نعم مقتضى كونهم في الدرك الأسفل أنهم أشدُّ الناس عذابًا، وجاء في أنواع من الكفار وأفراد وفئات أنهم من أشد الناس عذابًا، وجاء في حق بعض المسلمين أنهم من أشد الناس عذابًا كالمصورين مثلًا، وعلى كل حال المنافقون الذين عرفوا الحق وقامت عليهم الحجة بوضوح وجلاء لا شك أنهم أشدُّ عذابًا من الكفار الذين دونهم في قيام الحجة، ولذا جاء في حق أبي طالب حينما شفع له النبي -عليه الصلاة والسلام-، أنه يُعذب وأنه «في ضَحْضَاحٍ من نار» [البخاري: 3883]، وفي رواية: «وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» [مسلم: 212]، وهو أخف الكفار عذابًا ومع ذلك يغلي دماغه من هاتين النعلين، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» [البخاري:3883] أي: لولا النبي -عليه الصلاة والسلام- لكان أبو طالب في الدرك الأسفل من النار، لماذا وهو الذي نصر وبذل، وحمى النبي -عليه الصلاة والسلام- وذاد عنه؟ لأنه عرف الحق من قُربٍ كحال المنافقين، واعترف به، لكن ما الذي منعه من قبوله حينما عَرض عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- الشهادة في آخر حياته؟
لولا المذمة أو حذار مسبة لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
آثر دين الأشياخ وملة عبد المطلب على الحق مع معرفته به!
ولقد علمتُ بأن دين محمد مِن خير أديان البرية دينا
فكون الإنسان يعلم تكون التبعة عليه أكثر ممن لا يعلم؛ ولذا لا يقال: إن العالم الفلاني الذي عرف الحق بأدلته وخالفه وجانبه مثل العامي الذي لم يعرف الأحكام بأدلتها ولو خالف، ولذا جاء في حق اليهود والنصارى أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ولذا أُمرنا بالاستعاذة من سبيلهم {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: 6-7] المغضوب عليهم: اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق، والضالون: النصارى؛ لأنهم عبدوا الله على جهل، ففرق بين هذا وهذا، فالمنافق الذي عرف الحق وخالط المسلمين وشاركهم في الظاهر مع إصراره على الكفر في الباطن يختلف عن الكافر الذي لم يخالطهم وهو بعيد عنهم، ولم يعرف من الحق مثل ما عرف.