كتاب الإيمان (28)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيقول النووي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (بَابُ عَلاَمَةِ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ")، هذا من كلام البخاري.
("قال: حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»").
يقول: (سبق ذكر أنس وشعبة، وأما "عبد الله بن عبد الله بن جبر" بفتح الجيم ويقال: جابر، وهو أنصاري مدني. وأما "أبو الوليد" فهو هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري مولى باهلة، سمع جماعات من الأعلام، روى عنه البخاري والأعلام. قال أبو حاتم: كان ثقة إمامًا فقيهًا عاقلاً حافظًا. وقال أبو زرعة: كان إمامًا في زمانه جليلاً عند الناس. وقال أحمد بن عبد الله: هو نفسه في الحديث يروي عن سبعين امرأة)، ماذا يعني بـ (هو نفسه)؟
طالب: ..........
نعم.
طالب: ..........
(هو ثقة في الحديث).
طالب: ثقة ثبت.
ما فيه ثبت، (هو ثقة)، (نفسه) هذه تصحفت إلى (هو ثقة في الحديث يروي عن سبعين امرأة)، وأظن الكرماني نقل هذا. (وكانت الرحلة بعد أبي داود الطيالسي إليه. قيل: توفي سنة سبع وعشرين ومائتين.
فصل: «آية الإيمان» علامته، فيه: الحث على الأنصار -رَضِيَ اللهُ عنهُم- وبيان فضائلهم؛ لما كان منهم من مناصحة الله، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين، وسائر المسلمين، وإعزازهم الدين، وإيثارهم على أنفسهم، وغير ذلك -رَضِيَ اللهُ عنهُم-).
طيب ماذا عندك بعده؟
طالب: ..........
ماذا؟
طالب: ..........
يعني طرح ما فيه شرح؟
طالب: ..........
يعني الشرح في سطرين ونصف أو أقل.
وقال الحافظ ابن رجب -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في شرح الباب، يقول: (فصل: وخرَّج البخاري ومسلم من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار». هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من أن حب المرء لا يحبه إلا لله من علامات وجود حلاوة الإيمان، وأن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان، وأنه أفضل الإيمان، فالأنصار نصروا الله ورسوله، فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله. وخرَّج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار».
وخرَّج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم». وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر». وفي المسند عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق».
وكذلك حب المهاجرين -الذين هم أفضل من الأنصار- من الإيمان. وفي صحيح مسلم عن علي قال: «إنه لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إليَّ: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق». وفي المسند والترمذي عن عبد الله بن مغفل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».
وفي بعض نسخ كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي». وفي المسند وكتاب النسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه قال في الحسن والحسين: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». فمحبة أولياء الله وأحبابه عمومًا من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبُغضهم محرم فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالبًا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه).
يقول: (وبغضهم محرم فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يُتظاهر به غالبًا)، يعني كأنه يبطن هذا ويظهر خلافه، قال: (ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه)، لو قال قائل: إن الذي كتم ما يجده في نفسه أنه ليس حديث نفس، لا يؤاخذ به إلا إذا تكلم أو فعل. هل هذا الكلام صحيح أم لا؟
طالب: ..........
ماذا؟
طالب: ..........
لا، هو لا يمكن أن يكون بغضًا في القلب إلا لسبب، فما السبب؟ إذا كان سبب بغضه إياهم نصرهم لدين الله فهذا ولو لم ينطق به، هذه عقيدة. ونظير هذا الحسد، عامة أهل العلم على أن الحاسد يؤاخذ ولو لم ينطق، ولو لم يعمل، الذي يتمنى بنفسه زوال نِعم الله عن بعض خلقه فهذا آثم، وتتناوله النصوص، منهم من يقول كابن الجوزي يقول: ما دام لم يفعل فهذا حديث نفس. إذًا كل أعمال القلوب على هذا، إذا بغينا أن نطرد أن الذي يقع في قلبه شيء لا يؤاخذ إلا إذا تكلم أو فعل، الإيمان مداره على القلب، أعمال القلوب مردها إلى القلب، فيؤاخذ بها.
طالب: ..........
