التعليق على تفسير القرطبي - سورة الواقعة (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سم.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}[الواقعة:41] ذَكَرَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ وَسَمَّاهُمْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، ثُمَّ عَظَّمَ ذِكْرَهُمْ فِي الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ فَقَالَ: {مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ}[الواقعة:42] وَالسَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ. وَالْمُرَادُ هُنَا حَرُّ النَّارِ وَلَفْحُهَا، {وَحَمِيمٍ}[الواقعة:42] أَيْ مَاءٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، إِذَا أَحْرَقَتِ النَّارُ أَكْبَادَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ فَزِعُوا إِلَى الْحَمِيمِ، كَالَّذِي يَفْزَعُ مِنَ النَّارِ إِلَى الْمَاءِ لِيُطْفِئَ بِهِ الْحَرَّ فَيَجِدُهُ حَمِيمًا حَارًّا فِي نِهَايَةِ الْحَرَارَةِ وَالْغَلَيَانِ. وَقَدْ مَضَى فِي (القتال) {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد:15]، {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}[الواقعة:43] أَيْ يَفْزَعُونَ مِنَ السَّمُومِ إِلَى الظِّلِّ كَمَا يَفْزَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَجِدُونَهُ ظِلًّا مِنْ يَحْمُومٍ، أَيْ مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْيَحْمُومُ فِي اللُّغَةِ: الشَّدِيدُ السَّوَادُ وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنَ الْحَمِّ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ بِاحْتِرَاقِ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ وَكُلُّ مَا فِيهَا أَسْوَدُ."
يعني ما جاء في الخبر أنها أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، نسأل الله العافية. هذا التدرج الذي ذكر في الآيات السابقة أمر مشاهد وملموس أن الإنسان إذا أكل شيئًا حارًّا وأحرق فمه وكبده ومعدته فزع إلى الماء؛ ليطفئ حره بالماء البارد، لكن إذا فزع إلى هذا الماء وجده حميما -نسأل الله العافية- يقطع الأمعاء ويسلخ جلدة الوجه وفروة الرأس بمجرد مواجهته، حتى جاء في الخبر لو مر بالواحد منهم بهذه الجلدة التي وقعت من وجهه وكان يعرفه في الدنيا لقال هذا فلان، نسأل الله العافية، ثم بعد ذلك إذا لم يجد الفائدة فيما يأكله وما يشرب أقل الأحوال الظل، ظل يستظل به، فإذا فزع إليه وجده من يحموم، نسأل الله العافية. نعم.
"وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: النَّارُ سَوْدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْيَحْمُومُ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ يَسْتَغِيثُ إِلَى ظِلِّهِ أَهْلُ النَّارِ، {لَا بارِدٍ}[الواقعة:44] بَلْ حَارٌّ لِأَنَّهُ مِنْ دُخَانِ شَفِيرِ جَهَنَّمَ. {وَلا كَرِيمٍ}[الواقعة:44] عَذْبٍ."
لأنه يصل إليهم من سموم النار وحرها ولهبها، الله المستعان، وهو منها. نعم.
"{وَلا كَرِيمٍ} عَذْبٍ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَلَا حَسُنَ مَنْظَرُهُ، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم وَقِيلَ: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}."
يعني الكريم يطلق بإزاء النفيس، الذي فيه الخير وفيه المصلحة، هذا ليس بكريم، «وإياك وكرائم أموالهم» يعني نفائس أموالهم، فالكرم ليس خاصًّا ببذل الأموال وإنما هو أعم من ذلك. نعم.
"أَيْ مِنَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}[الزمر:16] {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}[الواقعة:45] أَيْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَنَعِّمِينَ بِالْحَرَامِ. وَالْمُتْرَفُ: الْمُنَعَّمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتْرَفِينَ أَيْ مُشْرِكِينَ."
الترف جاء ذمه في جميع ما ذكر فيه من النصوص، إنما يساق على سبيل الذم، والترف إنما هو مصاحب لانفتاح الدنيا على الشخص أو على المجموعة على المجتمع كله. هو الذي خشيه النبي -عليه الصلاة والسلام- على أمته، وهو الذي يعقبه زوال الدول كما قرر ذلك ابن خلدون وغيره، فالأمة إذا اشتغلت بالترف بالقدر الزائد عن الحاجة وأوغلت في ذلك ونسيت ما هو أهم منه لا شك أن هذا بدية ضعفها وبداية نهايتها. نعم.
"{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}[الواقعة:46] أَيْ يُقِيمُونَ عَلَى الشِّرْكِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ. وقال الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، يُقَالُ: حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَيْ لَمْ يَبَرَّهَا وَرَجَعَ فِيهَا. وَكَانُوا يُقْسِمُونَ أَنْ لَا بَعْثَ، وَأَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْدَادُ اللَّهِ، فَذَلِكَ حِنْثُهُمْ."
يحلفون على شركهم ويصرون على ذلك ويؤكدونه بالأيمان الكاذبة، فهي أيمان غموس تغمسهم في النار، وقد يكون من وصفهم الحلف باليمين الغموس ولو كان فيما دون الشرك، وقد يعرف طائفة من ذلك بذلك من الناس فيستحقون به العقوبة على شركهم الأصلي وعلى هذا الذنب الذي اشتهروا به. والمؤلف القرطبي -رحمه الله- في سورة هود قرر من خلال استقراء ما حصل للأمم السابقة أنهم أن الأمم إنما عذبت بمعاصي وإن كانت دون الشرك، الشرك موجود لكن الذي يُذكَر في السبب الظاهر والذي يُنَص عليه هو هذه المعصية التي هي دون الشرك، لماذا؟ لأنهم تواطئوا عليها، واستمروها، وصار لا يفروا...بعضهم على بعض فاستحقوا العقوبات. فعوقب قوم لوط الأصل أنهم مشركون لكن بفعلتهم الشنيعة، وعوقب قوم شعيب بالتطفيف، وعوقب جميع الأمم إذا نظرت كما قرر القرطبي -رحمه الله- تجد أن السبب الذي ينص عليه في عقوبتهم دون الشرك، والسبب في هذا أن المعاصي إذا عمت وكثرت في الناس وقل منكرها ولو كانت دون الشرك فإنها تستحق العقوبة العاجلة في الدنيا، وأما العقوبة المؤبدة في الآخرة فمعروف أنه لا يؤبد إلا مشرك.
