الأصل أن الكلام الذي لا يطابق الواقع داخل في حيّز الكذب؛ لأن حقيقة الصدق هو الكلام الذي يطابق الواقع، وحقيقة الكذب الكلام الذي لا يطابق الواقع، فإذا قلنا: قال الأسد: كذا، وقال الذئب: كذا، هل قال الأسد شيئًا؟! هل طابق الواقع؟! إذن هذا داخل في حيِّز الكذب، لكن بعض العلماء يستجيز مثل هذا للمصلحة الراجحة، فأجازوا مثل هذا في المناظرات، وقد كُتبت مناظرات على لسان من لا ينطق، كالمناظرة بين علم التفسير وعلم الحديث، قال علم الحديث: كذا، وقال علم التفسير: كذا، كذلك المناظرة بين علم الفقه وعلم الحديث، وهكذا، المقصود أنه كلام لا يطابق الواقع، لكن المفسدة المترتبة عليه مغمورة في بحر المصلحة المرجوة منه، وقل مثل هذا في المقامات، وفيها مثلًا: حدّث الحارث بن همام قال:..، ولا يوجد شخص اسمه الحارث بن همام قال هذا الكلام، وإنما أوجده منشئ المقامات، ومثل هذا في المقامات كثير، كلها على هذا الحال، يتكلم المؤلف من تلقاء نفسه، ويجيب نفسَه، ويتخيل أشياء، ويتوقع أشياء، ويقولها ويجيب عنها ويرد عليها، وهو شخص واحد، أيضًا المبالغة قد تدخل في هذا الباب؛ لأنها لا تطابق الواقع، والمبالغة أسلوب معروف عند العرب، والمقامات معروفة عند أهل العلم، واستفاد منها المتعلمون فوائد وثروة لغوية، قد يصعب تحصيلها بغير هذه الطريقة، وكذلك المناظرات قد يكون الكلام فيها على لسان من ينطق مثل: قال الجهمي: كذا، فرد عليه الجبري بكذا، ورد عليه السني بكذا، وهكذا، هذه المناظرات يذكرها أهل العلم على لسان هذه الفئات وهذه الفرق من أجل توضيح هذا العلم بالسؤال والجواب والحوار، ولاشك أن الفائدة ظاهرة، لكن يبقى أنها لا تطابق الواقع، بل هي مخالفة له، وأهل العلم يقولون: إن هذه المخالفة مغمورة في بحر الفائدة المرجوة من هذا الصنيع. وعلى كل حال المسألة خلافية بين أهل العلم، فأهل التحري لا يرون مثل هذا؛ لأنهم يتحاشون أن يقعوا في النصوص التي جاءت في حق من كذب، فمن جاء بكلام لا يطابق الواقع هذا لاشك أنه دخل في حد الكذب، لكن لاشك أن المصلحة الراجحة عند جمع من أهل العلم تقتضي جواز مثل ذلك، وبعضهم يُلحق بهذا التمثيلَ وانتحال الشخصيات غير الحقيقية.
وقد يقال: إنه من المعلوم بأن مثل هذه القصص كذب أصلاً، فليس فيها غشّ لأحد. وهذه من حجج من أجازها، لكن يبقى أنها كذب؛ لمخالفتها الواقع، فالذي يتحرى ويحتاط لنفسه ودينه لا يقع في مثل هذا، ومن أجازها باعتبار أن المصلحة راجحة فلاشك أن المصالح المرتبة على هذه المناظرات وعلى هذه المقامات كبيرة.
وحكم من يحكي هذه القصص حكم المنشئ لها. وأما التمثيل فأهل التحقيق من كبار أهل العلم منعوه؛ لأنه يترتب عليه أشياء، ويحتفُّ به أمور، فقد يُمثِّلُ الشخصَ الفاضل شخصٌ أقل منه مستوى، أو على خلاف ما كان يعمله الممثَّل، وخلاف ما يدعو إليه، ولا شك أن الناشئة تنقدح في أذهانهم مثل هذه الصور المخالفة لواقع من يُمثَّل، فلهذا الكبار من أهل التحري من أهل العلم يمنعون التمثيل.