حديث النفس الذي يتردد ولا يثبت في القلب، لكن هناك أمور تراود الإنسان في كثير من الأحيان، ليست من صميم أعمال القلب ومن عباداته، هذه إذا لم يتكلم بها ولم يظهرها فهذه لا تضره، أما ما مرده إلى القلب من العبادات مثل الخشية، هناك أعمال قلوب لا تظهر علاماتها، بل إن إظهارها خلاف الإخلاص، هل نقول: إن مثل هذا إذا لم يتكلم ووقر في قلبه خلاف ما أُمر به أن نقول هذا حديث نفس؟
طالب: لا.
لا.
طالب: ما معنى يا شيخ .......... عند ابن رجب.
نعم.
طالب: هو نفسه قال إن تمني المعصية قد يحبها في قلبه، لكن لا يظهر على لسانه، ولا يظهر منه من فعله فهذا معفو عنه.
نعم.
طالب: فهل هذا ما يخصص به السيئات .......... «إن الله تجاوز عن أمتي»، بخلاف ما يظهر في القلب بضد هذا .......... أو ضد العقيدة التي هي الإقرار والتصديق.
قال: (ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه فهو شر ممن كتمه وأخفاه)، (شر ممن كتمه وأخفاه)؛ لأنه اعتقاد وزيادة ومجاهرة بالمعصية.
قال: (ومن كان له مزية في الدين لصحبته النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لقرابته أو نُصرته، فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه. ومن كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين، فهو أعظم حقًّا مثل علي -رَضِيَ اللهُ عنهُ-. وقد رُوي أن المنافقين إنما كانوا يُعرفون ببُغض علي -رضي الله عنه-، ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر فهو أولى بذلك، ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وقيل)، وهذا ننتبه له (إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر)، هذا الكلام فيه ما فيه، التوحيد الذي هو أصل الدين لا يقال مثل هذا، حبهما فرع، والتوحيد هو الأصل، ولا يمكن أن يُلحق أو يساوى الفرع بالأصل، حبهما من الإيمان وعلامة من علامات الإيمان ومن أعظم ما يُتقرب به إلى الله -جَلَّ وعَلا-، وبغضهما من عظائم الأمور.
طالب: ..........
كأبي بكر وعمر.
طالب: ..........
وعثمان، يعني تمثيل هذا، (كأبي بكر وعمر)، هذا تمثيل.
طالب: ..........
ماذا؟
طالب: ..........
لمن؟
طالب: لأبي بكر وعمر.
نعم، لكنه (يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر)؟ لا. ولذلك قال ابن رجب: (وقيل)، ما جزم به، ليس من قوله. على كل حال مثل هذا الكلام فيه نظر.
طالب: ..........
نعم، يقول: إذا أظهروا نفاقهم صاروا كفارًا، لكن الكافر لا يظهر الإسلام. المنافقون في عهده- عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إذا وجدوا أدنى فرصة أظهروا، وهم الذين نزل فيهم ما نزل من القرآن: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، أما الكافر الذي يظهر الكفر فهذا أمره مختلف.
فيه نقل أحضره بعض الإخوة من شرح ابن الملقن للتوضيح، قال -رَحِمَهُ اللهُ-: («آية الإيمان» علامته ودلالته، و«حب الأنصار» من حيث كانوا أنصار الدين ومظهرين وباذلي أنفسهم ومواليهم وقتالهم الناس كافة دونه علامة ودلاة قاطعة على الإيمان. فمن عرف حق الأنصار ومبادرتهم ونصرهم ومحبتهم له -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أحبهم ضرورة لحكم صحة إيمانه، ومن كان منافقًا لم يسره ما جاء منهم فيبغضهم، وهذا جارٍ في أعيان الصحابة كالخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق.
وأما من أبغض أحدًا منهم من غير تلك الجهة؛ لأمر طارئ من حيث وقع لمخالفة غرض أو لضرر أو نحوه، لم يصر بذلك منافقًا ولا كافرًا، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام)، وهذا بعضه تقدم في الشروح السابقة عند ابن حجر وعند الكرماني.
