جاء النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، ووُصِف فعله بأنه معصية، «فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» [مسلم: 655]، وهذه الحاجة تُقدَّر بقدرها، فإذا كانت حاجة قوية مُشغلةً له عن الصلاة، كأن يُبلَّغ من أهل بيته بأن هناك أمرًا يستدعي أن يخرج، وإن بقي شغله ذلك عن صلاته، فلا شك أن هذا فيه مفاضلة بين:
- بقائه بالمسجد بعد الأذان؛ لئلا يعصي.
- وبين أن ينشغل عن صلاته.
- وبين أن يخرج قبل الأذان، فيترك ما وجب عليه وأخذ بسببه الجُعل، فإذا كان مؤذنًا رسميًّا ويأخذ مقابلًا، فلا يجوز له أن يترك الأذان إلا لعذر.
فعندنا هذا الأمر ينتابه احتمالات، فهذا العذر وهذه الحاجة إذا كانت تشغله عن صلاته مع أن عليه أن يؤذن؛ لأنه وُكِل إليه ذلك، ومع ذلك هو منهيٌّ عن الخروج بعد الأذان، فلينظر في هذه الأمور الثلاثة ويُقدِّم الأقوى منها، فإذا كان خروجه لحاجةٍ بحيث لو بقي ما عقل من صلاته شيئًا أو فات عليه أمرٌ شديد لو بُلِّغ عن أحد أولاده أنه سقط مثلًا وأُصيب أو ما أشبه ذلك، فخرج بسبب ذلك ما يُلام ولا يدخل في النهي، ولا يُقال: إنه عصى؛ لأن هذه الحاجة مسوِّغة للخروج.
ولا شك أن الحاجات التي من أجلها يخرج مثل هذا المؤذن تتفاوت تفاوتًا كبيرًا، ففرقٌ بين أن يُتصل به من قِبل أهله، ويُقال: (إن البيت حصل فيه حريق)، أو (إن الولد سقط وانكسر)، أو (إن الولد أغمي عليه)، وما أشبه ذلك، فهذه لا شك أنها مسوِّغ للخروج، ولا يُلام على ذلك، ولا يَلحقه إثم، ولا يُقال: إنه عصى.
لكن إذا كانت هذه الحاجة مقدورًا عليها بعد ذلك ووقتها متَّسعًا، كأن يكون لديه موعد في حيٍّ آخر، وقال: (أُريد أن أُصلي في ذلك الحي؛ لأُدرك هذا الموعد من أول الوقت)، وهو في شيءٍ لا يفوت، فمثل هذا لا يجوز له أن يخرج من المسجد بعد أن أذَّن، وحينئذٍ يعصي لو خرج، والله أعلم.