العقيدةُ الصَّحيحةُ عندَ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ مُتلقَّاةٌ من كِتابِ اللهِ ، وما صَحَّ وغلَبَ على الظَّنِّ ثبوتُه عنِ النبيِّ -ﷺ-، فهي مثلُ الأحكامِ في ذلك؛ تَثبُتُ بالقرآنِ، وبمتواترِ السنَّةِ، وبآحادِها إذا ثَبتتْ. فالشَّرعُ بأصولِه وفروعِه- كما يقولُ أهلُ العِلمِ- مُتَساوي الأقدامِ، ومردُّه كله إلى ما جاءَ عنِ اللهِ -سبحانه وتعالى- وعن رسولِه -ﷺ-.
لكنَّ المُتكلِمينَ وأهلَ البِدعِ يشترِطونَ فيما يُثبِتونَ به العقائدَ أنْ يكونَ قطعيًّا، بأن يكون منَ القرآنِ أو من مُتواتِرِ السنَّةِ، وأصَّلوا لهذا المنهجِ، وأصبحَ مُطردًا عندهم؛ حتى توصَّلوا بذلكَ إلى إبطالِ واطِّراحِ كثيرٍ منَ المسائلِ العَقَدِيةِ التي تبنَّاها أهلُ السنَّةِ وتَلقَّوْها عن سلَفِ هذه الأمَّةِ؛ بدعوى أنَّها ثَبتَتْ بأخبارِ آحادٍ؛ لأنَّهم إذا أبطَلوا الاحتجاجَ بخبرِ الواحدِ -وجُلُّ السنَّةِ أخبارُ آحادٍ- استراحوا بزعمِهم من مناقضَةِ الخَصْمِ بكلمةٍ واحدةٍ، كأن يقولوا: إنَّ هذا القَولَ الذي قالَ به فلانٌ اعتمَدَ فيه على خبرِ الواحدِ، وخبرُ الواحدِ لا يُفيدُ إلا الظَّنَّ، والظَّنُّ لا يَثبُتُ به اعتقادٌ وإن ثبَتَ به حُكْمٌ شرعيٌّ!. وحجتُهم فيما ذهبوا إليه من أنَّ خبرَ الواحدِ لا يُفيدُ إلا الظَّنَّ، أن هذا الواحدَ الثِّقةَ الضَّابطَ الحافظَ المتقِنَ يمكنُ أن يُخطِئَ في كلامِه؛ لأنَّه ليس معصومًا. والجوابُ عن ذلك أن يقالَ: إن أهلَ هذا الشَّأنِ يُثبِتونَ الخبرَ بمثْلِ هذا الرَّاوي مع قيامِ مثْلِ هذا الاحتمالِ، لكنْ هناك قواعدُ ومقدِّماتٌ شرعيَّةٌ يُبنى عليها نتائجُ شرعيَّةٌ ويُلتزَمُ بها، فإذا روَى راوٍ موثَّقٌ عندَ أهلِ العِلمِ التزَمْنا بخبرِه ما لم يُعارَضْ بروايةٍ ممَّن هو أقوَى منه، أو يَتبيَّنُ أنَّه أخطَأَ فيه؛ فالظَّنُّ لا يُغنِي منَ الحقِّ شيئًا، والظَّنُّ أكذَبُ الحديثِ، ومعَ ذلكَ فهو درجاتٌ متفاوتةٌ تصِلُ إلى ما يقرُبُ منَ القَطْعِ، ومن أقوَى الأدلَّةِ على قَبولِه في باب الاعتقاد قولُه تعالى : {الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] وهذه عقيدةٌ، فثَبَتَتْ بظنِّ المُكلَّفِ لا أنَّ الآيةَ ظنيَّةٌ. فمسائلُ الاعتقادِ تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ كما تَثبُتُ بالنُّصوصِ القطعيَّةِ عندَ سلَفِ الأمَّةِ، وقدِ أثبَتوا الرُّؤيةَ بحديثِ: «إنَّكم تَرَونَ ربَّكم كما تَرَونَ القَمرَ ليلةَ البَدرِ لا تَضامُّونَ في رؤيتِه» [البخاري: 554]، ورتَّبوا على ذلك أنَّ مَن نفَى الرُّؤيةَ مبتدِعٌ وبدعتُه مُغلَّظةٌ، بل صرَّحَ بعضُهم بتكفيرِه. فالقَولُ بأنَّ أخبار الآحادِ لا تُفيدُ إلا الظَّنَّ، والظَّنُّ لاتَثبُتُ به العقائدُ، قولٌ باطلٌ مردودٌ.