أولًا: الحديث «مَنْ بكَّر وابتكر» عند أبي داود عن أوس بن أوسٍ الثقفي قال: سمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقول: «مَن غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلغُ كان له بكل خطوةٍ عَمَل سنةٍ أجر صيامها وقيامها» [345]، فضلٌ عظيم، هذا مُخرَّج عند أبي داود وإسناده لا بأس به، ومُخرَّج عند ابن خزيمة [1758]، وابن حبان [2781]، والحاكم [1042]، وأقل أحواله -كما قال الترمذي- أنه حديث حسن، ووافقه النووي.
وبعض العلماء لا يستروح إلى مثل هذا التحسين فيحكم عليه بالضعف؛ لأن القاعدة أنه إذا كان العمل يسيرًا ورُتِّب عليه أجور كبيرة جدًّا كما في هذا الحديث «أجرُ سنةٍ صيامها وقيامها» فإنه أمارة ضعفه عندهم، هذه قاعدة عند أهل العلم معروفة، لكن قد ورد في الصحيحين أعمال يسيرة جدًّا رُتِّب عليها أجور كبيرة، لكن مثل هذه القاعدة لا تُجرى على ما جاء في الصحيحين وما صحَّحه الأئمة، بل تُجرى في أحاديث جاءت في كُتب مُحتمِلة للتصحيح والتضعيف، وأحاديث هي محل نظر لأهل العلم أو مُختلَف فيها، فيُمكن أن يُرجَّح بهذه القاعدة، لكن إذا كان في (البخاري) «مَن قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مائة مرة» تُقال في دقيقتين على الأكثر «حُطَّتْ خطاياه، وإن كانت مثل زبدِ البحر» [6405] هل نقول: أجور عظيمة في عملٍ يسير؟ ما نقول هذا؛ لأنه في الصحيح، فلا كلام لأحدٍ، وفضل الله واسع، لكن مثل هذا الحديث مُحتمِل، ولذلك ضعَّفه جمعٌ من الأئمة، وحسنة الترمذي، ووافقه النووي، وهو مُخرَّج عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وهم اشترطوا الصحة، لكن لم يفوا بما اشترطوا به، فخرَّجوا الأحاديث التي هي دون الصحيح من الحسن، بل خرَّجوا الضعيف، والله المستعان.
والتبكير المقصود في الحديث هنا هو مَن راح في الساعة الأولى، يعني الموافق لما جاء في الحديث «مَنْ راح في الساعة الأولى فكأنَّما قرَّب بدنة» [البخاري: 881 / والموطأ: 1/101]، فالساعة الأولى تبدأ من خروجِ وقت النهي، ونهايةِ الوظيفة الأولى من الجلوس في المصلى إلى ارتفاع الشمس، وعلى كل حال فضل الله واسع ولا يُحد، لكن الحديث محل كلام لأهل العلم.
وقوله: «بكَّر» يعني: راح في أول الوقت، «وابتكر» قال أهل العلم كالعيني والشوكاني وغيرهما: أدرك أوَّلَ الخطبة، وأوَّلُها باكورتها، كما يقول العيني في (شرح سُنن أبي داود).
وقيل «ابتكر»: تأكيد لـ«بكَّر»، وبهذا جزم ابن العربي.
ومَن وفِّق وذهب إلى الجمعة في الساعة الأولى، وحصل على الوعد الذي كأنه قدَّم بدنة هذا خيرٌ عظيم، وثوابه جزيل، ولكن الموفَّق مَن وفقه الله، والحرمان لا نهاية له، والله المستعان.