التعليق على تفسير القرطبي - سورة النجم (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}. قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أَيْ لَمْ يَكْذِبْ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ حَتَّى رَأَى رَبَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ اللَّهُ تِلْكَ رُؤْيَةً. وَقِيلَ: كَانَتْ رُؤْيَةً حَقِيقَةً بِالْبَصَرِ. وَالْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنه رَآهُ بِقَلْبِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي قَوْلُ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أنه قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أنه قَالَ: أَمَّا نَحْنُ بَنِي هَاشِمٍ فَنَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي "الْأَنْعَامِ" عِنْدَ قَوْلِه:ِ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ قَرَأَ : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَقَوْلٌ ثَالِثٌ أنه رَأَى جَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ نَهَرًا وَرَأَيْتُ وَرَاءَ النَّهَرِ حِجَابًا وَرَأَيْتُ وَرَاءَ الْحِجَابِ نُورًا لَمْ أَرَ غَيْرَ ذَلِكَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُا» لْمَعْنَى غَلَبَنِي مِنَ النُّورِ وَبَهَرَنِي مِنْهُ مَا مَنَعَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ . وَدَلَّ عَلَى هَذَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى «رَأَيْتُ نُورًا»."
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فهذه مسألة الرؤية رؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- لربه ليلة الإسراء هذه مسألة خلافية والخلاف فيها قديم كان بين الصحابة فمنهم من يثبت الرؤية وجاء ما يدل على ذلك ومنهم من ينفي. والذي ينفي لا ينفى الرؤيا من حيث الأصل لأنها ثابتة لكن هل كانت الرؤية بالبصر أو بالفؤاد { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وجاء ما يدل على أنه رآه بقلبه وهذا هو المرجح عند أهل العلم أنه لم يره ببصره (لا تدركه الأبصار) يعنى في هذه الدنيا. وجاء في الحديث «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» يعنى كيف أراه؟ استبعاد. وفي حديث صحيح «حجابه النور» وفى رواية «النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» فالرؤية في الدنيا متعذرة «ولن يرى أحدٌ منكم ربه حتى يموت» يعنى في الجنة. ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة هذه ثبتت بها الأدلة الصحيحة المتواترة القطعية لكن في الدنيا لا يراه أحد. لم يره محمد، ولا غيره لكن رآه بفؤاده: هذا لا تعارض بينه وبين ما قرره أهل العلم، وإن كان بعضه يرى أن الرؤية حقيقية بالبصر، وأنه من خواصه -عليه الصلاة والسلام- وأنه جعل فيه من القوة ما يحتمل الثبوت أمام هذه الأنوار التي تحرق. الرب -جل وعلا- لما تجلي للجبل جعله دكًا وموسى -عليه السلام- لما طلب الرؤية من الله -جل وعلا- قال الله له -جل وعلا-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَأنه فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143].
النبي عليه الصلاة والسلام لم يصعق وصعق موسى يدل على أن محمد عليه الصلاة والسلام فيه من القوة والتحمل لمثل هذه الأمور أشد مما كان لموسى مع أنه جاء في الحديث الصحيح أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «أنا أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يقول: «فإذا أنا بموسى آخِذٌ بقائمةٍ من قوائِمِ العرشِ ، فلا أدري أفاق قَبلي أم جُزِي بصَعقَةِ الطُّورِ» النفخة التي فيها يصعق الناس كله.: هذا الحديث في أحد الاحتمالين الذين أوردهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصعق الطور وإنما جوزي بصعقة الطور، وعلى كل حال لا خلاف في أنه -عليه الصلاة والسلام- أفضل الخلق وأشرف الخلق وأكرمهم على الله لكن قد يكون لغيره من الصفات ما لا يجعله مقدمًا عليه وان لم يكن في هذه الصفة أم يزمنه كما هنا وكما فيه أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم -عليه السلام- قبل محمد ولا يعني هذا أنه أفضل من محمد لأن كون الإنسان فائق بصفة لا يعني أنه فائق من جميع الوجوه. فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لم ير ربه بعين رأسه وإنما رآه بفؤاده وأفصح عن ذلك بقوله: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» استبعاد أن يراه وحجابه النور {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]. يعني في الدنيا ولا تحيط به. على كل حال هذه مسألة خلافية وهي مما يسوغ فيها الخلاف لان الأدلة محتملة لكن المرجح عند أهل السنة والجماعة أنه لم يره في الدنيا.
"وَقَالَ ابْن مَسْعُودٍ: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَهْلِ الشَّام" مَا كَذَّبَ" بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مَا كَذَّبَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ مَا رَأَى بِعَيْنِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَلْ صَدَّقَهُ."
القلب ثبت وارتبط الجأش ورأى بالقلب حقيقة ما في الأمر كالبصر ما زاغ وكذلك القلب ما كذب. وهذا يدل على ما جبل عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- من قوة لتحمل هذه الأمور.
"فَ "مَا" مَفْعُولُهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ مُقَدَّرٍ؛ لِأنه يَتَعَدَّى مُشَدَّدًا بِغَيْرِ حَرْفٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مُخَفَّفًا؛ أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ فِيمَا رَأَى."
يعني في رؤيته إذا قلنا إنه يجوز سبق ما مع ما بعدها رأى الفعل رأى فتكون المصدر الرؤية.
"فَأَسْقَطَ حَرْفَ الصِّفَةِ. قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كُنْتِ صَادِقَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي..."
وحرف الصفة المراد به حرف الجر.
" لَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ أَيْ فِي الَّذِي حَدَّثْتِنِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي؛ أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَأَى."