على كل حال: المنظور إليه الدين وجودًا وعدمًا، حبًّا وبغضًا، فإذا وُجد الدين في أي شخص وجبت محبته لدينه بغض النظر عن الأوصاف الأخرى، قد يُبغض من جهة أخرى إما لمعصية أو لمشاحنة وما أشبه ذلك، لكن الأصل أن الحب والبغض يكون في الله ولله؛ هذا الأصل، وإن كان هذا قد يكون عزيزًا، نعم مؤاخاة الناس ومودتهم الغالب على أمر الدنيا، ولذا تجد من يُظهر الحب في الله لبعض الناس عند الامتحان والابتلاء يتبين حقيقة حبه هل هو صحيح أم زيف؟
وقلنا مرارًا: إن بعض الناس مودته ومحبته وارتياحه للشخص حسب استقباله له، فإن استقبله استقبالاً حسنًا زادت المحبة وإلا نقصت. معلوم أن ضابط الحب في الله -كما تقدم- أنه لا يزيد مع الصفاء، ولا ينقص مع الجفاء، ما دام هذا الشخص متصفًا بالوصف الذي من أجله يُحب في الله فإن الحب لا يتأثر، وإذا زال الوصف زال الحب، فهو مرتبط به وجودًا وعدمًا، فالحب مع الوجود والعدم مع فقده.
طالب: ..........
نعم، ما فيه شك أنه مزية للأنصار، لكن يبقى أن من شاركهم في نصر الدين أنه يُحب من هذه الحيثية ولو كان متأخرًا.
طالب: ..........
لا، هذا لأمر خارج لا للجهة التي من أجلها عُلق الوصف بالإيمان أو بالنفاق، الكلام على الجهة التي من أجلها عُلق هذا الوصف.
يقول العيني: ("بابُ علامةِ الإيمان حبُّ الأنصار" أي: هذا باب، ويجوز بالإضافة إلى الجملة، والتقدير فيه: بابُ علامة الإيمان حب الأنصار. ووجه المناسبة بين البابين أن هذا الباب داخل في نفس الأمر في الباب الأول)، «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» يعني فيما تقدم؛ (لأن حب الأنصار داخل في قوله: «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله».
فإن قلتَ: فما فائدة التخصيص؟)، يعني ذكر الخاص بعد العام، (قلتُ: الاهتمام بشأنهم والعناية بتخصيصهم في أفرادهم بالذكر)، نعم، يُذكر الخاص بعد العام أو العكس، كل هذا للاهتمام بشأن الخاص والعناية به، وإلا لو لم يُذكر هو داخل في العام.
هنا يقول: (باب الأنساب) بعد أن بيَّن الرجال وتكلم عليهم باختصار.
(بيان الأنساب: "الطيالسي" نسبة إلى بيع الطَّيالسة، وهو جمع طَيلسان، بفتح اللام وقيل بكسرها أيضًا، والفتح أعلى، والهاء في الجمع للعُجمة؛ لأنه فارسي معرَّب. قال الأصمعي: أصله تالَشان، والأنصاري ليس بنسبة لأب ولا لأم، بل الأنصار قَبيل عظيم من الأزد سُميت بذلك؛ لنصرتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنسبة إنما تكون إلى الواحد، وواحد الأنصار ناصر، مثل: أصحاب وصاحب، وكان القياس بالنسبة إلى الأنصار ناصري).
نحن قلنا فيما سبق: إن النسبة إلى الجمع شاذة، وحينئذٍ يرجع الجمع إلى مفرده وينسب إلى المفرد.
(وكان القياس بالنسبة إلى الأنصار ناصري، فقالوا: أنصاري، كأنهم جعلوا الأنصار اسم. والمدني: نسبة إلى مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يقال في النسبة إلى رَبيعة: رَبعي، وفي جَذيمة: جَذَمي، وقد تُنسب هذه النسبة إلى غيرها من المدن. وقال الرشاطي: قالوا في الرجل والثوب إذا نُسب إلى المدينة مَدني، والطير ونحوه: مَدِيني، وفي مختصر العين يقال: رجل مَدني، وحمام مَديني.
وقال الجوهري: إذا نسبتَ إلى مدينة الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قلتَ: مدني، وإلى مدينة منصور قلتَ: مديني، وإلى مدائن كسرى قلتَ: مدائني، للفرق بين النسب؛ لئلا تختلط. من لطائف الإسناد: أن هذا الإسناد من رباعيات البخاري فوقع عاليًا، ولمسلم خماسيًّا)، نعم رباعي من العوالي، لكن أعلى منه الثلاثيات، في البخاري الثلاثيات فيه اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيًّا، هذه أعلى ما عنده، وأنزل ما عنده حديث واحد تساعي، يعني بينه وبين الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- تسعة، الثلاثيات يكون بينه وبين الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ثلاثة، وهنا أربعة.
