طالب العلم أول ما يكون مبتدئًا عليه أن يُعنَى بالكتب التي صُنِّفَت للمبتدئين، ومن ذلك في الجانب الفقهي، فيُعنَى بكتاب مختصر جدًّا مما ألَّفه العلماء في مذهبه لطبقة المبتدئين، فيحفظه ويقرؤه على شيخٍ يشرحه له، ويقرأ ما تيسر من شروحه، ويتصور مسائله، ثم بعد ذلك يستدل لهذه المسائل، ثم ينتقل إلى الذي بعده مما أُلِّف لطبقة المتوسطين، وفي هذه المرحلة المتوسطة يُعنى بالدليل، فيقرأ ما أُلف للمتوسطين من متونٍ ويتصورها، ويقرؤها على شيخ يحللها، ويُعنى بالزوائد على ما درسه في الكتاب الأول، ويبحث عن أدلتها ويستدل لها، ويقرأ عليها الشروح، ويسمع إن كان هناك شروح مسجلة، وفي هذه المرحلة -طبقة المتوسطين- لو عُنِيَ –أيضًا- بمن وافق هذا المؤلف ومن خالفه في مذهبه مع الاستدلال للموافق وللمخالف، ثم في المرحلة الثالثة التي هي الطبقة الثالثة من المتعلمين يهتم بكتابٍ ألَّفه العلماء لهذه الطبقة، وهو أوسع من الكتابين المتقدمين وأكثر مسائل وأبسط، ثم بعد ذلك يفهمه ويتصور مسائله، و-مثلما تقدم- يقرؤه على شيخ متقنٍ، ويقرأ شروحه، ويسمع ما سُجِّل عليه كالكتابين السابقين، ويُكثر من الاستدلال لهذه المسائل، ويُكثر –أيضًا- من الاطَّلاع على المذاهب الأخرى التي وافقت المصنف والتي خالفته، وكما استدل للمصنف ومن وافقه يستدل كذلك للمخالِف، ويُوازن بين هذه الأدلة، ويُعنَى بالصحيح دون الضعيف، ويُكثِر من الأدلة وضرب الأمثلة والنظائر بعد فهم ما يتعلق بعلم الأصول والقواعد الفقهية على الطريقة المتقدمة، بحيث يقرأ ما أُلِّف في الأصول للمبتدئين، ثم للمتوسطين، ثم الطبقة الثالثة من المنتهين، ومنهم من يؤلف –أيضًا- لطبقةٍ رابعةٍ وهم فوق ذلك. المقصود أن يبدأ بالتدرج في العلم في جميع فروعه وفنونه، ففي التفسير يقرأ كتبًا مختصرة جدًّا، أو يقتصر على كتب غريب القرآن في أول الأمر، ثم يقرأ في تفسيرٍ مختصرٍ، ثم يقرأ في أطول منه، ثم يقرأ في أطول منه، وينظر في علوم القرآن، وينظر في العلوم التي تخدم كتاب الله -جل وعلا-، وهكذا في الحديث، وفي اللغة العربية بفروعها، وغير ذلك من الفنون، المقصود أنه يترقى في العلم حسب توجيه أهل العلم من الذين صنَّفوا لطلاب العلم من المتون ما يناسب أعمارهم وقدراتهم، فيقرأ فيها على الطريقة السابقة. والعلم لا يؤخذ بالتجزئة إنما هو متكامل، فعلم الفقه لا يستغني عن الحديث، فلا فقه بدون نص.
وعلى طالب العلم أن تكون عنايته أيضًا في ثنايا ذلك كله بكتاب الله -جل وعلا- حفظًا وتدبرًا ومراجعة لما أشكل، كعنايته بالعلوم الأخرى أو أشد، وبهذا إذا قرأ الفقه على الطريقة التي تقدَّمت، وقارنه بأصوله وقواعده، وقرأ من علوم الآلة التي يستعين بها على فهم النصوص فإنه حينئذٍ تتكوّن لديه الملكة الفقهية، ويكون فقيهًا ولو كان المحفوظ من المسائل لديه أقل من غيره ممن لم يسلك هذا المسلك، فبعض الناس يحفظ كتابًا كبيرًا في الفقه، ويحفظ مسائل كثيرة تبلغ آلاف المسائل لكنه لا يَقرنها بأصولها، ولا يُرجعها إلى قواعدها، ولا يستفيد من العلوم الأخرى التي تُفيد في هذا العلم وتدعمه، فيكون حينئذٍ حافظَ مسائلٍ، ولا تتكون لديه الملكة الفقهية، ولا يكون فقيه النفس، وفقهُ النفس أن يكون متصورًا لهذه المسائل تصورًا دقيقًا، ويستطيع في وقت بحث هذه المسائل أن يوجد لها النظائر من كتب أهل العلم، مع ربطها بأصولها وقواعدها، فمع الإكثار وكثرة المران تتكون لديه الملكة وفقه النفس.
وللتمثيل على الكتب الفقهية المناسبة للمراحل التي ذكرناها، وبالنظر إلى فقه الحنابلة المعتمد في هذه البلاد نقول: يبدأ بكتاب (أخصر المختصرات)، وله شرح اسمه (كشف المخدرات)، وله شروح معاصرة تعين على فهمه مع الشرح الأصل الذي هو (كشف المخدرات)، ثم بعد ذلك يقرأ في (عمدة الفقه)، ثم بعد ذلك يجعل محور بحثه على (زاد المستقنع)، والكتاب مخدوم وله شروح، وله حواشٍ، ومسائله مربوطة بالأدلة.