ويكون العائد محذوفًا على ما تقدم، والأصل الذي رآه.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَفَتَمْرُونَهُ " بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ عَلَى مَعْنَى أَفَتَجْحَدُونَهُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛ لِأنه قَالَ: لَمْ يُمَارُوهُ وَإِنَّمَا جَحَدُوهُ . يُقَالُ: مَرَاهُ حَقَّهُ أَيْ جَحَدَهُ وَمَرَيْتُهُ أَنَا؛ قَالَ الشَّاعِرُ : لَئِنْ هَجَرْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ لَقَدْ مَرَيْتَ أَخًا مَا كَانَ يَمْرِيكَا أَيْ جَحَدْتَهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ مَرَاهُ عَنْ حَقِّهِ وَعَلَى حَقِّهِ إِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ وَدَفَعَهُ عَنْهُ. قَالَ: وَمِثْلُ "عَلَى" بِمَعْنَى "عَنْ" قَوْلُ بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ أَيْ رَضِيَ عَنْكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَمُجَاهِد" أَفَتُمْرُونَهُ" بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَمْرَيْتُ؛ أَيْ تُرِيبُونَهُ وَتُشَكِّكُونَهُ."
الفرق بين (رضي الله عليك) و(رضي الله عنك) الفرق بينهما هنا: عند بني كعب بن ربيعة المعنى واحد، فتأتي (عن) بمعنى (على) والعكس. رضي الله عليك يعنى عنك، وحينئذ هذا من تقارض الحروف. والذي يقول الحرف معناه لا يختلف يضم من الرضا شيء من العلو فيجعل الرضا يغشاك من فوق، والرضا من الله -جل وعلا- ينزل منه فيكون إلى هذا الاسفل هذا المخلوق المرضي عنه فيكون عليه مجلل له فيضمن الرضا معنى شيء من العلو، والارتفاع بالنسبة لهذا المرضي عنه. وهما مذهبان لأهل العلم في مثل هذه الصورة إما أن يقال إن الحرف ينوب مناب الحرف الآخر أو يقال الحرف باق على معناه ويضمن الفعل فعلاً آخر يتعدى بها الحرف، والثاني هو الذي يرجح شيخ الإسلام يقول: يبقى كل حرف على معناه لكن إذا اختلف الحرف عن استعماله الأصلي نظرنا في الفعل.
"والْبَاقُونَ " أَفَتُمَارُونَهُ " بِأَلِفٍ، أَيْ أَتُجَادِلُونَهُ وَتُدَافِعُونَهُ فِي أنه رَأَى اللَّهَ؛ وَالْمَعْنَيَانِ مُتَدَاخِلَانِ؛ لِأَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ جُحُودٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجُحُودَ كَانَ دَائِمًا مِنْهُمْ وَهَذَا جِدَالٌ جَدِيدٌ؛ قَالُوا: صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ."
يعنى؛ وإن جادلوا جدال من يبحث عن الحق إلا أنهم في قرارة أنفسهم جاحدون. حتى لو بان لهم الحق ما تبعوه لكن من باب ما يسمى في لغة العصر بالحوار يحاورون الخصم، والخصم معروف أنه في قرارة نفسه أنه لا يستجيب له، ولو بان له الحق لأنه مصر على رأيه وأنه يظهر للناس أنه يريد الحق.
"قَالُوا: صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا الَّتِي فِي طَرِيقِ الشَّامِ . عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} " نَزْلَةً " مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأنه قَالَ: وَلَقَدْ رَآهُ نَازِلًا نَزْلَةً أُخْرَى."
ولا مانع أن يكون هنا نزلة اسم مرة فعلة فتح للمرة والفعلة للهيئة.
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ مَرَّةً أُخْرَى بِقَلْبِهِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْهُ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قَالَ : رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ؛ فَقَوْلُهُ: {نَزْلَةً أُخْرَى} يَعُودُ إِلَى مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأنه كَانَ لَهُ صُعُودٌ وَنُزُولٌ مِرَارًا بِحَسَبِ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَلِكُلِّ عَرْجَةٍ نَزْلَةٌ."
العروج من لازمه النزول؛ وحينئذ يكون صاحب الحال إذا قلنا نزلة حال نازلًا هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فالذي ينزل ويصعد الرسول -عليه الصلاة والسلام- يراجع ربه طلبًا للتخفيف على أمته، كما جاء في الحديث الصحيح يعني أحيانًا يتقدم أكثر من واحد، ولا يذكر إلا حال واحدة الذي يصلح أن يكون صاحبًا له أكثر من واحد فيحدده السياق، والنصوص الأخرى.
لكن إذا ذكر حالان وصاحبان هذا يحدده السياق، وقد يستفاد من النصوص الأخرى المرجح كما هنا لكن إذا ذكر في الجملة حالين، وصاحبين "رأيت زيدًا مصعدًا منحدرًا" من صاحب الحال الأول والثاني؟ مصعدًا يعني حال كونه مصعدًا وحال كونه منحدرًا هل هو زيد وهو طالع نازل أو واحد منهما طالع، والثاني نازل؟ الثاني وحينئذ يكون على ما قعده أهل العلم أول الحالين لثاني الاسمين، وثاني الحالين لأول الاسمين.
"فَلِكُلِّ عَرْجَةٍ نَزْلَةٌ."
هذا ما لم يدل اللفظ على المراد فان دل اللفظ على المراد ما نحتاج إلى مثل هذه القاعدة. إذا قال "لقيت هند" " منحدرة مصعدًا أو مصعدًا منحدرة ما نحتاج إلى هذه القاعدة لأنه متميز، ثم ذكر المذكر والمؤنث المؤنث.
"وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أَيْ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَفِي بَعْضِ تِلْكَ النَّزَلَاتِ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أنه جِبْرِيلُ. ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ يَتَنَاثَرُ مِنْ رِيشِهِ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ» ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ . قَوْلُهُ تَعَالَى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} عِنْدَ " مِنْ صِلَةِ " رَآهُ."
الظرف متعلق برآه يعني رآه عند سدرة المنتهى. المقصود من قوله عند من صلة رآه أن الظرف متعلق بالفعل رآه.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} عِنْدَ " مِنْ صِلَةِ "رَآهُ" عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالسِّدْرُ شَجَرُ النَّبِقِ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، وَجَاءَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ."
جاء ما يدل على هذا، وما يدل على هذا، وجمع بينهما بأن أصلها في السادسة، وفروعها في السابعة وسيأتي أن مما خيل في سبب تسميتها المنتهى، أن أصلها في السادسة مارة بالسابعة وتنتهي عند أعناق حملة العرش، ولذلك سميت المنتهى تنتهي إلى هذا الحد، وهذا الكلام يحتاج إلى دليل.
"وَالْحَدِيثُ بِهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ مُرَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}»."
يعني أن الخلق لا يتجاوزونه مهما بلغت منازلهم لا يتجاوزونه فالنازل من الله -جل وعلا- ينتهي عندها، والصاعد ينتهي عندها فلذلك سميت سدرة المنتهى منتهى كل شيء.
"قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ : فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا..."
يغشاها من التهاويل كما جاء في بعض النصوص التي تهيل العقل حيث لا يتصوره مخلوق يغشاها من فراش الذهب وجراد الذهب ويغشاها من أشياء لا تخطر على البال {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}
"«أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَات»"
الذنوب العظائم التي لولا رحمة أرحم الراحمين لأقحمته في النار.
"الْحَدِيثُ الثَّانِي رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «لَمَّا رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ» هذا لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. "
جاء في الأحاديث الصحيحة أن النيل، والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة، لكن هل المراد أن أنهار الجنة بهذه الأسماء، أو أن الأنهار الموجودة المحسوسة من أنهار الجنة حقيقة وماذا يفيد إذا قلنا إن النيل نهر من أنهار الجنة أو الفرات من أنهار الجنة؟ فما الفرق بينه وبين دجلة مثلا؟ علينا أن نصدق بهذه الأخبار، ولا نفعل إلا ما أمرنا به. نقف عند ما أخبرنا به، ولا نفعل في هذه الأنهار إلا ما أمرنا به. ما أمرنا بأننا إذا مررنا بأنهار الجنة نشرب، أو نغتسل، أو نتبرك، أو شيء من ذلك لكن أمرنا إذا مررنا برياض الجنة أن نرتع، ومن أفرادها حلق الذكر، ومن أفرادها ما بين المنبر والبيت منبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبيته كلها من رياض الجنة فعليه أن نرتع امتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» أما الأنهار ما جاءنا بها شيء: فلا قال اشربوا، ولا اغتسلوا، ولا تبركوا فنقف عند تصديق الخبر.
"هَذا لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَالنَّبِقُ بِكَسْرِ الْبَاءِ : ثَمَرُ السِّدْرِ الْوَاحِدُ نَبِقَةٌ. وَيُقَالُ: نَبْقٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْبَاءِ؛ ذَكَرَهُمَا يَعْقُوبُ فِي الْإِصْلَاحِ."
يعقوب بن السكيت، وكتابه اسمه "إصلاح المنطق" ليعقوب بن السكيت مطبوع، ومتداول.
ذَكَرَهُمَا يَعْقُوبُ فِي الْإِصْلَاحِ وَهِيَ لُغَةُ الْمِصْرِيِّينَ ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .-"
أي؛ على زنة فعل لكن قد تخفف الكلمة وتسكن وإذا الثلاثي إذا سكن وسطه خف جدًا لأنه حتى أنه لو كان غير مصروف لانصرف لو كان مما لا ينصرف فإذا سكن وسطه، وهو ثلاثي إذا كان ثلاثي ساكن وسط فأنه حينئذ يعرب. ليت هند تأنيث ممنوع من الصرف لكنه لما سكن وسطه خف. هذه إذا كان المانع له من الصرف علتين. أما إذا كان الثلاث فهل تقاوم هذه الخفة ثلاث العلل، أو لا تقاوم؟ محل خلاف بين أهل العلم. منهم من يقول تقاوم الثلاث فيصرف، ومنهم من يقول تقاوم واحدة، ويبقى اثنتان مثل: حمص ممنوع من الصرف لثلاث علل فالذي يقول أنه ثلاثي ساكن الوسط خفيف مثل هند يصرف ومنهم من يقول لا كون ثلاث يقاوم واحد ويبقى علتان .
"وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ -وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى- قَالَ: « يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّ الْغُصْنِ مِنْهَا مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا مِائَةَ رَاكِبٍ -شَكَّ يَحْيَى- فِيهَا فَرَاشُ الذَّهَبِ كَأَنَّ ثَمَرَهَا الْقِلَالُ» قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ."
قال: {الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} ثلاثي ساكن الوسط {اهْبِطُوا مِصْرًا} ما الفرق بينهما؟، "العالمية من مصر" ومصرا تنوين تمكير يعنى أي مصر، أو تنوين إعراب.
"قُلْتُ: وَكَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ «ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا». وَاخْتُلِفَ لِمَ سُمِّيَتْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى عَلَى أَقْوَالٍ تِسْعَةٍ؛ الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنه يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَا يَهْبِطُ مَنْ فَوْقِهَا وَيَصْعَدُ مَنْ تَحْتِهَا. الثَّانِي: أنه يَنْتَهِي عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهَا وَيَعْزُبُ عِلْمُهُمْ عَمَّا وَرَاءَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ تَنْتَهِي إِلَيْهَا وَتُقْبَضُ مِنْهَا؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ : لِانْتِهَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهَا وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَهَا؛ قَالَهُ كَعْبٌ. الْخَامِسُ: سُمِّيَتْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى لِأَنَّهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ؛ قَالَه ُالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. السَّادِسُ: لِأنه تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. السَّابِعُ: لِأنه يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِهِ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَيْضًا. الثَّامِنُ: هِيَ شَجَرَةٌ عَلَى رُءُوسِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْخَلَائِقِ ؛ قَالَهُ كَعْبٌ أَيْضًا. قُلْتُ: يُرِيدُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ ارْتِفَاعَهَا وَأَعَالِيَ أَغْصَانِهَا قَدْ جَاوَزَتْ رُءُوسَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ؛ وَدَلِيلُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَصْلَهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَأَعْلَاهَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثُمَّ عَلَتْ فَوْقَ ذَلِكَ حَتَّى جَاوَزَتْ رُءُوسَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ. وَاللَّهُ أَعْلَم. التَّاسِعُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهَا فَقَدِ انْتَهَى فِي الْكَرَامَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِىَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ خَلَا مِنْ أُمَّتِكَ عَلَى سُنَّتِكَ؛ فَإِذَا هِيَ شَجَرَةٌ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَإِذَا هِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُسْرِعُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَالْوَرَقَةُ مِنْهَا تُغَطِّي الْأُمَّةَ كُلَّهَا؛ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ."
تقدم أن الورقة مثل آذان الفيلة...هذا يحتاج إلى...تفرد به الثعلبي...أبو جعفر الرازي من رواته ضعيف كما هو معروف.
" قَوْلُهُ تَعَالَى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:15] تَعْرِيفٌ بِمَوْضِعِ جَنَّةِ الْمَأْوَى وَأَنَّهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَأَبُو سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ (عِنْدَهَا جَنَّه الْمَأْوَى) يَعْنِي جَنَّه الْمَبِيتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ أَجَنَّهُ. وَالْهَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَدْرَكَهُ، كَمَا تَقُولُ جَنَّهُ اللَّيْلُ أَيْ سَتَرَهُ وَأَدْرَكَهُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ {جَنَّةُ الْمَأْوَى} قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَّقُونَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهِيَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي آوَى إِلَيْهَا آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى أَنْ أُخْرِجَ مِنْهَا وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ."
الخلاف المشهور في الجنة التي أدخلها آدم قبل إنزاله منها. هل هي جنة الخلد أو جنة في مكان مرتفع من الأرض؟ ابن القيم -رحمه الله- فصل هذا الخلاف بأدلته في صدر كتابه العظيم "مفتاح دار السعادة".
"وَقِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهُمْ فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا: جَنَّةُ الْمَأْوَى لِأَنَّهَا تَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَعَّمُونَ بِنَعِيمِهَا وَيَتَنَسَّمُونَ بِطِيبِ رِيحِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ."
وهي تحت العرش. المعروف أن الجنة التي سقفها عرش الرحمن هي الفردوس.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَشِيَهَا نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاسْتَنَارَتْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا غَشِيَهَا؟ قَالَ: «فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ». وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: غَشِيَهَا نُورٌ مِنَ اللَّهِ حَتَّى مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: غَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةُ تَقَعُ عَلَيْهَا كَمَا يَقَعُ الْغِرْبَانُ عَلَى الشَّجَرَةِ. وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « رَأَيْتُ السِّدْرَةَ يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَرَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}»؛ ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ وَقَدْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا. وَقَالَ مُجَاهِد:ٌ أنه رَفْرَفٌ أَخْضَرُ."
يعنى بساط وفراش أخضر.
"وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَغْشَاهَا رَفْرَفٌ مِنْ طَيْرٍ خُضْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَغْشَاهَا رَبُّ الْعِزَّةِ؛ أَيْ أَمْرُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ..."
رفرف من طير خضر كأنهم يشبهون بالفراش وبالبساط لأنهم يرفرفون بأجنحتهم حولها وكأنهم قطعة واحدة ملتصقين من كثرتهم.
" وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَغْشَاهَا رَبُّ الْعِزَّةِ؛ أَيْ أَمْرُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا :فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ وَقِيلَ: هُوَ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ؛ كَأنه قَالَ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ دَلَائِلِ مَلَكُوتِهِ. وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} وَمِثْلُهُ {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}."
يعنى التعظيم والتهويل هذا التكرار يدل على تعظيم هذا الأمر المكرر.
"وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اخْتِيرَتِ السِّدْرَةُ لِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الشَّجَرِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ السِّدْرَةَ تَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَطَعْمٌ لَذِيذٌ، وَرَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ؛ فَشَابَهَتِ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجْمَعُ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً؛ فَظِلُّهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ لِتَجَاوُزِهِ، وَطَعْمُهَا بِمَنْزِلَةِ النِّيَّةِ لِكُمُونِهِ، وَرَائِحَتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ لِظُهُورِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّار»ِ."
قواه أبو الحسن بن القطان في بيان الوهم والإيهان لكنه محمول على السدرة التي يضطر الناس إليها كأن تكون في مكان لا ظل فيه والناس يحتاجون أن يأوون إليها ويستظلون بظلها. "وَسُئِلَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ يَعْنِي مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ عَبَثًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ."
يعم الشجر لكن السدر أظهر...السدر أكثر ورق وأكثر ظل...قلنا إن السبب هذا.