(ووقع لمسلم خماسيًّا)، وهذا هو الغالب أن مسلم ينزل درجة عن البخاري؛ لأنه تلميذه، وقد يوافقه، وقد يكون في أحاديث مسلم ما هو أعلى من أحاديث البخاري، ووقع في صحيح مسلم أربعة أحاديث.
الإخوان الذين لا يهتمون إلا بالمتون مثل هذا الكلام كأنه لا يعنيهم، لكنه في غاية الأهمية، يرويها مسلم بأسانيد عالية رباعية، ويرويها البخاري بنفس أسانيد مسلم بواسطة خماسية، وهذه من الغرائب؛ لأن البخاري شيخ مسلم، ومسلم يروي عن شيخ بدون واسطة يروي عنه الإمام البخاري بواسطة، ولا شك أن العلو أفضل من النزول، لماذا؟ قالوا: لقلة الوسائط، وكثرة الوسائط مظنة لدخول الخلل، فما من راوٍ من هؤلاء الرواة إلا ويتصور أن يقع الخلل من جهته، فإذا قل الرواة قل احتمال الخطأ. ومسلم ما فيه ولا حديث ثلاثي، أعلى ما فيه الرباعيات.
النسائي من باب أولى وفيه حديث، أنزل حديث كما قالوا في الدنيا يرويه النسائي بواسطة أحد عشر راويًا، وهذا أنزل حديث في الكتب الستة، والسبب تأخر النسائي، مع أنه بالنسبة للعلو والنزول ينبغي أن يلاحظ التقدم والتأخر، ولذلك كون الحديث عند مالك ثنائيًّا ما هي بمزية يعني ليست علوًّا، هذا زمنه. حديث عند البخاري تساعي والحافظ العراقي بعده بستة قرون أو خمسة ونصف عنده تساعيات، أنزل حديث في البخاري، وهذا أعلى ما عند الحافظ العراقي التساعي، لماذا؟ لأنه منظور إليه الزمن لا بد من ملاحظته، لا بد من ملاحظة الزمن.
(ومنها: أن فيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والسماع، ومنها: أن فيه راويًا وافق اسمه اسم أبيه.
بيان اللغات: قوله: «آية الإيمان» أي: علامة الإيمان، وأصلها: أَوَيَة بالتحريك، قُلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، قال سيبويه: موضع العين من الآية واو؛ لأن ما كان موضع العين واوًا وموضع اللام ياءً أكثر مما موضعُ العين واللام ياءان، مثل: شَوَيْثُ أكثر من: جَبَيْتُ، وتكون النسبة إليه: أَوِيٌّ. قال الفراء: هي من الفعل: فاعلة)، آية (وإنما ذهبت منه اللام، ولو جاءت تامة لجاءت: آيِيَة)، بياءين، (ولكنها خُففت، وجمع الآية: آيٌ وآيَايٌ وآياتٌ. ويقال في النسبة إلى آية: آيِيّ، والمشهور أن عينها ياء، ووزنها فاعَة؛ لأن الأصل: آيِيَة، فحذفوا الياء الثانية التي هي لام، ثم فَتحوا التي هي عين لأجل تاء التأنيث).
يقول: («الأنصار» جمع ناصر، كالأصحاب جمع صاحب، ويقال: جمع نصير، كشريف وأشراف، والأنصار سُموا بذلك...)، إلى آخره؛ (لنصرتهم النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وهو ولد الأوس والخزرج ابنا حارثة أو ثعلبة العَنْقاء؛ لطول عُنقه)، ثم ذكر نسبهم. (ويقال: سماهم الله تعالى بذلك فقال: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74]. قوله: «النفاق» هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر)، والعلماء يقولون أن الزنديق عند في المتأخرين هو المنافق في عهده -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
(وقال ابن الأنباري في الاعتلال: في تسمية المنافق منافقًا ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه سُمي به لأنه يَستر كفره ويُغيبه، فشُبه بالذي يدخل النفق، وهو: السَّرَب، يستتر فيه. والثاني: أنه نافق كاليربوع، فشُبه به؛ لأنه يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه. والثالث: أنه إنما سُمي به؛ لإظهاره غير ما يضمر تشبيها باليربوع، فكذلك المنافق ظاهرُه إيمان وباطنه كفر. ونافَقَ اليربوع أخذ في نافِقائه، ونفق اليربوع أي استخرجه، والنافقاء إحدى حجرة اليربوع، يكتمها ويُظهر غيره، وهو موضع يُرققه، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي: خرج.
ثم اعلم أن النِّفاق هو بكسر النون، وأما النَّفاق بالفتح فهو من: نفق البيع نفاقًا أي: راج، ونفقت الدابة نفوقًا أي: ماتت، والنِّفاق بالكسر أيضًا جمع النَّفقة من الدراهم وغيرها، مثال: ثمرة وثمار، ونفقتْ نِفاق القوم بالكسر ينفق نَفَقًا، أي: فَنيتْ، وأنفق الرجلُ مالَه وأنفقَ القوم نَفقتْ سُوقُهم، قال تعالى: {خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100]، أي: خشية الفناء والنفاد، وقال قتادة: أي خشية إنفاقه. وقال الصغاني: التركيب يدل على انقطاع الشيء وذهابه، وعلى إخفاء شيء وإغماضه).
ثم بعد ذلك شرع في الإعراب إعراب الكلمات، ثم ذكر المعاني، ليس المراد بالمعاني معاني الكلمات، لا؛ لأن هذا في بيان اللغات، أما المعاني، المقصود بعلم المعاني الذي هو أحد فروع علم البلاغة، يقول: (فيه ما قال أهل المعاني من أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين تفيد الحصر، ولكن هذا ليس بحصر حقيقي، بل هو حصر ادعائي تعظيمًا لحب الأنصار، كان الدعوى أنه لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ويؤيده ما قد جاء في صحيح مسلم: «آية المؤمن حب الأنصار» بتقديم الآية، و«حب الأنصار آية الإيمان» بتقديم الحب.
فإن قلتَ: إذا كان حب الأنصار آية الإيمان فبغضهم آية عدمه؛ لأن حكم نقيض الشيء نقيض حكم الشيء، فما الفائدة في ذِكر آية النفاق بغض الأنصار؟
قلتُ: هذا التقرير ممنوع، ولئن سلَّمنا فالفائدة في ذِكره التصريح به والتأكيد عليه، والمقام يقتضي ذلك؛ لأن المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس، والإيثار على أنفسهم، والإيواء والنصرة وغير ذلك، وهذا جارٍ في أعيان الصحابة...)، إلى آخره.
(وقال القرطبي: وأما من أبغض -والعياذ بالله- أحدًا منهم من غير تلك الجهة لأمر طارٍ من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحو ذلك، لم يصر بذلك منافقًا ولا كافرًا، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهد في الأحكام)، وهذا كلام تتابع عليه الشراح، ينقله بعضهم من بعض. (وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهد في الأحكام، فإما أن يقال: كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور مع أنه مخاطب بما يراه ويظنه، فمن وقع له بغض في أحد منهم -والعياذ بالله- لشيء من ذلك فهو عاصٍ يجب عليه التوبة ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم وفضائلهم وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق؛ إذ لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآية، وقد أجاب بعضهم عن الحصر المذكور بأن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، ثم قال: وإن أُخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به)، وهذا مر بفتح الباري، نعم.
(وقد أجاب بعضهم عن الحصر المذكور بأن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، ثم قال: وإن أُخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به.
قلتُ: هذا الحصر يفيد حصر المبتدأ على الخبر، ويفيد حصر الخبر على المبتدأ، وهو نظير قولك: الضاحك الكاتب، فإن معناه حصر الضاحك على الكاتب، وحصر الكاتب على الضاحك)، وهذا مر بنا في كلام الكرماني. (وكيف يُدعى فيه الاطراد دون الانعكاس، فإن آية الإيمان كما هي محصورة على حب الأنصار، كذلك حب الأنصار محصور على آية الإيمان بمقتضى هذا الحصر، ولكن قد قلنا: إن هذا حصر ادعائي فلا يلزم منه المحذور)، يعني لا يلزم أن يكون ذلك محصورًا في حب الأنصار أو بغضهم، بل عموم العلة التي هي نصر الدين تقتضي إلحاق غيرهم بهم.
كلام كثير، لكنه مر بنا سابقًا.
