فإذا نظرنا إلى الحفظ فالبخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث ليس بصحيح، مع أنه يوجد من يحفظ سبعمائة ألف حديث.
إذا نظرنا في العلل الإمام البخاري إمام في العلل، لكن أيضًا هناك أئمة: علي بن المديني إمام، أبو حاتم إمام، يحيى بن معين وغيرهم أئمة كبار، ومن باب أولى الإمام مسلم، وهذا يدلنا على فضل التأليف.
لو أقول لمجموعة من الطلاب: من يذكر لي اسم ابن واره الرباعي، وما منزلته بين أهل الحديث؟ إمام جبل كبير ليس بالسهل، لكن التأليف خلّد ذكر الإمامين، وجعلهما في كل وقت، وفي كل حين، وفي كل بلد يقال عنهما: "قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، قال الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-"، لكن من يقول ابن واره -رحمه الله-، إلا إذا ورد ذكره في كتب أهل العلم؟ فهذا يدل على أن للتأليف شأنًا، وهو الذي يخلِّد الرجال إذا كان نابعًا من إخلاص لله -جل وعلا-، فأول من يستفيد من المؤلَّف المؤلِّف؛ ولذا يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "وإذا عزم لي تمامه فأول من يستفيد منه أنا".
فالمؤلف أول من يستفيد من تأليفه، ولو لم يستفيد من تأليفه إلا أنه يقال فيه: "قال -رحمه الله تعالى-، قال -رحمه الله تعالى-"، إضافة إلى أن كتابيهما هداية الناس ودلالتهم، وإرشادهم إلى الحق، فكم من إنسان على مر القرون استفاد من صحيح البخاري؟ وكم من عالم وإمام استفاد أي فائدة من صحيح مسلم؟ فلا شك أن التأليف له شأن عظيم.
تدخل معرض الكتب أسبوعًا كاملًا، تتردد عليه، فما تجد من يقول: "فلان -رحمه الله-"، وهو من الأئمة الكبار سواء كان من المتقدمين أو من المعاصرين. ولنا شيوخ لم يؤلفوا فما يُعرَفون، يعرفهم طلابهم، وطلاب طلابهم، وجيل جيلين ثم ينتهون. وبمقابل هناك شباب من طلاب العلم ألَّفوا ويقال: "ما شاء الله هذا كتاب فلان -جزاه الله خيرًا- الله يوفقه، ما شاء الله كان"، والناس تمر وتمشي وتقلِّب وكل يدعوا له، فضلًا عمن يقرأ ويستفيد من هذا الكتاب وينتفع به، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله.