هذا الكلام يُمكن أن يُوجَّه إلى طالب العلم المتمكِّن المتأهِّل للنظر في النصوص واستنباط الأدلة منها، أما العامي ومَن في حكمه من مُبتدئي الطلبة ففرضُهم سؤال أهل العلم، وفي ذلك يقول الله –جلَّ وعلا-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وأما أن يُطالَب العامي الذي ليس لديه أهلية أو طالب علم مبتدئ بأن يستنبط من النصوص من الكتاب والسُّنَّة مباشرة! هذا في حقيقته تضييع، فهذا ليس لديه أهلية، فكيف يُطالب بأن يستنبط من الكتاب والسُّنَّة؟! لا يعرف كيف يستنبط.
وهذه الدعوة ظهرتْ قبل حدود أربعين سنة أو ما يُقاربها، فأخذ شخصٌ يُطبِّق هذه النظرية، فقرأ في (صحيح مسلم): (باب الأمر بقتل الكلاب)، فأخذ المسدس وكلَّما رأى من كلبٍ قتله، لماذا؟ لأنه لا يعرف الأحاديث الناسخة، ولذا جاء في نفس الباب في (صحيح مسلم) بيان نسخ الأمر بقتل الكلاب، مثل هذا هل يصلح أن يجتهد ويأخذ من النصوص؟! لا، لا بُد أن يتأهَّل ويعرف النصوص أولًا، ويعرف كيف يتعامل مع النصوص على طريقة أهل العلم، بمعرفة الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والصحيح والضعيف، والمقبول والمردود، وغير ذلك مما يجب على طالب العلم الذي يؤهِّل نفسه لأن يكون عالمًا، والله أعلم.
فلا بُد لطالب العلم أن يطلب العلم على مذهبٍ يكون سائدًا في بلده؛ لئلا يَشذ عن الناس بأقواله وأفعاله، ومع ذلك يسعى لتصحيح المسائل العلمية التي تلقَّاها عن هذا المذهب ووجدها مخالفةً للدليل إذا تأهَّل لذلك، فطالب العلم أول ما يبدأ يقرأ في كتابٍ في المذهب على عالمٍ من علماء بلده، ويشرح له ويصوِّر له المسائل، فالمرحلة الأولى أن يتصوَّر المسائل، ثم إذا تصوَّر مسائل الكتاب كاملة يأتي إلى الاستدلال لهذه المسائل، ثم ينظر مَن وافق مِن العلماء على هذا الحكم ومَن خالف، ودليل المخالف، ثم يوازن بين أدلة صاحب الكتاب وأدلة المخالفين، فهو حينئذٍ يعرف الراجح من المرجوح، وما ينتهي مِن كتابٍ يكون شاملًا لجميع أبواب الفقه إلا وقد تفقَّه، وصارتْ لديه الأهلية والملكة للتعامل مع النصوص، ولديه خبرة ودُربة في معرفة المسائل العلمية.