***
طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.
قال البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابٌ: حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ»، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ".
"وَفَى" أم "وَفَّى"؟
طالب: عندي "وَفَى".
في نسخة؟
طالب: ..........
ماذا؟
طالب: ضبطها ..........
{وَإِبْرَاهِيمَ}؟
طالب: {الَّذِي وَفَّى}.
{الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، وسيأتي هذا إن شاء الله في الشرح.
نبدأ بالنووي -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لأنه أقدم ومقدور يعني على الفراغ منه في هذا الوقت القصير، وأما غيره فقد أطال الشرح على هذا الباب يحتاج إلى أوقات تستأنف في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
يقول -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: ("بابٌ" هكذا وقع هذا الباب في البخاري غير مضاف وهو صحيح)، هذا يجيب على الإشكال أم ما يجيب؟ (هكذا وقع هذا الباب في البخاري غير مضاف وهو صحيح)، يعني من غير ترجمة، وما الفائدة من ذِكر "باب" بغير ترجمة؟ العلماء يقررون بأن مثل ها الباب الذي يكون في الصحيح بدون ترجمة أنه بمنزلة الفصل.
طالب: من الباب الذي قبله.
من الباب الذي قبله، وسيأتي بكلام الشراح إن شاء الله تعالى ما يبين هذا.
طالب: أو يجعل أن القارئ يستنبط؟
الاحتمالات كثيرة، لكن هذا الذي قرره أهل العلم.
قال: (هكذا وقع هذا الباب في البخاري غير مضاف، وهو صحيح. وأما أسماء الرجال فـ"أبو اليمان" اسمه)؟
طالب: الحكم بن نافع.
نعم، الحكم بن نافع، (فـ"أبو اليمان" هو شعيب بن أبي حمزة، والزهري محمد)؟
طالب: ابن شهاب.
نعم، ابن شهاب إمام وكلهم تقدم ذكرهم. (وأما "عُبادة" فهو أبو الوليد عُبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن غانم بن سالم بن عوف بن عمر أو ابن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- شهد العقبة الأولى والثانية)، وعند ابن عبد البر في الاستيعاب: والثالثة، (شهد العقبة الأولى والثانية) وابن عبد البر قال: والثالثة، يعني هذه الثالثة قل من يشير إليها من أهل السير، قل من يشير إليها، ولها ذِكر عند بعض المؤرخين، (والثانية وبدرًا وأحدًا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، رُوي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة وأحد وثمانون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ستة، انفرد كل واحد منهما بحديثين، روى عنه جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عنهُم-، منهم: أنس وجابر وفضالة بن عبيد وشرحبيل بن حسنة وأبو أمامة ورفاعة بن رافع ومحمود بن الربيع، ومن غير الصحابة خلائق، منهم بنوه: الوليد، وعبيد الله وداود بنو عبادة. قال الأوزاعي: أول من ولي قضاء فلسطين عبادة- رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ-، توفي بالشام سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة، وقبره ببيت المقدس. وقيل: توفي بالرملة -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ-. وأما "أبو إدريس" فاسمه عائذ الله بذال معجمة قبلها همزة، ابن عبد الله بن عمر، وهذا هو الصحيح)، أو ابن عمرو؟
طالب: عمرو.
ماذا؟
طالب: عمرو.
نعم؛ لأن فيه واوًا، لكن إنما هل هي تابعة لـ(هذا هو الصحيح)، أو (وهذا هو الصحيح)؟
طالب: ..........
ماذا؟
طالب: ..........
عمرو، نعم، هذا الظاهر.
(هذا هو الصحيح المشهور، وقيل غيره. سمع ابن مسعود وحذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وخلائق من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-)، أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله، وأبو مسلم، هذا أبو إدريس الخولاني، وأبو مسلم الخولاني اسمه: عبد الله بن ثُوَب.
(روى عنه جماعات من التابعين، منهم: الزهري وربيعة بن يزيد وبسر بن عبيد الله ومكحول وخلائق. قال مكحول: ما أدركت مثل أبي إدريس. قال سعيد بن عبد العزيز: ولد أبو إدريس يوم حنين. وقال ابن منجويه: ولاه عبد الملك القضاء بدمشق، وكان من عباد الشام وقرائهم، توفي سنة ثمانين -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-).
