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو محفوظ من قول ابن عمر من قوله موقوفاً عليه، وعلى هذا فرفعه يقابل المحفوظ، ما الذي يقابل المحفوظ؟ الشاذ، فيكون رفعه شاذ، وعلى هذا فلا يصح رفعه، وإن ثبت عن ابن عمر قوله اجتهاداً منه -رضي الله عنه وأرضاه-، ويحمل على الهبة بنية الثواب، جاء شخص إلى أمير وأهداه هدية، وأخذها وقبلها ووضعها في المجلس، ثم انصرف، ما أعطاه شيء؟ على كلام ابن عمر هذا المهدي له أن يأخذها ويخرج بها؛ لأنه جاء بنية الثواب، وما أعطي شيء، لكن لا شك أن حديث العود في الهبة يشمل مثل هذه الصورة، فلا يجوز الرجوع فيها، وما دام أخرجها على سبيل الهبة والعائد في هبته كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كالكلب يعود في قيئه)).
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"هذا المعروف عند غلاة المتصوفة أنهم يجعلون المريدين بهذه الكيفية، كالميت بين يدي الغاسل، وأما أهل العلم أهل الكتاب والسنة، أهل العلم والعمل أهل الاقتداء فإنهم ينهون عن الغلو، ويأمرون بالأدب، ويربون عليه، لكنهم يحذرون من الغلو، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) ومثل هذا لا شك أنه غلو.
أنت إذا كانت هذه بلدك وموطنك ولك فيها بيت ولك فيها أهل فهي بلدك لا يجوز أن تترخص فيها؛ لأنك مقيم ولست بمسافر، ولو كانت إقامتك يوم أو أقل من يوم أو أكثر دون مدة القصر، فأنت مقيم، وإذا سافرت إلى جدة فأنت مسافر، فإذا أقمت الإقامة المعتبرة عند الجمهور أربعة أيام فحكمك حكم المقيم وإلا فلك أن تجمع وتقصر هناك لأنك مسافر.
نعم؛ لأنها ما ثبتت إلى الآن حتى يقبلها ويقبضها، لك أن تأخذها، وإن دفعتها إلى غيره فهو أولى.
نعم أنت أبوها وزوجتك أمها من الرضاعة، وتحرم عليك حينئذٍ، وتحرم على أولادك.
إذا كان الوقت غير وقت نهي فلا مانع من ذلك، وقد أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الذين صليا في رحالهما أنهما إذا أتيا المسجد يصلون مع الناس فهي لهم نافلة، وفريضتك الأولى التي صليتها بمفردك، وأما الثانية فهي نافلة إذا كان في وقت التطوع.
المظلوم له أن يدعو على ظالمه بقدر مظلمته، ومن عرف بفسقه لا شك أنه يحذر من العمل الذي يرتكبه، ولا داعي لكتمه، اللهم إلا إذا خيف من الاغترار به كالمبتدع الذي في السؤال الذي يليه، فإذا خيف من تأثيره على الناس فإنه حينئذٍ يحذر منه باسمه، أما إذا لم يخف منه ضرر متعدي على غيره فلا داعي لذكر اسمه؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام.
وهل تجوز غيبة صغار السن؟
لا تجوز غيبة صغار السن؛ لأنهم مسلمون.
لا، إذا أوقفها خرجت من يده، لا يجوز له الرجوع إليها، ولا يجوز له الرجوع فيها، يستفيد منها كغيره، لكن لا يمنع أن يجعلها أو يضعها في مسجد ويستفاد منها وهي باقية في ملكه، فإذا رجع إلى بلده يعيدها إلى بيته، أما أن يوقفها فلا يعود فيها.
أصله (البدر التمام) للقاضي حسين بن محمد المغربي جيد، وفيه فضول حذفت في المختصر الذي هو سبل السلام، وهناك أيضاً شرح للشيخ عبد الله البسام طيب اسمه (توضيح الأحكام).
ليس له القبول؛ لأن هذه من هدايا العمال وهي غلول، ما دام يأخذ أجراً على التعليم.
على كل حال الأصل أن يبيّن، ولا يوهم أنه إنما ذبحها إكراماً لضيفه، وهي في الحقيقة عقيقة، كما أنه لا يوهم أنها إكرام للضيف وهي في الحقيقة من الوقف، ونظّرنا ذلك بالحديث: ((ومن كانت هجرته لدينا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) وقلنا: إن هذا سيق مساق الذم؛ لأن هذا المهاجر من أجل الدنيا أو من أجل الزوجة، وإن كان في الأصل أن الهجرة لمثل هذا مباحة ما فيها إشكال، لكن لما أوهم الناس بفعله سواء كان ذلك بلسان الحال أو بلسان المقال أنه إنما هاجر لله ورسوله جاء الذم من هذه الحيثية، أما كونها تجزئ فيرجى أن تجزئ -إن شاء الله تعالى-.
اسم إنّ مؤخر.
لا يجوز له ذلك، اللهم إلا إذا قرر له أجرة المثل بسبب عمله، ورئي أنها أجرة المثل التي يستحقها خلال عمله تساوي قيمة البيت.
إذا زوجت من رأس المال في حياة أبيك ولا يوجد من إخوانك من يحتاج الزواج ويرفض الوالد أن يزوجه فلا ترد عليهم شيئاً؛ لأن الزواج حاجة أصلية يدفعه الأب لولده، لكن إن كان زواجك من رأس المال بعد وفاة أبيك فهو من إرثك تحاسب عليه إلا إذا رضي بقية الورثة أن يكون من بينهم، ومن رأس المال فالأمر لا يعدوهم.
لا يجوز أن يظن بأهل العلم مثل هذا الكلام، الصنعاني اختصر البدر التمام، وبيّنه، وكثيراً ما يقول: قال الشارح، وفي الشرح الذي هو أصل الكتاب، الاختصار لا يسمى سرقة، وإنما هو طريقة من طرق التأليف والتصنيف عند أهل العلم، ونوصي بها أكثر طلاب العلم الذين يقرؤون في الكتب المطولة ولا يستوعبون، نوصيهم باختصارها.
جلسة الاستراحة هذه يسميها الفقهاء جلسة استراحة، وهي جلسة خفيفة بين الركعة الأولى والثانية وبين الثالثة والرابعة، وقد ثبتت من فعله -عليه الصلاة والسلام- في حديث مالك ابن الحويرث من فعله -عليه الصلاة والسلام- في البخاري، ووردت أيضاً في بعض طرق حديث المسيء، وهي أيضاً في البخاري، في البخاري في كتاب الاستئذان، ووردت أيضاً في بعض طرق حديث أبي حميد، كما ذكر ذلك ابن القيم وابن حجر، المقصود أنها ثابتة من فعله -عليه الصلاة والسلام- ومن قوله، فتفعل مطلقاً، أما ما يقوله بعض أهل العلم أنها لا تفعل إلا عند الحاجة إليها، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما فعلها حتى كبر، وبدّن يعني ثقل بدنه فالذي عندي أنها لا يحتاج إليها مع كبر السن، إنما يحتاج إلى تركها، الحاجة تدعو إلى تركها لا إلى فعلها، كبير السن إذا كان ساجداً هل الأسهل عليه أن يقوم مباشرة أو يجلس يثني ركبته ثم يقوم؟ أيهما أسهل عليه؟ من حيث المشاهدة، لا شك أنه يقوم مباشرة إلى الركعة التي تليها أسهل عليه من أن يثني رجليه ويجلس ثم يقوم، فقولهم: إن الحاجة تدعو إليها، لا أنا أقول: الحاجة قد تدعو إلى تركها لا إلى فعلها، وعلى هذا هي مشروعة مطلقاً للإمام والمأموم والمنفرد وللمأموم سواء فعلها الإمام أو لم يفعلها، وليست هذه من المخالفة والاختلاف على الإمام كما لو ترك الإمام رفع يديه مع الركوع أو مع القيام أو مع تكبيرة الإحرام كما لو تركها لا يوافق على ذلك.
النية هذه لا يحاسب عليها حديث النفس ما لم يتكلم أو يعمل. بأن يقول: أوقفت هذه الأرض مسجد، أو هذه الأرض مقبرة، أو يسور الأرض بالفعل يسورها، ويأذن للناس بالدفن فيها، ولو لم يصرح بأنها مقبرة، أو يبني الأرض على هيئة مسجد، ويأذن للناس بالصلاة فيه تثبت الوقفية بمثل هذا، بالقول والفعل، أما بمجرد النية فلا.
على كل حال البيت والمسكن والأكل والشرب والزواج أيضاً هذه حاجات ضرورية أصلية، يؤخذ من مثل هذا الوقف، وما عدا ذلك من الكماليات فلا، والكماليات في وقت قد تكون ضرورية في وقتٍ آخر، بمعنى أنها إذا صارت من عادة الناس واستمروها، ولم يستطيعوا العيش بدونها فإنها حينئذٍ تكون أصلية فمثلاً قبل ثلاثين سنة هل يمكن أن يعطى الإنسان زكاة من أجل أن يشتري مكيف أو ثلاجة؟ ما يعطى، لكن الآن؟ هل يستطيع أن ينام بدون مكيف؟ أو يشرب ماء بدون ثلاجة؟ صارت حاجة أصلية ضرورية، بعض الفقراء الذين يعيشون على الزكاة تجد معه جوال ومع زوجته جوال، ومع ولده جوال، ومع بنته جوال، مثل هذا عليه أن يتقي الله -جل وعلا-، فلا يأخذ أموال المسلمين لمثل هذه الأمور؛ لأنه يمكن أن يعيش بدون جوال، نعم يلحقه مشقة، لكن ليس من الحاجات الأصلية التي قد تدفع من أجلها الزكاة.
أولاً: بالنسبة للزكاة لا يجوز أن تصرف في مثل هذه الأمور، ولا تصرف إلا في مصارفها الثمانية التي بيّنت في كتاب الله -جل وعلا-، أما بالنسبة للصدقة في مثل هذه الأمور يعني شخص يتبرع بها سواء كانت ماء عند الحاجة إليه، أو طعام خفيف أو كتب وأشرطة ومطويات وكذا لا مانع من الإفادة منها، ولو كان غير أهلٍ للصدقة.
الهادوية فرقة طائفة من الزيدية هم في وقت الصنعاني غالب سكان اليمن، فيعتني الصنعاني -رحمه الله- بذكر أقوالهم ليروج الكتاب وإلا هم طائفة مبتدعة، فرقة من الزيدية لا يعتد بقولهم.
على كل حال هذه أمور متفاوتة، فمن الآبار ما يحتاج إلى أربعين ذراعاً، ومنهما ما يحتاج إلى خمسين، ومنها ما يحتاج إلى خمسةٍ وعشرين بحسب ما يتوقع من كثرة الواردين عليها وقلتهم.
نقول: التشبيه لا يلزم فيه المطابقة من كل وجه، فإذا وجدت المطابقة من وجهٍ صح التشبيه، ولذا جاء تشبيه الوحي وهو محمود بصلصلة الجرس وهو مذموم، فصلصلة الجرس لها أكثر من وصف، ولها أكثر من جهة، جهة فيها تدارك الصوت وتتابعه، وفيها أيضاً جهة الإطراب التي من أجلها ذمّ التشبيه في التدارك لا في الإطراب، وحينئذٍ يتم التشبيه، تشبيه رؤية الباري -جل وعلا- برؤية القمر ليلة البدر ليس من كل وجه، وإنما تشبيه رؤية برؤية لا مرئي بمرئي وهكذا، فإذا شبهنا العائد في هبته بالكلب انطبق، ووجه الشبه بينهما أن هذا يعود في هبته وهذا يعود في قيئه، فصح التشبيه من هذه الحيثية.
المريض والمسافر ما زال في دائرة التكليف، ما زال مكلفاً؛ لأن العقل موجود وثابت، أما من أصيب بخرفٍ أو جنون أو غيبوبة فإنه ارتفع عنه قلم التكليف، فإذا وجد منهم بعض التصرفات التي هي من آثار عمله السابق مثلما قلنا في درس العصر، مثلما قلنا سابقاً: إنه إن كانت هذه التصرفات من آثارٍ عملٍ له سابق فهو يثاب عليها، كمن يقرأ في حال الغيبوبة، ومن يذكر الله ومن يؤذن لا شك أنه يؤجر عليه، لا سيما على القول بأن الصبي يثاب على الحسنات، ولا يعاقب على السيئات.