المقصود أن هؤلاء يصرون على الحنث يعني اليمين الكاذب الغموس ولو كان فيما دون الشرك، وإن كانوا مشركين في الأصل، لكن الذي ينص عليه ويكون سببًا للعقوبة لا سيما العاجلة في الدنيا هو ما دون الشرك، وجاء في الحديث الصحيح: أنهلك وفينا الصالحون؟! يعني إذا جاءت العقوبة عمت الجميع، قال: «نعم، إذا كثر الخبث»، فإذا كان الخبث ظاهرا كثيرا مشتهرا بين الناس، ولا يستطاع إنكاره أو الذي ينكر مقموع لا يستطيع الإنكار إلا بقلبه هؤلاء لا شك أنهم يستحقون العقوبة العاجلة. هذه سنة إلهية لا تتغير ولا تتبدل جاءت بها النصوص، يعني ما استثني من جميع الأمم إذا حل العذاب بها إلا قوم يونس وهذا تقدم في تفسير سورته، قوم يونس لما آمنوا كُشِف عنهم العذاب. ولعل السبب فيما يشير بعضهم إلى أن نبيهم -عليه الصلاة والسلام- حصل منه ما حصل، وذهب مغاضبًا، وأُلقِي في البحر ابتلعه الحوت إلى ما حصل كأنهم يعني وُجِد لهم شيء من العذر بما حصل من نبيهم لما رجعوا وآمنوا كشف عنهم العذاب، مع أن ما حصل لنبيهم -عليه السلام- لا يجوز التحدث عنه على أنه تنقيص لهذا النبي، ولذا جاء الحديث الصحيح: «لا تفضلوني على يونس»، لأنه بصدد أن يُفضَّل عليه بعض من تناولوا ...القصة، نظرًا لما حصل له، وما ذكره المفسرون فيما يحتف بها وبأسبابها ونتائجها قد يتطاول عليه من يتطاول. إذا قال أشرف الخلق وأكرمهم على الله وأتقاهم «لا تفضلوني على يونس» خشية أن يتطاول عليه أحد، فقومه حضروا هذه المواقف التي فيها في الظاهر شيء مما يجعلهم قد يتردد بعضهم في القبول لما حصل من النبي، وهذا ليس بعذر، لكن مما حصل جعل العذاب يُرفع عنهم، لما حقت عليهم كلمة العذاب دون غيرهم من الأمم وإلا غيرهم خلاص إذا نزل العذاب وحقت أو جاءت علامات ومقدمات لا يرفع، يعني ما استُثني إلا قوم يونس، الله المستعان. نعم.
"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}[النحل:38] وَفِي الْخَبَرِ: كَانَ يَتَحَنَّثُ فِي حِرَاءٍ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يُسْقِطُ عَنْه الْحِنْثَ وَهُوَ الذَّنْبُ، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا}[الواقعة:47] هَذَا اسْتِبْعَادٌ مِنْهُمْ لِأَمْرِ الْبَعْثِ وَتَكْذِيبٌ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ آبَائِكُمْ وَالْآخِرِينَ مِنْكُمْ {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الواقعة:50] يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، وَدُخُولُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمَجْمُوعُونَ} هُوَ دَلِيلُ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى، أَيْ إِنَّكُمْ لَمَجْمُوعُونَ قَسَمًا حَقًّا خِلَافَ قَسَمِكُمُ الْبَاطِلِ."
يعني اللام في قوله: {لَمَجْمُوعُونَ} لام تأكيدية واقعة في جواب قسم محذوف، قسم صدق وبر، بخلاف قسمهم الجائر الكاذب، ولذا قال: أَيْ إِنَّكُمْ لَمَجْمُوعُونَ قَسَمًا حَقًّا خِلَافَ قَسَمِكُمُ الْبَاطِلِ، الذي تحنثون فيه كما تقدمت الإشارة إليه. نعم.
"{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ}[الواقعة:51] عَنِ الْهُدَى {الْمُكَذِّبُونَ}[الواقعة:51] بِالْبَعْثِ {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}[الواقعة:52] وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ، كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ (وَالصَّافَّاتِ). {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الواقعة:53] أَيْ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنَ) الْأُولَى زَائِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قَالَ: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ طَعَامًا. وَقَوْلُهُ: {مِنْ زَقُّومٍ} صِفَةٌ لِشَجَرٍ."
لأن (آكلون) اسم فاعل من أكل، فأكل معتدي يحتاج إلى مفعول، ولم يُذكر مفعوله في الآية، فلا بد من أن يقال إن المفعول شجر وعلى هذا تكون (من) صلة زائدة من حيث الإعراب أما من حيث المعنى فهي مؤكدة، أو يُقدَّر آكلون طعامًا أو مأكولًا بيانه من هذه الشجرة الخبيثة الزقوم. نعم.
"وَقَوْلُهُ: {مِنْ زَقُّومٍ} صِفَةٌ لِشَجَرٍ، وَالصِّفَةُ إِذَا قَدَّرْتَ الْجَارَّ زَائِدًا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى، أَوْ جَرَرْتَ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ}[الواقعة:54] أَيْ عَلَى الزَّقُّومِ أَوْ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ عَلَى الشَّجَرِ، لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، {مِنَ الْحَمِيمِ}[الواقعة:54] وَهُوَ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ غَلَيَانُهُ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. أَيْ يُوَرِّثُهُمْ حَرَّ مَا يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ مَعَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ عَطَشًا فَيَشْرَبُونَ مَاءً يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُزِيلُ الْعَطَشَ فَيَجِدُونَهُ حَمِيمًا مُغْلًى."
كما تقدم في صدر الدرس. نعم.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}[الواقعة:55] قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ "شُرْبَ" بِضَمِّ الشِّينِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا؛ لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: شَرِبْتُ شُرْبًا وَشَرْبًا وَشِرْبًا وَشُرُبًا بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ هُوَ الْمَصْدَرُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ فَأَصْلُهُ فَعْلٌ."
يعني الثلاثي المتعدي مصدره فعل، يقول ابن مالك -رحمه الله-:
فعل قياس مصدر المعدى |
| من ذي ثلاثة كرد ردًا |
هذا الأصل للمصدر، كونه يضم أو يكسر هذا لا يغير عن كونه مصدرا عند بعض الناس وبعضهم يقول اسم مصدر، يحيله من كونه المصدر إلى كونه اسم مصدر، ويبقى المصدر على وزنه فعل. نعم.
"أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَرُدُّهُ إِلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَتَقُولُ: فَعْلَةٌ نَحْوُ شَرْبَةٍ وَبِالضَّمِّ الِاسْمُ."
وبضم الاسم اسم المصدر، شُربًا شرب الهيم، ومثل ما تقول فعلة في شربة، وغرفة في المرة الواحدة تقول أيضًا غُرفة. والمراد بها المرة الواحدة من هذا الباب، نعم، {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً}[البقرة:289] واحدة، والأصل في المرة اسم المرة أنه على فعلة. نعم.
"وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْتُوحَ وَالِاسْمَ مَصْدَرَانِ، فَالشَّرْبُ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبُ كَالذُّكْرِ، وَالشِّرْبُ بِالْكَسْرِ الْمَشْرُوبُ كَالطِّحْنِ الْمَطْحُونِ. وَالْهِيمُ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الَّتِي لَا تَرْى لِدَاءٍ يُصِيبُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا..."
إما أن يكون سبب العطش هو هذا الداء الذي يصيبها في أجوافها يورثها عطشًا مستديمًا أو أنها هامت على وجهها وضلت الطريق في صحراء ليس بها ماء في وقت حار لا شك أنه يلزم من ذلك العطش الشديد. نعم.
"وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: هِيَ الْإِبِلُ الْمِرَاضُ. وقال الضَّحَّاكُ: الْهِيمُ الْإِبِلُ يُصِيبُهَا دَاءٌ تَعْطَشُ مِنْهُ عَطَشًا شَدِيدًا، وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ. وَيُقَالُ لِذَلِكَ الدَّاءِ الْهُيَامُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ:
يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ |
| وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شِفَائِهَا |
وَقَوْمٌ هِيمٍ..."
