أما مَن أدمن السماع فلا شك أنه مرتكب لكبيرة.
يقول: (وما قولك لمن يُبيحون سماع الغناء في هذا الوقت، ويقولون: لا يوجد دليل صحيح صريح على التحريم؟)، لو لم يكن في هذا إلا حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- في (البخاري): «ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحِلُّون الحِر والحرير، والخمر والمعازف» [5590]، فما قال: «يستحِلُّون» إلا لأنه حرام، فدل على أن المعازف حرام.
والغناء كلام، فإن كان:
- مباح اللفظ، فالأصل أن الكلام مباح، فإذا اعتراه ما يجعله حرامًا؛ لكونه لفظًا محرَّمًا من كذب، وخنا، وفحش، ودعوة إلى الفجور، وإلى الخمور، وإلى النساء وما أشبه ذلك، أو هجاء للأخيار، أو نصر لباطل، أو خذلان لحق، فمثل هذا يُحرَّم لذاته، ولو كان نثرًا، وما يلزم أن يكون شعرًا أو أن يُؤدَّى بألحان، فهو محرم لذاته.
- وأُدِّي من غير آلة؛ لأننا عرفنا أن المعازف حرام، وأدنى من المعازف بالشيء الكثير: جرس الدواب الذي يُعلَّق عليها، فهل فيه من الإطراب ما في المعازف؟ لا، فيه إطراب يسير جدًّا، ومع ذلك جاء النص في (صحيح مسلم) على منعه [مسلم: 2113 - 2114]، فما بالكم بما هو فوقه؟ هذا لا شك أنه يدل على التحريم، فإذا وُجدت الآلة المُطرِبة حُرِّم من أجل الآلة، ولو كان من أطيب الكلام، فلو أن شخصًا لحَّن (ألفية العراقي) ومعها آلة، أو (ألفية ابن مالك)، أو (سلم الوصول)، أو أي متن من المنظومات النافعة، ولو كانت في الوعظ، ولو كانت (نونية ابن القيم)، إذا لحَّنها ومعها آلة قلنا: حرام؛ للآلة.
- وأُدِّي بلحون العرب، لا بلحون الأعاجم وأهل الفسق والمجون، فهذا مباح، ولا إشكال فيه.
فإذا كان اللفظ مُحرَّمًا حَرُم لذاته، وإذا كانت الآلة موجودة حَرُم؛ للآلة، وإذا أُدِّي بلحون أهل الفسق والمجون حَرُم؛ للمشابهة.
فيتحصَّل عندنا أن الغناء إذا كان مباح اللفظ، وأُدِّي بلحون العرب -كما قال ابن رجب-، ولم تصحبه آلة، فهذا مباح وما فيه إشكال، والإنشاد حصل بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- [البخاري: 3212].
ويتشبَّث بعض مَن يتكلَّم في الغناء أن فلانًا من السلف -من صغار الصحابة، أو من التابعين- اتَّخذ جارية مغنية، بمعنى: أنه وُجد في ترجمته أنه اشترى جارية مغنية، لكن ما معنى مغنية؟
أولًا: هي جارية أي: ملك يمين من المحارم، فله أن يراها عريانة، فإذا أدتْ كلامًا جميلًا بلحنها، وبين يديه، وليس معها آلة، والكلام مباح، فما الذي يمنع من هذا؟ المهم أن تجتنب المحظورات، فلا يكون بلحون الأعاجم وأهل الفسق، ولا تصحبه آلة، ولا يكون اللفظ محرمًّا.
فلو أن شخصًا أعطى زوجته مقطوعة شعرية لفظها مباح وما فيها أدنى إشكال، وقال: (البسي من اللباس المناسب الذي ما فيه تشبه بالكفار، وغنِّي بين يديَّ هذه القصيدة)، ولو كانت عارية، ما الذي يمنع؟
لكن أن يُطبِّق مثل هذا الكلام الذي جاء في جارية -ملك يمين- على أن ينظر في القنوات للنساء المومسات التي أصيب جريج بدعوة أُمِّه بسببهنَّ، فينظر إلى مومسات لا يَمُتُّ إليهنَّ بصلة، على شيء من التعري، وكلام به تغنُّج، ودعوة إلى فحش وفجور، ويقول: إن السلف اتخذوا جواري!
فبعض الناس يتشبَّث بأدنى شيء، ويفتح لنفسه آفاقًا ومجالات، ويُضِل الناسَ بهذا، ويجعلهم ينظرون إلى النساء العاريات وإلى المومسات في القنوات، ويقول: (هذا مباح)، مَن يقول بهذا؟! نسأل الله السلامة والعافية.