وإذا قلنا إن أصل السدر لا يجوز التعرض له لأن الناس يحتاجونه، والقضاء عليه قضاء ما يحتاجه الناس اختص به، بخلاف الشجر الضار الذي الآن يسعى في كل الوسائل أن يزرع وينبت في شوارع المسلمين وهو ضار لهم، ويسبب حساسية في الصدر عن كثير من الناس، والله المستعان
طالب:.....
شجر يزرع في الشوارع البرسوبس. كثير عندنا. الذي عنده حساسية في الصدر يتأثر كثيرا.
طالب:.....
هذا أكثر أهل العلم على تضعيفه، لكن قلنا إنه قواه أبو الحسن بن القطان.
طالب:.....
لا، لا، لا يدري...المؤلف...عنده بضاعة في هذا الباب...ولو في البخاري يقول قيل، ولو خبر موضوع قال: قال رسول الله...ما عنده.
لا، عنده ضعف في هذا الجانب، ولا يلتزم اصطلاح المحدثين في المجزوم به أنه صحيح، وما يساق بصيغة التمريض أن به ضعفا.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَا عَدَلَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الَّذِي رَأَى. وَقِيلَ: مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَمُدَّ بَصَرَهُ إِلَى غَيْرِ مَا رَأَى مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا وَصْفُ أَدَبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ؛ إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. "
من أدب الزيارة أن الإنسان إذا زار إنسان له لا يلتفت لا يمينا ولا شمالا فبعض الناس بصره لا يقر على جهة يلتفت يمينا وشمالا وأمام وقد يلتفت خلف هذا ليس من الأدب أما الأدب أن يجلس ولا يلتفت إلا لحاجة هذا أمر ثاني لكن كثرة الالتفات توقع ريبة في نفس صاحب البيت.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَفْرَفًا سَدَّ الْأُفُقَ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ. وَعَنْهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُلَّةِ رَفْرَفٍ أَخْضَرَ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ رَأَى رَفْرَفًا يُرِيدُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ فِي رَفْرَفٍ، وَالرَّفْرَفُ الْبِسَاطُ. وَيُقَالُ: فِرَاشٌ. وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ ثَوْبٌ كَانَ لِبَاسًا لَهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ أنه رَآهُ فِي حُلَّةِ رَفْرَفٍ. قُلْتُ: خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {دَنَا فَتَدَلَّى} أنه عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير."
لأن الدنو سببه التدلي، وسبق القول بأنه إذا كان معنى الفعلين متقاربا، أو واحد فلا مانع من تقديم أحدهما على الآخر.
"أنه عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؛ أَيْ تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ فَدَنَا مِنْ رَبِّهِ .قَالَ: فَارَقَنِي جِبْرِيلُ وَانْقَطَعَتْ عَنِّي الْأَصْوَاتُ وَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي. فَعَلَى هَذَا الرَّفْرَفُ مَا يُقْعَدُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهِ كَالْبِسَاطِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ جِبْرِيلُ . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِي السَّمَاوَاتِ ؛ وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ: رَأَى جِبْرِيل فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ .وَلَا يَبْعُدُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي حُلَّةِ رَفْرَفٍ وَعَلَى رَفْرَفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَال َالضَّحَّاكُ: رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَى مَا غَشِيَ السِّدْرَةَ مِنْ فَرَاشِ الذَّهَبِ؛ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: رَأَى الْمِعْرَاجَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَسْرَاهُ فِي عَوْدِهِ وَبَدْئِهِ؛ وَهُوَ أَحْسَنُ؛ دَلِيلُهُ: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} وَ"مِنْ" يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، وَتَكُونُ الْكُبْرَى مَفْعُولَةً لِ" رَأَى ."
لان الآية الكبرى بعض من هذه الآيات التي رأى فيكون رأى آية واحدة هي أكبر هذه الآيات فإذا قلنا لبيان الجنس أنه رأى شيأ من جنس الآيات الكبرى.
"وَتَكُونُ الْكُبْرَى مَفْعُولَةً لِ "رَأَى" وَهِيَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ الْآيَاتِ وَوُحِّدَتْ لِرُءُوسِ الْآيَاتِ . وَأَيْضًا يَجُوزُ نَعْتُ الْجَمَاعَةِ..."
لأن الكبرى الواحدة والآيات جمع فكيف يوصل الجمع بالمفرد؟ قالوا مراعاة لرؤوس الآي. كلها على هذا الكبرى العزى الأخرى الأنثى كلها من هذا النوع مراعاة لرؤوس الآي جيء به مفردة مع أن الجمع يمكن أن يوصف بالمفرد المؤنث لا المذكر باعتبار أنه جماعة لا باعتبار الجمع.
"وَأَيْضًا يَجُوزُ نَعْتُ الْجَمَاعَةِ بِنَعْتِ الْأُنْثَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} وَقِيلَ : الْكُبْرَى نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ؛ أَيْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى."
رأى من آيات ربه الآية الكبرى. إذا قلنا أنه نعْت لمحْذوف. رأى من آيات ربه الآية الكبرى.
"وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "مِنْ" زَائِدَةٌ؛ أَيْ رَأَى آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ أَيْ رَأَى الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} لَمَّا ذَكَرَ الْوَحْيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ مَا ذَكَرَ، حَاجَّ الْمُشْرِكِينَ إِذْ عَبَدُوا مَا لَا يَعْقِلُ وَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا أَوْحَيْنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا كَمَا أُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفَ، وَالْعُزَّى لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ، وَمَنَاةُ لِبَنِي هِلَالٍ. "
سيأتي لكلام صاحب الصحاح أنها لهذيل وخزاعة.
" وَقَالَ هِشَامٌ : فَكَانَتْ مَنَاةُ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ؛ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..."
أما كونا لبني هلال هذه لا يعرف عند عامة المؤرخين وأصحاب السير.
"فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَدَمَهَا عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ اتَّخَذُوا اللَّاتَ بِالطَّائِفِ ، وَهِيَ أَحْدَثُ مِنْ مَنَاةَ وَكَانَتْ صَخْرَةً مُرَبَّعَةً، وَكَانَ سَدَنَتُهَا مِنْ ثَقِيفَ، وَكَانُوا قَدْ بَنَوْا عَلَيْهَا بِنَاءً، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَجَمِيعُ الْعَرَبِ تُعَظِّمُهَا. وَبِهَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي زَيْدَ اللَّاتِ وَتَيْمَ اللَّاتِ. وَكَانَتْ فِي مَوْضِعِ مَنَارَةِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيُسْرَى، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ أَسْلَمَتْ ثَقِيفُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَقَهَا بِالنَّارِ. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعُزَّى وَهِيَ أَحْدَثُ مِنَ اللَّاتِ، اتَّخَذَهَا ظَالِمُ بْنُ أَسْعَدَ، وَكَانَتْ بِوَادِي نَخْلَةَ الشَّامِيَّةِ فَوْقَ ذَاتِ عِرْق، فَبَنَوْا عَلَيْهَا بَيْتًا وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهَا الصَّوْتَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْعُزَّى شَيْطَانَةً تَأْتِي ثَلَاثَ سَمُرَاتٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: « ايتِ بَطْنَ نَخْلَةَ فَإِنَّكَ تَجِدُ ثَلَاثَ سَمُرَاتٍ فَاعْضِدِ الْأُولَى » فَأَتَاهَا فَعَضَدَهَا فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاعْضِدِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهَا فَعَضَدَهَا."
يقطعها يعضدها يعني يقطعها. لا يعضد الشوك يعني لا يقطع، والمشركون من باب العنت والمزيد في الطغيان، والضلال نسأل الله العافية اشتقوا لآلهتهم من أسماء الله -جل وعلا- جعلوا اللات من الإله والعزى من العزيز والمناة من المنان وهكذا على خلاف من سبب التسمية. منهم من يقول إن اللات كان رجل يلت السويق، ويطعمه الحجاج، والعزى الشجرة التي عضدها خالد بن الوليد، وتحتها تلك الشيطانة نسأل الله العافية.
" ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاعْضِدِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهَا فَإِذَا هُوَ بِحَبَشِيَّةٍ نَافِشَةً شَعْرَهَا، وَاضِعَةً يَدَيْهَا عَلَى عَاتِقِهَا تُصَرِّفُ بِأَنْيَابِهَا، وَخَلْفَهَا دُبَيَّةُ السُّلَمِيُّ..."
ما معنى تصرف بأنيابها؟ تحك بعض الأسنان على بعض فيصدر الصوت.
"وَخَلْفَهَا دُبَيَّةُ السُّلَمِيُّ وَكَانَ سَادِنَهَا فَقَالَ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ |
ثُمَّ ضَرَبَهَا فَفَلَقَ رَأْسَهَا فَإِذَا هِيَ حُمَمَةٌ، ثُمَّ عَضَدَ الشَّجَرَةَ وَقَتَلَ دُبَيَّةَ السَّادِنَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعُزَّى حَجَرٌ أَبْيَضُ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ. وقال قَتَادَةُ: نَبْتٌ كَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ. وَمَنَاةُ: صَنَمٌ لِخُزَاعَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّاتَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ..."
يعني بعض النسخ فيها بيت بدل نبت كون بيت يعبد أظهر من كون نبت يعبد.
"وَقِيلَ: إِنَّ اللَّاتَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ لَفْظِ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَمَنَاةُ مِنْ مَنَى اللَّهُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرَهُ ..".
قال مناة من المنان يعني من أسماء الله الحسنى -جل وعلا-.
" وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِد ٌوَحُمَيْدٌ وَأَبُو صَالِحٍ " اللَّاتَّ" بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَقَالُوا : كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ - ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ فَعَبَدُوهُ . قال ابْنُ عَبَّاسٍ :كَانَ يَبِيعُ السَّوِيقَ وَالسَّمْنَ عِنْدَ صَخْرَةٍ وَيَصُبُّهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَبَدَتْ ثَقِيفُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لِصَاحِبِ السَّوِيقِ. قال أَبُو صَالِحٍ: إِنَّمَا كَانَ رَجُلًا بِالطَّائِفِ فَكَانَ يَقُومُ عَلَى آلِهَتِهِمْ وَيَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ. قال مُجَاهِدٌ :كَانَ رَجُلٌ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَهُ غُنَيْمَةٌ يَسْلِي مِنْهَا السَّمْنَ وَيَأْخُذُ مِنْهَا الْأَقِطَ وَيَجْمَعُ رِسْلَهَا، ثُمَّ يَتَّخِذُ مِنْهَا حَيْسًا فَيُطْعِمُ الْحَاجَّ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ وَهُوَ اللَّاتُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفَ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ
بْنُ غُنْمٍ. وَقِيلَ: أنه عَامِرُ بْنُ ظَرِبٍ الْعَدْوَانِيُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ |
وَالْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ "اللَّاتَ" بِالتَّخْفِيفِ اسْمُ صَنَمٍ وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ رَأَيْتُ الْكِسَائِيَّ سَأَلَ أَبَا فَقْعَسٍ الْأَسَدِيَّ فَقَالَ: ذَاهْ لِذَاتِ وَلَاهْ لِلَّاتِ، وَقَرَأَ "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاهَ، وَكَذَا قَرَأَ الدُّوْرِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ "اللَّاهَ" بِالْهَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ "اللَّاتَ" مِنَ اللَّهِ وَقْفٌ بِالْهَاءِ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَصْلُهَا لَاهَةٌ مِثْلُ شَاةٍ أَصْلُهَا شَاهَةٌ وَهِيَ مِنْ لَاهَتْ أَيِ: اخْتَفَتْ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَاهَتْ فَمَا عُرِفَتْ يَوْمًا بِخَارِجَةٍ يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ حَتَّى رَأَيْنَاهَا" |
لَاهَتْ يعني اختفت فلم تخرج إليهم بعد بعد اختفائها ويتمنى أن لو خرجت ليروها.