يعني سببه العشق الذي يجعله يهيم على وجهه من غير قصد، كهذه الإبل الضالة الضائعة الهيم الهائمة على وجهها من غير قصد، وعلاجه على حد زعمه بمعشوقته ومحبوبته، لكن هل هذا علاج صحيح؟ كونه غير شرعي هذا أمر مفروغ منه مقطوع به، لكن حتى من حيث الواقع هل كل من ظفر بمحبوبته التي وصل إلى درجة الهيام بسببها تنتهي معاناته أو تزيد معاناته؟ تزيد معاناته. نعم. وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شِفَائِهَا. نعم.
"وَقَوْمٌ هِيمٍ أَيْضًا أَيْ عِطَاشٌ، وَقَدْ هَامُوا هُيَامًا. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ وَالْجَمْعُ هُيَّمٌ. قَالَ لَبِيَدٌ:
أَجَزْتُ إِلَى مَعَارِفِهَا بِشُعْثِ |
| وَأَطْلَاحٍ مِنَ الْعِيدِيِّ هِيمُ |
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْهِيمُ الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمَلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَشْرَبُونَ شُرْبَ الرِّمَالِ الَّتِي لَا تُرْوَى بِالْمَاءِ."
أطلاح؛ يعني المعلق يقول: مهازيل، وجاء في المثل: فلان وبعيره طليحان، يعني قد أتعبهما السهر، وهذا هو المعروف في المثل، وما يردد في كتب الأمثال وكتب اللغة إلا أنه نقله في فتح الباري فقال: طريحان بالراء، والشاهد الذي معنا يجعل نطقه بالراء خطأ، وَأَطْلَاحٍ مِنَ الْعِيدِيِّ هِيمُ يعني مهازيل، والمراد بالرجل وبعيره طليحان يعني هزيلان تعبا من كثرة المشي وطول السفر وبعد الشقة.
طالب:........
الشيخ: إي نعم.
"قال الْمَهْدَوِيُّ: وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا لَا يُرْوَى مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّمَلِ أَهْيَمُ وَهَيْمَاءُ."
ما لا يروى من الإبل معروف أن الإبل يشرب، والرمل أيضًا يشرب الماء، لا تجد الماء على سطح الأرض التي يعلوها الرمل، فهو أهيم كالإبل الهيم. نعم.
"وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا لَا يُرْوَى مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّمَلِ أَهْيَمُ وَهَيْمَاءُ وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْهُيَامُ بِالضَّمِّ أَشَدُّ الْعَطَشِ. وَالْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ. وَالْهُيَامُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى."
وقد يصل الهيام الذي هو نوع من العشق ما هو أشد من الجنون، ما هو أشد من الجنون، نسأل الله السلامة والعافية. المجنون إذا عومل معاملة معينة هدأ وأكل وشرب ونام وارتاح، لكن هذا العاشق الذي وصل إلى هذا الحد -نسأل الله العافية- لا تجده يرتاح له بال ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام، قلبه معلق بمن عشق، وللناس في ما يعشقون مذاهب، يعني لا يلزم أن يكون العشق للنساء، بعضهم يعشق ما هو أشد من ذلك من الغلمان مثلًا، من القصص -نسأل الله العافية- ذكر منها ما هو مخل بأصل الدين، نسأل الله العافية، يصل إلى حد العبادة، لما ليم بعضهم على فتنته بغلام، أنا ما أحفظ الأبيات لكن محتواها أنه يقول: أنظر إليه في الوقت الذي ينشغل الملكان بالنظر إليه، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله العافية. بعض الناس يعشق غير هذا الجنس من متع الدنيا ولذاتها، يعشق بعض ما يستفاد من هذه الدنيا، فتجده قلبه معلق به، وتحدثه وهو ليس معك، لماذا؟ لأن سيارة كان يخطط لشرائها فبيعت، أو لأن أرضًا، أو لأن قصرًا، أو لأن... المقصود أن هذه الأمور تصل إلى حد العبادة لهذه العروض الفانية الزائلة، ولذا جاء في الحديث: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» كلٌّ له ما يعشقه وما يهتم به، كلٌّ له اهتمامه من البشر، لكن من كان همه الآخرة يرتاح، اجتمع فكره عليه وعلى الهدف الذي من أجله خُلِق، ولم يتشتت في فكره وهمه، في أمور لا تنتهي، ولن يحصل منها إلا على ما كتب له، ومع ذلك قد يحصل على ما يريد ثم يلوح له ما هو أفضل منه من جنسه، فيكون الذي بيده كلا شيء، يبدأ المعاناة من جديد، وهكذا في أمور لا تنتهي سلسلتها. نعم.
طالب: أحسن الله إليك، تسمية الأنثى بالهيام؟
الشيخ: يعني عشق أو غاية العشق ونهايته، اسم مكروه، مكروه ليس بحسن. نعم.
"يُقَالُ: نَاقَةٌ هَيْمَاءُ. وَالْهَيْمَاءُ أَيْضًا: الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا. وَالْهَيَامُ بِالْفَتْحِ: الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ أَنْ يَسِيلَ مِنَ الْيَدِ لِلِينِهِ، وَالْجَمْعُ هِيمٌ مِثْلُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ. وَالْهِيَامُ بِالْكَسْرِ: الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الْوَاحِدُ: هَيْمَانُ، وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ مِثْلُ عَطْشَانَ وَعَطْشَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}[الواقعة:56] أَيْ رِزْقُهُمُ الَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ، كَالنُّزُلِ الَّذِي يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الانشقاق:24] وَكَقَوْلِ أَبِي السَّعْدِ الضَّبِّيِّ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا |
| جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا |
هذا استخفاف واستهتار، يجعل القنا والمرهفات السيوف هي هذه نزله؟! وكان من وصفه أنه جبار، في الأصل أنه يراد الاستيلاء عليهم وعلى أموالهم لكن ماذا يعدون له من الإكرام؟ هل يقدمون له ما يوصلهم إلى قلبه ويتوددون إليه بحيث يكف شره عنهم، أو أنهم يعدون له ما يكفه ويردعه؟ قال: جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا، يعني هذه ضيافته، بخلاف من يضعف أمام خصمه، ويقدم له التنازلات شيئًا فشيئًا، والخصم لا يرضيه إلا الهدف الأكبر والغنيمة العظمى، ما يقتصر على دون ما يقدر عليه. فالضعف لا يحل إشكال، والتنازلات هذه لا تخرج هذا المستضعف من مأزقه وحالته التي يعيش فيها، بل العكس تجد العدو يساوم على الأشياء شيئًا فشيئًا إلى أن يأخذ جميع ما بيدك، ثم بعد ذلك يأتي الدمار الشامل كما حصل لدمشق على يد تيمورلنك، نزل بها وحاصرها، وطلب من يفاوضه، فأرسلوا له شخص من كبار القضاة -عفا الله عنه عنا وعنه- هو معروف يعني وصارت قادح في ترجمته، لما تُرجِم أُشيد بعلمه وعمله لولا قصة تيمور؛ لأنه لما رجع صار يمدح تيمور، تيمور لان له في الكلام، وقال: تعطوننا مبلغ كذا وننصرف، عشرة آلاف ألف دينار يعني عشرة ملايين، جمعوا هذه العشرة ملايين، كثير منهم باع ما يملك، فلما وضعت بين يديه، قال: هذا على حسابكم هذا ديناركم أنتم، نحن دينارنا ثلاثة أضعاف ديناركم، ما يرضى بالشيء اليسير ويستطيعه، رجع هذا الوسيط وهو قاضي من كبار القضاة -عفا الله عنا وعنهم- قال: هذا ما يقول تيمور، فوصل الحد إلى أن باعوا جميع ما يملكون، ووضعت الأموال بين يديه، فقال: هاتوا خطط دمشق نوقع عليها لكم بالصلح والأمان فلما جيء بخطط دمشق وأحيائها وحاراتها وضع عليها علامات ودواوير قسم الأحياء على قواده، قال: كلٌّ له هذا الحي يصنع به ما شاء، فلما دخل وفعل الأفاعيل -نسأل الله العافية- بشيء لا يخطر على البال. يعني لكل قوم وارث يعني ما يحصل في بلاد المسلمين بسبب الكفار من الإهانات والأعراض وصنوف العذاب، يعني من يقرأ في هذه القصة يجد أن الصورة مطابقة، فوزع على قواده، ودمروها تدميرًا، ثم لما خرج القواد منها وليس فيها شيء يذكر ولم يترك فيها إلا من عمره خمس فأقل، أما البقية كلهم أبيدوا أُدخِل العبيد فأحرقوها في يوم شديد الريح فانتهت دمشق. يقول العدو لا شك أنه لا يرضى بشيء وهو يقدر على من هو أعلى منه، والخطط معروفة عند الأعداء من قديم، يساوم ثم يساوم ثم يساوم ثم إذا فرغ ما بيدك وصار ما تقدر تقاوم ما تحتاج إلى شيء، يعني في بلاد الأندلس في وقت السقوط جاءت المطالب من النصارى على يد أدفونش...كبيرهم، ثم بدأ يطلب يطلب يطلب إلى أن قال: لنا الجبال ولكم السهول، عشان أيش؟ تسهل إبادتهم، وكان من مطالبه -قاتله الله- أن تلد زوجته في محراب الجامع الكبير، إلى أن وصل الأمر إلى أن يفتى أهل الأندلس بأن يصلوا بطرفهم وأن تخلع أبواب البيوت خلعت يعني عشان يدخل الأعداء في أي وقت يريدون، خلعت الأبواب فأفتوا أن يصلوا بالطرف وأن يتيمموا بالجدران، كأنه يحك يده بالجدران ويتيمم، ثم بعد ذلك جاءت النهاية، والسبب في هذا هو البعد عن دين الله والتهاون بأمر الله، والله المستعان.
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا، جبار جاء للضيافة الجبار هذا؟ جاء ليستولي على ما عندهم من أموال على طريقة العرب في الإغارات والنهب، جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا، يعني هذا ضيافته ما عندنا غير هذا، بخلاف من حل ضيف بمعنى الضيافة هذا يكرم، هذا لا إشكال في إكرامه، لكن من جاء ليذل الناس ويأخذ ما بأيديهم هذا لا يفيد معه إلا المرهفات. نعم.
طالب:...........
الشيخ: المقصود النزل وهو يريد النزل هذا. هؤلاء لهم نزل وهذا له نزله. هذا المقصد. الأصل في النُزُل أنها الضيافة، والضيافة إكرام لكن كونه يعد العذاب نُزُل هذا تهكم. نعم.
"وَقَرَأَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَعَبَّاسٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو "هَذَا نُزْلُهُمْ" بِإِسْكَانِ الزَّايِ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (آلِ عِمْرَانَ) الْقَوْلُ فِيهِ. {يَوْمَ الدِّينِ} يَوْمَ الْجَزَاءِ، يَعْنِي فِي جَهَنَّمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ}[الواقعة:57] أَيْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ؟ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: نَحْنُ خَلَقْنَا رِزْقَكُمْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ أَنَّ هَذَا طَعَامُكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}[الواقعة:58] أَيْ مَا تَصُبُّونَهُ مِنَ الْمَنِيِّ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ}[الواقعة:59] أَيْ تُصَوِّرُونَ مِنْهُ الْإِنْسَانَ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ الْمُقَدِّرُونَ الْمُصَوِّرُونَ. وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَبَيَانٌ لِلْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ: إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّا خَالِقُوهُ لَا غَيْرُنَا فَاعْتَرِفُوا بِالْبَعْثِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ وَأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: "تَمْنُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ أَمْنَى وَمَنَى."
يعني من الثلاثي والرباعي، فما كان من الثلاثي فهو مفتوح، المضارع، حرف المضارع الأول، وما كان من الرباعي فهو مضموم. نعم.
"أَمْنَى وَمَنَى، وَأَمْذَى وَمَذَى يُمْنِي وَيَمْنِي وَيُمْذِي وَيَمْذِي. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهَا عِنْدِي، فَيَكُونُ أَمْنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ جِمَاعٍ، وَمَنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ الِاحْتِلَامِ. وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَنِيِّ مَنِيًّا وَجْهَانِ..."
ما يسنده أصل الكلمة يعني الاختلاف تنزيل الألفاظ على الأحوال من غير ما يقتضي التفريق لغة، تنزيل هذا اللفظ على حالة وتنزيل هذا اللفظ على حالة من غير دليل، ما فيه دليل يدل على هذا إذا قال:" وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهَا عِنْدِي، فَيَكُونُ أَمْنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ جِمَاعٍ، وَمَنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ الِاحْتِلَامِ"، يعني هل في لغة العرب ما يدل على ذلك ومن النصوص ما يدل على هذا؟ ليس فيها شيء من ذلك، إلا أنه أراد أن يخصص كل لفظ بحالة، لكن لابد أن يكون له مستند، يعني لو قيل العكس؟ ما فيه ما يمنع. نعم.
"وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَنِيِّ مَنِيًّا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لِإِمْنَائِهِ وَهُوَ إِرَاقَتُهُ. الثَّانِي: لِتَقْدِيرِهِ، وَمِنْهُ الْمَنَا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ مِقْدَارٌ صَحِيحٌ لِتَصْوِيرِ الْخِلْقَةِ."
الإراقة منه قيل لمِنى المشعر المعروف مِنى لكثرة ما يراق بها من الدماء. نعم.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}[الواقعة:60] احْتِجَاجٌ أَيْضًا، أَيِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْإِمَاتَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْخَلْقِ قَدَرَ عَلَى الْبَعْثِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ "قَدَرْنَا" بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. والْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ سَوَّيْنَا بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: قَضَيْنَا. وَقِيلَ: كَتَبْنَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، فَلَا أَحَدَ يَبْقَى غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ}[الواقعة:60-61] أَيْ: إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ لَمْ يَسْبِقْنَا أَحَدٌ، أَيْ: لَمْ يَغْلِبْنَا. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} مَعْنَاهُ بِمَغْلُوبِينَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ بِآخَرِينَ مِنْ جِنْسِكُمْ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فِي آجَالِكُمْ، أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُ مُتَأَخِّرٌ، وَلَا يَتَأَخَّرُ مُتَقَدِّمٌ. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61]."
{فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34]، هذا إذا جاء الأجل وحل، وأما قبل مجيئه فالمسألة خلاف بين أهل العلم في الزيادة المبنية على الصلة، «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَجله فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، فإذا قلنا أن الزيادة حقيقة حملنا إذا جاء أجلهم على أنه إذا حضر، هذا لا يقبل الزيادة أو النقص، وقبل حضوره فإنه إذا بر الإنسان زيد له وإلا فلا. وأما من يقول أن المراد بالزيادة الزيادة المعنوية وهي البركة في العمر بحيث ينتج في عمره ولو كان قصيرًا الأربعين والخمسين ما لا ينتجه صاحب المائة وزيادة، يعني بركة في عمره وهذا شيء مشاهد، بعض الناس يعيش أربعين سنة، عمر بن عبد العزيز أربعين سنة ما كمل الأربعين وكثير من أهل العلم ابن عبد الهادي إمام من أئمة الحنابلة من أئمة المحدثين تسعة وثلاثين سنة، حافظ الحكمي ثلاثة وثلاثين سنة، وهكذا ملأوا الدنيا علمًا، النووي خمسة وثلاثين سنة. المقصود أن العمر إنما يحسب بالإنتاج، عمر الإنسان حقيقته إنتاجه مما يوصله إلى الله -جل وعلا-، وما عدا ذلك فهي تطلع الشمس وتغيب الشمس وتنتهي الدنيا، وينتهي العمر السبت والأحد والاثنين، السبت والأحد والاثنين خلاص انتهى، ثم ماذا؟ اليوم مثل أمس وغدًا مثل اليوم وهكذا. كثيرٌ من الناس هذا حاله، فلا فرق بين أن يعيش ستين أو يعيش مائة، ما فيه فرق، حياة روتينية مملولة ليس لها طعم، لكن الإنسان الذي ينتج ويرى نتاجه وتجد العالم في كل سنة ينظر إلى مصنفاته وهي زادت عشرة عشرين، بعضهم أكثر من ذلك، هذا العمر الحقيقي. أما مجرد أكله وشربه ونومه وقيل وقال ويمضي العمر على هذا ليست هذه حياة. إنما الإنسان خُلِق لتحقيق هدف، إن حققه سعد وإلا فلا، والله المستعان.
طالب:......
الشيخ: والله الزيادة الحقيقة عليها الإشكالات أن الأجل والعمر محدد لا يزيد ولا ينقص، ويكتب أجله وهو في بطن أمه، وهي الأصل يعني الزيادة الحقيقية هي الأصل في اللفظ لكن الزيادة في البركة قال بها جمع من أهل العلم ولها حظ من النظر والواقع يشهد بها، وأما زيادة العمر فليست يعني..، يُنْسَأَ له في أثره ثم ماذا؟ يزيد عشر سنين من جنس السبعين اللي راحت، ما لها ميزة، لكن إذا كانت بالبركة فهنا المحط محط النظر الذي ينبغي أن يعتني به. نعم.
"{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الواقعة:61] مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ: نَجْعَلُكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا فَعَلْنَا بِأَقْوَامٍ قَبْلَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي الْبَعْثِ عَلَى غَيْرِ صُوَرِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُجَمَّلُ الْمُؤْمِنُ بِبَيَاضِ وَجْهِهِ، وَيُقَبَّحُ الْكَافِرُ بِسَوَادِ وَجْهِهِ. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ} يَعْنِي فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ سُودٍ تَكُونُ بِبَرَهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ، وَبَرَهُوتُ وَادٍ فِي الْيَمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا. وَقِيلَ : الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي عَالَمٍ لَا تَعْلَمُونَ، وَفِي مَكَانٍ لَا تَعْلَمُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى}[الواقعة:62] أَيْ: إِذْ خُلِقْتُمْ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وقال قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ..."
طالب:.....
الشيخ: هذا توارثه المفسرون، كلهم يقولون هذا، يعني أرواح الكفار. والله أعلم، أنا ما حققت المسألة. نعم.
"وقال قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ يَعْنِي خَلْقُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}[الواقعة:62] أَيْ: فَهَلَّا تَذَكَّرُونَ. وَفِي الْخَبَرِ: عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُكَذِّبِ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَعَجَبًا لِلْمُصَدِّقِ بِالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يَسْعَى لِدَارِ الْقَرَارِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ النَّشْأَةَ بِالْقَصْرِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "النَّشَاءَةَ" بِالْمَدِّ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْعَنْكَبُوتِ) بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63] هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى، أَيْ: أَخْبِرُونِي عَمَّا تَحْرُثُونَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَتَطْرَحُونَ فِيهَا الْبَذْرَ، أَنْتُمْ تُنْبِتُونَهُ وَتُحَصِّلُونَهُ زَرْعًا فَيَكُونَ فِيهِ السُّنْبُلُ وَالْحَبُّ أَمْ نَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا مِنْكُمُ الْبَذْرُ وَشَقُّ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّ إِخْرَاجَ السُّنْبُلَ مِنَ الْحَبِّ لَيْسَ إِلَيْكُمْ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ إِخْرَاجَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِعَادَتَهُمْ؟! وَأَضَافَ الْحَرْثَ إِلَيْهِمْ وَالزَّرْعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَرْثَ فِعْلُهُمْ وَيَجْرِي عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالزَّرْعُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْبُتُ عَلَى اخْتِيَارِهِ لَا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ وَلْيَقُلْ حَرَثْتُ فَإِنَّ الزَّارِعَ هُوَ اللَّهُ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64]."
الشيخ: خرّجه؟
طالب: أحسن الله إليك، قال أخرجه البزار والطبري وصححه ابن حبان وابن نعيم في الحلية والبيهقي كلهم من حديث أبي هريرة وإسناده حسن، فيه حسن (51:12). انتهى كلام المحقق والحديث ضعفه البيهقي لقوله (51:22).
الشيخ: بعضهم أثبت اسم الزارع لله -جل وعلا- من هذا الحديث ومن الآية. نعم.
"وَالْمُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ يُلْقِي الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: بَلِ اللَّهُ الزَّارِعُ وَالْمُنْبِتُ وَالْمُبَلِّغُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَارْزُقْنَا ثَمَرَهُ، وَجَنِّبْنَا ضَرَرَهُ، وَاجْعَلْنَا لِأَنْعُمِكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِآلَائِكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَمَانٌ لِذَلِكَ الزَّرْعِ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ..."
مثل هذا يحتاج إلى توقيف، بنص صحيح عن المعصوم، والتعبد بمثل هذه الأمور في موطن معين في وقت معين هذا مما لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة هذا ابتداع، لكن مجرد الدعاء المطلق حينما يلقي الزرع يدعو بدعاء لا يتعبد به هذا ما فيه إشكال، لكن يبقى أن التعبد باللفظ المذكور لا يزيد عنه ولا ينقص ويستعمله في كل ما يزرعه ويعتقد مع ذلك أنه ينفع أمان لذلك الزرع من جميع الآفات هذا يحتاج إلى نص ملزم. وذكر ابن أبي حاتم في ترجمة أحد الرواة نسيته الآن في الجرح والتعديل أنه كلما غرس نخلة صلى عندها ركعتين. والبخاري -رحمه الله تعالى- يُذكر في ترجمته أنه ما وضع في كتابه حديثًا إلا بعد أن يصلي ركعتين. فهل اعتماد مثل هذه الأمور يحتاج إلى نص أو أن هذه من الأمور التي يدخلها الاجتهاد؟ والصلاة بابها معروف ومن أفضل العبادات وكذلك الدعاء، بعضهم يتسامح في هذا، يتساهل لكن تعيين شيء يتقرب به إلى الله -جل وعلا- وتحديد مكان له أو زمان أو عدد لم يرد به شرع هذا ابتداع. نعم.
طالب:......
الشيخ: هذا أمر سهل، الاستخارة لها أصل، على كل حال نحتاط لمثل هذه الأمور. نعم.
طالب: ما يقال إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فهذا من هذا الباب؟
الشيخ: يعني فزع إذا حزبه غرس نخلة؟
طالب: لا لا أقصد فعل البخاري.
الشيخ: فعل البخاري إذا كان المقصود به ركعتي استخارة هل يضع هذا الحديث أو لا يضعه هذا ما فيه إشكال. نعم.
طالب:......
الشيخ: كأنها مجربة. قال: سمعناه من ثقة وجُرِّب فوُجد كذلك.
طالب: هل هذا يكفي؟
الشيخ: لا ما تكفي التجربة، ما هو بعلاج، له دواء محسوس تكفي في التجربة. نعم.
"وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَمَانٌ لِذَلِكَ الزَّرْعِ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ: الدُّودُ وَالْجَرَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَمِعْنَاهُ مِنْ ثِقَةٍ وَجَرَّبَ فَوَجَدَ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أَيْ: تَجْعَلُونَهُ زَرْعًا. وَقَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ زَرَّاعٌ كَمَا يُقَالُ حَرَّاثٌ، أَيْ: يَفْعَلُ مَا يَئُولُ إِلَى أَنْ يَكُونَ زَرْعًا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الزَّرْعِ عَلَى بَذْرِ الْأَرْضِ وَتَكْرِيبِهَا تَجَوُّزًا، قُلْتُ: فَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَأَدَبٍ لَا نَهْيَ حَظْرٍ وَإِيجَابٍ."
يقصد ما جاء في الحديث: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ وَلْيَقُلْ حَرَثْتُ».
"وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي» وَقَدْ مَضَى فِي (يُوسُفَ) الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: لَا يَقُلْ حَرَثْتُ فَأَصَبْتُ، بَلْ يَقُلْ: أَعَانَنِي اللَّهُ فَحَرَثْتُ، وَأَعْطَانِي بِفَضْلِهِ مَا أَصَبْتُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ حَتَّى عَاشُوا بِهِ لِيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: الْبُرْهَانُ الْمُوجِبُ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ بَعْدَ تَلَاشِي بَذْرِهِ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى اسْتِوَاءِ حَالِهِ مِنَ الْعَفَنِ وَالتَّتْرِيبِ حَتَّى صَارَ زَرْعًا أَخْضَرَ، ثُمَّ جَعَلَهُ قَوِيًّا مُشْتَدًّا أَضْعَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِإِعَادَةِ مَنْ أَمَاتَ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَقْدَرُ، وَفِي هَذَا الْبُرْهَانِ مَقْنَعٌ لِذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}[الواقعة:65] أَيْ: مُتَكَسِّرًا، يَعْنِي الزَّرْعَ. وَالْحُطَامُ: الْهَشِيمُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ."
والتأكيد باللام {لَجَعَلْنَاهُ} هذا لأن هذا الفعل الذي هو الحرث والزرع يكثر على ألسنة الناس نسبتهما إلى البشر، يكثر على ألسنة الناس أن فلان زرع، وفلان حصد، وفلان بذر، وفلان فعل، فجاء التأكيد، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} يعني مع أنكم تنسبونه إليكم فماذا عما لو جعلناه حطامًا؟ بالأمر المؤكد لأنهم بصدد أن ينسبوه إلى أنفسهم، فجاء الرد عليهم بهذا، لكن ماذا عن {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ}[الواقعة:68-70] بدون لام، ما في أحد يقول: أنا تصرفت ونزلت المطر، ولذلك لا يحتاج إلى تأكيد، ولا يخفى على المتكلم وهو الله -جل وعلا- أنه سيأتي في آخر الناس في آخر الزمان من يقول: والله استمطرنا ومطرنا، فعلنا وتركنا في مسألة الاستمطار، لكنه نزل هذه المسألة مثل أو هذه الدعوى مثل عدمها، جعلها مثل عدمها، ولذلك ما أكد، يعني قد يقول قائل: نعم يقول زرعنا وحرثنا وفعلنا، فجاء قوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ}، بالتأكيد لاجتثاث هذه الدعوى التي يدعونها، لكن إن زال المطر لن يدعيه أحد، ولو ادعاه مدعٍ لكانت دعواه مثل عدمها؛ لأنها لا قبول لها عقلًا ولا نقلًا ولذلك ما أكد، {جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}[الواقعة:70] مثل قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}[الواقعة:65]، فهذه الدعاوى التي تقال والمحاولات التي يعلن عنها وتذكر هذه وجودها مثل عدمها، لا قيمة لها. نعم.
"وَالْحُطَامُ: الْهَشِيمُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فِي مَطْعَمٍ وَلَا غِذَاءٍ، فَنُبِّهَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا أَوْلَاهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ فِي زَرْعِهِمْ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُطَامًا لِيَشْكُرُوهُ. الثَّانِي: لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ الزَّرْعَ حُطَامًا إِذَا شَاءَ وَكَذَلِكَ يُهْلِكُهُمْ إِذَا شَاءَ لِيَتَّعِظُوا فَيَنْزَجِرُوا، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}[الواقعة:65] أَيْ: تَعْجَبُونَ بِذَهَابِهَا وَتَنْدَمُونَ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَفَكَّهَ أَيْ: تَعَجَّبَ، وَيُقَالُ: تَنَدَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أَيْ: تَنْدَمُونَ. وَتَفَكَّهْتُ بِالشَّيْءِ تَمَتَّعْتُ بِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: تَنْدَمُونَ عَلَى نَفَقَاتِكُمْ، دَلِيلُهُ: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَلَاوَمُونَ وَتَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ عُقُوبَتَكُمْ حَتَّى نَالَتْكُمْ فِي زَرْعِكُمْ."
يعني مثل ما حصل {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}[ن:30] في قصة الجنة، ندموا على ما فعلوا لكن لاتَ ساعةَ مَنْدَم بعد إتلاف الزرع. نعم.
"وقال ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: تَفَكَّهُونَ"
وَتَفَكَّنُونَ بالنون.
"وَتَفَكَّنُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالنُّونُ لُغَةُ عُكْلٍ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْتَفَكُّنُ: التَّنَدُّمُ عَلَى مَا فَاتَ. وَقِيلَ: التَّفَكُّهُ: التَّكَلُّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِزَاحِ فُكَاهَةٌ، بِالضَّمِّ، فَأَمَّا الْفُكَاهَةُ بِالْفَتْحِ فَمَصْدَرُ فَكِهَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ فَكِهٌ إِذَا كَانَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَزَّاحًا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "فَظَلْتُمْ" بِفَتْحِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ "فَظِلْتُمْ" بِكَسْرِ الظَّاءِ وَرَوَاهَا هَارُونُ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. فَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ ظَلَلْتُمْ فَحَذَفَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَمَنْ كَسَرَ نَقَلَ كَسْرَةَ اللَّامِ الْأُولَى إِلَى الظَّاءِ ثُمَّ حَذَفَهَا، {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}[الواقعة:66] وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ "أَإِنَّا" بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَرَوَاهُ عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ. والْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: يَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أَيْ: مُعَذَّبُونَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُحَلِّمِ:
وَثِقْتُ بِأَنَّ الْحِفْظَ مِنِّي سَجِيَّةٌ |
| وَأَنَّ فُؤَادِي مُتْبَلٌ بِكَ مُغْرَمُ |
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ : لَمُولَعٌ بِنَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ:
سَلَا عَنْ تَذَكُّرِهِ تُكْتَمَا |
| وَكَانَ رَهِينًا بِهَا مُغْرَمَا |
يُقَالُ: أُغْرِمَ فُلَانٌ بِفُلَانَةٍ، أَيْ: أُولِعَ بِهَا، وَمِنْهُ الْغَرَامُ وَهُوَ الشَّرُّ اللَّازِمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لَمُلْقُونَ شَرًّا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مُهْلَكُونَ. وقال النَّحَّاسُ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَرَامِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ:
يَوْمُ النِّسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَارِ |
| كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا |
عذاب جهنم، نسأل الله العافية، {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65]، يعني أنه ملازمٌ للمعذب ملازمة الغريم لغريمه، بحيث لا يتركه ولا يفلته. نعم.
طالب: يوم النسار.
الشيخ: يوم النسار بالراء.
طالب: النسار ولا النار؟
الشيخ: النسار ويوم الجفا. الجفار؟
طالب:.....
الشيخ: يعني معروف، ها؟
طالب: النسار والجفار.
الشيخ: إي كلاهما بالراء النسار والجفار، وهما يومان من أيام العرب المشهورة، نعم؟
طالب:.....
الشيخ: إي لكن نُسب إلى هذا الموضع يوم من أيام العرب وقعت فيهم واقعة النسار والجفار، نعم.
طالب:.....
الشيخ: يعني صاحبه الاعتقاد الذي يسمون بسببه هذا الاسم؛ لأنهم عندهم اعتقاد في هذا، يسمي به من يولد له ثم يموت ثم يولد ثم يموت، ها؟
طالب:.....
الشيخ: كيف؟
طالب:.....
الشيخ: يسمون غرم الله، موجود في غامد وشهران ووزهران والجهات كلهم يسمون غرم الله، فإن صاحبه هذا الاعتقاد فهو سيء جدا.
طالب:.....
الشيخ: لا أعلم.
طالب: الشيخ علي الطنطاوي.
الشيخ: ذكرها؟
طالب:.....
الشيخ: على كل حال اعتقادات فاسدة وباطلة، لكن يُنظَر في أصل اللفظ لمن تجرد عن هذا الاعتقاد.
طالب:.....
الشيخ: لا شك أن الاعتقاد له أثر في الحكم، يبقى أن الأصل غرم في مقابل غُنم، نعم إن كان في مقابل غُنم احتاج إلى مقابله، نعم.
"كَمَا قَالَ:
يَوْمُ النِّسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَارِ |
| كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا |
قال الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مِنَ الْغُرْمِ، وَالْمُغْرَمُ الَّذِي ذَهَبَ مَالُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَيْ: غَرِمْنَا الْحَبَّ الَّذِي بَذَرْنَاهُ. وَقَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: مُحَاسَبُونَ، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[الواقعة:67] أَيْ: حُرِمْنَا مَا طَلَبْنَا مِنَ الرِّيعِ. وَالْمَحْرُومُ الْمَمْنُوعُ مِنَ الرِّزْقِ. وَالْمَحْرُومُ ضِدُّ الْمَرْزُوقِ وَهُوَ الْمُحَارِفُ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِأَرْضِ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَرْثِ؟» قَالُوا: الْجُدُوبَةُ، فَقَالَ: «لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا الزَّارِعُ إِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالْمَاءِ، وَإِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالرِّيحِ وَإِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالْبَذْرِ» ثُمَّ تَلَا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}."
الشيخ: خرّجه؟
طالب:.......
الشيخ: نعم.
"قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ أَدْخَلَ الزَّارِعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَبَاهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى)."
الشيخ: نعم إذا ما كان في الباب إلا هذين الحديثين فلا يثبت بهما هذا الاسم. نعم.
طالب:......
الشيخ: لكن على الرواية التي فيها اللفظ وأثبت أقول استند إلبها المؤلف هي ضعيفة وهذا الحديث الذي في الآخر لا أصل له. نعم.
طالب:......
الشيخ: كتاب الأسنى في شرح... هو محقق وجاهز من سنين، ما أدري طلع الأيام دي ولا لا. نعم.
طالب:......
الشيخ: المستفيض عند الناس قاطبة أنه مخطط وإلا لا يمكن التفريق بينه وبين أهله.
طالب:......
الشيخ: هذا مخطط موجود، وأكثر الناس عليه، ومن تردد وتوقف هذه شبهة. نعم.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68] لِتُحْيُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، وَتُسَكِّنُوا بِهِ عَطَشِكُمْ؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ إِنَّمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ، وَلِهَذَا جَاءَ الطَّعَامُ مُقَدَّمًا فِي الْآيَةِ قَبْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَسْقِي ضَيْفَكَ بَعْدَ أَنْ تُطْعِمَهُ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَكَسْتَ قَعَدْتَ تَحْتَ قَوْلِ أَبِي الْعَلَاءِ:
إِذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضًا |
| سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبِمًا زُلَالَا" |
شبمًا بالباء يعني باردًا.
"وَسُقِيَ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَالَ: أَنَا لَا أَشْرَبُ إِلَّا عَلَى ثَمِيلَةٍ."
أي لأن الذي يسقي الضيوف قبل الأكل قد يكون مراده أن تمتلئ بطونهم من الماء فلا يكثروا من أكل الطعام فهذه مذمة، لكن إن طلب الضيف الماء قبل الطعام فالأمر لا يعدوه ما يُذّم به. نعم.
