المحبة تكون غلوًّا إذا زادت عن الحدِّ المحدود شرعًا، فقد يُحِب المرءُ الرسولَ -عليه الصلاة والسلام-، وتدعوه هذه المحبة إلى الغلو فيه، وصرفِ بعض الحقوق الإلهية لرسوله -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أشرف الخلق، فهذا غلو انتقل صاحبه من حيِّز المدح إلى حيِّز الذم، فالغلو مذموم، وقد نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن إطرائه ومدحه، وصرفِ شيء من حقوق الإله له: «لا تُطْروني كما أَطْرت النصارى عيسى ابن مريم» [البخاري: 3445]، وبالمقابل الجفاء في حقِّه لا يجوز، وكلا طرفي قصدِ الأمورِ ذميمُ، لا التقصير والتفريط والجفاء، ولا المبالغة والغلو والإفراط، فالمسائل الشرعية، وعمومًا الأخلاق والغرائز والملكات، فيها طرفان ووسط، والمطلوب في الدين كله الوسط، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، فليس عندنا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وإنما عندنا توسُّط، فنعرف للرسول -صلى الله عليه وسلم- حقَّه وقدره، فلا نعطيه من حقوق الرب شيئًا، فنُشرك به، ولا نُقصِّر في شيء من حقوقه، فنجفوه. وقد حدا الأمر ببعض الناس إلى أن يقول:
يا أكرمَ الخلقِ ما لي مَن أَلوذُ بهِ . |
|
سواكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَممِ . |
هل هذه محبة؟ لا والله ليست محبة، إنما المحبة ضابطها الشرعي في الاتباع.
فعلى الإنسان أن يتوسَّط في أموره كلها، فالرب -تبارك وتعالى- له حقوق لا يجوز أن يُصرف لغيره منها شيء. والرسول -عليه الصلاة والسلام- له حقوق، وتُعرف من خلال كتب السيرة والشمائل والخصائص والدلائل، ولا بد لطالب العلم من أن يُعنى بحقوقه -عليه الصلاة والسلام-، بمعرفتها والاعتراف بها، لا سيما ما دلَّ الدليل على ثبوته، وإن كانت أكثر الكتب التي أُلِّفتْ في هذا الباب فيها ما فيها، فالشروح في الشمائل وغيرها ما تسلم من إطراء وغلو، لكن علينا أن نأخذ ما صحَّ، ونترك ما لم يصح، ونتوسَّط في أمورنا كلها.
وبالنسبة لحبه -عليه الصلاة والسلام- نعطيه حقَّه، ونَقْدُره قدره، ونعتقد أنه أكمل البشر، وأن كل خير وصل إلى هذه الأمة إنما هو عن طريقه -عليه الصلاة والسلام-، فمَن تصوَّر أنه يَسعه الخروج عن دينه، وأنه يصل إلى الجنة من غير طريقه فهذه ردَّة، وهذا كفر -نسأل الله العافية-؛ لأن دعوته عامة شاملة، ولا يمكن أن نصل إلى الجنة إلا بواسطة ما جاء به من الدين والصراط المستقيم.
وأيضًا محبة المسلم لأخيه، فإذا كان حبك لهذا الأخ بما اشتمل عليه من إيمان، وتطبيق لهذا الإيمان، وعدم إخلال به، فلا يوجد عنده شرك، ولا بدع، ولا معاصٍ، فهذا تحبه، وهذه المحبة ينبغي أن تكون متحقِّقة بقدر ما عنده، فتزيد إذا زاد في تحقيق الإيمان والتوحيد، وتنقص إذا نقص بقدر ذلك، لكن بعض الناس حبه في الظاهر لله، فيحب فلانًا؛ لأنه -ما شاء الله- مستقيم، ثم يحصل بينهما أدنى مشكلة في أمور الدنيا، فتنتهي هذه المحبة! وضابط المحبة في الله هو أنها التي لا تزيد مع الصفاء، ولا تنقص مع الجفاء،
وأيضًا الوالد له حق، فلا يُعطى من حقوق الله شيئًا، ولا يُطاع في معصية.
وكذلك ولي الأمر له حقوق، لا يجوز التفريط بها بحال، مع النظر إلى أن طاعة البشر بالمعروف، «إنما الطاعة بالمعروف» [البخاري: 4340]، فإذا زاد عن المعروف بأن أمر بشيء لا يطاق، فمثل هذا يقال فيه: «الطاعة بالمعروف»، وإذا أَمر بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فنتوسَّط في أمورنا كلها.