(فصل: قوله: "أحد النقباء ليلة العقبة" هل العقبة التي هنا التي تُنسب إليها جمرة العقبة، وقد كان بهذه العقبة بيعتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بايع الأنصار -رضي الله تعالى عنهم- فيهما بالإسلام، ويقال فيهما: العقبة الأولى والعقبة الثانية، وكانت العقبة الأولى أول بيعة جرت على الإسلام، وكان المبايعون في الأولى اثني عشر رجلاً من الأنصار -رَضِيَ اللهُ عنهُم-، ثم كانت العقبة الثانية في السنة التي تليها، وكانوا في الثانية سبعين رجلاً من الأنصار أيضًا.
وقوله: "أحد النقباء" واحدهم نقيب، وهو الناظر على القوم، ونقباء الأنصار هم الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم).
(قوله: "وحوله عِصابة"، يقال: حوله وحوليه وحواليه بفتح اللام في كلها، أي: محيطون به، والعصابة الجماعة.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم»، البهتان الكذب، يقال: بهت وبهتًا وبهتانًا إذا كذب عليه؛ لأنه يُبهت من شدة نُكره، وإنما أضيف البهتان إلى الأيدي والأرجل لوجهين ذكرهما جماعة من العلماء؛ أحدهما: أن معظم الأفعال تقع بهما، ولهذا أضيفت الأفعال والاكتساب إليهما، قال الله -جَلَّ وعَلا-: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. والثاني معناه: لا تبهتوا الناس بالعيب كفاحًا، كما يقال: فعلت هذا بين يدي فلان، أي: بحضرته، والله أعلم)، (لا تبهتوا الناس كفاحًا) يعني مواجهة لهم، هل معنى هذا أنه من يبهت الإنسان في غيبته، يجوز؟
طالب: ..........
لا، لكن أيهما أشد: أن يُبهت بحضرته أو يُبهت بغيبته؟
طالب: ..........
نعم؟
طالب: ..........
بحضرته أشد؛ لأن مواجهة الإنسان بما يسوؤه أمر شديد، والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ما واجه أحدًا بما يسوؤه، وإن كان بهتانه في حال غيبته أشد من وجه آخر، لكن لتوجيه هذا القول أو توجيه هذا الأسلوب: (لا تبهتوا الناس بالعيب كفاحًا، كما يقال: فعلت هذا بين يدي فلان، أي: بحضرته، والله أعلم.
وقوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «ولا تعصوا في معروف» هو نحو قوله -جَلَّ وعَلا-: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12])، عُبادة يقول في بعض الروايات: «بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء»، قال: «بايعوني على ألا تشركوا بي شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا»، هذا مطابق لما جاء في آية الممتحنة. فهل بيعة النساء سابقة لبيعة الرجال؛ لأنه يقول: «بايعنا على ما بايع عليه النساء»؟ الشراح قرر كثير منهم أنه لما أحال على سابق يقتضي أن بيعة النساء متقدمة، لكن أنا أقول: مثل هذا لا يلزم، لا يلزم أن تكون بيعة النساء متقدمة على بيعة الرجال، ولكن لما كانت بيعة النساء مضبوطة محفوظة بالقرآن ساغ الإحالة إليها، الآن القرآن الناس كلهم يعرفون ما فيه، بخلاف السنة التي قد تخفى على كثير من الناس، ولذا لما يقال في من جامع في نهار رمضان: عليك كفارة ظهار، مع أنه جاء فيه نص بخصوصه، «الذي جامع في نهار رمضان جاء إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: هلكت وأهلكت، قال: أتجد كذا؟ أتجد كذا؟» بالصورة الموجودة في سورة المجادلة، ما يقال: عليك كفارة مجامع في نهار رمضان، وإن كان لها أصل ثابت مستقل جاء في صحيح السنة، إنما يقول: عليك كفارة ظهار؛ لأن كفارة الظهار مضبوطة بالقرآن، وهذه بالسنة؛ لأن ذاك لا يخفى على أحد وهذا قد يخفى. فالإحالة على ما يعرفه الخاص والعام لا شك أنه إحالة على شيء مستقر في النفوس، بخلاف ما جاء في السنة فإنه قد يخفى.