"{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ}[الواقعة:69] أَيِ: السَّحَابِ، الْوَاحِدَةُ مُزْنَةٌ، فَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَنَحْنُ كَمَاءِ الْمُزْنِ مَا فِي نِصَابِنَا |
| كَهَامٍ وَلَا فِينَا يُعَدُّ بَخِيلُ |
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمُزْنَ السَّحَابُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالثَّوْرِيِّ: الْمُزْنُ السَّمَاءُ وَالسَّحَابُ. وَفِي الصِّحَاحِ: قال أَبُو زَيْدٍ: الْمُزْنَةُ: السَّحَابَةُ الْبَيْضَاءُ وَالْجَمْعُ مُزْنٌ، وَالْمُزْنَةُ الْمَطْرَةُ، قَالَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مُزْنَةً |
| وَعُفْرُ الظِّبَاءِ فِي الْكِنَاسِ تَقَمَّعُ |
{أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}[الواقعة:69] أَيْ: فَإِذَا عَرَفْتُمْ بِأَنِّي أَنْزَلْتُهُ فَلِمَ لَا تَشْكُرُونِي بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِي؟ وَلِمَ تُنْكِرُونَ قُدْرَتِي عَلَى الْإِعَادَةِ؟ {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}[الواقعة:70] أَيْ: مِلْحًا شَدِيدَ الْمُلُوحَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وقال الْحَسَنُ: مُرًّا قُعَاعًا لَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي شُرْبٍ وَلَا زَرْعٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، {فَلَوْلَا}[الواقعة:70] أَيْ: فَهَلَّا {تَشْكُرُونَ}[الواقعة:70] الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ بِكُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[الواقعة:71] أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنِ النَّارِ الَّتِي تُظْهِرُونَهَا بِالْقَدْحِ مِنَ الشَّجَرِ الرَّطْبِ {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا}[الواقعة:72] يَعْنِي الَّتِي تَكُونُ مِنْهَا الزِّنَادُ وَهِيَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، أَيِ: اسْتَكْثَرَ مِنْهَا، كَأَنَّهُمَا أَخَذَا مِنَ النَّارِ مَا هُوَ حَسْبُهُمَا. وَيُقَالُ: لِأَنَّهُمَا يُسْرِعَانِ الْوَرْيَ. يُقَالُ: أَوْرَيْتُ النَّارَ إِذَا قَدَحْتهَا. وَوَرَى الزَّنْدُ يَرِي إِذَا انْقَدَحَ مِنْهُ النَّارُ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى: وَوَرِيَ الزَّنْدُ يَرِي بِالْكَسْرِ فِيهِمَا. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ}[الواقعة:72]."
ووريه سقطه يعني سقط الزند وريه، في الديوان المشهور لأبي العلاء اسمه سقط الزند، مطبوع في خمس مجلدات كبار، والمراد به وريه. نعم.
"أَيِ: الْمُخْتَرِعُونَ الْخَالِقُونَ، أَيْ: فَإِذَا عَرَفْتُمْ قُدْرَتِي فَاشْكُرُونِي وَلَا تُنْكِرُوا قُدْرَتِي عَلَى الْبَعْثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً}[الواقعة:73] يَعْنِي نَارَ الدُّنْيَا مَوْعِظَةً لِلنَّارِ الْكُبْرَى؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقال مُجَاهِدٌ..."
لكن من يتذكر؟ من يتذكر من الكبار المكلفين الذين عندهم شيء من العلم وعلى ذكر من هذه الآيات؟ قَلّ من يتذكر، قَلّ من يتعظ، وقد يصيبه لفحها وحرارتها وسمومها، وقد تخطيء يده فتقع فيها، وقد يطير إليه شيء من شررها، ومع ذلك لا يعتبر ولا يدكر. وأسرة جالسة محيطة بنار فبكى طفل صغير عندهم، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: النار، قالوا له: أنت لست بمكلف، قال: أراكم تضعون الصغار قبل الكبار، الحطب الصغار يوضع قبل الكبار فخشي، فهذا الادكار وهذا الاعتبار. تجد الإنسان يجلس ويحيط بالنار ومعه قومه يتبادلون الأطراف والنكت والفكاهات ويضحكون ويحصل لهم ما يحصل من حرها ولفحها وشررها، والله المستعان، لكنها القلوب قد غطى عليها ما غطى. نعم.
"وَقال مُجَاهِدٌ: تَبْصِرَةً لِلنَّاسِ مِنَ الظَّلَامِ. وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ، قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا»، {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}[الواقعة:73] قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ: مَنْفَعَةً لِلْمُسَافِرِينَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُزُولِهِمُ الْقَوَى وَهُوَ الْقَفْرُ. قال الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يُقَالُ لِلْمُسَافِرِينَ: مُقْوِينَ إِذَا نَزَلُوا الْقِيَّ وَهِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْقَوَى وَالْقَوَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَمَنْزِلٌ قَوَاءٌ لَا أَنِيسَ بِهِ، يُقَالُ: أَقْوَتِ الدَّارُ وَقَوِيَتْ أَيْضًا أَيْ: خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ |
| أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ |
وَقَالَ عَنْتَرَةُ :
حُيِّيْتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ |
| أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ |
وَيُقَالُ: أَقْوَى أَيْ: قَوِيَ وَقَوِيَ أَصْحَابُهُ، وَأَقْوَى إِذَا سَافَرَ أَيْ: نَزَلَ الْقَوَاءَ وَالْقِيَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُقْوِينَ الْمُسْتَمْتِعِينَ بِهَا مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالِاسْتِضَاءَةِ، وَيُتَذَكَّرُ بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ فَيُسْتَجَارُ بِاللَّهِ مِنْهَا."
لا شك أن النار متاعًا لجميع الناس، ما في أحد يستغني عنها، لكن التنصيص على بعض الأفراد؛ لأنهم أشد حاجة إليها المسافر أو الجائع فلا شك أنه أشد حاجة من المقيم والشبعان، لأن حاجته للنار لأنه أقل يحتاج إلى إنضاج ما يريد أكله، كما يقال للمسافر مقوي، ويضرب في القواء في الصحراء يقال للجائع مقوي، ويقال بات القواء يعني بات من غير طعام، وما زالت هذه اللفظة مستعملة، بات القواء. نعم.
"وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِلْجَائِعِينَ فِي إِصْلَاحِ طَعَامِهِمْ. يُقَالُ: أَقْوَيْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ: مَا أَكَلْتُ شَيْئًا، وَبَاتَ فُلَانٌ الْقَوَاءَ وَبَاتَ الْقَفْرَ، إِذَا بَاتَ جَائِعًا عَلَى غَيْرِ طُعْمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَخْتَارُ الْقَوَى طَاوِيَ الْحَشَى |
| مُحَافَظَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ" |
يجوع يفضل الجوع لنفسه، ويكرم أضيافه، يبيت القواء وأضيافه يأكلون من طعامه لئلا يقال لئيم، وهذه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم يتمدح بها العرب لكنها لو كانت مع إيمان لنفعته. نعم.
"وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ: الْمُقْوِينَ الْمُنْزِلِينَ الَّذِينَ لَا زِنَادَ مَعَهُمْ، يَعْنِي نَارًا يُوقِدُونَ فَيَخْتَبِزُونَ بِهَا؟"
طالب:......
الشيخ: لا. هو إذا خشي أن ينتهي أو لا يكفيهم. نعم.
"وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمُقْوِيُّ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَقِيرِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ، يُقَالُ: أَقْوَى الرَّجُلُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زَادٌ، وَأَقْوَى إِذَا قَوِيَتْ دَوَابُّهُ وَكَثُرَ مَالُهُ. قال الْمَهْدَوِيُّ: وَالْآيَةُ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّ النَّارَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ."
يعني المسافرين. نعم.
"قال الْقُشَيْرِيُّ: وَخَصَّ الْمُسَافِرَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا لَيْلًا لِتَهْرُبَ مِنْهُمُ السِّبَاعُ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:74] أَيْ: فَنَزِّهِ اللَّهَ عَمَّا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعَجْزِ عَنِ الْبَعْثِ."
اللهم صل على محمد وآله.
"