"وَفِي الصِّحَاحِ: اللَّاتُ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ لِثَقِيفَ وَكَانَ بِالطَّائِفِ ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْهَاءِ؛ قَالَ الْأَخْفَشُ: سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَيَقُولُ هِيَ "اللَّاتْ" فَيَجْعَلُهَا تَاءً فِي السُّكُوتِ وَهِيَ "اللَّاتِ" فَأَعْلَمْ أنه جُرَّ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ؛ فَهَذَا مِثْلُ " أَمْسِ" مَكْسُورٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ اللَّتَيْنِ."
رأيت عجبًا مذ أمس عجائز مثل الثعالي خمس. مذ أمس هو مجرور باستمرار.
"لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ اللَّتَيْنِ فِي اللَّاتِ لَا تَسْقُطَانِ وَإِنْ كَانَتَا زَائِدَتَيْنِ؛ وَأَمَّا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْأَكْثَرِ فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى فِي السُّكُوتِ عَلَيْهَا فَاللَّاهْ لِأَنَّهَا هَاءٌ فَصَارَتْ تَاءً فِي الْوَصْلِ وَهِيَ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ مِثْلُ "كَانَ" مِنَ الْأَمْرِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَكَذَلِكَ "هَيْهَاتِ" فِي لُغَةِ مَنْ كَسَرَهَا؛ إِلَّا أنه يَجُوزُ فِي" هَيْهَاتَ" أَنْ تَكُونَ جَمَاعَةً وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي "اللَّاتِ"؛ لِأَنَّ التَّاءَ لَا تُزَادُ فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا مَعَ الْأَلِفِ، وَإِنْ جُعِلَتِ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَيْنِ بَقِيَ الِاسْمُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ."
وهو التاء إذا قلنا الألف واللام اللام زائدة كيف ينطق به وإنما جيء بهذين الحرفين الزائدين للتمكن من النطق لأنه قد تبقى الكلمة على حرف واحد، ويمكن النطق بها مثل: عي الكلام وفي بما وعدت ممكن لكن مثل هذه كيف ينطق بها؟ لا يمكن النطق بها إلا أن يتوصل بذلك من خلال المزيد حرفين.
"قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:20] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْر" وَمَنَاءَةَ" بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ. وَالْبَاقُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ لُغَتَانِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيقُونَ عِنْدَهُ الدِّمَاءَ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ. وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ مِنًى لِكَثْرَةِ مَا يُرَاقُ فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ. وَكَانَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يَقِفُونَ بِالْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. والْبَاقُونَ بِالتَّاءِ اتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ. وَفِي الصِّحَاحِ : وَمَنَاةُ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَة ، وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ وَيُسْكَتُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا مَنَوِيٌّ. وَعَبْدُ مَنَاةَ ابْنُ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ، وَزَيْدُ مَنَاةَ ابْنُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ؛ قَالَ هَوْبَرُ الْحَارِثِيُّ
أَلَا هَلْ أَتَى التَّيْمُ بْنُ عَبْدِ مَنَاءَةٍ عَلَى الشِّنْءِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمٍ" |
فعبدوا لمناة، وعبدوا للات وتيموا لهما والتتيم هو الحب الشديد جدًا الذي يصل إلى حد التعظيم والخضوع.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأُخْرَى الْعَرَبُ لَا تَقُولُ لِلثَّالِثَةِ أُخْرَى وَإِنَّمَا الْأُخْرَى نَعْتٌ لِلثَّانِيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهَا فَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِوِفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ؛ كَقَوْلِهِ: {مَآرِبُ أُخْرَى} وَلَمْ يَقُلْ أُخَرُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهَا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الْأُخْرَى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ..."
فيكون الأخرى للثانية مع أنه إذا كان هناك ثالث سواء كان مذكر، أو مؤنث ما يقال بدل الثاني الآخر، ولا يقال للثاني بدلا الثانية الأخرى لأن الآخر يدل على التأخر، ويفهم منه أنه آخر شيء آخر ما بعده شيء، ولذا يقال ربيع الثاني، ما يقال ربيع الآخر لكن الإشكال في قوله جمادى الأولى، وجمادى الآخرة...
"وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} لِأَنَّهَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّعْظِيمِ بَعْدَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَالْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ هِشَامٍ :أَنَّ مَنَاةَ كَانَتْ أَوَّلًا فِي التَّقْدِيمِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُقَدَّمَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّعْظِيمِ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ ؛ أَيْ أَفَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآلِهَةَ هَلْ نَفَعَتْ أَوْ ضَرَّتْ حَتَّى تَكُونَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. ثُمَّ قَالَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21] رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ إِذًا يَعْنِي هَذِهِ الْقِسْمَةُ قِسْمَةٌ ضِيزَى."
يعني جائرة وظالمة تدعون أن لكم الذكور والله له الإناث، والله خالق الخلق تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا لكن من مزيد عنتهم وشدة فجورهم، وضلالهم يقولون: الملائكة بنات الله فنسبوا إليه الإناث ولهم الذكور{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}.