(وقوله: «ولا تعصوا في معروف» هو نحو قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]، قيل معناه: لا يعصينك في طاعة الله تعالى، وقيل: في بر وتقوى. قال الزجاج: والمعنى لا يعصينك في جميع ما تأمرهن به فإنك لا تأمر بغير المعروف. قلتُ: ويحتمل في معنى الحديث ولا تعصوني ولا أحدًا وُلي عليكم من تباعي إذا أُمرتم بمعروف، فيكون التقييد بمعروف عائدًا إلى الأتباع، ولهذا قال -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «تعصوا» ولم يقل: تعصوني، ويحتمل أنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أراد نفسه فقط، قَيد بمعروف تطييبًا لنفوسهم؛ لأنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لا يأمر إلا بالمعروف.
وقوله: «فمن وَفَّى -أو: وَفَى- منكم» أي ثبت على ما بايع عليه، يقال بتخفيف الفاء وتشديها. قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا وستره الله فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه»، هذا في غير الشرك، أما الشرك فلا يسقط عنه عذابه بعقوبته عليه في الدنيا بالقتل وغيره، ولا يُعفى عمن مات منه بلا شك، فعموم الحديث مخصوص، وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق أن من ارتكب كبيرة ومات ولم يتب إلى الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، وحاصل مذهب أهل الحق: أن من مات صغيرًا أو كبيرًا لا ذنب له بأن مات عقيب بلوغه أو توبته أو إسلامه قبل إحداث معصية فهو محكوم له بالجنة بفضل الله -سُبحانه وتعالى- ورحمته، ولا يدخل النار لكن يردها، كما قال -جَلَّ وعَلا-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وفي الورود الخلاف المعروف، وسنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن مات مُصرًّا على كبيرة فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه ويدخله الجنة في أول مرة، وإن شاء عاقبه في النار ثم أخرجه فأدخله الجنة، ولا يُخلد في النار أحد مات على التوحيد.
وأما قوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «فهو كفارة» ففيه دلالة للأكثرين، قال القاضي عياض- رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارة لهذا الحديث، ومنهم من وقف، والله أعلم. ولم يُرد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بايعهم حصر المعاصي، بل ذكر أنواعًا يكثر ارتكاب أهل ذلك الوقت لها، والله أعلم).
ما وقفنا عند هذه الجمل؛ لأنه سترد في الشروح الأخرى بأبسط من هذا، والتعليق عليها سيكون في فتح الباري إن شاء الله تعالى وعمدة القاري، الذي معه عمدة القاري، الكرماني.
على كل حال: النووي بسط الشرح بشيء من البسط، وإلا فعادته أن يُجمل الكلام في كلمات أو أسطر يسيرة، وهنا أطال يعني جاء بنحو صفحة أو تزيد. وكل ما في النووي فرغه الشراح في شروحهم وزادوا عليه، وهذه عادة العلماء في العلوم كلها أن المتقدم يأتي بكلام مختصر، ثم يزيد عليه من جاء بعده، مثل ما حصل في شرح الخطابي مختصر جدًّا، يعني لو طُبع بحجم فتح الباري يمكن ما يجيء نصف مجلد؛ لأنه مختصر جدًّا، ولا يتكلم على جميع الأحاديث، الحديث إذا تكلم عليه في شرح أبي داود لا يعيد الكلام عليه في شرح البخاري.
يبقى أن هؤلاء الشراح الذين تأخروا عن النووي نقلوا ما فيه، والذين تأخروا عن الكرماني نقلوا ما فيه، وينقلون عن النووي بكل أدب -رَحِمَهُ اللهُ-، لكن إذا نقلوا عن الكرماني صار مثل ما يقولون العوام: شعير مأكول ومذموم، ينقلون عنه ويقسون عليه أحيانًا في الردود في مواضع تحتمل القسوة وفي مواضع لا، يكفيه أنه جمع وأنه أجاد في كثير من المواضع. نعم هو معوله على الصحف وعلى الكتب والمصادر، ولم يأخذ من العلماء في دروسهم أو نتيجة استنباط وتحرير من تلقاء نفسه؛ ولذا وقعت أوهام في شرحه، لكن لا ينكَر أن له فضلاً على من جاء بعده، كما قال ابن مالك:
وهو بسبق حائز تفضيلاً مستوجب ثنائي الجميلا
فيُثنى عليه من هذه الحيثية، وإن كان عنده أوهام تُبين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"