"أَيْ جَائِرَةٌ عَنِ الْعَدْلِ، خَارِجَةٌ عَنِ الصَّوَابِ، مَائِلَةٌ عَنِ الْحَقِّ. يُقَالُ: ضَازَ فِي الْحُكْمِ أَيْ جَار، وَضَازَ حَقَّهُ يَضِيزُهُ ضَيْزًا -عَنِ الْأَخْفَشِ أَيْ نَقَصَهُ وَبَخَسَهُ. قَالَ: وَقَدْ يُهْمَزُ فَيُقَالُ ضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ ضَأْزًا وَأَنْشَد:
فَإِنْ تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْكَ وَإِنْ تُقِمْ فَقِسْمُكَ مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ |
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : يُقَالُ: ضَازَ يَضِيزُ ضَيْزًا، وَضَازَ يَضُوزُ ضوزا ، وَضَأَزَ يَضْأَزُ ضَأْزًا إِذَا ظَلَمَ وَتَعَدَّى وَبَخَسَ وَانْتَقَصَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِ إِذْ يَجْعَلُونَ الرَّأْسَ كَالذَّنَبِ" |
جور هذا أن يسوى أشراف الناس بسفلتهم، وعلية القوم بأدنيائهم، والرأس مثل الذنب، هذا لا يكون لكنه الهوى.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] أَيْ جَائِرَةٌ، وَهِيَ فُعْلَى مِثْلُ طُوبَى وَحُبْلَى؛ وَإِنَّمَا كَسَرُوا الضَّادَ لِتَسْلَمَ الْيَاءُ؛ لِأنه لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلَى صِفَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بِنَاءِ الْأَسْمَاءِ كَالشِّعْرَى وَالدِّفْلَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَقُولُ ضُوزَى وَضِئْزَى بِالْهَمْزِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أنه سَمِعَ الْعَرَبَ تَهْمِزُ (ضِيزَى). قَالَ غَيْرُهُ: وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ؛ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِثْلَ ذِكْرَى وَلَيْسَ بِصِفَةٍ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الصِّفَاتِ فِعْلَى وَلَا يَكُونُ أَصْلُهَا فُعْلَى؛ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا يُوجِبُ الْقَلْبَ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَأَزْتُهُ أَيْ ظَلَمْتُهُ. فَالْمَعْنَى قِسْمَةٌ ذَاتُ ظُلْمٍ. وَقَدْ قِيلَ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَحُكِيَ فِيهَا أَيْضًا سِوَاهُمَا ضَيْزَى وَضَأْزَى وَضُوزَى وَضُؤْزَى. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: كَرِهُوا ضَمَّ الضَّادِ فِي ضِيزَى، وَخَافُوا انْقِلَابَ الْيَاءِ وَاوًا وَهِيَ مِنْ بَنَاتِ الْوَاوُ؛ فَكَسَرُوا الضَّادَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ..."
بمناسبة الياء ولو كانت واو لما كسروها.
"كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ أَبْيَضَ بِيضٌ، وَالْأَصْلُ بُوضٌ؛ مِثْلُ حُمْرٍ وَصُفْرٍ وَخُضْرٍ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: ضَازَ يَضُوزُ فَالِاسْمُ مِنْهُ ضُوزَى مِثْلُ شُورَى.
طالب:....
نفي الأنوثة عنهم، يصح نفيهم بالذكورة، هذا قصدك؟ لا بد من التوقف لأنه ما جاء وصفهم بشيء، والوصف بالذكورة يقتضى أن هناك قسم إناث.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} أَيْ مَا هِيَ يَعْنِي هَذِهِ الْأَوْثَانَ { إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} يَعْنِي نَحَتُّمُوهَا وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أَيْ قَلَّدْتُمُوهُمْ فِي ذَلِكَ {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} عَادَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ أَيْ مَا يَتَّبِعُ هَؤُلَاءِ إِلَّا الظَّنَّ."
الظن في الأصل لا يغني من الحق شيئًا قد يصل إلى أن يكون الظن أكذب الحديث كما جاء في الحديث الصحيح، وهؤلاء ليس عندهم ما يستدلون به، ويستندون إليه ليرقى حكمهم إلى أن يكون محلاً للنظر وإنما هو مجرد ظن، وتخمين لا يغني من الحق شيئًا.
"{وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يَتَّبِعُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَيُّوبُ وَابْنُ السَّمَيْقعِ " تَتَّبِعُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أَيِ: الْبَيَانُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ.
{أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أَيِ: اشْتَهَى أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ. وَقِيلَ {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} مِنَ الْبَنِينَ؛ أَيْ يَكُونُ لَهُ دُونَ الْبَنَاتِ. وَقِيلَ: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ! لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. "
أما ما تمناه مجرد أماني دون عمل يتمنى على الله الأماني هذا هو العجز، «والعاجز من أتبع نفسه وهواها، وتمنى على الله الأماني» يتمنى أن يكون من المنازل العليا من الدنيا، ومحل العناية والرفعة والشرف في الدنيا، والآخرة وما عمل لذلك وسعى له.
"وَقِيلَ: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} مِنَ النُّبُوَّةِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ؛ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ."
كلهم يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم.
"{فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ لَا مَا تَمَنَّى أَحَدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَصْنَامَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَعْلَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَتِهَا وَكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ لَا تَشْفَعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ."
وإذا كان هذا بالنسبة للملائكة المقربين فكيف بمن عاداهم مما يعبد من دون الله؟ فهل يبقى مع هذا أمل في شفاعة أحجار، أو شفاعة أشجار مع أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن أذن له الله.
"قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَلَكُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ مَلَكًا وَاحِدًا، لِأَنَّ كَمْ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ. "
لأن كم تدل على التكثير، كم من ملك يعني كثير من الملائكة.
"